البسوا سلاح الله الكامل
بحثنا في السابق عن المشكلات والمصاعب التي تكتنف حياتنا في السنين الأخيرة من القرن العشرين. ذكرنا مثلاً قلة الموارد الطبيعية والانفجار السكاني والتصحّر والأوبئة الحديثة التي ظهرت في بقاع مختلفة من العالم. وأتينا أيضاً على ذكر موضوع الحرب والسلام والاضطهادات التي وقعت بالعديدين من أقراننا بني البشر الذين شرّدوا وأبعدوا عن ديارهم فصاروا غرباء في شتى أنحاء العالم. ولم نقم بذلك لنشر اليأس والوجوم في أفئدة الناس بل لرغبتنا في التشديد على موضوع العودة إلى طرق الله والسير عليها. فما تجابهه البشرية من تحدّيات صار ذات أبعاد هائلة لا يمكن لأي مجرّد بشريّ بأن يحلّها. يأتي حلّ مشكلاتنا من الله القدير.
وما نأتي على ذكر الله وعلاقته بدنياه هذه حتى نجابه وجهاً آخر للمعضلة. هناك عامل آخر لا بد لنا من ذكره ألا وهو الشيطان وأعوانه الأبالسة. فوراء الكثير من المآسي والفواجع التي حلّت بالبشرية هو الشيطان الذي ينشر تعاليمه الهدّامة في عقول وقلوب العديدين من بني البشر والذي يصوّر لهم عالماً بدون الله, عالماً من صنع أفكاره السوداء.
وقد ينبري البعض قائلين: ما بالك تعالج المشكلات العالمية العديدة من منظور غيبي؟ أتظن أننا نعيش في القرون الوسطى؟ ولم الكلام عن أمور الدنيا وإدخال مواضيع ما فوق الطبيعة في إطار بحثنا؟
جوابي على هكذا اعتراضات هو أنني مؤمن بوحي الله الذي ينبئني بأنه علاوة على وجود الله والإنسان هناك كائنات عاقلة أي ملائكة. الإيمان بوجود الملائكة لا يعني أنني أضحيت لا منطقياً أو رجعياً. فكما أن الله خلق الإنسان هكذا خلق أيضاً الملائكة. ينبئنا الوحي الإلهي بأن الملائكة لم تبق على حالتها الأولى من قداسة وطهارة بل إن البعض منهم ثاروا على الله وعصوا على أوامره فأصبحوا أعداء لله وللبشر. يدعو الوحي الملائكة الساقطين في الخطية بالشياطين أحياناً وبالأبالسة أحياناً أخرى. وهكذا إن رغبنا في معالجة أمور دنيانا هذه وكيفية المعيشة بطريقة ترضي الله بارينا, لا بد لنا من أخذ موضوع الشيطان وأعوانه بعين الاعتبار.
وهذه المقدّمة لهامة جداً ونحن قد وصلنا إلى القسم النهائي من رسالة بولس الرسول إلى أهل الإيمان في أفسس. فبعد أن كان الرسول قد علّمنا عن محبة الله لنا في المسيح يسوع حتى قبل إنشاء العالم وعن افتدائنا بدم المخلّص الزكي, ذهب للكلام عن أمور عملية. وكان أسلوب الرسول أن يبدأ بالكلام عن المعتقد الصحيح ومن ثم وجوب تطبيقه في معترك الحياة اليومية. وعندما وصل الرسول بولس إلى خاتمة الرسالة وجّه أنظار المؤمنين إلى وجوب التسلّح بسلاح الله الكامل للوصول إلى الهدف المنشود. من ابتدأ مسيرته الإيمانية بعون الله عليه أن يتابع مسيرته هذه, لا بفضل قوّته الذاتية التي لا وجود حقيقي لها, بل بقوّة الله. هذا لا يعني أن الله يمنح خائفيه الذين افتداهم قوّة شبه سحرية أو أوتوماتيكية تجعلهم منتصرين في نضالهم الروحي. يصف لنا الرسول الأسلحة الروحية التي يجب أن نتسلّح بها لنتمكّن من المثابرة على مسيرة الإيمان. هذه هي كلمات الرسول التي أنهى بها رسالته إلى جماعة الإيمان في أفسس وهي موجهة إلينا أيضاً في هذه الأيام العصيبة.
أخيراً أيها الأخوة, تقوّوا في الرب وفي اقتدار قوّته. البسوا سلاح الله الكامل لتقدروا أن تثبتوا في وجه مكايد إبليس. فإننا لا نصارع دماً ولحماً بل الرئاسات, السلطات, حكام عالم هذه الظلمة, قوات الشرّ الروحيّة في علياء السماوات. فلذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرّير, وتثبتوا بعدما تتمّمون كل شيء.
لفت الرسول أنظار المؤمنين إلى وجوب الاعتراف بالأمر الواقع ألا وهو أنه من المستحيل التغلّب على عدوّنا الروحي اللدود بقوانا الذاتية. تأتي القوّة اللازمة للظفر على الشيطان من الله ومنه فقط. ومن أنكر الله أو تجاهله في معالجة مشكلات العالم المعاصر حكم على نفسه بالفشل مهما ظنّ بأنّ برنامجه ناجح.
انتقل الرسول إلى الكلام عن وجوب التسلّح بما سماه بسلاح الله الكامل. وهذا يعني أن الله الذي عمل لنا خلاصاً جباراً بواسطة المسيح يسوع, شاء أيضاً بأن يضع تحت تصرّفنا إمكانات ووسائط تساعدنا على ترجمة إيماننا إلى حياة ظافرة. دعا بولس هذه الوسائط أو الإمكانات بسلاح الله الكامل. أفهمنا الرسول بأن السلاح هو من الله لا من الإنسان وأنه يجب التسلّح بكل هذا السلاح. ليست مجابهتنا مع بني البشر بل حربنا هي مع إبليس ومكايده كثيرة ومتنوّعة. وليس هو بملاك ساقط وحيد بل له أعوان أي أبالسة آخرون أو شياطين دعاهم بولس بحسب مرتباتهم الرئاسات, السلطات, حكام عالم الظلمة, هؤلاء هم أعداؤنا. وإن لم نتسلح بسلاح الله الكامل منينا بالفشل الذريع. ونظراً لأهمية هذا الموضوع المبدئي أعاد الرسول ذكره قائلاً: فلذلك, احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير, وتثبتوا بعدما تتمّمون كل شيء. لا يكفي لمن ابتدأ بخوض معركة روحية بأن يقاوم العدوّ لمدة ما بل عليه الثبات في مقاومته والتغلّب على من كان قد هاجمه.
نعود إلى تعليمات الرسول. أولاً علينا أن نستمد قوّتنا من الله القدير. ثانياً علينا أن نفقه بأن حربنا هي روحية وأن عدوّنا هو إبليس. ثالثاً, ما أن نأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار حتى نرى أن الخطوة الثالثة تتطلّب التسلّح بسلاح الله الكامل. وهنا قد نتساءل قائلين: ما هو سلاح الله الكامل؟ ونلاحظ من جواب الرسول أنه يتكلّم مجازياً آخذاً مثله من الحياة العسكرية التي كان يحياها الجندي الروماني في القرن الأول من الميلاد.
فاثبتوا إذن ممنطقين أحقّاءكم بالحق, ولابسين درع البرّ, وحاذين أقدامكم باستعداد إنجيل السلام, حاملين علاوة على هذه كلّها ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. واتخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله, مصلّين بكل صلاة ودعاء كل حين, في الروح, وساهرين لهذا, بكل مواظبة ودعاء لأجل جميع القدّيسين, ولأجلي أنا أيضاً, لكي أعطي كلاماً عند افتتاح فمي, لأعرّف بجرأة سرّ الإنجيل, الذي من أجله أنا سفير في سلاسل, لكي أنادي به بجرأة, كما يجب أن أتكلّم.
يتألّف سلاح الله الكامل, حسب تعاليم الرسول, ممّا يلي:
1: منطقة الحق
2: درع البرّ
3: حذاء إنجيل السلام
4: ترس الإيمان
5: خوذة الخلاص
6: سيف الروح الذي هو كلمة الله
7: الصلاة والدعاء
لا يتّسع لنا الوقت للكلام بإسهاب عن هذه المواضيع السبعة بل نكتفي بالقول أن المؤمن المحارب للشيطان يقف وقفة جريئة على منصّة الحق الإلهي الذي أوحى به الله. نقطة انطلاق المؤمن هي الحق. بينما نقطة انطلاق الشيطان هي الكذب. أما البرّ الذي شبّهه الرسول بدرع الجندي, فهو تلك النعمة المجانية التي وهبها الله للمؤمن والتي تنبع من عمل المسيح يسوع الفدائي الذي تمّ على الصليب. فمهما كان المؤمن ضعيفاً وبالرغم من عدم كماله الروحي فإنه يقف بكل جرأة لابساً درع البرّ متأكداً من أن مصيره النهائي باهر. ليس هناك من يستطيع أن ينـزع هذا الدرع من يد المؤمن. وكما كان الجندي ينتعل حذاءه الخاص فإن حذاء المؤمن هو الخبر السار أي الإنجيل الذي يصالح الإنسان مع الله باريه. وكثيراً ما يهاجم الشيطان الإنسان ويحاول زرع بذور الشك في قلبه. شبّه الرسول هذا التكتيك الشيطاني بسهام الشرير الملتهبة. ولن يقدر المؤمن أن يدرأ خطرها إن لم يلبس خوذة الخلاص ويستعمل بكل مهارة ترس الإيمان. فالإيمان الذي يهبه روح الله القدوس هو إيمان ظافر يتغلّب على هجمات الشيطان مهما كانت قوية. ما على المؤمن إلا وضع إيمانه موضع التنفيذ كما يلجأ الجندي المتمرّن إلى استعمال خوذته وترسه.
وبما أن سلاح الجندي ليس بسلاح دفاعي محض هكذا أيضاً سلاح المؤمن. فبعد أن يكون قد استعمل سائر الوسائط الدفاعية التي وضعها الله في متناوله, يلجأ إلى سلاح دفاعي وهجومي ألا وهو سيف كلمة الله.
ولئلا يخال المؤمن بأنه متى قام بكل ما يتطلب منه واستعمل سلاح الله الكامل يكون النصر حليفه بفضل مهارته, ذكّره الرسول بوجوب الاتكال على الله بصورة متواصلة وذلك برفع أدعية وصلوات وابتهالات إلى القدير ليمّن على الجميع بنعمة الشهادة والمناداة بجرأة بكلمة الإنجيل.
وإذ وصلنا في دراستنا إلى نهاية رسالة بولس الرسول إلى أهل الإيمان في أفسس نرفع دعاءنا إلى الله لكي يكتبها على قلوبنا فتكون مسيرتنا الإيمانية مسيرة ظافرة, آمين.
- عدد الزيارات: 11882