من هو ابن الإنسان؟
لقد سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد. فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان ؟ من هو ابن الإنسان هذا ؟
الإنجيل حسب يوحنا 12: 34
من الجدير بالذكر أن الكثيرين من الناس يحصرون اهتمامهم بالظروف الخارجية التي تحيط بالإنسان وهم يعالجون مشاكله المتكاثرة. فهم تارة يلومون وضعه الاقتصادي وتارة أخرى نوعيّة النظام الذي يحيا ضمنه. وقلّما تسمع كلاماً متّزناً يبدأ بمعالجة المشكلة الإنسانية في قلب الإنسان ذاته. لا بد للإنسان في نهاية المطاف من أن يضطلع بمسؤوليته ويقرّ بأن الخلل الذي طرأ على الحياة البشرية لا يمكن ارجاعه إلى مجرّد عوامل خارجية. ومهما حاول الإنسان أن يتنصّل من مسؤولياته فإنه يبقى مرغماً على مجابهة الواقع ولو كان الواقع أليماً.
ونتعلّم درساً هاماً عن موضوعنا هذا في القسم الثاني من الفصل الثاني عشر من الإنجيل حسب يوحنا. كان عيد الفصح قد اقترب وكان المعيّدون قد جاؤوا من سائر أنحاء فلسطين ومن البلاد المجاورة لزيارة القدس. ومما ورد في الإنجيل: وكان قوم من اليونانيين (أي من الدخلاء الذين كانوا قد اعتنقوا اليهودية) من الذين صعدوا ليسجدوا في العيد. فتقدّم هؤلاء إلى فيلبس وسألوه قائلين: يا سيّد نريد أن نرى يسوع.
يا لها من كلمات هامة ! فبينما كان زعماء الدين في القدس يتآمرون على قتل المسيح يسوع، كان بعض الدخلاء يطلبون مشاهدة يسوع. وما أن سمع المسيح طلبهم هذا حتى قال: لقد أتت الساعة التي يتمجّد فيها ابن الإنسان. الحق، الحق أقول لكم: إن لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت فإنها تأتي بثمر كثير. من يحب نفسه يفقدها ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها للحياة الأبدية. إن كان أحد يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي، إن كان أحد يخدمني يكرمه الآب.
ما معنى هذه الكلمات التي تفوّه بها المسيح ؟ أشار له المجد إلى رسالته السماويّة والخلاصية التي رفضها الزعماء الدينيّون في القدس بينما قبلها بكل فرح ولهفة الغرباء والدخلاء ! ثم أشار المسيح إلى أن مهمته الخلاصية والفدائية لم تكن لتتحقق بدون موته على الصليب. ونظر المسيح إلى موته الكفاري كالعمل الرئيسي الذي أسنده إليه الله الآب. وإن كان البعض من سامعيه قد عارضوا هكذا تعليم فإنهم لم يكونوا قد فهموا المنهج الإلهي للحياة. فمن يحب نفسهن أي ذلك الإنسان الذي تدور حياته على محور الذات يكون في النهاية من الخاسرين. وأما الذي يبغض نفسه أي ذلك الإنسان الذي يضحي بنفسه في سبيل الله والآخرين فإنه يحفظ حياته للحياة الأبدية.
ظهرت هذه التعاليم غريبة للغاية ولذلك رفع المسيح هذا الدعاء قائلاً:
الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول ؟ أيها الآب نجّني من هذه الساعة ؟ ولكنّي لأجل هذا جئت إلى هذه الساعة. أيها الآب مجّد اسمك. فجاء صوت من السماء: قد مجّدته وسأمجّده أيضاً. فسمع هذا الجمع الواقف هناك فقالوا: قد حدث رعد. وآخرون قالوا: قد كلّمه ملاك. فأجاب يسوع وقال: ليس من أجلي جاء هذا الصوت بل من أجلكم.
كان ظل الصليب مخيّماً على جميع ساعات وأيام هذا الأسبوع الحاسم في سيرة المسيح. وكان له المجد ملمّاً بمعارضة اليهود للفداء الجبّار الذي كان سيتمّمه بموته الكفاري على الصليب وبقيامته من بين الأموات. أكّد المسيح في صلاته هذه أنه جاء من السماء إلى هذه الساعة أي لتتميم برنامج الله الفدائي عندما كان سيسمّر على خشبة الصليب خارج أسوار المدينة المقدسة. ولم يكن موت المسيح يظهر أي ضعف لدى الله. على العكس، كشف الله عن محبّته اللانهائية لنا نحن البشر عندما بذل ابنه الوحيد على الصليب لكي لا يهلك كل من يؤمن بل تكون له الحياة الأبدية.
تابع المسيح كلامه قائلاً: الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً. فمجئ المسيح إلى عالمنا كشف نوايا الشيطان عدو الله وعدو الإنسان. ولم يكن بنو اسرائيل يتمتعون في تلك الأيام بقيادة روحية سليمة. فرؤساء الكهنة والكتبة أي خبراء الشريعة الموسوية لم يعلّموا الشعب كلمة الله بصورة تقية. فبينما كانت شهادة الوحي الإلهي تتمركز في مسيح الله وفي عمله الخلاصي الذي كان سيتممه على الصليب، فإن قادة بني اسرائيل أنكروا ذلك وعمدوا إلى وضع أساس خاطئ للديانة المقبولة لدى الله أي بالاتكال على أعمالهم وجهودهم الخاصة.
وإذ كان المسيح شاعراً بأن ساعة آلامه قد اقتربت وأنه كان سيموت عنا على الصليب قال: وأنا متى ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع. وعلّق يوحنا الرسول على هذه الكلمات قائلاً: قال يسوع هذا ليشير إلى أيّة ميتة كان مزعماً أن يموتها.
وما أن سمع الحاضرون المسيح يتكلّم عن ارتفاعه عن الأرض حتى أخذوا يقولون له: لقد سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت أنّه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان ؟ من هو ابن الإنسان هذا ؟ ذكر هؤلاء أنهم سمعوا من الناموس؛ وهذه الكلمة أي ناموس تعادل كلمة توراة العبرية. كانت تشير أحياناً إلى الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدّس وأحياناً أخرى أشارت كلمة ناموس إلى جميع أجزاء الكتاب المقدّس أي إلى التوراة والأنبياء والمزامير. وبعبارة أخرى كان السامعون قد فهموا من التعاليم التي كانوا قد تلقنوها أن المسيح متى جاء كان سيبقى إلى الأبد. احتاروا من كلمات المسيح لأنه ذكر أنه كان سيرتفع عن الأرض. عارضت كلمات المسيح هذا التقليد الموروث عن الآباء والأجداد. فما هو الحلّ ؟ وازدادت حيرتهم عندما دعا المسيح نفسه بلقب ابن الإنسان. فقالوا له: من هو ابن الإنسان هذا ؟
من هو ابن الإنسان هذا ؟ سؤال هام للغاية وليس فقط لمعاصري المسيح بل لنا نحن أيضاً. لماذا اختار المسيح هذا اللقب للإشارة إلى نفسه ؟ كان أول بشري خلقه الله آدم وقد خلقه الله من تراب وعلى صورته وشبهه. امتاز الإنسان منذ البدء بسموّه على سائر المخلوقات التي صنعها الله. لكن الإنسان الأول فشل في الامتحان وسقط في الخطية والمعصية وجلب على نفسه وعلى نسله الشرّ والعبودية للشيطان. من ينقذ الإنسان من الدمار الروحي الذي ألمّ به ؟ وعد الله أبوينا آدم وحوّاء بأن يرسل واحداً من نسل المرأة ليسحق رأس الشيطان. وقد كرّر الله هذا الوعد بصورة أكثر جلاء في أيام ابراهيم واسحاق ويعقوب ومن بعدهم في أيام الأنبياء.
وفي الوقت المعيّن من قبل الله والمدعو بلغة الكتاب بملء الزمن جاء المسيح من السماء وأخذ طبيعة بشرية حقيقية بولادته من العذراء مريم. وعلى هذا الأساس دعا المسيح نفسه بابن الإنسان. المسيح هو ابن الله الأزلي، إنه كلمة الله الأزلي كما تعلّمنا في فاتحة الإنجيل حسب يوحنا. لكنه وفد عالمنا وحلّ بيننا لينقذنا من خطايانا باتخاذه ناسوتنا ضمن شخصه أو أقنومه الواحد. المسيح يسوع هو ابن الإنسان الفريد الذي لم يعرف الشرّ ولم يرتكب الخطية والمعصية جسم البشرية جمعاء هكذا كان الخلاص من الخطية بواسطة المسيح يسوع ابن الله وابن الإنسان.
تساءل معاصرو المسيح عن شخصية ابن الإنسان وكان من واجبهم الإصغاء إلى جواب المسيح الذي دعا ولا يزال يدعو جميع السامعين لقبول هذا التعليم الهام عن طبيعة العمل الخلاصي الذي كان سيتم على الصليب. قال المسيح:
إن النور معكم زماناً يسيراً بعد، فسيروا ما دام النور معكم لئلا يدرككم الظلام. ومن يسير في الظلام لا يعلم أين يذهب. فما دام النور معكم فآمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور.
وخلاصة القول أن المسيح لم يأت ليتجادل معنا بل وفد من السماء ليخلّصنا وينقذنا من خطايانا وليدحر الشيطان عدوّنا اللدود. إن سرنا في طريق المسيح المستقيم نسير في نوره العظيم، وإن لم نؤمن به ولم نتخذه مخلّصاً لنفوسنا نبقى سائرين في الظلام الذي يتوه فيه بنو البشر. وإن تابعنا مسيرتنا في الظلام أي خارج الطريق الذي رسمه لنا المسيح، يكون مصيرنا الأبدي قاتماً للغاية. ساعدنا الله القدير بروحه القدّوس لنقف موقف المؤمنين من ابن الإنسان: يسوع المسيح الذي أحبّنا محبة قصوى وبذل دمه الزكي على الصليب لنحصل على الغفران والحياة الأبدية السعيدة.
- عدد الزيارات: 24159