المسيح في السامرة
اَلأَصْحَاحُ الرَّابِعُ
4:1-42
1فَلَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ
هذا إصحاح عجيب, لأنه يرينا المسيح العجيب, الجامع لغرائب الصفات. فهو الطالب الواهب, المتعب والقدير, العطشان والمروي. هو مسيح اليهود, ومسيح السامريين, لأنه مسيح العالم بل مسيح الله.
ينتقل بنا هذا الأصحاح, من بيئة يهودية, إلى بيئة سامرية. في البيئة الأولى سمعنا المسيح يتحدث إلى رجل فريسي, وفي البيئة الثانية نصغي إليه وهو يتحدث إلى امرأة سامرية. وشتان بين الشخصيتين: في الحالة الأولى نرى رجلاً يتكلم في ظلمة الليل, وفي الثانية نشاهد امرأة تتكلم مع المسيح في وضح النهار. أما الرجل. فقد أرانا الوحي من هو, وما هو, وأما المرأة فقد أعلمنا الوحي ما هي وأخفى عنا من هي([1]). كان الرجل طاهراً في سيرته, وكانت تحيط بالمرأة ظلمات الشبهات. كان ضعف الرجل في قوته, وكانت قوة المرأة في ضعفها. كلاهما آمن بالمسيح. لكن إيمان الرجل ظل غير ناضج حتى صلب المسيح, وأما المرأة فقد نما حالاً ونضج, وأتى بثمر كثير في وقت قصير. ولا عجب, فالأشجار التي تنبت في الليل, وتنمو في الظلال, تظل عقيمة – كذلك كان نيقوديموس الذي جاء إلى يسوع ليلاً.
لكن الأشجار التي تنبت في ضوء النهار, وتنمو مشبعة بأشعة الشمس, تجود
أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ
بكثير من الثمر – كذلك كانت المرأة السامرية التي كانت تكلم المسيح في الساعة السادسة. كان الرجل شريفاً ورئيساً بين قومه, لذلك كانت صعوبته عقلياً, فوجه المسيح كلامه إلى بصيرته. وكانت المرأة من سقط المتاع لذلك كانت صعوبتها قلبية, فصوب المسيح كلامه إلى ضميرها. كان الرجل في حاجة إلى نور, وكانت المرأة في عوز إلى نار التطهير. ومن العجب أن موضوع حديث المسيح مع كليهما يكاد يكون واحداً – "الماء". فكلم نيقوديموس عن الميلاد بالماء والروح, وكلم السامرية عن ماء عطية الله.
هذا إصحاح مطبوع بطابع التدرج الذي امتازت به كل البشارة. وإليك الدرجات التي ارتقى عليها إيمان السامرية بالمسيح: فمن اعتقادها بأنه مجرد شخص يهودي عدد 9, إلى قولها له "يا سيد" عدد 11, إلى تصريحها له بأنه "نبي" عدد 19, إلى إيمانها بأنه هو المسيح عدد 29. وهاهي الأدوار التي تدرج إليها إيمان السامريين: فمن الإيمان السماعي بكلام المرأة عدد 29, إلى الإيمان الاختباري بكلامه الشخصي عدد 42. وهاك الأدوار التي نما إليها إيمان خادم الملك: فمن الإيمان السماعي المبني على كلام الغير عدد 47, إلى الإيمان النظري المؤسس على كلام المسيح نفسه عدد 50, إلى الإيمان العملي الموطد على قدرة المسيح عدد 53. يقع هذا الفصل في ثلاثة أقسام رئيسية:
أولاً: يسوع والمرأة السامرية 4: 1 – 26 ثانياً: يسوع والتلاميذ 4: 27 – 38 ثالثاً: يسوع والسامريون 4: 39 – 42.
سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا
أولاً: المسيح والمرأة السامرية 4: 1– 26. يقع هذا الفصل في قسمين: (ا) مقدمة تاريخية 4: 1 – 6 (ب) الأدوار التي اجتازها حديث المسيح مع السامرية 4: 7 – 26.
عدد 1. (ا) مقدمة تاريخية 4: 1–6. "فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا أن يسوع" – "الرب يسوع" كلمتان متباعدتان تصفان شخصاً واحداً "الرب .... يسوع", الأولى تصفه في كمال لاهوته, والثانية تصفه في كمال ناسوته. الأولى تصفه في نظر يوحنا البشير والكنيسة, والثانية تصفه في نظر الفريسيين. "لما علم .... ترك اليهودية" – إن في انتقال الرب, في هذه الظروف, من اليهودية إلى الجليل, دلالة على تضحية جليلة وحكمة بالغة. أما التضحية, فلأنه لم يرد أن يطيل المكوث على مقربة من يوحنا المعمدان ليوسع المجال لخدمته, مخافة أن تتضاءل أمام خدمة الفادي. وأما الحكمة, فلأنه علم أن خدمة المعمدان, لم تكن سوى خدمة إعدادية – فهي أشبه الأشياء بخدمة "القواص" الذي يعد الطريق أمام الملك (أشعيا 40). فترك هذه الخدمة الإعدادية لمن وضعت له, ووضع لهل, وتقدم هو ليمارس عمل مسيا الفدائي, وليمسك بصولجان الملك, الذي كان مقبضه يتلهف إلى يمناه. والظاهر أنه وجدت ثلاث درجات في رسم المعمودية – معمودية يوحنا المعمدان. وهي خدمة إعدادية للعصر المسيحي. والمعمودية التي قام بها المسيح في بدء خدمته على أيدي تلميذه. والمعمودية التي رسمها المسيح بعد قيامته.
2مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تلاَمِيذُهُ - 3تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى الْجَلِيلِ. 4وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ. 5فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ
عدد 2. كلمة تفسيرية. هنا نجد دفعاً لفرية كانت قد انتشرت وقتئذ بأن يسوع كان يعمد, فبين البشير أن يسوع نفسه لم يكن يعمد, بل تلاميذه.
عدد 3. المسيح يترك اليهودية قاصداً الجليل لأجل الأسباب آنفة الذكر, وربما أجل غيرها أيضاً, "ترك المسيح اليهودية, ومضى أيضاً – أي مرة أخرى – إلى الجليل". ولما كانت السامرية واقعة بين اليهودية والجليل, "كان لابد له أن يجتاز السامرة".
عدد 4. ضرورة مروره بالسامرة. يؤيد هذا قول يوسيفوس في تاريخه – الجزء السادس: جرت عادة الجليليين أن يجتازوا السامرة في طريق حجهم إلى أورشليم في الأعياد. هذه إذاً ضرورة جغرافية ظاهرة وربما كانت تستر وراءها التزاماً أدبياً. وروحياً, لأن سوخار كانت مهيأة للحصاد فكان لابد للمسيح أن يذهب إليها ليجمع "الخراف الأخرى التي ليست من حظيرة اليهود" (10: 16). ولولا هذا الالتزام الأدبي, لكان في إمكان المسيح أن يتفادى هذه الصعوبة فيذهب إلى الجليل سالكاً الطريق الواقع على الضفة الشرقية لنهر الأردن.
عدد 5. بلوغه سوخار. إما السكة السلطانية التي كانت تمر فيها القافلة
بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ. 6وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هَكَذَا عَلَى
فكانت تمر بمدينة من السامرة يقال لها: "سوخار". ويقول يوسابيوس, أحد الآباء المحققين أن سوخار هذه واقعة تجاه "نيابوليس" – ومعناها المدينة الجديدة – التي هي شكيم, موضع نابلس الحالية. وقد ورد ذكرها مراراً في التلمود. ويظن أن "خربة عسكر" الحالية هي سوخار القديمة. "بقرب الضيعة" – أي شكيم "التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه" (تك 48: 22).
عدد 6. جلوسه عند بئر يعقوب. كان على الطريق السلطاني الذي سلكه المسيح وتلاميذه في الودي بين جبلي عيبال وجرزيم وجنوبي مدينة شكيم – التي هي نابلس الحالية – بئر يعقوب. وهي ليست منقورة في صخر بل مبنية في أديم الأرض, يبلغ قطرها نحو ثلاثة أمتار. وكان عمقها سنة 1694 نحو 45 متراً, وردم منها على ممر السنين جزء ليس بقليل. وفي عام 1843 كان عمقها نحو 22 متراً. واليوم موضوع عليها كثير من الأحجار. ويقال أن يعقوب هو الذي حرها بقرب الضيعة التي وهبها ليوسف ابنه, ليكون له منها مورد للماء مستقلاً عن الينابيع الأخرى التابعة للسامريين. والمعروف أن مياه تلك العين مستمدة رأساً من عين الأرض, وهي صافية, منعشة.
كان يسوع قد تعب من السفر فجلس "هكذا" – أي كيفما اتفق, على البناء المحيط بالبئر المعروف "بخرزة البئر". وكان التلاميذ وقتئذ قد ذهبوا
الْبِئْرِ وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. 7فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ
إلى سوخار ليبتاعوا طعاماً له ولهم. وكانت الساعة السادسة. غالباً كان يستعمل يوحنا البشير, التوقيت الأفرنكي الشائع في أسيا الصغرى وقتئذ وبما أن الساعة السادسة تبتدئ عادة من الساعة 5 فيكون الوقت نحو الساعة 5 بعد الظهر (انظر يوحنا 19: 14) ويظن بعض المفسرين أنها الساعة السادسة صباحاً. وآخرون أن الوقت كان ظهراً.
ما أعجب الحب السني الذي أحبنا به المسيح إذ رضي أن يتسربل طبيعتنا, فتعب وهو رب القوات, ومع أنه أشبع غيره بمعجزة لكنه لم يلتجئ إلى معجزة ليشبع نفسه وتلاميذه.
(ب) حديث المسيح مع المرأة السامرية 4: 7 – 26.
عدد 7. مجيء السامرية إلى البئر. إذ كان يسوع قد تعب ... جلس هكذا على البئر ... "فجاءت امرأة ... لتستقي ماء". ما أعظم الدقة التي رتبت بها أعمال العناية أمامنا الآن حادثتان صغيرتان لا يرى العقل الطبيعي صلة بينهما – شخص تعب من السفر, فجلس ليستريح. وامرأة ذهبت إلى بئر لتستقي ماء. لكن الفكر الإلهي قرن هاتين الحادثتين معاً وأوجد منهما حادثاً جليلاً, فخلص نفساً هالكة وأنقذ بلاداً بأسرها. فما أثمن فتات الوقت المتساقط عند قدمي المسيح. فمن كل لحظة ذاهبة يقتنص فرصة من ذهب, لأن راحته في خدمته, وخدمته في راحته.
فلنتقدم الآن لندرس حديث المسيح مع السامرية. لقد اتخذ هذا الحديث سبعة أدوار متتابعة. ما أشبهها بدرجات سلم, صعدت عليها السامرية من الأرض إلى السماء. في الدرجة الأولى نرى السامرية الساقطة, وفي الدرجة
مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً
الأخيرة نراها سيدة شريفة مؤمنة بالمسيح. وفي الدرجة الأولى نرى المسيح في حالة اتضاعه متعباً في حاجة إلى جرعة ماء. وفي الدرجة الأخيرة نراه معلناً نفسه أنه مسيح الله الذي جاء مخلصاً لجميع العالم.
(ا) في الدرجة الأولى (4: 7 - 9), خاطب المسيح السامرية موجهاً الكلام إلى إنسانيتها بقوله لها: "أعطني لأشرب". (ب) في الدرجة الثانية (4: 10 - 12) وجه المسيح كلامه إلى غريزتها المتشوقة إلى الاستطلاع بقوله لها: "لو كنت تعلمين". (ج) في الدرجة الثالثة (4: 13- 15) صوب الكلام إلى حاجتها الطبيعية للارتواء والراحة بقوله لها: "كل من يشرب هذا الماء يعطش أيضاً, ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش". (د) في الدرجة الرابعة (4: 16 و17) (1) خاطب المسيح ضميرها رأساً بقوله لها: "اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى هنا". (هـ) في الدرجة الخامسة (4: 17(ب) - 20) بدأ قلب المرأة يتفتح ويفيض بالاعتراف بخطاياها, فكان المسيح متجهاً إلى غريزتها الدينية. (و) في الدرجة السادسة (4: 21 - 24) اعترفت المرأة اعترافاً إيجابياً بأن المسيح نبي, فكان كلامه مثيراً فيها عوامل الرجاء, وموجهاً الكلام إلى إرادتها. (ز) في الدرجة السابعة (4: 25 و26) كادت المرأة تعترف بأن المسيح هو المسيح فصرحت بإيمان نصفي أو شبه تصريح, فكان كلام المسيح موطداً إيمانها. فآمنت وتركت جرتها. وما الداعي لها أن تحمل جرة الماء الذي كل من شرب منه يعطش بعد أن دخل ماء الحياة إلى قلبها؟!
فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ:
(ا) الدرجة الأولى في حديث المسيح مع السامرية (4: 7 - 9). يتضمن هذا الدور من الحديث: (1) كلام المسيح عدد 7. (2) جواب السامرية عدد 9 (ا). وكلمتين تفسيريتين: ذكرت إحداهما بعد كلام المسيح, عدد 8, والثانية بعد كلام المرأة عدد 9 (ب).
عدد 7 (1) كلام المسيح "فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء فقال لها يسوع أعطيني لأشرب". هذا كلام وجهه المسيح إلى إنسانية تلك المرأة التي بحكم رقة طبيعتها تعطف على العطشان الذي يطلب الماء. كان المسيح عطشان حقاً. وقد كان في إمكانه أن يصنع معجزة ليستغني بها عن الالتجاء إلى هذه المرأة الساقطة الغريبة الجنس, لولا أنه كان يرمي إلى غرض أشرف وأسمى من إرواء عطش جسده, وهو إرواء عطش نفسه التواقة إلى خلاص النفوس (عدد 32 و34), وإلى إرواء نفس تلك المرأة العطشى التي لم تجد رياًً في تربة الحياة المقفرة. طلب منها ماء أفضل. ولفرط اتضاعه اتخذ موقف المحتاج, ليعلن لها أنه المعطي السخي. فاتخذ اتضاعه وسيلة لرفعتنا. على أن المسيح, بطلبه هذا, لم يقصد أن يثير عطفها عليه, بقدر ما قصد أن يشعرها بعطفه عليها. أما تاريخ السامريين فإنه يرجع إلى سنة 720 قبل الميلاد, حينما صعد "شلمناصر ملك أشور إلى السامرة وحاصرها وسبى إسرائيل إلى أشور, وأتى بقوم من بابل, وكوث, وعوا, وحماة, وسفروايم وأسكنهم مدن السامرة عوضاً عن بني إسرائيل". "فكانوا يتقون الرب ويعبدون تماثيلهم" (2 مل 17). وهكذا نشأ السامريون خليطاً في جنسيتهم
«أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»
وفي عبادتهم. وفي عام 536 قبل الميلاد, حاولوا أن يتعاونوا مع بني إسرائيل الراجعين من السبي ويشتركوا معهم في إعادة بناء الهيكل, فرفض الإسرائيليون أن يتعاونوا معهم (عزرا 4: 30). ومنذ ذلك الوقت, استحكمت بينهم حلقات العداء, فأقام السامريون لأنفسهم هيكلاً على جبل جرزيم, مقابل هيكل اليهود في أورشليم, وصاروا يعذبون ويقتلون كثيرين من اليهود الذين يمرون بتخومهم. ويقول يوسيفوس في تاريخه أنه أثناء الفصح اليهودي في العام السادس قبل الميلاد, وكان هيكل اليهود مفتوحاً في الليل, دخل السامريون إلى الهيكل خلسة ودنسوه بأن ألقوا فيه عظاماً بشرية. فكانت هذه الحادثة أشبه الأشياء بزيت صب على نار الحقد القديم. وأن عملاً شنيعاً كهذا, لا يضارعه سوى تحقير اليهود للسامرين. ويقول ابن سيراخ: "أمتان لا تطيقهما نفسي والثالثة ليست بأمة. يهود يجلسون على جبل السامرة والفلسطينيون, وذاك الشعب الغبي الساكن في شكيم (السامرة)". وكان اليهودي الصميم يستنكف من أن ينجس شفتيه بالنطق بكلمة "سامري". وكان يحسب طعام السامريين نجساً كلحم الخنزير.
كان كل هذا العداء مستحكماً على رغم كون السامريين واليهود متفقين في أمور كثيرة – فمن حفظ توراة موسى, إلى تقديس السبت, إلى ممارسة الختان كفريضة مقدسة, إلى حفظ الأعياد. وكان كل منهما يعتقد في نفسه أنه نسل يعقوب. فاليهود يسمون أنفسهم "إسرائيليين", والسامريون يلقبون أنفسهم بـ"اليعقوبيين" أو اليعاقبة – ويعقوب هو إسرائيل.
8لأَنَّ تلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً. 9فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. 10أَجَابَ يَسُوعُ:
عدد 8. كلمة تاريخية معترضة: "لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً".
عدد 9. (2) جواب السامرية: "كيف تطلب مني ...." أجابت المرأة بتعجب يمازجه أمل ضعيف بانتظار شيء جديد, لا تدري ما هو – ولعلها فاهت بجوابها وهي تقدم له الماء ليشرب – وفي الغالب عرفته أنه يهودي, من لباسه, أو من لهجة كلامه أو من كليهما. لأن الكلمة "أشرب" بالأرامي هي "شحت" فيلفظ اليهود الحرف الأول منها "شيناًً", ويلفظه السامريون "سيناً".
هذا كان جوابها وهي جهلها. ولو علمت لقالت له: "كيف تطلب مني لتشرب وأنت خالق البحار, وأنا سوى ذرة غبار متطايرة على شاطئ بحر الخليقة.
(ب) الدرجة الثانية في الحديث (4: 10 – 12). (1) كلام المسيح عدد 10 (2) جواب المرأة عدد 11 و12.
عدد 10. (1) كلام المسيح. في هذا الدور, تقدم حديث المسيح مع السامرية خطوة أخرى, إذ قصد الفادي أن يثير فيها عوامل
«لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً». 11قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ لاَ دَلْوَ لَكَ
الاهتمام, بقوله لهل: "لو كنت تعلمين عطية الله ومن الذي يقول لك", وأيقظ فيها غريزة حب الاستطلاع, لتعرف "عطية الله, ومن هو الذي يقول لها أعطيني لأشرب, أما عطية الله فهي كل بركات الإنجيل الموهوبة لنا في المسيح, ومعه. ويجوز أن تكون العبارة الثانية: "ومن هو الذي يقول لك", تفسيرية لقوله: "عطية الله". فيكون المسيح هو نفسه عطية الله (2 كو 9: 15) على أنه ليس في إمكان المرأة أن تعرف عطية الله, ولا من هو المسيح, إلا إذا عرفت نفسها, فأدركت وشعرت أنها عطشى. لذلك أراد المسيح أن يرفع المرأة من المستوى المادي الذي كانت ترى نفسها فيه ومعها جرتها, والمسيح واقف عطشان أمامها, وأن ينقلها إلى المستوى الروحي الحقيقي الذي ترى فيه نفسها بائسة عطشى وهي واقفة أمام المسيح المروي جميع العطاش.
"الماء الحي" يطلق على مياه الينابيع المتجددة, الفياضة (تك 26: 19) ويشير به المسيح إلى عطية الروح القدس. فهي حي ومحيي. وبمقابلة هذا القول بما جاء في 3: 5, يتضح لنا أن ملتقى كلام المسيح مع نيقوديموس بكلامه مع السامرية – هو الحياة الروحية الجديدة.
عدد 11 و12 (2) جواب السامرية 4: 11 و12. من العجيب أنه لا فرق بين عقلية الناموسي المتعلم وبين عقلية السامرية الساذجة, أمام الحقائق الروحية السامية. فهي جديدة على كليهما. فكما غاب عن نيقوديموس أن
وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ 12أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟»
يعرف القصد من كلام المسيح عن الولادة الروحية فظن أن المسيح يتكلم عن الولادة الجسدية, واحتج بالقول: "كيف يمكن؟", كذلك فات السامرية أن تفهم مراد المسيح من كلامه عن الماء الحي, فحسبته يتكلم عن مياه الينابيع (تك 26: 19) واحتجت بالقول: "من أين؟". وكما أردف نيقوديموس جوابه بقوله "ألعلَّ" كذلك قالت السامرية أيضاً: "ألعل". فأمام المعلم السماوي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون العلوم الأرضية.
مسكين الإنسان ما أجهله! فلفرط جهل السامرية, غاب عنها أن المسيح كان مقدماً لها طلبه منها, فقد تمثلت المسيح واقفاً عطشان أمام البئر ولا دلو معه, وقد سهى عليها أنها تصف نفسها وهي لا تدري. فهي الواقفة عطشى أمام نهر الحياة ودلو الإيمان ليس معها.
إن تعجب السامرية من كلام المسيح, رافقه إعجابها ببئر يعقوب. فهي فخورة بشرف حسبها ونسبها. "ألعلك أعظم .." – نطقت بهذه الكلمات, وكل الأصوات من حولها تناديها: "هوذا أعظم من يعقوب هاهنا"!
من المؤسف أن تلك المرأة كانت حريصة على شرف جنسها, وقد فاتها أن تهتم بشرفها الخاص.
(ج) الدرجة الثالثة في الحديث (4: 13- 15). (1) كلام المسيح 4: 13 و14 (2) جواب المرأة 4: 15.
13أَجَابَ يَسُوعُ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. 14وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». 15قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:
عدد 13. (1) كلام المسيح: 13 و14. لم يوضح المسيح للمرأة ماهية العطية الإلهية بل حدّثها عن مزايا الماء الحي بمقابلته بماء بئر يعقوب, فبين لها أن مياه بئر يعقوب - ككل مياه أرضية - لا تروى إلا لتعطش, لأنها أرضية وقتية. كذلك تأثيرها أرضي وقتي مثلها. أما الذي يعطيه هو فله ثلاث مزايا: الأولى: أنه ماء مرو: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد" (عدد 14). والثانية: أنه ماء فياض. أي أن الذي يشرب منه لا يرتوي وكفى, بل يكون مروياً لغيره. "بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية". الكلمة "ينبع فيه" تصف نبع ماء الحياة الروحية, ينبع داخل النفس بخلاف مياه بئر يعقوب المنقورة خارج سوخار, وبعيداً عنها فيضطر الإنسان أن ينتقل إليها. والثالثة: أنه ماء موسوم بطابع الخلود: "إلى حياة أبدية". فالحياة الأبدية مبهجة كما أنها خالدة. إن خير مفسر لكلمات المسيح هنا, هو ما فاه به في 7: 37 و38.
عدد 15. (2) جواب المرأة: "قالت له المرأة .." نزلت كلمات المسيح على قلب تلك المرأة, نزول الندى على كؤوس الورود التي لفحتها شمس الصيف, فأنعشتها, وأحيت فيها موت الرجاء. فهتفت من عمق
«يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هَذَا الْمَاءَ لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ».16قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ﭐذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ
نفسها ببهجة تمازجها هيبة قائلة يا "سيد". إن تعجبها الماضي قد تطور الآن تشوقاً. وبدلا من تمسكها بموقفها كمعطية, تنازلت, بل تشرفت أن تتخذ من المسيح موقف السائلة: "أعطني هذا الماء".
كانت تلك السامرية تشكو أمرين - أولهما: العطش: "لكي لا أعطش". وثانيهما: التعب: "ولا آتي إلى هنا لأستقي". كأنها كانت بكلامها هذا معبرة عن أشواق البشرية المتعطشة والمتعبة في برية هذا الوجود. لأن ما يقدمه العالم للنفس من تمتع, إنما هو خارج عنها. فالخير كل الخير في أعماق نفوسنا لو كنا فاهمين.
(د) الدرجة الرابعة : 16 و17 (1) كلام المسيح عدد 16 (2) جواب المرأة عدد 17 (ا).
عدد 16. (1) كلام المسيح 4: 16. إلى هنا كان كلام المسيح مع السامرية متخذاً اتجاهاً عاماً. والآن نراه ينتقل من التعميم إلى التخصيص. قبلاً رأيناه معلماً ومبشراً, ولآن نراه طبيباً واضعاً إصبعه على موضع الداء. قبلاً كان يخاطب غرائزها وعقلها, والآن نراه مصوباً الكلام إلى ضميرها: "اذهبي وادعي زوجك. وتعالي إلى هنا". لم يقصد المسيح أن يحرجها, إذ أن كلماته نتيجة طبيعية لجوابها السابق "لكي لا آتي إلى هنا لأستقي",
وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا» 17أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ
كأنها كانت تستقي لنفسها ولأهل بيتها. وإذا كان في كلام المسيح جرح لها, فهو من الجروح الأمينة, لأنه جرح شاف.
إن العقبة الكؤود التي تحول دون اقتبال الكثيرين إلى الله, ليست في عقولهم, بل في قلوبهم. وأن علة شكوك الأكثرين ليست عقلية بل أخلاقية. فكان من الضروري أن يخاطب المسيح ضميرها, لأنه من المحال أن يعلن لها الحق كما هو, إلا متى كانت في استعداد لقبوله. ومن المحال أن تقبله ما لم تصلح كل خلل في حيلتها ولاشك أنها تعجبت, وفزعت, وانكمشت من هذا الكلام.
عدد 17. (2) جواب المرأة: "أجابت وقالت. ليس لي زوج". من يسطع أن يحلل العوامل النفسية المتباينة والمتنازعة التي كانت تزدحم في قلب السامرية عندما أجابت بالقول: "ليس لي زوج"؟ هل شعرت بنخسة في ضميرها إذ رسم تاريخها أمام عينيها في لحظة من الزمان فنطقت بهذه الكلمات بنغمة الحزن والأسى؟ أم خالجها الشك في مقدرة هذا النبي الجديد الذي فاته أن يعرف دقائق حياتها الخفية فقصدت أن تصحح خطأه المزعوم في ظنه أن لها زوجاً؟ أم رأت نسها أمام طبيب النفوس والأرواح, فقصدت أن تكاشفه بعلة قلبها الدفينة؟ أم كانت كل هذه العوامل مجتمعة معاً؟؟!
(هـ) الدرجة الخامسة في الحديث – 4: 17 (ب) – 20. (1) كلام المسيح 4: 17 (ب) و18. (2) جواب المرأة 4: 19 و20.
18لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هَذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ».
عدد 18. (1) كلام المسيح: 4: 17 (ب) و18: "قال لها يسوع ..." بهذه الكلمات أعلنت للمرأة قوة المسيح النبوية, إذ رأته ممسكاً بيده صفحة حياتها السرية, ويتلوها سطراً سطراً وكلمة كلمة, على مسمع منها, حتى وصل إلى الكلمة التي نزلت على قلبها كالصاعقة: "الذي لك الآن, ليس هو زوجك" – ولعله زوج غيرها. من تاريخ هذه المرأة كما سرده المسيح, نستنتج شيئاً عن الخطوات المتتابعة التي يهوى إليها الإنسان حتى يصل إلى أسفل درجات الشر: فمن الزواج الذي رسمه الله, إلى الزواج الذي أباحته بعض الشرائع الوضعية – "خمسة أزواج", إلى الحياة الإباحية: "الذي لك الآن ليس هو زوجك".
يعتقد بعض المفسرين في هذا العصر, أن هذه السامرية التي كانت زوجة لخمسة أزواج, ترمز إلى الأمة السامرية التي كانت مكونة من خمس أمم مختلفة (2 مل 17: 30 و31), ولكل منها إلها الخاص, فصارت معروفة بـ"أمة الخمسة الآلهة" – والإله الذي تدعى أنها تعبده ليس لإلهها الحقيقي, لأن السامريين "يسجدون لما لا يعلمون" ع 22. هذا يؤيده قول يوسيفوس: أن السامريين هم خليط من خمس أمم أحضرت كل منها إلهها معها إلى السامرة, فلا إله حقيقي للسامريين.
19قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! 20آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هَذَا الْجَبَلِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ
عدد 19. (2) جواب المرأة (أ) إقرارها بأنه نبي 4: 19 و20. كان جواب المرأة على دورين – في الدور الأول أقرت بأن المسيح نبي (ع 19). وفي الدور الثاني قدمت للمسيح استفتاء (ع 20). كان إقرارها نتيجة المعرفة الحقيقية. التي فاجأها بها المسيح عن تاريخها. فرأت فيه نبياً يعلم بالغيب. فبإقرارها تختتم الدرجة الخامسة من حديثها, وباستفتائها تسهّل الدرجة السادسة.
(و) الدور السادس (ع 20 – 24). (أ) كلام المرأة (ع 20) (ب) جواب المسيح (ع 20 – 24).
عدد 20. (أ) كلام المرأة: يستنتج كثير من المفسرين, من جوابها المقتضب: "أرى أنك نبي .... آباؤنا", أنها قصدت أن تتهرب من الإطالة في الكلام عن أخلاقها وحياتها, ففرت والتجأت إلى الكلام عن معضلة كلامية, كما يفعل بعض الذين تنخسهم قلوبهم فيهربون من الكلام في الروحيات التي تمس الحياة, إلى التمسك بمماحكات الكلام, في أمور لاهوتية عويصة, لا حل لها ولا علاج. ويلوح لنا أن المرأة بلغت في حديثها مع المسيح درجة راقية يصعب علينا أن نعتقد فيها, إنها تفر أمامه. وأنى يتأتى لها ذلك الآن, بعد أن أمسكت بحبال قوته الطاهرة المطهرة, بل كيف يمكن لمن أعلن لها مجد المسيح أن تبغي من حضرته هروباً؟؟ لذلك يغلب على اعتقادنا, أنها إنما أرادت أن تنتهز فرصة وجودها أمام هذا النبي الجديد, المترجم عن إرادة الله, لينبئها بالقول الفصل في هذه المشكلة القديمة, التي إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ».
ظلت أجيالاً طوالاً, قائمة بين اليهود الذين هو منهم, والسامريين الذين تنتمي هي إليهم.
وليس من المستبعد أنها بعد أن تبكتت على خطاياها, ورأت حاجتها إلى مخلص, قصدت أن تطمئن على أفضل مكان تقدم فيه عبادتها العتيدة. فقالت له: "آباؤنا" – السامريون – "سجدوا في هذا الجبل"([2]) – ولعلها أشارت بإصبعها إلى الجبل (تث 27: 24) لأن بئر يعقوب واقعة عند سفح ذلك الجبل – "وأنتم" – اليهود – "تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه".
غريب أن هذه المرأة الساذجة لم تكن أجنبية عن الحقائق اللاهوتية. والمطارحات الكلامية. على أن خطيتها لم تكن ناشئة عن جهلها, بل عن ضعف خلقها. لم يكن الظلام في عقلها, بل في قلبها.
عجيب أنها كانت ملتهبة حماساً لهيكل أمتها المتهدم منذ أيام يوحنا هرقانوس – سنة 129 ق.م – ولم تبال بهيكل حياتها المتهدم! هذه علامة من علائم التمسك بأهداب الدين الاجتماعي, والتخلي عن أسباب التدين الشخصي. "القلب خداع ونجيس" ليس من السهل إذلاله ليتواضع بالحقيقة أمام الله.
21قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ
عدد 21. (ب) جواب يسوع (ع 21 – 24). كان موقف المسيح دقيقاً. فمن جهة لا يريد – ولا يقدر – أن ينكر الحق. ومن الجهة الأخرى لا يريد أن يعثر هذه النفس الحساسة الراغبة في الحق. وفي دقة موقفه هذا قدم جواباً بالغاً حد الكمال, مرتقياً فوق الحزازات الجنسية, والمماحكات الكلامية. كان سؤال المرأة قاصراً على طلب تعيين مكان العبادة. وبكل حكمة, رفع المسيح قلبها من التفكير في العبادة بوجه عام, إلى التأمل في حقيقة المعبود, وفي طبيعته: "الآب".
في هذا الدور وجه المسيح خطابه إلى إرادة المرأة السامرية فأجابها بأسلوب الحكيم, وأراها:
(1) طبيعة العبادة الحقيقية: أنها أوسع من أن يحصرها مكان "لا في هذا الجب ولا في أورشليم تسجدون للآب" (عدد 21). (2) مؤهلات العابدين الحقيقيين: (عدد 23). (3) طبيعة المعبود: "الله روح" (عدد 24 (أ)). (4) واجب العابدين: "فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (عدد 24 (ب)).
عدد 21. (1) طبيعة العبادة الحقيقية: بهذا الكلام بيّن لها المسيح أن عبادة السامريين ليست فقط عاطلة من حيث المكان الذي تمارس فيه, بل هي أيضاً منقوصة من أساسها.
في قوله لها: "يا امرأة صدقيني ....", وجه الخطاب إلى إرادتها لكي تؤمن. "تأتي ساعة" – لقد وصته هي بأنه نبي, وهاهو ينبئها الآن, عن
لاَ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. 22أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ
وقت في المستقبل سوف يقبل فيه السامريون إلى الإله الحي الحقيقي, فيصيرون له أبناء روحيين, إذ يتحررون من قيود العبادة الخارجية المحصورة في مكان معين – عبادة ما أقر بها من العبودية, وكلتاهما من مصدر واحد.
في زمن السامرية, كان يعتقد السامريون أن جبل جرزيم "مقدس" في ذاته دون سواه. فأنبأها المسيح بوقت, سوف يعتبرون فيه كل مكان يحل فيه الله"مقدساً". عندئذ يعلمون أن المكان لا يقدس العبادة, إنما العبادة هي التي تقدس المكان. "لا في هذا الجبل" – جرزيم - "ولا في أورشليم". كما أن المسيح زحزح إيمانها عن قدسية "جرزيم" كذلك لم يكن متحيزاً للجبل الذي أقيمت عليه أورشليم: "ولا في أورشليم تسجدون للآب". فلا اليهود
يجتذبون السامريين إلى جبل أورشليم, ولا السامريون يرغمون اليهود على الصلاة في جرزيم, بل ينتقل كل منهما من حيزه الضيق ليلتقيا معاً في مكان مشترك, حيث يلتئم جميع أبناء الله, في عبادة روحية تضمهما معاً, ويلتقون في مكان لا يحده مكان.
عدد 22. كلمة توضيحية: "أنتم" – السامريون - "تسجدون لما لستم تعلمون" - أي على غير هدى. لأن السامريين اكتفوا بجزء مبتسر من الوحي الإلهي - أسفار موسى الخمسة - وحسبوه خاتمة الوحي, وحرموا أنفسهم أنوار الوحي الذي أراقه الزابوري والأنبياء على المعلنات الإلهية. مثل
أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. 23وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ
أولئك السامريين مثل قوم ظفروا بسراج منير, فحملوه, ودخلوا به إلى غرفة ضيقة محكمة النوافذ حتى اختنق ضوءه من قلة الهواء. المقصود من كلمة: "ما" تلك الفكرة التي كانت عندهم من جهة الله. "أما نحن" – اليهود - "فنسجد لما نعلم لأن الخلاص هو من اليهود" - الخلاص المقصود هنا, هو الخلاص الذي سبق فأنبأ عنه الله, أن سيأتي به مسياً الذي هو نسل إبراهيم (تك 12: 3 و18: 18 و22: 18). فشجرة الخلاص نبتت في بستان اليهود, الذين استؤمنوا على أقوال الله (رو 3: 2) ومنهم جاء المسيح حسب الجسد.
هذه هي المرة الوحيدة التي استعملت فيها كلمة "يهود" في الإنجيل بمعنى حسن. وهي تعني اليهود كأمة مختارة من الله, لا رؤساء اليهود الذين حجزوا الحق ولطخوا أيديهم بدماء الأنبياء والمرسلين, وتوجوا جرائمهم بقتل مسيح الله.
عدد 23. (2) مؤهلات العابدين الحقيقيين: "ولكن تأتي ساعة. وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق". إن كلام المسيح, في العدد السابق, الذي تناول فيه السامريين وعبادتهم الحقيقية كان من قبيل النبوة, وهو يرمي إلى نقطة في بطن المستقبل. لكن كلامه في هذا العدد, يقرر حقيقة راهنة بدليل قوله هنا: "وهي الآن". لأن الساجدين الحقيقيين موجودين فعلاً في كل مكان وزمان سواء أكانوا من اليهود أم من السامريين.
إن مؤهلات هؤلاء الساجدين تجمعها كلمتان: (1) "بالروح" –
يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. 24اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا».
ضد كل ما هو جسدي, مادي, وحرفي, ومحلي. (2) "وبالحق" - ضد كل ما هو باطل, ووهمي, وصناعي, وجهلي. فالعبادة التي "بالروح" متفقة وطبيعة الله, والعبادة التي "بالحق", متفقة وإرادة الله. "بالروح" – هذه الكلمة تصف العبادة الحقيقية من حيث شعور العابد (رو 1: 9). "بالحق" – هذه الكلمة تصف العابد من حيث تكوين فكرته عن المعبود. فالعبادة في الديانة اليهودية كانت قائمة على الحرف والعبادة في الديانة السامرية كانت قائمة على الوهم والضلال: "لما لستم تعلمون". لكن العبادة في المسيحية هي "بالروح" – على العكس ما في اليهودية, و"بالحق" – على العكس ما في السامرية.
ولا يوجد مشجع على العبادة أقوى من هذه العبارة: "لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له" – فإذا كانت الروح تتطلب إلهها الذي منه أتت, لتلقي به. فإن الله الذي منه خرجت الروح, يطلب هذه الروح ليلتقي بها, وهذه رغبة متبادلة بين العابد والمعبود.
عدد 24. (3) طبيعة المعبود: "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا". "الله روح" – هذه الكلمة تصف الله في طبيعته لا في ذاته وأقنوميته وهي أولى الصفات الثلاث التي سجلها يوحنا في كتاباته عن الله: - "الله نور" (1 يو 1: 5), "الله محبة" (1 يو 4: 8). "الله روح" (يو 4: 24).
25قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى
عدد 25. – ز – الدور السابع 4: 25 و26 – (1) كلام المرأة (4: 25). "أنا أعلم أن مسياً – الذي يقال له المسيح – يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء". من هذا الكلام, يتضح لنا أن شعاعة من النور لاحت أمام عيني المرأة, وأن شخصاً عجيباً تراءى لها في ضوء هذا النور الضئيل, فلم تستطع أن تحكم في ما إذا كان هو مسياً, أم سواه. لذلك فاهت بهذه الكلمات وهي بين مؤمنة وغير مؤمنة. ولعلها قصدت أن تلقي دلوها في الدلاء علها تكون قد ظفرت بهذه اللؤلؤة التي لا تثمن, فنطقت بهذا التصريح – ليس عن غير يقين – آملة أن تستزيد المسيح من هذا النور. أما العبارة: "الذي يقال له المسيح" فهي من كلمات يوحنا البشير.
يقول ثقاة المؤرخين: أن السامريين لا يزالون ينتظرون, إلى يومنا هذا, مسيحاً يسمونه "أشيف" أي المثيب, والمرجع, والهادي. لكنهم أخطئوا, كما أخطأ اليهود أيضاً, في انتظارهم ملكاً أرضياً, يرد لهم مجدهم الأرضي الضائع.فإذاً فكرة انتظار المسيح, ليست قاصرة على إسرائيل, لأن المسيح الحقيقي هو مسيح الجميع. حقاً قال فيه سمعان الشيخ: "نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل" (لو 2: 32).
مع أن فكرة المرأة السامرية عن المسيح, كانت فكرة مبسترة ناقصة, إلا أن المسيح قبلها على رغم ما فيها من ضعف, مؤكداً لها أنه ليس من الضروري لها أن تنتظر أعواماً ولا شهوراً, ولا ساعات, حتى تنتظر ذلك
جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». 26قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».
المسيا, ولا أن تذهب هنا وهنالك مفتشة عليه, فما عليها إلا أن تفتح عينيها حيث هي واقفة, فتراه: "أنا الذي أكلمك هو".
ليس للمرأة من جواب على هذا الإعلان العجيب, سوى الصمت! وهو صمت أبلغ من كل كلام. فإذا كان كلامها في الماضي من ذهب, فإن صمتها هنا. لآلئ لا تثمن.
عدد 26. (2) جواب المسيح – تصريح جليل (4: 26). إننا نحتاج إلى ريشة ملائكية, تغمس في ألوان سماوية لترسم العوامل المتباينة التي كانت تختلج في قلب المرأة, بعد أن سمعت هذا التصريح الجليل: "أنا.. هو" أكانت فرحة بهذا الاكتشاف العجيب الذي فتش عنه الأنبياء قديماً فعز عليهم أن يجدوه, لكنه وجدلها هي الضعيفة المحسوبة من سقط المتاع؟ أم امتلأ قلبها بتأنيبات الضمير, على الكلمات الساذجة التي خاطبت بها المسيح في بدء الحديث؟ أم بكت من فرط سرورها بهذا النور الذي ظهر لها من غير انتظار؟ أم كانت كل هذه العوامل مجمعة معاً في نفسها؟؟
ما أسمى المقام الذي بلغته هذه المرأة في هذا الحديث؟ من امرأة ساقط تحمل جرة تستقي بها ماء من بئر يعقوب, إلى ملكة غير متوجة قد دخل إلى قلبها نهر الحياة! فلا عجب إذا كانت قد تركت جرتها فيما بعد!! جاءت لتشرب مياهاً أرضية, فصارت تخرج من قلبها أنهار ماء حية لتستقي مياهاً مادية لأهل بيتها, فأروت بمياه الحياة أهل مدينتها (4: 28 - 30).
27وَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تلاَمِيذُهُ وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ.
ثانياً: المسيح والتلاميذ. 4: 27 - 38. (1) التلاميذ المتعجبون (عدد 27). (2) السامرية المبشرة 4: 28 – 30. (3) حوار بين المسيح والتلاميذ 4: 31 – 38.
عدد 27. (1) التلاميذ المتعجبون: في الفترة التي تحدث فيها المسيح مع السامرية, كان التلاميذ قد أتموا مأموريتهم التي ذهبوا إلى سوخار أجلها (عدد 8), فابتاعوا طعاماً, ورجعوا, "وكانوا يتعجبون". وردت هذه العبارة الأخيرة, بصيغة الاستمرار لتفيد أن تعجبهم كان متواصلاً. أما سبب هذا التعجب, فهو أن سيدهم كان يتكلم مع امرأة.
كان من حقهم أن يتعجبوا, متى رأوا سيدهم يتكلم مع رجل سامري. فكيف بهم لا يتعجبون متى كان هذا السامري امرأة. منذ ذلك الوقت, حتى يومنا الحاضر, والمرأة محتقرة عند اليهود([3]). فما كانت تسمح العوائد ليهودي أن يحيي امرأة في الطريق – ولو كانت هذه المرأة أمه, أو أخته, أو زوجته. وفي صلاة اليهود الصباحية, يقف الرجل مصلياً في الهيكل قائلاً: "أبارك اسمك أيها الرب خالق العالمين, لأنك خلقتني يهودياً لا أممياً. وحراً لا عبداً. ورجلاً لا امرأة". لكن المرأة المسكينة تقف في بيتها – لأنه
وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا. 28فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ: 29«هَلُمُّوا انْظُرُوا
غير مسموح لها أن تدخل الهيكل – وتقول بنغمة مؤلمة "أحمدك اللهم لأنك خلقتني كما أردت".!!
كان يعتقد اليهود أن حرق الشريعة أفضل من تسليمها إلى امرأة. فلا عجب إذا كان التلاميذ قد تعجبوا. إلا أن تعجبهم كان صامتاً. فلم يقل أحدهم "ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها" وربما نشأ صمتهم, عن احترامهم لسيدهم, وعدم حصولهم على الشجاعة الكافية لاستجوابه. إلا أن المهم هو أن المرأة لم تعبأ بتعجبهم, بل مضت في سبيلها.
ع 28 – 30. (2) السامرية المبشرة: بعد أن شبعت المرأة من نهر الحياة, لم تبق بها حاجة إلى استعمال الجرة, فتركتها ومضت إلى المدينة, وقالت للناس: "هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت".
إن السامرية بعملها هذا, قدمت خير دليل على:
(ا) تضحيتها: "تركت جرتها" – كما ترك التلاميذ شباكهم. (ب) غيرتها: "مضت" – إنها جرت بقدمين تسبقان الأجنحة في السرعة. (ج) شجاعتها ووطنيتها: "إلى المدينة". إننا لا نستطيع أن نقدر شجاعة هذه المرأة, إلا متى ذكرنا تاريخها, وتقدير أهل
بيتها لها. لقد شعرت أن لها رسالة, فبلغتها إلى أهل مدينتها أولاً. وأن شجاعتها هذه تنم عن وطنيتها الحقيقية. (د) رسالتها: "هاموا انظروا إنساناً". (هـ) حكمتها: لم
إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟». 30فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ. 31وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ سَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ كُلْ» 32فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لِي طَعَامٌ لِآكُلَ
تحاول السامرية, أن تكلمهم عن المسيح, مخافة أن تعجز عن محاجتهم, كنها رأت أن أفضل طريقة هي أن تحضرهم إليه لتواجههم به. لم ترغب في أن تكون هي "جرة" تحمل إليهم ماء الحياة بل أرادت أن تحضرهم إلى "النهر", ليشربوا بأنفسهم, ويرتووا. (و) باكورة خدمتها: "خرجوا من المدينة" هذا نجاح عظيم, دونه نجاح بعض الرسل.
(3) حوار بين المسيح والتلاميذ: 4: 31 – 38. (ا) التلاميذ يقدمون الطعام للمسيح (عدد 31), وهو يدلهم إلى الطعام الحقيقي (عدد 32). (ب) التلاميذ يتساءلون فيما بينهم: (عدد 33). (ج) المسيح يزيل أسباب تساؤلهم: (4: 34 – 38).
عدد 31 و32. (ا) التلاميذ يقدمون الطعام للمسيح, وهو يدلهم إلى الطعام الروحي (4: 31 و32).
الآن وقد خلا التلاميذ بسيدهم, بعد أن مضت السامرية لتدعوا أهل مدينتها, قدموا له الطعام الذي ابتاعوه من المدينة, قائلين: "يا معلم كل". أما المسيح, فقد وجد أثناء غيابهم, وليمة روحية فاخرة, في اقتبال نفس خاطئة إليه, فأجابهم جواباً عجيباً: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم". وفي الأصل يوجد توكيد خاص على كلمتي "أنا", و"أنتم". إن طعامه
لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ». 33فَقَالَ التّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟» 34قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي
وشرابه الحقيقيين, هما إشباع الجياع وإرواء العطاش المقبلين إليه. لكن عقل الإنسان الطبيعي لا يستطيع أن بعرف طبيعة الطعام الروحي ومزاياه وقوته (انظر 6: 27).
عدد 33.(ب) تساؤل التلاميذ فيما بينهم (4: 33). من المؤسف أن عقول التلاميذ لم تكن قد ارتقت فوق عقل نيقوديموس وعقل السامرية, فكما أن نيقوديموس أساء فهم معنى الولادة الجديدة فظنها ولادة جسدية, وكما فات السامرية أن تفهم القصد من الماء الحي فظنت المسيح يتكلم عن مياه أرضية, كذلك غاب عن التلاميذ أن يدركوا مراد المسيح من قوله "طعام" فظنوه يتكلم عن طعام جسدي وقال بعضهم لبعض "ألعل أحد أتاه بشيء ليأكل". وبمثل ما أجابت السامرية, أجاب التلاميذ: "ألعل".
(ج) المسيح يزيل أسباب تساؤل التلاميذ ع 34 – 38. علم المسيح, علام الغيوب وفاحص القلوب, ما كان يجول في خاطرهم وأدرك ما كانوا عنه يتساءلون فأجاب جواباً مانعاً جامعاً, تناول فيه الكلام عن: (1) طعامه (عدد 34). (2) الفرصة العظمى التي أمامهم (عدد 35). (3) المسؤولية العظمى الواقعة عليهم (عدد 36 – 38).
عدد 34 طعامه: قال لهم يسوع: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله". من كلامهم جاوبهم. كانوا يتكلمون عن الطعام, فأجابهم
أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ. 35أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا
بالقول: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني". وكما أن الإنسان يتلذذ بالطعام, وبه يتغذى, ويحيا, كذلك كانت مشيئة الآب لذة – المسيح. وغذاءه, وحياته. إننا نلمس من هذه الكلمات: (ا) معرفة المسيح بإرادة الآب: "الذي أرسلني". (ب) حب المسيح لإرادة الآب السماوي: "أن أعمل". (ج) ملازمة المسيح لهذه المشيئة بكل دقة, إلى المنتهى "وأتمم عمله". هل كان يفهم التلاميذ وقتئذ, أن إتمام المسيح لإرادة الذي أرسله, معناه حمل الصليب؟ يتكلم المسيح هنا عن نفسه في وظيفته الفدائية التي قبلها على نفسه من الآب.
عدد 35. (2) الفرصة العظيمة التي أمامهم: "أما تقولون .... ارفعوا أعينكم وانظروا". بين بئر يعقوب الرابضة عند قدمي جبل جرزيم, وبين مدينة سوخار الجاثية عند قدمي جبل عيبال. يمتد سهل خصيب, كان وقتئذ منزرعاً حبوباً, فاكتسى وجهه ببساط سندسي أخضر. وكان بين هذا الوقت وبين الحصاد أربعة أشهر. وبما أن الحصاد في فلسطين يكون عادة في أواسط شهر أبريل, إذاً تكون هذه الحادثة قد وقعت في أواسط ديسمبر.
رأى التلاميذ بعيونهم الطبيعية – أن الحقل الطبيعي الممتد أمامهم, كان لا يزال أخضر, تعوزه أربعة أشهر حتى يأتي الحصاد, فوجه المسيح بصرهم الروحي إلى حقل روحي قد ابيض للحصاد, وهو الآن ينتظر أهل سوخار. ورفع نظر تلاميذه إلى هذا الحقل الجديد الناضج, الممتد أمام بصرهم.
الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. 36وَﭐلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. 37لأَنَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. 38أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ
والفرق بين الحقل الطبيعي, وبين هذا الحقل الجديد, هو أن أولهما كان وقتئذ أخضر, لا يمكن أن يأتي ثمراً إلا بعد مرور أربعة أشهر.وأما ثانيهما, فقد اكتمل نضوجه وأثمر حالما زرعت البذار فيه. إن حصاد أولهما, من حبوب. أما حصاد ثانيهما, فمن قلوب.
عدد 36 – 38. (3) المسؤولية العظمى الواقعة على التلاميذ: مادامت الحقول قد ابيضت أمامهم, فما عليهم إلا أن يتقدموا لجني ثمار هذا الحصاد الذي تعب في زرعه سواهم. على أن المكافأة تكون للزرع للحاصد معاً: "آخرون تعبوا وأنتم دخلتم على تعبهم". "الآخرون" – هم أنبياء العهد القديم, ويوحنا المعمدان, والسامرية, والمسيح. ومن الملاحظ أن عين نون, التي كانت مركزاً لدائرة خدمة يوحنا المعمدان, قريبة من السامرة. ولئن كان عمل الزارع أشق من عمل الحاصد, لأنه يزرع بالدموع, وقد يضطر أحياناً أن يأخذ قوت أولاده ويزرعه, لكنه سيفرح متى جاء وقت الحصاد. على أنه من نصيبه أيضاً أن يزرع لغده, مثلما حصد هو من زرع أمسه (مزمور 126: 5 و6).
إن هذا القول الذي فاه به المسيح, لا يقتصر على تلك الحادثة ولا يحتكر للتلاميذ, بل ينطبق على الخدمة والخدام في كل جيل. إذ في كل عصر
لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».39فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ». 40فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ
يوجد حصاد, وحيثما يوجد حصاد, فالحاصدون مدينون لمن زرعوا قبلهم هذه سلسلة نورانية تربط جميع الخدام, في كل جيل بلا تفضيل.
ثالثاً: يسوع والسامريون 4: 39 – 42.
يعالج هذا الفصل إيمان السامريين: (1) إيمانهم في درجته الابتدائية (عدد 39). (2) ثمرة إيمانهم في درجته الابتدائية (عدد 40). (3) إيمانهم في درجته الراقية (عدد 41). (4) ثمرة إيمانهم في درجته الراقية (عدد 42). (5) موضوع إيمانهم (عدد 42) (ب).
عدد 39. (1) إيمان السامريين في درجته الابتدائية. هذا هو الإيمان السماعي "بسبب كلام المرأة التي تشهد: أنه قال لي كل ما فعلت". مع أنه كان إيماناً سماعياً, إلا أنه كان إيماناً نامياً, مثمراً.
عدد 40. (2) ثمرة إيمان السامريين في درجته الابتدائية. أما هذه الثمرة, فهي أنهم جاءوا إلى يسوع وسألوه أن يمكث عندهم. إن الذي ينال قسطاً من النور, لا يهدأ حتى ينال قسطاً أوفر. قبلاً شرب السامريون من ماء الحياة, بواسطة تلك المرأة, فكانوا كمن يشرب من ماء النهر بالجرة. أما الآن, فقد عزموا على أن يشربوا من نهر الحياة مباشرة. ومع أن وقت
فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ. 41فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كلاَمِهِ. 42وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كلاَمِكِ نُؤْمِنُ لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ
المسيح ثمين جداً إلا أنه لم يبخل به على طالبيه الأممين المعادين لجنسيته, بل وهبهم يومين من أيامه المعدودات على الأرض. لا بل أعطاهم حياته كلها, إذ قدمها على الصليب.
عدد 41. (3) إيمان السامريين في درجته الراقية: "فآمن به أكثر جداً بسبب كلامه". فرق عظيم بين الإيمان السماعي, والإيمان الإختباري. فرق بين أعمى يسمع وصفاً بليغاً عن ألوان الغروب البديعة, وبين مبصر يفتح عينيه ليرى – "الذي رأيناه بعيوننا. الذي شاهدناه ولمسته أيدينا".
عدد 42. (4) ثمرة إيمانهم في درجته الراقية (عدد 42 (أ)). هذه هي اعترافاتهم بهذا الإيمان لمبشرتهم العظيمة. وأنهم لم يكونوا بكلامهم هذا ناكري فضل مبشرتهم, بل كانوا مقرين بفضل مخلصهم. أما أساس إيمانهم, فمزدوج: (أ) السمع: "لأننا قد سمعنا" – كلام المسيح من فم المسيح. (ب) العلم: "ونعلم" من يقين اختبارنا – "أن هذا هو المسيح مخلص العالم". إذاً كان هؤلاء السامريون, أوسع فكراً من اليهود, الذين كانوا يعتقدون أن المسيح سيجيء ليخلص الأمة اليهودية وحدها خلاصاً مادياً سياسياً. أما هؤلاء السامريون, فقد آمنوا أنه مخلص روحي للعالم أجمع. إن شهادتهم أعظم تفسير لما جاء في 3: 16 "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد". بإيمانهم هذا, أقاموا الحجة الدامغة على أنهم أجادوا فهم وعد
بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ».43وَبَعْدَ الْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ
الله لإبراهيم: "بنسلك تتبارك جميع أمم الأرض". ها قد بلغ إيمانهم بالمسيح مرتبة أسمى من انتظارات السامرية. كانت هي تنتظر أن المسيح متى جاء يخبرهم بكل شيء (عدد 25). أما هم, فقد آمنوا أنه "مخلص" لا مجرد معلم. الآن أدركت السامرية ومواطنوها, "أن الخلاص" – بل المخلص نفسه – "هو من اليهود" – (عدد 22).
إن إيمان السامرية, وإيمان أهل مدينتها, هما أجمل تفسير لقول البشير: "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه" (1: 12 و13).
(1) تقول بعض التقليدات القديمة أن اسم المرأة "فوتينا".
(1) يعتقد السامريون أنه على هذا الجبل قدم إبراهيم اسحق ابنه ذبيحة. وقد جاء في التلمود (باب بريشيت ربا): "أن الراب يوحنان مر بجبل جرزيم في طريقه ليسجد في أورشليم. فابتدره سامري بالقول: "كان ينبغي لك أن تصلي في هذا الجب المقدس (جرزيم) بدلاً من أن تصلي على ذلك الجبل الملعون (عيبال)".
(1) كان أحد الفريسيين معروفاً وقتئذ لدى قومه "بالفريسي الدامي الجبهة" لأنه كان مرة سائراً في الشارع, مغمضاً عينيه, لئلا يرى امرأة في الطريق, فاصطدم رأسه بجدار, وسالت منه الدماء, فلقب بـ "الفريسي الدامي الجبهة" – لقب ما أشرفه عندهم!
- عدد الزيارات: 13372