Skip to main content

محاكمة المسيح

الإنجيل حسب يوحنا 18

لقد حدث في أكثر من مناسبة أن حقوق الناس الشرعية مضت نظراً لعدم التشبث بأهداب القانون. وعندما نقرأ صفحات التاريخ نجابه هكذا حالات شاذة ونرى أنفسنا عاجزين عن إصلاح الماضي أو تغييره لأنه صار جزءاً لا يتجزأ من واقع مضى.

ما الذي يدفعنا للشعور بالاشمئزاز تجاه هكذا أمور؟ ليس الجواب بعسير. هناك في قلب كل إنسان شعور قوي يدفعه للدفاع عن ما يطابق الحق ولرفض ما يخالفه. لكنه نظراً لوجود عامل الشر في قلب الإنسان نلاحظ أن هذا الشعور يخضع لضغوط قوية، وإذ ذاك يعمد الإنسان للسير على طريق معوجة تؤول في النهاية إلى إسكات ضميره وكسر الوصية الإلهية التي تتطلب منا أن نعطي الناس حقوقهم التي منحهم إياها الخالق عز وجل.

ولا زلنا ندرس سيرة المسيح كما وردت في الإنجيل حسب يوحنا. ووصلنا إلى الفصل الثامن عشر من الإنجيل حيث سرد لنا الرسول حادثة القبض على المسيح لمحاكمته أولاً أمام رئيس ومن ثم أمام الوالي الروماني بيلاطس البنطي. ومن الجدير أن نلاحظ عدم وجود أي مبرر للحكم على السيد المسيح فهو لم يقم بأي شيء يستوجب اللوم. ومنذ بدء سيرته في الأرض المقدسة اصطدم برؤساء الكهنة وبغيرهم من زعماء إسرائيل الدينيين، فقرروا أن يتخلصوا منه بصورة نهائية. ووقفوا له بالمرصاد منتظرين أول فرصة للمجيء به أمام السلطات الدينية لمعاقبته على كسر الشريعة الموسوية –حسب زعمهم.

ومما يزيد من مأساوية القبض على المسيح ومحاكمته أن أحد تلاميذه خانه وجاء بالجنود للقبض عليه بدون لفت أنظار عامة الناس الذين كانوا ينظرون إليه نظرة المودة والاحترام. وكما ورد في النص الكتابي:

ولما تكلم يسوع بهذا خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان فدخله هو وتلاميذه. وكان يهوذا مسلمه يعرف الموضع، لأن يسوع كان يجتمع هناك مع تلاميذه كثيراً. فأخذ يهوذا الفرقة وشرطا من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلى هناك بمصابيح ومشاعل وأسلحة. فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم: من تطلبون؟ فأجابوه: يسوع الناصري. فقال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلمه واقفاً أيضاً معهم. فلما قال لهم: أنا هو. ارتدوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. فسألهم أيضاً: من تطلبون؟ فقالوا يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم, أني أنا هو، فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون، ذلك ليتم القول الذي قاله: إنَّ الذين أعطيتني لم أفقد منهم أحداً. وإذ كان مع سمعان بطرس سيف استله وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. وكان اسم العبد ملخس. فقال يسوع لبطرس: رد سيفك إلى غمده. الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟

لا بد أننا نتعجب من موقف المسيح يسوع. لماذا سمح للتلميذ الخائن بأن يأتي بالجموع للقبض عليه؟ ولماذا قبل هكذا معاملة شائنة؟ ألم يكن بوسعه أن يدافع عن نفسه؟ ولماذا وبخ تلميذه بطرس الذي استل سيفه وهب للدفاع عنه؟ وكيف نفسر موقف الله الآب من هذه الأمور؟ كان الله الآب قد أرسل ابنه الوحيد والمدعو أيضاً بكلمة الله، في مهمة خاصة وفريدة أي فداء العالم من براثن الشر والخطية ومن عبودية الشيطان. وكان هذا الفداء سيتم بآلام المسيح يسوع البدلية وموته الكفاري. ولذلك ندعو مرسلية المسيح عملاً خلاصياً صار لجميع الذين يؤمنون به، بغض النظر عن أصلهم وفصلهم.

لم يرغب السيد المسيح بأن يلقى القبض على تلاميذه ولذلك أظهر نفسه للذين كانوا قد أتوا للقبض عليه. ولم يقبل السيد له المجد بأن يدافع عنه التلميذ بطرس بالسيف لأنه كان قد وفد عالمنا لإنقاذنا بواسطة آلامه البدلية وموته الكفاري على الصليب. رد سيفك على غمده، الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟ سمح المسيح يسوع لأعدائه بأن يوثقوه ويقودوه إلى حنَّان الذي كان حما رئيس الكهنة قيافا. يسوع المسيح البار يقتاد كمجرم أمام رئيس كهنة هيكل القدس!

ونصاب بدهشة كبيرة عندما نلاحظ موقف التلميذ بطرس من المسيح. دافع عن سيده بحد السيف وقطع أذن ملخس عبد رئيس الكهنة. وكان قد صرَّح بأنه كان مستعداً لأن يموت في سبيل المسيح. ولكنه ما إن دخل إلى دار رئيس حتى خانته شجاعته وأنكر أمام جارية أنه كان يعرف المسيح الناصري!وكما ورد في الإنجيل:

وكان سمعان بطرس وتلميذ آخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفاً عند رئيس الكهنة. فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة. وأما بطرس فكان واقفاً عند الباب خارجاً. فخرج التلميذ الآخر، الذي كان معروفاً عند رئيس الكهنة، وكلم البوابة، وأدخل بطرس. فقالت الأمة البوابة لبطرس: ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان؟ فقال ذاك: لست أنا. وكان الخدام والشرط واقفين وقد أضرموا جمراً، لأنه كان برد، وكانوا يصطلون. وكان بطرس أيضاً واقفاً يصطلي.

أنكر بطرس ربه أمام امرأة شابة لم تكن قادرة على القيام بأي شيء يهدد مصيره. يا ترى ماذا كانت الدوافع التي أدت إلى هذا الإنكار؟ كيف انقلب الشجاع إلى إنسان يخاف بأن يقر بمعرفته للمسيح يسوع؟ كتب يوحنا الرسول واصفاً ما جرى:

أما سمعان بطرس فكان واقفا ً يصطلي، فقالوا له: ألست أنت أيضاً من تلاميذه؟ فأنكر هذا وقال: لست أنا. فقال واحد من عبيد رئيس الكهنة وهو نسيب للذي قطع بطرس أذنه: أما رأيتك في البستان معه؟ فأنكر بطرس أيضاً وللحال صاح الديك.

لو اكتفى بطرس بإنكار المسيح يسوع مرة واحدة لقلنا أن شجاعته خانته في لحظة لم يكن هو شاعراً بقدومها. ولكننا عندما نلاحظ تكراره لإنكار مخلصه ثلاث مرات نقول بأن الدافع الرئيسي كان عدم رغبة بطرس في أن يتألم المسيح ويذهب إلى الصليب ليموت عنا نحن البشر مكفراً عن آثامنا وخطايانا.

كان رؤساء الكهنة وغيرهم من زعماء الدين في القدس قد قرروا مسبقاً أن يقتلوا المسيح. ولكنهم أرادوا أن إظهار أنفسهم كالمتعلقين بأهداب القانون والشرعية. فجاؤوا بالمسيح لمحاكمته محاكمة صورية أمام رئيس الكهنة. ونستقي ما يلي من النص الكتابي:

وسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. فأجابه يسوع: لقد كلمت العالم علانية، وعلمت في كل حين في المجامع وفي الهيكل حيث يجتمع كل اليهود، ولم أتكلم بشيء في الخفاء، فلماذا تسألني؟ سل الذين سمعوا عما كلمتهم به، فإن هؤلاء يعرفون ما قلته. فلما قال يسوع هذا لطمه واحد من الشرط كان واقفاً هناك، وقال: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ أجابه يسوع إن كنت قد تكلمت بسوء فاشهد على السوء، وإن كان بخير فلماذا تضربني؟

وهنا علينا أن نتذكر أن الإمبراطورية الرومانية كانت قد احتلت البلاد المقدسة في أواسط القرن الأول قبل الميلاد ولم تكن قد منحت اليهود الصلاحية بأن يعدموا أي إنسان. وهذا ما يفسر لنا سبب المجيء بالمسيح إلى دار الولاية الرومانية في القدس. وكما ورد في الإنجيل:

ثم جاؤوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية وكان الصبح (أي صباح يوم الجمعة). ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لئلا يتنجسوا، وإنما كي يأكلوا الفصح. فخرج بيلاطس إليهم وقال: أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟

وعوضاً عن أن يذكروا نوعية الشكوى أو الجرم المزعوم الذي ارتكبه المسيح، أظهروا حقدهم وكراهيتهم للمسيح وعدم تقيدهم بأهداب الشريعة الموسوية وقالوا لبيلاطس:

لو لم يكن فاعل سوء لما سلمناه إليك. فما كان من بيلاطس إلا وأن سار على منطقهم المعوج فقال لهم: خذوه أنتم واحكموا عليه بحسب شريعتكم. فقال له اليهود: لا يجوز لنا أن نقتل أحداً. وكانوا يعنون بذلك أن السلطات المستعمرة للبلاد لم تسمح لهم بأن يعدموا أي إنسان.

احتار بيلاطس في أمر المسيح وأخذ يبحث في الموضوع من الناحية القانونية الرومانية، وأخذ يتأمل في الشكوى التي جاء بها اليهود وهي أن المسيح قال عن نفسه بأنه ملك.

فدخل بيلاطس أيضاً إلى دار الولاية ودعا يسوع وقال له: أأنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع: أمن ذاتك تقول هذا أم أن آخرون قالوه لك عني؟ أراد المسيح أن يظهر لبيلاطس الوالي أن معنى عبارة ملك اليهود يختلف فيما إذا فسَّره أعداؤه أو المسيح ذاته.

أجاب بيلاطس: ألعلي أنا يهودي؟ إن أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلي فماذا فعلت؟ وهنا شرح المسيح الموضوع بصورة جلية قائلاً: إن مملكتي ليست من هذا العالم، فلو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يحاربون عني كي لا أسلَّم إلى اليهود. أما الآن فإن مملكتي ليست من هنا. فقال له بيلاطس: فهل أنت إذاً ملك؟ أجاب يسوع: أنت قلت أني ملك. فإني لهذا ولدت ولهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق، وكل من كان من الحق يسمع صوتي. قال له بيلاطس: وما هو الحق؟

لم يكن بيلاطس مهتماً بموضوع الحق. فلما قال هذا خرج أيضاً إلى اليهود وقال لهم: إني لا أجد فيه علة ما، وإن لكم عادة أن أطلق لكم واحداً في الفصح، أفتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ تكلم بيلاطس متهكماً بالسيد المسيح عندما قال: ملك اليهود. فصرخوا أيضاً قائلين: ليس هذا بل باراباس، وكان هذا الأخير لصاً ومجرماً.

  • عدد الزيارات: 14454