Skip to main content

الكلمة صار جسداً

"في البدء كان الكلمة, والكلمة كان عند الله, وكان الكلمة الله."

"والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده."

الإنجيل حسب يوحنا 1: 1 و 14

إذ تتسارع السنوات الأخيرة من القرن العشرين وأخذ البعض يتحدثون عن القرن العشرين, لا بد لكل بشري من التأمل في مصير الإنسانية بعد كل الأهوال التي حلت بها منذ مطلع قرننا هذا. فلقد كثرت الاختراعات وتفنن الناس في الطرق المعيشية وكبرت الهوة الفاصلة بين الأثرياء والفقراء. وزد على ذلك انتشار الفوضى في الحياة الفكرية ومحاولة البعض بناء عالم جديد بدون الله واعدين الذين يسيرون في ركابهم بفردوس أرضي تنعدم فيه مشاكل ومتناقضات الحياة!

ومع انتشار النظريات الحياتية المتعددة إلا أنه من الممكن أن تلخص فحواها بأنها في أغلبيتها تصورات للواقع خيالية من أي ذكر لله الباري. وهذا أمر مؤسف للغاية لأننا نحن البشر – مهما حاولنا وجاهدنا – لا نستطيع أن نتهرب من مجابهة موضوع الله. فنحن إن لم نعترف بخالقنا القدير نرى أنفسنا وقد اخترعنا آلهة باطلة تضحي طاغية ومستبدة. بالنسبة لما كنا قد منحنا هذه الآلهة من قوة وتدبير. وليس كلامنا هذا مبنياً على اجتهاد شخصي بل ينبعث من دراستنا لكلمة الله كما وردت في الإنجيل حسب يوحنا. ففي فاتحة الإنجيل, تطرق الرسول للكلام عن موضوع جوهري يتعلق بالله وبكون الله قد كشف عن ذاته بواسطة كلمته الذي تجسد وصار إنسانا ليتمم برنامج الله الخلاصي. فالبشرية الغارقة في الظلام الروحي الدامس لبحاجة إلى كشف إلهي وخلاص إلهي. مجرد إعلان الله لذاته لا يكفي وذلك لأن الإنسان – كل إنسان – يرزح تحت عبودية الخطية والمعصية.

في البدء كان الكلمة, والكلمة كان عند الله, وكان الكلمة الله. كان هو في البدء عند الله. كل الأشياء به كونت ومن دونه لم يكن شيء مما كون. وما نستقيه من كلمات يوحنا الرسول هذه أن كلمة الله كان البدء. هذا يعني أنه في البدء عندما خلق الله السموات والأرض – كما ورد في فاتحة توراة موسى – كان الكلمة. فأزلية كلمة مؤكدة في كلمات الوحي هذه وكذلك تعدد أقانيم اللاهوت مشار إليه في هذه الكلمات والكلمة كان عند الله. وألوهية الكلمة وردت في نهاية الآية الأولى من الإنجيل: وكان الكلمة الله.

ويمكن النظر في هذه الفاتحة كأهم حقيقة وردت في الوحي الإلهي لأنها تكون أساس التفكير السليم بخصوص الله الواحد القدوس وأقنوميته الأزلية. قبل أن يوجد عالمنا هذا كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. وكل نظرية حياتية لا تأخذ عقيدة الله وأزليته كنقطة انطلاقها هي مخطئة مبدئياً وكل ما يبنى عليها من برامج حياتية يكون مصيره الفشل الذريع.

ولذكر كلمة الله في فاتحة الإنجيل سبب هام إلا وهو كون الأقنوم الثاني في اللاهوت معبراً عن الله أو كاشفاً له. وقد تم خلق الكون بواسطة الكلمة: "كل الأشياء به كونت ومن دونه لم يكن شيء مما كون. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس, والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه."

ومع أن كلمة الله الأزلي كان عاملا منذ البدء في أمور الخليقة إلا أنه كان سيدخل حياة البشرية بصورة حميمة لم يسبق لها مثيل. وقبل حدوث ذلك أرسل الله نبياً لبني إسرائيل في مطلع القرن الأول كان اسمه يوحنا, وكان والده يدعى زكريا الكاهن واسم أمه اليصابات. أسند الله ليوحنا الملقب بالمعمدان مهمة فريدة. كانت رسالته أن يشهد للكلمة ولنوره الوضاح الذي كان سيبزغ على البشرية. عاش المعمدان شاهداً للنور لكي يؤمن الكل بواسطته. ومع أن البعض من معاصريه ظنوا انه كان المسيح المنتظر إلا أن الإنجيل أكد قائلاً: لم يكن هو النور بل ليشهد للنور.

ومن أشد الكلمات وقعاً في النص الكتابي هي هذه الكلمات التي تصف لنا موقف بني اسرائيل من المسيح: "لقد كان في العالم والعالم لم يعرفه. إلى خاصته جاء ومن كانوا خاصته لم يقبلوه."

لكن الله لا يعرف الفشل وبرنامجه الخلاصي سينجح بالرغم من عداوة الناس وغرقهم في ظلام الخطية الموت. فمع أن العديدين من معاصري المسيح لم يقبلوه – وقد حدث هذا على مر العصور وفي شتى الأقاليم والأمصار – إلا أن الكثيرين رحبوا به وقبلوه كموفد الله. وكما ورد رآني فقد رأى الآب؛ فكيف تقول أنت: أرنا الآب؟ ألا تؤمن أني في الآب وأن الآب فيّ؟ الكلام الذي أكلمكم به لا أتكلم به من نفسي ولكن الآب الحال في هو يعمل أعماله؟ صدقوني أني أنا في الآب والآب فيّ؛ وإلا فصدقوني من أجل الأعمال نفسها.

يا لها من كلمات رائعة! رغبة فيلبس بأن يكشف الله عن ذاته في وحي خاص كانت في محلها ولكن خطأه كمن في أنه لم ير ذلك الوحي في المسيح يسوع, كلمة الله المتجسد. من رآني فقد رأى الآب لقد سر الله بان يكشف عن ذاته في المسيح المخلص. من رفض الإيمان بهذه الحقيقة العظمى يكون قد حرم نفسه من أعظم هبة إلهية. وأن صعب على فيلبس أو أي إنسان آخر قبول كلمات المسيح هذه فلينظر إلى أعمال المسيح الباهرة والتي شهدت للملأ بأنه جاء من الله للقيام بمهمة فريدة ألا وهي انقاذ البشرية من وهدة الشر والهلاك.

ونظرا لأهمية العمل الذي كان المسيح سيسنده إلى تلاميذه الأوفياء بعد تتميمه لرسالته الخلاصية, نلفت أنظارهم إلى المستقبل الباهر الذي كان ينتظرهم وهم ينشرون الأنباء السارة في مختلف بقاع العالم المتوسطي. الحق, الحق أقول لكم: إن من يؤمن بي فإن الأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها, لأني ماض إلى الآب. ومهما سألتم باسمي فإني أفعله لكي يتمجد الآب في الابن. وإن سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله.

ومع صراحة كلمات المسيح ظن التلاميذ أن ذهابه عنهم من الناحية الجسدية كان سيترك فراغاً روحياً هائلاً. ولذلك كشف لهم السيد عن موضوع إرسال الله الآب للروح القدس ليمكث معهم وسائر المؤمنين والمؤمنات عبر العصور المتتالية ليقودهم في طريق الحق والحياة:

إن كنتم تحبونني فإنكم تحفظون وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليكون معكم إلى البدء, روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما انتم فتعرفونه لأنه يمكث معكم ويكون فيكم.

وتابع المسيح يسوع كلامه عن الروح القدس وعمله المنعش في جسد جماعة الإيمان قائلاً:

كلمتكم بهذه الأشياء وأنا مقيم معكم. وأما المعزي, الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي, فهو يعلمكم كل شيء. ويذكركم بجميع ما قلته لكم. السلام أستودعكم, سلامي أعطيكم, ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترتعب. قد سمعتم أني قلت لكم: أنا ذاهب ثم آتي إليكم. لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني ذاهب إلى الآب, فإن الآب أعظم مني وقد أخبرتكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون. لا أكلمكم بعد كثيراً فإن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء. إنما هذه ليعلم العالم أني أحب الآب وأني أعمل كما أوصاني الآب. قوموا ننطلق من ههنا.

صعب على تلاميذ المسيح أن يتصوروا حياة بدون حضوره فغمرتهم موجة هائلة من الغم. لكن السيد له المجد لفت أنظارهم إلى أنه لم يكن سيتركهم يتامى بل كان الروح القدس سيحل على جماعة الإيمان فيضحي المسيح حاضراً مع المؤمنين والمؤمنات. وبينما انحصرت مناداة المسيح بالإنجيل في تخوم الأرض المقدسة كان تلاميذه الأوفياء, بعد حلول الروح القدس عليهم,سيندفعون برسالة الإنجيل الخلاصية إلى سائر العالم داعين الناس أجمعين للتوبة والإيمان بمن جاء من الله لإنقاذ البشرية من الخطية والدمار.

وبغض النظر عن ضعف رسل المسيح وقلة شأنهم بالنسبة إلى بطش وجبروت الإمبراطورية الرومانية التي كانت مسيطرة على العالم القديم, انتصرت رسالة الإنجيل التحريرية لأن الروح القدس كان يعمل بقوة على إنقاذ الناس من عبوديتهم للأصنام جاعلاً منهم مؤمنين بالله وبمسيحه المخلّص.

ولم يقتصر انتشار الإنجيل على تلك العصور القديمة بل لا يزال الخبر المفرح يمتد في كل إقليم وبلد. والمنادون بكلمة الإنجيل لا يتكلمون على حكمتهم أو بلاغتهم بل على الروح القدس, الرب المحيي الذي أوحى بالكتاب المقدس والذي ينير عقول وأفئدة الناس ليقبلوا انجيل خلاصهم. فالمسيح يسوع لا يزال هو الطريق والحق والحياة, ولا يأتي أحد إلى الآب ولن ينعم أحد بالنعيم إلا بواسطة المسيح, آميـن.

  • عدد الزيارات: 62228