الحكم على المسيح
الإنجيل حسب يوحنا 19: 1-22
إن تاريخ البشرية حافل بالمحاكمات الصورية التي جرت لبعض الناس والذين حكم عليهم بالموت مع أنهم لم يستحقوا الموت. فمع ن الإنسان يعلم في قرارة قلبه بأنه يخضع لشريعة تعلو على أفكاره وآرائه الخاصة إلا أنه نظراً للخطية المسيطرة عليه، يحاول بكل ما أوتي من قوى عقلية بأن يسخر القانون لمصلحته الذاتية. وهكذا نلاحظ بأن الذين صمموا مسبقاً على التخلص من إنسان بريء، يأتون به إلى محاكمة تظهر شرعية بينما كانوا قد عملوا سراً على إجهاض الحق.
وهذا حدث بالفعل للسيد المسيح عندما قبض عليه أعوان رؤساء الكهنة في القدس. كان هؤلاء الزعماء الدينيون قد صمموا منذ بدء سيرة المسيح العلنية بأن يقضوا عليه قضاء مبرماً، لأنه كان حسب زعمهم، يهدد مركزهم الخاص في مجتمع الأرض المقدسة. وقد سنحت لهم الفرصة الذهبية للقبض على المسيح بدون لفت أنظار أتباعه الأوفياء وذلك عندما صمم يهوذا الإسخريوطي، وهو أحد تلاميذ المسيح، على تسليم سيده إلى أعدائه تحت جناح الليل.
صمم أعداء المسيح على قتله ولكنهم لم يكونوا متمتعين بصلاحية إعدام أي بشري في فلسطين. فقد كانت البلاد المقدسة قد وقعت تحت سيطرة الاستعمار الروماني قبل نحو خمسين عاماً من ميلاد المسيح يسوع.
لم يكن المسيح مجرد نبي بل كما عرَّفنا به الرسول يوحنا في فاتحة الإنجيل:
في البدء كان الكلمة, والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. كان هو في البدء عند الله. كل الأشياء به كوِّنت ومن دونه لم يكن شيء مما كوِّن. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه .... والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجد الابن الوحيد للآب ممتلئاً نعمة وحقاً.
لم يرتكب المسيح أية جريمة ولم يكسر الشريعة الموسوية عندما شهد للحق وبالحق. إنه كلمة الله الأزلي الذي كان في البدء عند الله الآب والذي كان منذ الأبد يتمتع بالألوهية. فهو إن وجد في صورة إنسان فإن ذلك كان من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا تجسد وصار ابن الإنسان ولكنه كان منذ الأزل ابن الله.
اضطرب الوالي الروماني لدى سماعه لكلمات المسيح الذي لم ينكر أنه كان ابن الله. وأفهم الوالي بأن زمام الأمور لم يكن قد أفلت من يد الله القدير الذي كان المسيطر على الموقف. وكلما حاول بيلاطس البنطي بأن يطلق سراح المسيح البريء، كلما اشتدت مقاومة زعماء اليهود لهكذا خطة. وإذ علموا علم اليقين بأن تهمة دينية مبنية على تفسيرهم للشريعة الموسوية لم تكن ذات وزن لدى ممثل رومية غيروا تكتيكهم وألصقوا بالمسيح تهمة سياسية! فقال اليهود لبيلاطس: إن أنت أطلقت هذا الإنسان فلست محباً لقيصر، فإن كل من يجعل من نفسه ملكاً يقاوم قيصر!
يا لهم من قوم منافقين! متى صاروا محبي الإمبراطور الروماني وجحافله المستعمرة لبلادهم؟ ومتى انقلبوا إلى متعاونين مع الأجنبي المبغوض من قبل عامة الناس؟ فلما سمع بيلاطس هذا الكلام أخرج يسوع وجلس على كرسي القضاء فقال لليهود متهكماً: ها هو ملككم! فصرخوا: خذه! خذه! اصلبه!وتابع بيلاطس تهكمه على اليهود وعلى السيد المسيح قائلاً: أأصلب ملككم؟ فأجاب رؤساء الكهنة: ليس لنا ملك إلا قيصر! عندئذ أسلمه إليهم ليصلب.
كذب رؤساء الكهنة عندما قالوا: ليس لنا ملك إلا قيصر لأنهم كانوا يمقتون القيصر وممثليه. وأظهر الوالي الروماني ضعفه الهائل عندما استسلم لرغبات هؤلاء الذين كانوا قد باعوا ضمائرهم وأضحوا قاتلي المسيح!
فأخذوا المسيح ومضوا به، فخرج يحمل صليبه إلى الموضع المسمى الجمجمة وبالعبرانية يسمى جلجثة. حيث صلبوه وصلبوا اثنين آخرين معه، من هنا ومن هنا ويسوع في الوسط. وكتب بيلاطس عنواناً ووضعه على الصليب وكان المكتوب فيه: يسوع الناصري ملك اليهود. وقرأ هذا العنوان كثيرون من اليهود لأن الموضع الذي صلب فيه يسوع كان قريباً من المدينة وكان مكتوباً بالعبرانية واللاتينية واليونانية. فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس: لا تكتب ملك اليهود بل إن هذا الإنسان قال: أنا ملك اليهود. أجاب بيلاطس: ما كتبت قد كتبت.
لا بد لنا من أن نصاب بدهشة كبيرة إذ نقرأ هذه الكلمات المستقاة من الفصل التاسع عشر من الإنجيل حسب يوحنا. كيف سمح الله القدير لهؤلاء الناس بأن يهينوا المسيح ويحكموا عليه بالإعدام صلباً؟ أهذا ممكن؟ أين العدل؟ أين الاستقامة؟ وإن حاولنا الإجابة على هكذا أسئلة مستعينين فقط بالعقل البشري لن نجد أي حل لهذه المعضلة. ولكننا إذا أصغينا إلى الوحي الإلهي نتعلم أن ما حدث للمسيح في ذلك اليوم الحاسم كان ضمن تدبير وبرنامج الله لخلاص البشرية. فمنذ سقوط الإنسان الأول في حمأة الشر والخطية ابتدأ الله القدير بالكشف عن خطته الخلاصية والفدائية ذاكراً إياها لآدم وحواء وبعد ذلك لنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من أنبياء تلك الأيام. وعندما نظم الله موضوع العبادة في أيام موسى النبي أعطى بني إسرائيل التعليمات الخاصة بنظام الذبائح التي كانت تشير إلى عمل المسيح الفدائي الذي كان سيتم على الصليب.
فصليب المسيح وموته وقيامته من بين الأموات شكل الحجر الأساسي لخبر الإنجيل الذي نادى به رسل المسيح في القرن الأول الميلادي. مثلاً، كتب الرسول بولس لأهل الإيمان في مدينة كورنثوس اليونانية:
إني أعرِّفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذس بشرتكم به وقبلتموه وتقومون فيه وبه أيضاً تخلصون إن حافظتم على الكلام الذي بشرتكم به إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثاً. فإني سلمت إليكم أولاً ما تسلمته أنا أيضاً: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب.
جميعنا نحزن لدى تلاوتنا للنص المتعلق بمحاكمة السيد المسيح. فلقد عومل كمجرم وحكم عليه بالموت صلباً وهو الذي لم يقترف أي ذنب بل عاش حياة طاهرة ومقدسة. لكنه يجدر بنا أن نرضخ لتدبير الله وبرنامجه الفدائي ونحمده لأنه لم يحجم عن إرسال ابنه الوحيد ليموت عنا نحن الخطأة والأثمة وليكفِّر عن معاصينا العديدة. نحن لا نقلل من مسؤولية الذين ارتكبوا هذه الجريمة لكونها قد آلت، حسب التدبير الإلهي، إلى خلاصنا. ما نعنيه هو أن حكمة الله تفوق عقلنا البشري المحدود وأنه تعالى هو الذي عمل لنا خلاصنا عظيماً بواسطة آلام وموت وقيامة المسيح من بين الأموات، آمين.
- عدد الزيارات: 13571