العمل بكلمة الله
فإن كنت وأنا السيّد والمعلّم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فإني قد أعطيتكم مثالاً لتصنعوا أنتم أيضاً كما صنعت أنا بكم.
الإنجيل حسب يوحنا 13: 14 و 15
ما هي الصفات التي يفتخر بها الناس ؟ يعجب الكثيرون بمن يبدي معرفته وعلمه بآخر ما توصّل إليه الإنسان من معارف علمية. وآخرون يفضّلون القوي الذي يتحكم بالآخرين. وآخرون يتعلّقون بمن أوتي الفصاحة والبلاغة في الكلام. هذه هي بعض مقاييس البشر ولكنها ليست بمقاييس الله.
فعندما نصل إلى الأسبوع الأخير من حياة السيد المسيح على الأرض نتلقّن درساً هاماً عن أهميّة التواضع وخدمة الآخرين. نقرأ ما يلي في الفصل الثالث عشر من الإنجيل حسب يوحنا:
وقبل عيد الفصح إذ كان يسوع يعلم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، وإذ كان قد أحبّ الذين في العالم، أحبّهم إلى الغاية. ففي أثناء العشاء وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطيّ أن يسلّمه، وإذ كان يسوع يعلم أنّ الآب قد دفع كل شيء إلى يديه وأنه من الله خرج وإلى الله يمضي، قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة وائتزر بها ثم صبّ ماء في مغسل وأخذ يغسل أقدام التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان مؤتزراً بها.
أراد السيد المسيح أن يلقنهم درساً لا ينسونه عندما غسل أقدام تلاميذه الذين كانوا بحاجة إلى تعلّم درس حيويّ ألا وهو وجوب العمل بكلمة الله وعدم الاكتفاء بالمناداة بها. تتطلّب كلمة الله من المنادين بالإنجيل أن يتّسعوا بالتواضع وأن يتفانوا في خدمة الآخرين ولا سيما الذين هم من أهل الإيمان. فمع أن تلاميذ المسيح عاشوا معه لمدة ثلاث سنين إلا أنهم أظهروا جهلاً هائلاً لمعنى الإيمان القويم عندما تشاجروا مع بعضهم البعض وهم يبحثون في موضوع: من هو الأكبر والأعظم بين التلاميذ.
غسل المسيح يسوع أقدام بعض التلاميذ ثم جاء إلى بطرس الذي كان قد بهت مما جرى حوله فما كان منه إلا وأن قال للمسيح:
أأنت يا سيّد تغسل قدميّ ؟ أجاب يسوع وقال له: أنك لا تعرف الآن ما أصنعه أنا، ولكنك ستفهمه فيما بعد. فقال له بطرس: لن تغسل قدميّ أبداً. أجابه يسوع: إن لم أغسل فليس لك نصيب معي. فقال له سمعان بطرس: يا سيّد ليس قدميّ فقط، بل يديّ ورأسي أيضاً. فقال له يسوع: إن من اغتسل ليس في حاجة إلا إلى غسل قدميه إذ أنه نقي كلّه. وأنتم أنقياء ولكن ليس جميعكم. فإنه كان يعرف من يسلّمه ولذلك قال: لستم جميعكم أنقياء.
نتعلم من كلمات المسيح هذه أن غسله لأقدام التلاميذ كان عملاً رمزياً. كان التلاميذ قد آمنوا به ولم يرتدّوا عنه كما ارتدّ العديدون من معاصريه. فأظهروا بذلك محبّتهم للمسيح وتعلّقهم به. ولكنهم لم يظهروا نضوجاً روحياً عندما تخاصموا بخصوص من سيكون الأكبر والأعظم في ملكوت المسيح. نسوا أن سيّدهم كان قد أظهر التواضع المطلق عندما وفد من السماء وتجسّد بولادته من العذراء مريم وعاش عيشة الفقراء وسمح للزعماء الدينيين في القدس بأن يضطهدوه ويعاملوه كالمنقلب على الشريعة الموسوية. وما أن غسل المسيح أقدامهم حتى اختبروا غسله لقلوبهم التي كادت بأن تنسى معنى الإنجيل.
وبعد أن غسل (أي السيد المسيح) أقدامهم وأخذ ثيابه وعاد واتكأ إلى المائدة قال لهم: أتفهمون ما صنعت بكم ؟ أنتم تدعونني معلّماً وسيّداً، وحسناً تقولون، لأني كذلك. فإن كنت وأنا السيّد والمعلّم قد غسلت أقدامكم فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فإني قد أعطيتكم مثالاً لتصنعوا أنتم أيضاً كما صنعت أنا بكم. الحق، الحق أقول لكم: ليس عيد أعظم من سيّده ولا رسول أعظم من مرسله، إن علمتم هذا فطوبى لكم إن عملتموه.
عندما تواضع المسيح وغسل أقدام تلاميذه التي لم يكن قد تطوّع ولا صغيرهم على غسلها كما كانت تقتضي تقاليد تلك الأيام، وقام بعمل الخادم تجاه تلاميذه، لم يتخلّ عن منصبه كمعلّم ولم يتنازل عن سيادته المطلقة التي كانت له ككلمة الله المتجسّد. كان المسيح ملمّاً تماماً بشخصه وبطبيعة مهمّته الفدائية. فأضحى عمله هذا بمثابة درس لجميع الذين يدعون أنفسهم بأتباعه. لا يكفينا إذن أن نسمع تعاليمه ونسرّ بها بل علينا أن نعمل بها.
ولقد حذرنا السيد المسيح من مغبة تلك المعرفة السطحية واللاحياتية لكلمة الله عندما تكلّم عن يهوذا الخائن. كان هذا التلميذ قد سمع المسيح ينادي بالإنجيل ورآه يشفي المرضى ويقيم الموتى ويطعم الجماهير من خمسة أرغفة خبز وسمكتين. وكان يهوذا قد اؤتمن على منصب أمين الصندوق لسلك التلاميذ. لكنّه لم يكن مؤمناً بل صار من أكبر خونة التاريخ. وهكذا يجدر بنا أن نتمعّن في كلمات المسيح التحذيرية:
فإني أعلم من اخترت ولكن ليتمّ الكتاب: إن الذي يأكل خبزي قد رفع عليّ عقبه. أقول لكم هذا الآن قبل أن يكون، حتى متى كان (أي متى ظهرت خيانة يهوذا للمسيح بتسليمه لأعدائه في القدس) تؤمنون أني أنا هو.
وقد حدث في أكثر من مناسبة عبر عصور التاريخ أن البعض من الناس والذين كانوا يدّعون بأنهم من المؤمنين بالمسيح المخلّص خانوه وارتدّوا عن الإيمان وصاروا من أعدائه الألداء. وهكذا تطلب منا كلمات المسيح التحذيرية من المؤمنين به إيماناً صادقاً وقلبياً وعاملين بكلمته الخلاصية.
وبعد أن تكلّم المسيح عن خيانة يهوذا قال: الحق، الحق أقول لكم: إن الذي يقبل من أرسله يقبلني والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني. كان المسيح على وشك بأن يتمّم عمله الخلاصي والفدائي وذلك بآلامه البدليّة وموته الكفاري على الصليب وقيامته المجيدة من بين الأموات. وكان سيعود إلى السماء ليجلس عن يمين الله الآب. وإذ ذاك كانت ستبدأ مرحلة جديدة في مرسليّة المسيح: كان له المجد سيوفد تلاميذه للمناداة برسالة الخلاص والغفران والحرية في سائر أنحاء المعمورة ابتداء من القدس. ومن رفض مناداة رسل المسيح يكون قد رفض المسيح ومن رفض المسيح المخلّص يكون قد حرم نفسه من نعيم الله.
أيها القارئ العزيز ! لقد وقفنا على نص كتابي عام يتعلّق بغسل المسيح لأقدام تلاميذه. لا بد أننا قد تأثرنا من التواضع الذي أظهره المسيح تجاه تلاميذه في تلك الليلة الحاسمة من سيرته على الأرض. أرجو ألا تكون قد نسيت الدرس الهام الذي تركه لنا سيدنا ومخلّصنا يسوع المسيح:
إن علمتم هذا فطوبى لكم إن عملتموه.
- عدد الزيارات: 33862