الطريق والحق والحياة
الإنجيل حسب يوحنا 14
يحيق بنا الخوف من كل حدب وصوب. نحن محاطون بمخاطر عديدة لم يعرفها الآباء والأجداد. هناك مثلاً خطر الأسلحة النووية التي باستطاعتها تدمير الأرض بأسرها وجعل الحياة مستحيلة على أرضنا المتصاغرة. وهناك أمراض جنسية تفتك بالمصابين بها وكأنها الطاعون، لا دواء لها ولا شفاء منها. وها إن الجوع يقضي على العديد من الأطفال والكبار في مختلف أنحاء العالم. زد على ذلك أننا صرنا ملمِّين بمشاكل دنيانا بصورة آنية، نظراً لوجود وسائل الإعلام الحديثة. لقد صارت عقولنا مكتظة بالأنباء المزعجة عن طائرات سقطت بركابها فماتوا في لحظة موتاً مريعاً أو عن سفن غرقت بركابها بعد الاصطدام بسفن أخرى. ما أكثر الأمور التي تجلب على جونا الحياتي الخوف والرعب والهلع!
إلى من نلتجئ وإلى أين نذهب هاربين من الخوف؟ أهناك من يساعدنا على التغلب على هذه الحالة النفسية المزعجة؟ أين الدواء الشافي لهذا المرض المزمن؟ إن ذهبنا إلى بني البشر وإلى آرائهم وفلسفاتهم لن نجد الحل لمشكلتنا. نحن بحاجة إلى قوة فوق بشرية للتغلب على الخوف. عنينا اللجوء إلى الله بارينا والمعتني بنا والذي لم يبق صامتاً منذ أن خلقنا. فلقد تكلم الباري مع بني البشر بواسطة أنبيائه ورسله القديسين وأخبرنا عن حالتنا التعيسة التي وصلنا إليها بسبب ثورة آدم وحواء في فجر التاريخ. ولم يكتف الله بإعلامنا عن سقوطنا في المعصية بل وهبنا النبأ السار عن إرسال منقذ جبار لإنقاذنا من وهدة الشر واستعمار الشيطان.
وفي الوقت المعيَّن جاء المخلص المسيح وعاش على أرضنا لمدة ثلاث وثلاثين سنة. وفي آخر أيام حياته خانه أحد تلاميذه المدعو بيهوذا الاسخريوطي. وقبل أن يلقى القبض على السيد المسيح، أعطى تلاميذه تعليمات هامة حفظها لنا الرسول يوحنا في الفصل الرابع عشر من الإنجيل:
لا تضطرب قلوبكم، آمنوا بالله وآمنوا بي أيضاً. شعر التلاميذ بأن الليلة الحاسمة في حياة سيدهم قد أتت وأن المخاطر العديدة كانت تحدق بهم. ها إن زعماء الدين في القدس يتآمرون على التخلص من المسيح وتسليمه إلى أيدي الرومان المستعمرين وكأنه كان يحبذ رفع راية الثورة على إمبراطوريتهم. أخذ التلاميذ يرتعبون من وطأة كل هذه الأمور فناشدهم سيدهم قائلاً لهم: لا تضطرب قلوبكم، آمنوا بالله وآمنوا بي. فمهما اشتدت مقاومة أعداء المسيح ومهما كثرت مؤامراتهم عليه وعلى تلاميذه الأوفياء، يبقى الله المسيطر والمهيمن على جميع مقدرات التاريخ.
وعندما يخاف المؤمنون والمؤمنات يظهرون موقفاً لا منطقياً لأنهم يظنون بأن زمام الأمور قد أفلت من أيدي القدير وكأن قوى الظلام والشر ستنتصر عليهم. هكذا تفكير هو خاطئ من أصله. علينا أن نتسلح بالإيمان بالله وبمسيحه وإذ ذاك لا نعود نسمح لقلوبنا بأن تضطرب أو تخاف من الفشل والانكسار. ولم يكتف المسيح بمناشدة التلاميذ بألا يسمحوا لقلوبهم بأن تضطرب بل أعطاهم رؤية شاملة للحياة المعاشة في ظل الحق الإلهي.
فإن أخذنا الوجود على الأرض وكأنه الكل في الكل وإن انحصر أفق حياتنا بما نقف عليه اتكالاً على حواسنا الخمسة، نكون قد حكمنا على أنفسنا بالفشل الذريع. علينا أن نتسلح بوجهة نظر شاملة وكاملة ومبنية على الحقيقة بأسرها. حياتنا على الأرض هامة ولكنها ليست الكل، لأننا خلقنا لأبدية سعيدة في حضرة الله ونعيمه. على هذا الأساس تابع المسيح كلامه قائلاً:
في بيت أبي منازل كثيرة وإلا لكنت قد قلت لكم. فإني أمضي لأعد لكم مكاناً. وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إلي لتكونوا أنتم أيضاً حيث أكون أنا. وأنتم تعرفون الطريق إلى حيث أذهب. قال له توما: يا سيد، إننا لا نعرف أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة، لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه.
عندما أظهر توما جهله لموضوع كيفية الوصول إلى نعيم الله، قال له يسوع المسيح: أنا هو الطريق والحق والحياة، لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي. هل لاحظت أيها القارئ العزيز كلمات المسيح هذه؟ ليست الحياة الدنيا الكل في الكل، والوصول إلى نعيم الله يتم بواسطة المسيح الذي هو الطريق إلى الحضرة الإلهية والحق المتجسد الذي يهب الحياة الأبدية لكل من يؤمن به.
كان فيلبس التلميذ قد عاش مع المسيح ثلاث سنين وسمعه يعلم الجموع ويشفي المرضى ويقيم الموتى. ولكنه لم يفهم أن الله كان قد كشف عن ذاته في المسيح الذي هو كلمة الله. ولذلك قال: يا سيد، أرنا الآب وكفانا. فقال له يسوع: أن معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس؟ من رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت: أرنا الآب؟ ألا تؤمن أني في الآب وأن الآب فيَّ؟ الكلام الذي أكلمكم به لا أتكلم به من نفسي ولكن الآب الحالّ فيَّ هو يعمل أعماله؟ صدقوني أني أنا في الآب والآب فيَّ، وإلا فصدقوني من أجل الأعمال نفسها.
يا لها من كلمات رائعة! رغبة فيلبس بأن يكشف الله عن ذاته في وحي خاص كانت في محلها ولكن خطأه كمن في أنه لم ير ذلك الوحي في المسيح يسوع، كلمة الله المتجسد. من رآني فقد رأى الآب. لقد سرَّ الله بأن يكشف عن ذاته في المسيح المخلص. من رفض الإيمان بهذه الحقيقة العظمى يكون قد حرم نفسه من أعظم هبة إلهية. وإن صعب على فيلبس أو أي إنسان آخر قبول كلمات المسيح هذه فلينظر إلى أعمال المسيح الباهرة والتي شهدت للملأ بأنه جاء من الله للقيام بمهمة فريدة ألا وهي إنقاذ البشرية من وهدة الشر والهلاك.
ونظراً لأهمية العمل الذي كان المسيح سيسنده إلى تلاميذه الأوفياء بعد تتميمه لرسالته الخلاصية، لفت أنظارهم إلى المستقبل الباهر الذي كان ينتظرهم وهم ينشرون الأنباء السارة في مختلف بقاع العالم المتوسطي.
الحق الحق أقول لكم: إن من يؤمن بي فإن الأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها، لأني ماض إلى الآب. ومهما سألتم باسمي فإني أفعله لكي يتمجد الآب في الابن. وإن سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله.
ومع صراحة كلمات المسيح ظن التلاميذ أن ذهابه عنهم من الناحية الجسدية كان سيترك فراغاً روحياً هائلاً. ولذلك كشف لهم السيد عن موضوع إرسال الله الآب للروح القدس ليمكث معهم وسائر المؤمنين والمؤمنات عبر العصور المتتالية ليقودهم في طريق الحق والحياة:
إن كنتم تحبونني فإنكم تحفظون وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليكون معكم إلى الأبد, روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه يمكث معكم ويكون فيكم.
وتابع المسيح يسوع كلامه عن الروح القدس وعمله المنعش في جسد جماعة الإيمان قائلاً:
كلمتكم بهذه الأشياء وأنا مقيم معكم. وأما المعزي، الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء. ويذكركم بجميع ما قلته لكم. السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترتعب. قد سمعتم أني قلت لكم: أنا ذاهب ثم آتي إليكم. لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني ذاهب إلى الآب، فإن الآب أعظم مني وقد أخبرتكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون. لا أكلمكم بعد كثيراً فإن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء. إنما هذه ليعلم العالم أني أحب الآب وأني أعمل كما أوصاني الآب. قوموا ننطلق من ههنا.
صعب على تلاميذ المسيح أن يتصوروا حياة بدون حضوره فغمرتهم موجة هائلة من الغم. لكن السيد له المجد لفت أنظارهم إلى أنه لم يكن سيتركهم يتامى بل كان الروح القدس سيحل على جماعة الإيمان فيضحي المسيح حاضراً مع المؤمنين والمؤمنات. وبينما انحصرت مناداة المسيح بالإنجيل في تخوم الأرض المقدسة كان تلاميذه الأوفياء، بعد حلول الروح القدس عليهم، سيندفعون برسالة الإنجيل الخلاصية إلى سائر العالم داعين الناس أجمعين للتوبة والإيمان بمن جاء من الله لإنقاذ البشرية من الخطية والدمار.
وبغض النظر عن ضعف رسل المسيح وقلة شأنهم بالسبة إلى بطش وجبروت الإمبراطورية الرومانية التي كانت مسيطرة على العالم القديم انتصرت رسالة الإنجيل التحريرية لأن الروح القدس كان يعمل بقوة على إنقاذ الناس من عبوديتهم للأصنام جاعلاً منهم مؤمنين بالله وبمسيحه المخلَّص.
ولم يقتصر انتشار الإنجيل على تلك العصور القديمة بل لا يزال الخبر المفرح يمتد في كل إقليم وبلد. والمنادون بكلمة الإنجيل لا يتكلون على حكمتهم أو بلاغتهم بل على الروح القدس، الرب المحيي الذي أوحى بالكتاب المقدس والذي ينير عقول وأفئدة الناس ليقبلوا إنجيل خلاصهم. فالمسيح يسوع لا يزال هو الطريق والحق والحياة، ولا يأتي أحد إلى الآب ولن ينعم أحد بالنعيم إلا بواسطة المسيح، آمين.
- عدد الزيارات: 13047