مقدمة عامة
بشارة يوحنا هي فريدة. فليس في آداب اللغات ما يعدل البشائر الأربع, وليس بين البشائر الأربع ما يعدل البشارة الرابعة.
أهذه البشارة مقالة تاريخية؟ أم هي بحث فلسفي أفرغ في قالب تاريخي؟ أم هي حجة لاهوتية جمعت بين ثناياها دقائق التاريخ وجمال الفلسفة؟ أم هي كل هذه مجتمعة معاً؟؟
بشارة يوحنا هي بشارة الخاصة, لكنها في نفس الوقت بشارة العالم أجمع. فمع أن كاتبها يهودي مشبع بالآراء اليهودية, ومع أنه مسيحي ملم بكل ما جاءت به البشائر الثلاث السابقة لبشارته, ومع أنه مرتبط بحدود الزمن الذي نشأ فيه, ومتأثر بعوامل البيئة اليونانية التي كانت محيطة به, إلا أن كتابه ليس قاصراً على اليهود, ولا هو كتاب جيل خاص, لكنه كتاب الأجيال, لأن وراء يد يوحنا, عاملاً قوياً خفياً, هو روح الله العارف قلوب البشر أجمعين.
في الإصحاحات الثلاثة الأولى, نرى المسيح "كلمة الله الأزلي" محاطاً ببيئة يهودية, وإذ نبلغ الإصحاح الرابع, نرى الفادي وقد تخطى حدود البيئة اليهودية الضيقة, حتى اتصل بالسامريين فوجدوا فيه مخلصهم المنتظر إذ قالوا "هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم".
إن كل قارئ ودارس لهذه البشارة, مهما كانت لغته وجنسيته, تقابله على صفحاتها كلمات جامعة تقوم أمامه واثبة لتحييه بلغته الخاصة, لأنها كلمات عامة تلامس جميع البشر على توالي الأيام – المحبة, الحياة, النور, الحق, الخبز, الماء – كل هذا يؤكد لنا أن البشارة هي كتاب العالم أجمع.
هذا الكتاب هو قدس أقداس الآداب المسيحية. فيه نسمع أقدس الإعلانات السماوية, فلا عجب إذا جادت قرائح القديسين بأمجد الألقاب وأقدسها على هذه البشارة. فمن قائل أنها "بشارة الأبدية" إلى قائل أنها "تعبير قلب الله" إلى قائل إنها "بشارة الحب الخالص".
مزايا بشارة يوحنا
من أظهر مزايا هذه البشارة, أنها "بشارة الحق" فقد وردت فيها كلمة "الحق" 50 مرة. وفي كل مرة منها ذكرت مثنى "الحق. الحق". ولم ترد مكررة على هذه الصورة إلا في بشارة يوحنا وعلى لسان المسيح وحده. فهو "الحق" الذي يقول "الحق". وهذه الكلمة جاءت (أ) متممة لحديث، أو (ب) لتقرير حقيقة مهمة,
أو (جـ) جواباً على سؤال.
هذه هي بشارة "ذات" المسيح , فيها يحدثنا بنفسه, عن نفسه قائلاً: "أنا هو" ولقد وردت هذه العبارة على لسان المسيح 14 مرة أي 7 مرات مضاعفة: والسبعة عدد كامل
(1) "أناهو (المسيح)" 4: 26
(2) "أنا هو لا تخافوا" 6: 20
(3) "أنا هو خبز الحياة" 6: 35
(4) "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء" 6: 41
(5) "أنا هو نور العالم" 8: 12
(6) "أنا هو الشاهد لنفسي" 8: 18
(7) "حينئذ تفهمون أني أنا هو" 8: 28
(8) "أنا هو الباب" 10: 9
(9) "أنا هو الراعي الصالح" 10: 14
(10) "أنا هو القيامة والحياة" 11: 24
(11) "أنا هو الطريق, والحق, والحياة" 14: 6
(12) "أنا هو الكرمة" 15: 1 و5
(13) "إن لم تؤمنوا أنى أنا هو" 8: 24
(14) "أنا هو" 18: 5
هذه هي بشارة الشهادة المكملة إذ نرى فيها شهادة "سباعية" للمسيح:
(1) شهادة يوحنا المعمدان للمسيح 1: 7، 5: 35
(2) شهادة الكتب للمسيح 5: 39-46
(3) شهادة أعمال المسيح له 10: 25، 6: 36
(4) شهادة الآب للمسيح 5: 34، 18: 37
(5) شهادة المسيح لنفسه 8: 14، 18: 37
(6) شهادة الروح القدس للمسيح 15: 26، 16: 14
(7) شهادة التلاميذ للمسيح 15: 27، 19: 35
هذه هي بشارة التدرج والتقدم: فلنلق نظرة إلى الدرجات التي ارتقى عليها:
(أ) إيمان نيقوديموس: في الإصحاح الثالث والعدد الثاني نقرأ عنه أنه "جاء إلى يسوع ليلاً" هذه درجة ابتدائية في سلم إيمان هذا الرجل. وإذ نتقدم إلى الإصحاح السابع والعدد الخمسين وما بعده نجد القول: "قال لهم نيقوديموس.. ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يسمع منه" هنا نرانا أمام درجة أرقى في إيمان هذا الرجل, لأنه خرج من خباء تستره وقصد أن يدافع عن سيده وإن يكن بشيء من الخوف. وإذ نبلغ منتهى البشارة في 19: 39، نجد القول: "وجاء أيضاً نيقوديموس… فأخذا جسد يسوع لأن الخوف طرد من قلبه فجاهر بأيمانه على رؤوس الأشهاد.
(ب) إيمان خادم الملك: نقرأ عنه في 4: 50 أنه "آمن بالكلمة التي قالها له يسوع فذهب" وإذ نتقدم في القصة نجد إيمان الرجل وقد ارتقى درجة أعلى "ففهم الأب في تلك الساعة… فآمن هو وبيته" 4: 53
(جـ) ايمان الرجل المولود أعمى:
في 9: 11 قال عن المسيح أنه "يسوع". هذه درجة ابتدائية في سلم الإيمان,
وفي 9: 17 قال عنه أنه "نبي". هذه درجة مناسبة في سلم الإيمان,
وفي 9: 33 قال عنه أنه "من الله". هذه درجة راقية في سلم الإيمان,
وفي 9: 38 آمن أنه "ابن الله"ز هذه درجة أرقى في سلم الإيمان,
(د) إيمان أهل السامرة:
في 4: 39 نجد القول: "فآمن به كثيرون بسبب كلام المرأة" – هذه درجة ابتدائية،
وفي 4: 42 نجد القول: "فقالوا للمرأة أننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن, لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة مخلص العالم". هذه درجة راقية.
ولنلق نظرة أخرى إلى الدركات التي هبط إليها عدم الإيمان:
(ا) عدم ايمان يهوذا:
في 6: 64 نرى لمحة خفيفة عن خلقه "من هو الذي يسلمه"
وفي 13: 2 نجد القول "ألقى الشيطان في قلب يهوذا-أن يسلمه"
وفي 13: 27 نجد القول"دخله الشيطان". في الخطوة السابقة ألقى الشيطان أفكاره في قلب يهوذا. وفي الخطوة النهائية دخل هو بكليته في قلبه.
(ب) عدم إيمان الأمة اليهودية:
في 1: 11 نقرأ القول "وخاصته لم تقبله".
وفي 2: 18 نرى أن بغضهم له قد بدأ في النمو فطلبوا منه آية:"وقالوا له أية آية ترينا حتى تفعل هذا"؟
وفي 5: 16 نجد بغضهم له أضحى انتقاماً:"ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه".
وفي 12: 10 نجد معارضتهم له برزت ونظمت" فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضاً" – أي المسيح ولعازر.
وفي الإصحاحات الأخيرة نجد معارضتهم له وقد نضجت واستوت فنفذت بصلبه على الصليب.
هذه هي بشارة التجسد:
متى البشير يقدم لنا المسيح في رداء "مسيا" المنتظر من اليهود, ومرقس العامل النشيط يقدمه لنل في ثوب العامل لسد حاجات البشرية, ولوقا الطبيب المؤرخ يقدمه لنا في شكل المخلص الذي جاء ليفدى, ويوحنا اللاهوتي الباطني يقدمه لنا في جلال لاهوته المتجسد.
إن هذه البشارة الرابعة ترسم أمامنا الهوة السحيقة التي أوجدتها الخطية بين الإنسان وبين الله، ثم ترينا كيف أن المسيح وهو ابن الله قد صار خاضعاً لنواميس الحياة في الجوع, والعطش, والتعب, والدموع, والابتسام, ليملأ هذه الثغرة.
هذا ما حدا بأوريجانوس إلى القول: "إن بشارة يوحنا هي تاج البشائر كما أن البشائر هي ختم الكتب المقدسة". وهذا ما دفع لوثر إلى القول "إن بشارة يوحنا رقيق الحواشي, وأنها مع رسالتي رومية وبطرس الأولى تحسب إنجيلاً مختصراً".
غير أن المسيح المقدم لنا في بشارة يوحنا, ليس مسيحاً جديداً, ولا هو مسيح آخر, فالمسيح هو هو في كل البشائر. إنما ينظر يوحنا إلى المسيح من ناحية غير التي نظر إليه منها سائر البشيرين, وفي بعض النواحي يلتقي معاً جميع البشيرين.
لم يرد في يوحنا ذكر الكتبة, والبرص, ولا العشارين, ولا المصابين بأرواح نجسة. لأن كل المعجزات التي ذكرت في بشارة يوحنا, كان القصد منها, أن تكون "علامات لإظهار مجد المسيح". وفوق ذلك فإن كلمات المسيح التي سجلت في بشارة يوحنا, لم تذكر من قبيل الأمثال ولا المواعظ, بل ذكرت على سبيل الأحاديث الخاصة, الحبية, العميقة.
هذه هي بشارة الرموز والمجازات:
إن كلماتها يونانية, مصوغة في قالب عبري. وترتيب حوادثها يتمشى مع النظام الثلاثي والسباعي كما في الأدب العبري:
ذهب المسيح إلى الجليل 3 مرات في الجليل أجرى 3 معجزات
وذهب الى اليهودية 3 مرات وفي أورشليم أجرى 3 معجزات
وقضى ثلاث ساعات مضاعفة - 6 ساعات - في النواحي المجاورة لمكان خدمة يوحنا المعمدان.
وقصة لعازر- مرضه, وموته, وقيامته - استغرقت 3 أيام, وسجل يوحنا ثلاثاً من كلمات المسيح على الصليب, وفي يوحنا ظهر المسيح 3 مرات لتلاميذه بعد القيامة, و7 مرات مضاعفة - 14 مرة - قال المسيح عن نفسه "أنا هو".
بعض الكلمات المميزة لبشارة يوحنا
ذكرت كلمة "نور" 23مرة
ذكرت كلمة "مجد" ومشتقاتها 42 مرة
ذكرت كلمة "ظلمة" 9 مرات
ذكرت كلمة "محبة" ومشتقاتها 18 مرة
ذكرت كلمة "العالم" 78 مرة و15 مرة في سائر البشائر
ذكرت كلمة "جسد" 8 مرات
ذكرت كلمة "الحياة الأبدية" 15 مرة
ذكرت كلمة "أعمال" 23 مرة
ذكرت كلمة "ثبوت" 18 مرة
ذكرت كلمة "الظهور" 8 مرات
ذكرت كلمة "الدينونة" ومشتقاتها 30 مرة
ذكرت كلمة"يؤمن" ومشتقاتها 98مرة و"مرتين" في سائر البشائر
ذكرت كلمة "اليوم الأخير" 7 مرات
ذكرت كلمة "شاهد" ومشتقاتها 37 مرة
ذكرت كلمة "يعرف" 55 مرة
ذكرت كلمة "اسم" 25 مرة
ذكرت كلمة "علامات" 17 مرة
مفتاح هذه "البشارة" متضمن في كلمتين: "الشهادة"، "الإيمان" وإليك البيان:
"الشهادة" "الإيمان"
بذار الإيمان
شهادة يوحنا المعمدان بذار عدم الأيمان
نمو الإيمان
شهادة معجزات المسيح نمو عدم الإيمان
شهادة الآب سر الإيمان
سر عدم الإيمان
شهادة الكتب المقدسة ثمار الإيمان
ثمار عدم الإيمان
شهادة المسيح نفسه أهمية الإيمان
دينونة عدم الإيمان
شهادة أفراد مختلفين
شهادة الروح القدس وقت الإيمان
موضوع الإيمان
العبارات المتشابهة
في بشارة يوحنا وفي رسائله
بشارة يوحنا رسائل يوحنا
يوحنا3: 11 متشابهة مع 1 يو1:1-3
يوحنا4: 24 متشابهة مع 1 يو20:5
يوحنا5: 32 متشابهة مع 1يو5: 9
يوحنا5: 24 متشابهة مع1يو3: 14
يوحنا5: 38 متشابهة مع1يو2: 14
يوحنا8: 46 متشابهة مع1يو3: 5
يوحنا8: 47 متشابهة مع1يو4: 6
يوحنا 10: 15 متشابهة مع 1يو3: 16
يوحنا12: 35 متشابهة مع 1يو12: 11
يوحنا13: 34 متشابهة مع 1يو3: 23
يوحنا6: 56 متشابهة مع 1يو4: 15
يوحنا6: 69 متشابهة مع 1يو4: 16
يوحنا8:29 متشابهة مع 1يو3: 22
يوحنا8: 44 متشابهة مع 1يو3: 8
يوحنا8: 46 متشابهة مع 1يو3: 5
يوحنا15: 10 متشابهة مع1يو4: 16
يوحنا15: 18 متشابهة مع 1يو3: 13
يوحنا16: 24 متشابهة مع 1يو 1: 4 و2يو 12
يوحنا16: 33 متشابهة مع 1يو5: 4
وإليك مقابلة بين بعض الكلمات
في بشارة يوحنا في رسائل يوحنا
"البدء" يوحنا1: 1 = "البدء" 1 يو1: 1
"كان عند" يوحنا1: 1 = "كانت عند" 1يو1: 2
"كان الكلمة الله" يوحنا1: 1 = "هذا هو الاله" 1يو5: 20
"النور الحقيقي" يو1: 5 = "النور الحقيقي"1يو2: 8
"أعطاهم" سلطاناً أن يصيروا = "أعطانا الأب حتى ندعى
أولاد الله" يو: 12 أولاد الله" 1يو3: 1
"المؤمنون باسمه" يو1: 13 = "المؤمنين باسم ابن الله" 1يو5: 13
"الذين ولدوا…من الله" يو1: 13 = "ولد من الله" 1يو5: 1
"الكلمة صار جسداً" يو1: 14 = " المسيح جاء في الجسد" 1يو4: 2
"رأينا مجده" 1يو1: 14 = "رأيناه" 1يو1: 1
"فجاء يسوع أيضاً" يو4: 46 = "ابن الله قد جاء" 1يو5: 20
الآيات المقتبسة من العهد القديم في بشارة يوحنا:
(1) ما ورد منها في سياق كلام يوحنا البشير:
ما ورد في البشارة ما جاء في العهد القديم ما ورد في البشارة ما جاء في العهد القديم
يوحنا2: 17 مقتبسة من مز69: 9 يوحنا19: 24 مقتبسة من مز 22: 18
يوحنا12: 14و15 مقتبسة من زكريا9: 9 يوحنا19: 36 مقتبسة من خر12: 46
يوحنا12: 38 مقتبسة من اشعياء53: 1 يوحنا19: 37 مقتبسة من زكريا12: 10
يوحنا12: 40 مقتبسة من مزمور22: 18
لفيلبس: "من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء" (6: 5 و7)، وكلام اليونانيين لفيلبس: "ياسيد نريد أن نرى يسوع" ثم ذهاب فيلبس وكلامه مع اندرا وس ثم كلام اندراوس وفيلبس ليسوع, (12: 21و22).
وذكر سؤال توما: "لسنا نعلم أين تذهب. فكيف نقدر أن نعرف الطريق" (14: 5)
وسؤال يهوذا ليس الأسخريوطي: "ماذا حدث حتى أنك مزمع أن تظهر ذاتك لنا وليس للعالم" (14: 22)، وأسئلة التلميذ الذي كان يسوع يحبه: (13: 23-25و21: 20).
أما تدقيقه في ذكر الأزمنة بالتفصيل، فيظهر من ذكره الأسبوع الأول في خدمة المسيح على الأرض (1: 29و35و43و2: 1) والأسبوع الأخير (12: 1 و12 و13: 1 و19: 31 و20: 1)
وأسبوع القيامة (20: 26) والتدقيق في حساب الأيام المتعلقة بحادثة لعازر (11: 6و17و39)، وتدقيقه في ذكر الساعة بالذات (1: 39 و3: 2 و4: 52 و6: 16 و13: 30 و18: 28 و19: 14 و20: 1 و21: 4).
وتدقيقه في ذكر الأعداد يظهر من:
ذكره تلميذي يوحنا (1: 35)، وقوله "مئتي زراع" (21: 8) "مئة وثلاثاً وخمسين سمكة" (21: 11)، "ستة اجران" (2: 6)، "أربعة جنود" (19: 23).
وتظهر دقة وصفه للحوادث من قوله عن يهوذا: "لما خرج كان ليلاً" (13: 23) وقوله عن رائحة الطيب أنها: "ملأت البيت"، ووصفه قميص المسيح أنه: " كان منسوجاً كله بغير خياطة" (19: 23) وذكره المنديل الذي وجد في قبر المسيح (20: 7).
4- هذا الكاتب، اليهودي، الفلسطيني، الشاهد العيان، هو أحد تلاميذ المسيح.
لأنه ملم إلماماً تاماً بدعوة المسيح للتلاميذ الأولين، ولأنه ذكر أن القيامة ثبتت أيمان التلاميذ، وعمقت الفرح في قلوبهم (20: 22)، ولأنه سجل الحوار الذي دار بين التلاميذ أنفسهم في حادثة سوخار (4: 33)، ودون ما قالوه بمناسبة خطاب المسيح الوداعي (16: 17 و20: 25 و21: 3 و7) ولأنه عرف المكان الذي لجأ إليه المسيح وتلاميذه "إلى الكورة القريبة من البرية إلى مدينة يقال لها افرايم" (11: 54)، ولأنه عرف الأفكار المغلوطة التي كان يفكر بها التلاميذ أولاً ثم أصلحها لهم المسيح فيما بعد. مثال ذلك: قول المسيح عن هيكل جسده (2: 21و22)، وعن نوم لعازر (11: 11- 13)، وعدم فهمهم كلام المسيح ليهوذا الأسخريوطي (13: 28) وعدم معرفة التلاميذ لشخص المسيح بعد القيامة (21: 4) ووصفه الدقيق لتأثرات المسيح مما يدل على أنه كان على مقربة منه، فحدثنا عن"انزعاج المسيح بالروح" (11: 33 و13: 21).
5- هذا الرسول اليهودي، الفلسطيني، الذي شهد الحوادث هو يوحنا
نقرأ في خاتمة هذه البشارة (21: 24) أن كاتبها هو التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وقد ورد ذكر هذا التلميذ بهذا اللقب أربع مرات في البشارة
13: 23 و19: 26 و21: 7 و20). ويظهر من (21: 2) أن الكاتب هو أحد اثنين: إما أنه أحد ابني زبدى، أو أحد التلميذين "الآخرين" الغير المعنيين في تلك الحادثة.
وإذا رجعنا إلى ما كتبه سائر البشيرين في هذه الحادثة، وجدنا أن الثلاثة التلاميذ المقربين من المسيح بنوع خاص هم: بطرس وابنا زبدى – التلاميذ معاً ليتذاكروا ما أعلن الله لهم، سمعوا يوحنا يقول: "..الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة.. نخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا".
من هو يوحنا كاتب هذه البشارة؟
كلمة "يوحنا" هي مختصر كلمة "يا حنان" أي "الرب يتحنن".
ولد يوحنا في أيام حكم أول قياصرة الرومان، وامتدت به الأيام حتى بلغ أيام تراجان، فلامس حدود القرن الثاني للميلاد. وبذلك أضحى أطول الرسل عمراً، وأبقاهم على قيد الحياة.
ولد في بلاد فلسطين مهبط الوحي والإلهام، ومهد الرسالة والنبوة. هذه بلاد شعرية حساً ومعنى، لذلك يسميها اليهود ساكنوها "كنورت" أي القيثارة كما يدل عليها شكلها.
إذا قيس كل بلد بحدوده الجفرافية، حسبت فلسطين من أصغر بلاد العالم، فهي لا تزيد في عرضها عن 50 ميلاً ولا تبلغ سوى 180 ميلاً في الطول.
لكن إذا قيس كل بلد، بما أنجبه من الرجال العظام، ومن قادة الرأي في البشرية، فأن هذه البلاد الصغيرة تحسب في مقدمة بلاد العالم عظمة وجلالاً. هذه بلاد ترعرع فيها سليمان، وملك فيها داوود، وتغنى قيها اشعياء، بشعره الخالد. فضلاً عن ذلك، فقد صارت مهبط تجلى الله في السحاب على الهيكل المقدس، وفوق الكل قد خرج منها مخلص البشرية- يسوع المسيح، الذي هو "بهاء مجد الله ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته".
في مقاطعة الجليل الواقعة شمال فلسطين، وفي مدينة بيت صيدا- مكان الصيد- عاش يوحنا كاتب البشارة المنسوبة إليه. في شبابه كان نكرة بين صيادي الأسماك، وفي رجولته وشيخوخته أضحى علماً في مقدمة صيادي الناس.
كان مسقط رأس يوحنا في قرية قريبة من بحر الجليل تكتنفها مروج تابور الخضراء، وتشرف عليها قمم جبال حرمون الثلجية البيضاء، فكان من الطبيعي أن ينشأ يوحنا في هذه البيئة الطبيعية الجميلة، وله عين النسر، وقلب الشاعر، وعقل الفيلسوف، وروح العابد المتصوف.
أما أبواه فهما زبدى وسالومة. كان والده في الغالب على جانب من نعيم الحياة، لأن عدداً من الخدم المأجورين كان في حيازته لمساعدته في إصلاح الشباك (مرقس1: 10). وكان أيضاً يملك بيتاً. وكان يوحنا نفسه معروفاً لدى قيافا رئيس الكهنة.
أما أمه فقد كانت سيدة فاضلة تقية. وكانت شريكة النساء اللواتي اشترين الحنوط الكثير الثمن لتكفين جسد المسيح.
إذاً كان يوحنا من عائلة شريفة مع انه كان متخذاً مهنة الصيد حرفة له. لأن عادات اليهود كانت تقضى على أبناء الأشراف أن يتعلموا حرفة ما.
ويستنتج من عدم ورود اسم والد يوحنا بعدما صار ولداه تلميذين ليسوع، أنه كان قد مات في ذلك الوقت.
ذهب يوحنا عند بلوغه السادسة من عمره الى المدرسة التي كان يذهب إليه أبناء اليهود الأشراف والأوساط- وهي المعروفة "بالمدراش" فيها تعلم مبادئ القراءة واستظهر شيئاً من التوراة والتلمود. ولأن اليهود يعتقدون
"يا معلم لم اقتصرت على هذه العبارة" أجابهم: "هذه وصية المسيح وكفى. لأن من حفظ هذه الوصية، فقد حفظ الكل".
هنالك في تلك الجزيرة النائية - "بطمس" - التي كان يفصلها بحر عظيم، عن أفسس مقر خدمة يوحنا وعمله، هنالك قضى يوحنا أيامه الأخيرة فارتقى برؤياه فوق الأبعاد وانتصر على المسافات، وقال: "والبحر لا يوجد فيما بعد".
مكان كتابة البشارة، وزمانها، وغايتها
لقد حدث حادثان مهمان، بعد كتابة البشائر الثلاث الأول. أولهما: خراب أورشليم، والثاني: تأثر بعض المسيحيين بالفلسفة اليونانية المعاصرة. وكلاهما كان يدعو إلى كتابة بشارة تظهر الجانب الروحي من ملكوت الله، وفي الوقت نفسه تظهر الحقائق الروحية الباطنية، التي تسمو فوق الفلسفة اليونانية بمقدار ما يسمو الجوهر على العرض.
وبما أن بشارة يوحنا لا تتضمن إشارة إلى خراب أورشليم، فيستدل من هذا أنه كان قد مضى وقت كاف على هذه الحادثة التاريخية. وبما أن يوحنا لم يبدأ خدمته في أفسس إلى بعد سنة 70 ميلادية وبما انه عاش، بشهادة ايريناس، حتى بلغ حكم تراجان 98-117م فمن المرجح جداً أن يكون قد كتب بشارته بين 95-98 م.
وغرض يوحنا من تأليف بشارته، إثبات كون يسوع الناصري هو المسيح ابن الله، دحضاً للبدع التي كان حينئذ قد أخذ يدب فسادها في الكنيسة، كبدع الدوكينيين، والاغنستيين، والكيرنتيين والابيونيين وتلاميذ يوحنا المعمدان. وكان الدوكينيون والاغنستيون يقولون أن جسد المسيح لم يكن جسداً حقيقياً. والكرنتيون يجحدون لاهوته. والابيونيون يقولون أنه لم يكن له وجود قبل مريم أمه. وتلاميذ يوحنا كانوا يفضلون معلمهم عليه. فلما رأى الأساقفة آسيا هذه الأضاليل تفشو في كنيسة الله استعانوا بيوحنا الرسول وسألوه تأليف إنجيله. فكتبه وأنبأ فيه بميلاد المسيح الأزلي، وصرح بفضله على يوحنا المعمدان، وذكر ما دعت الحال إلى ذكره في تفنيد تلك البدع، واثبات لاهوت المسيح كما قال في 20: 31 "وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه".
- عدد الزيارات: 23402