Skip to main content

نتيجتان متناقضتان

اَلأَصْحَاحُ السَّادِسُ

1بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الْجَلِيلِ وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ.

نحن الآن في بيئة تختلف عن تلك التي ودعناها في العدد السابق, وعن التي سنلتقي بها في الإصحاح اللاحق. في الإصحاح الخامس كنا في أورشليم, وفي الإصحاح السابع سنعود إلى مدينة الملك العظيم, لكننا في الإصحاح السادس نتمشى مع المسيح في الجليل عند بحر طبرية[1]. على أنه وإن اختلف هذا الإصحاح عن سابقه ولاحقه, في المكان, إلا أن الفكر فيه مرتبط تمام الارتباط بما قبله وبما بعده. رأينا في الإصحاح الماضي كيف حمى غضب اليهود إلى درجة الغليان عندما رأوا المسيح يشفي إنسانا يوم سبت. لذلك ذهب المسيح إلى الجليل وقضى هناك المدة التي بين عيد الفوريم- في مارس, وبين عيد المظال- في

 

2وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي الْمَرْضَى. 3فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ. 4وَكَانَ الْفِصْحُ عِيدُ الْيَهُودِ قَرِيباً. 5فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ

أكتوبر. وفي هذا الإصحاح يروي لنا يوحنا حادثتين - معجزة إشباع الخمسة الآلاف, ومعجزة مشي المسيح على الماء. ومن النتائج التي تمخضت بها هاتان المعجزتان, أن نضجت عوامل عدم الإيمان في قلوب البعض فتركوه,وتأصلت بذار الإيمان في البعض الآخر فقبلوه. فكأن الفكرة الرئيسية تتركز في نضوج عدم الإيمان, واكتمال الإيمان.

ينقسم هذا الإصحاح إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولا: المعجزتان6: 1- 21. ثانياً:حديث المسيح 6: 22- 65. ثالثاً:فصل الخطاب 6: 66- 71

مُقْبِلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟» 6وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. 7أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً». 8قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: 9«هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟»

أولا: المعجزتان (أ) معجزة إشباع الخمسة الآلاف 6: 1- 13 (ب) معجزة مشي المسيح على الماء 1: 14- 21

(أ‌) معجزة إشباع الخمسة الآلاف 6: 1- 13

عالج المؤلف شرح هذه المعجزة, كما وردت في البشائر الأربع, في

"شرح بشارة لوقا" (صفحة 235- 240) فاطلب تفسيرها هناك.

في معجزة الإصحاح السابق رأينا المسيح نبع الحياة الفياض. وفي هذه المعجزة نرى المسيح عائل الحياة ومقيتها.

في هذه المعجزة تجلت قدرة المسيح كخالق, لأنه خلق من الأرغفة القليلة التي توازي العدم, شيئاً كثيراً أشبع به الآلاف. وإلى قدرة المسيح كخالق, ظهرت محبته العطوفة كفاد. فلقد أشفق على الجماهير قبل أن تعرف الجماهير كيف تشفق على نفسها. وإلى قدرته كخالق, ومحبته كفاد, أعلنت حكمته كمدبر. قبل أن يجئ موعد جوعهم, فكر هو في إشباعهم. وقبل أن يخطر ببال فيلبس الحكيم أن يدبر معاشهم دبره لهم صاحب التدابير.

10فَقَالَ يَسُوعُ: «ﭐجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ». وَكَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. 11وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ وَوَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. 12فَلَمَّا شَبِعُوا قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: «ﭐجْمَعُوا الْكِسَرَ الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ». 13فَجَمَعُوا وَمَلَأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ.

إلى قدرته كخالق, ومحبته كفاد, وحكمته كمدبر, بانت جودته كمحسن كريم. فهو لم يكتفي بأن أشبع, بل جاد بطعام وفير, حتى فضل عن حاجتهم. كذلك في تدبير فدائه:"يوجد أيضا مكان"."كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز"! إلى قدرته كخالق, ومحبته كفاد, وحكمته كمدبر, وجودته كمحسن كريم ظهر اقتصاده كحكيم. إن وجود سخائه لا ينفى قدرة اقتصاده. فالفرق عظيم بين الجود والإسراف"اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء".

(ب‌) معجزة مشي المسيح على الماء 6: 14- 21

أجريت المعجزة الماضية على اليابسة, وتمت هذه المعجزة على الماء.في المعجزة السابقة, رأينا المسيح عائل الحياة ومقيدها. وفي هذه المعجزة نرى المسيح هادي الحياة وقائدها. في المعجزة الأولى أشبع المسيح التلاميذ-والجماهير. وفي هذه المعجزة, هدى التلاميذ وأوردهم إلى مياه الراحة.

14فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: «إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ!» 15وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً

عدد14 و15. (أ) حلقة الاتصال بين المعجزتين 6: 14و15" فلما رأى الناس الآية...". واضح من 1: 12 أن "النبي" شخصية مستقلة عن شخصية المسيح. على أنه يظهر أن عامة الناس, كانوا يعتقدون بحق, أن المسيح "هو النبي الآتي إلى العالم" (تث 18 :18). لكنهم لم يفهموا من مسيحيته إلى على قدر ما فهموا من هذه المعجزة. كان منتهى اعتقادهم أن المعجزة بلغت مداها عند إشباع بطونهم, وأن المسيح إنما جاء ليملك عليهم ملكاً مادياً سياسياً. وقد غاب عنهم أن المسيح قصد بهذه المعجزة أن يولم لهم وليمة مادية ترمز إلى العشاء الأعظم في السماء, وأنه بتقديمه الطعام لأجسادهم قصد أن يقدم لهم درساً معنوياً, في تقديمه ذاته لنفوسهم الجائعة. إلا أننا نحمد لهم قصدهم, وإن كنا نلومهم على عدم فهمهم. وكم من المرات نسابقهم نحن في هذا الجهل ونسبقهم إليه مع أنه قد"انتهت إلينا أواخر الدهور".

"وأما يسوع فإذا علم " _ إما من حركاتهم, أو ببصيرته التي تخترق حجب الظلام, فتعرف خفايا القلب ونياته _ "أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه" _ بالقوة _ "ليجعلوه ملكاً, انصرف أيضا إلى الجبل وحده". كانت للشعب اليهودي آمال نفسانية, جسدا نية, فقصدوا أن يسخروا المسيح ليتخذوا منه وسيلة لإتمام مآربهم, لكن الذي جاء لإتمام إرادة

انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ. 16وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ نَزَلَ تلاَمِيذُهُ إِلَى الْبَحْرِ 17فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَكَانَ الظّلاَمُ قَدْ أَقْبَلَ وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. 18وَهَاجَ الْبَحْرُ

الآب, لن يسلم نفسه لإدارة البشر, مهما كانت ترمي هذه الإدارة في ظاهرها إلى تمليكه على العروش الأرضية. هذه هي التجربة الثالثة في صورة أخرى(مت 4: 7- 10), وقد رفضها المسيح بشمم وإباء. فليس المهم في من يعرض التجربة, بل المهم في نوعها وجوهرها. نعم جاء الفادي ليكون ملكا, ولكن على عروش القلوب لا على عروش الأرض, وعن طريق الصليب لا عن طريق المعجزات, وبيد الله لا بيد اللذين شبعوا بعد جوع.

أما الغرض الذي لأجله انصرف المسيح وحده إلى الجبل, فقد أخبرنا به متى ومرقس _ "ليصلي" (مت 14: 22- مر 6: 45).

عدد 16. (ب) الظرف الذي تمت فيه المعجزة 6:16-18. "ولما كان المساء" هذا بدء زمان المعجزة."نزل تلاميذه إلى البحر" _هذا مكانها.

عدد 17و18الحالة النفسية التي كان عليها التلاميذ_ لقد كانوا:(1) في ظلام:"وكان الظلام قد أقبل". (2) في عزلة موحشة:"لم يكن يسوع قد أتى إليهم".ما أوحشها فرصة تلك التي تقضيها النفس في ظلام والمسيح بعيد عنها. إذا كان التلاميذ في ظلام مادي, وظلام روحي. (3) كانوا محاطين بهياج مادي, وانزعاج نفسي: وهاج البحر من ريح عظيمة

مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ. 19فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاَثِينَ غَلْوَةً نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ فَخَافُوا.

تهب".إن الريح التي هبت على البحر, رافقتها رياح أخرى هبت على أنفسهم. ليس من المستغرب أن يترك المسيح تلاميذه وسط هذا الهياج. فهو لم يعدنا بسلامة الحياة, ولا بنعومة ملمسها, بل وعدنا بالسلام القلبي, الذي تتفجر ينابيعه كلما جفت ينابيع الدنيا, ويزداد هدوؤه كلما عجت أمواج بحر الحياة وماجت. خير لنا أن نكون في قلب العاصفة والمسيح معنا, من أن نكون في سكون خارجي ونحن بعيدون عن حضرة الفادي. إن عاصفة يكون فيها المسيح معنا, لهي السلام بعينه, وأن سكوناً يغيب فيه الفادي عنا, لهو سكون الموت.

عدد19.(ج) ظهور المسيح _ 6: 9. "فلما كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة" _أي أنهم صاروا الآن في وسط البحيرة تقريباً(مت 14: 24) أما الغلوة فهي ثمن ميل. ويقول يوسيفوس أن بحيرة جنيسارت كانت تبلغ في اتساعها نحو أربعين غلوة.

في هذا الظرف الدقيق,"نظروا يسوع ماشياً على البحر مقتربا من السفينة". كنا نرجو أن يمتلىء التلاميذ فرحا إذا رأوا الرب, لكن الوقت كان ليلاً, وأعصابهم كانت متوترة, ولم يكن إيمانهم بسيدهم قد ارتقى إلى درجة يعتقدون فيها أنه سيأتي ماشياً على الماء,"فخافوا" في الوقت الذي كان ينبغي أن يخافهم فيه الخوف.

20فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا». 21فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ. وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا. 22وَفِي

عدد 20.(د) كلمة المسيح _ 6: 20.إن في كلمته"لا تخافوا":إعلاناً مطمئناً"أنا هو", وتشجيعياً:"لا تخافوا".

عدد 21. (هـ) ترحيب التلاميذ بالمسيح - 6: 21. إن خوفهم منهم قلب إلى ترحيب به"فرضوا أن يقبلوه في السفينة". ومن المستفاد من كلام سائر البشيرين(مت14:32) أنه دخل السفينة"وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها".

لا يسعنا أن نترك هاتين المعجزتين من غير أن نلاحظ أنهما تحملان رمزاً ضمنياً إلى المرحلة الأخيرة في خدمة المسيح على الأرض. فإذا ما افترضنا أن في معجزة إشباعه الآلاف رمزاً ضمنياً إلى تقديم جسده على الصليب ليكون قوتاً دائما للمؤمنين به, فإن في غيابه عنهم وهم منفردون في البحر, رمزا لمفارقته التلاميذ مدة مكوثه في القبر, وإن في عودته للظهور لهم بعد الغياب, علامة لظهوره لهم بعد فجر القيامة.

ثانياً: حديث المسيح - "خبز الحياة"6: 22-65

كم من حادثة مرت بنا في هذه البشارة, اتخذ منها المسيح موضوعاً لحديث. وكم من"آية" اتخذها "آية" لعظة! فمن معجزة شفاء مريض بيت حسدا, اتخذ موضوعاً للتكلم عن مقامه وسلطانه. ومن معجزة إشباع الآلاف ابتكر مناسبة للتكلم عن "خبز الحياة". ومن معجزة فتح عيني

الْغَدِ لَمَّا رَأَى الْجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلاَمِيذُهُ وَأَنَّ يَسُوعَ

الأعمى, وجد باباً للكلام عن شخصه باعتبار كونه"نور العالم". وفي هذه المعجزة نرى معجزة أخرى مكملة لها, قد توسطت بينها وبين الحديث.

يتضمن هذا الفصل: أولاً: مقدمة تاريخية: (6: 22- 24). ثانياً: الحديث: (6: 25- 65). أما الحديث فهو في حقيقته عبارة عن أربعة أحاديث تربطها معاً رابطة واحدة, ولكل منها مناسبة خاصة:(1) الحديث الأول:(6: 25- 40) - وقد فاه به المسيح جوابا على سؤال من اليهود. (ب) الحديث الثاني: (6: 41- 51) - نطق به الفادي رداً على تذمر اليهود. (ج) الحديث الثالث: (6: 52- 59) - أورد المخلص نتيجة مخاصمة اليهود بعضهم بعضاً. (د) الحديث الرابع: (6: 60- 65) _ تحدث به المسيح نتيجة تساؤل التلاميذ بعضهم مع بعض. عدد22. أولا: مقدمة تاريخية 6: 22- 24. إن حماس الجماهير, الغير المهذب, الجسداني, قد حمل المسيح على أن يعزل تلاميذه عنهم, وأن يعتزل هو - إلى حين - عن التلاميذ. وأخيراً عاد فاتصل بتلاميذه بعد تلك العاصفة التاريخية. أما الجماهير فظلوا يطلبون يسوع حتى تبعوه إلى كفرناحوم."وفي الغدد"- عند شق الفجر الذي تلا ليلة العاصفة_ وإذا"بالجمع الذين كانوا واقفين في عبر البحر" منتظرين يسوع, شرعوا يبحثون عنه, ولما كان معلوماً لديهم "أنه لم يدخل السفينة مع تلاميذ",

لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلاَمِيذِهِ بَلْ مَضَى تلاَمِيذُهُ وَحْدَهُمْ - 23غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الْخُبْزَ إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ - 24فَلَمَّا رَأَى الْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلاَ تلاَمِيذُهُ دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ.

بل صعد إلى الجبل وحده, "وأنه لم تكن هناك سفينة أخرى" تقله إلى الشاطئ الجليلي," سوى واحدة وهي تلك التي استقلها تلاميذه وحدهم", قضوا ليلتهم في البرية عازمين على العودة في الغد إلى أوطانهم, في موكب يشرفه هذا النبي الجليلي, بعد عودته من الجبل في الصباح. عدد 32. الرياح المعاكسة:غير أن الريح الغربية التي قاومت سفينة التلاميذ وأعاقتها إلى الصباح, كانت ملائمة لسفن أخرى, فعاونتها على العبور بسرعة"من طبرية", الواقع على الشاطئ الغربي, "إلى" الشاطئ الشرقي, "قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز". إن العبارة التي يختتم بها هذا العدد"إذا شكر الرب", ترينا مبلغ تأثر المشاهدين من شكر المسيح, حتى دمغت هذه الحادثة التاريخية بهذا الشكر الممتاز.

عدد 24. نفاد صبر الجمع: لما عيل صبر الجمع من طول الانتظار, ورأوا أن يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه, دخلوا هم أيضاً السفن" - ليرجعوا إلى الجهة الغربية - "وجاءوا إلى كفرناحوم يطلبون يسوع" هناك. في هذه الأعداد القليلة رسم لنا البشير صورة لثورة عواطف الجماهير, وسرعة تقلبهم, ونفاد صبرهم.

25وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» 26أَجَابَهُمْ يَسُوعُ:

(1) الحديث الأول(6: 25-40). فاه المسيح بهذا الحديث جواباً على سؤال اليهود. وهو في الحقيقة عبارة عن أربع محادثات دارت بينه وبينهم. وفي المحادثة الأخيرة منها تكلم بشعور عميق فياض, واصفاً مبلغ تأثره من حال اليهود الذين لم يؤمنوا برسالته.

(1) المحاولة الأولى(6: 25-27). في هذه المحادثة أظهر المسيح الفرق العظيم بين الطعام الفاني والطعام الباقي.

عدد 25. (1) سؤال اليهود: "ولما وجدوه" -أي الجمع الذين كانوا يطلبونه- "في عبر البحر, قالوا له, يا معلم متى صرت هنا"؟ إنهم بسؤالهم هذا قد عبروا عن الحيرة التي ملكت عليهم مشاعرهم, إذ رأوا أن المسيح سبقهم إلى ذلك المكان من غير أن يستقل سفينة ليعبر بها البحيرة, فإما أن يكون قد سافر براً وقطع المسافة التي بين بيت صيدا يوليا, وبين كفرناحوم في الليل - وهذا محال لأن الطريق غير معبدة وهي مهجورة تتغلغل فيها الصخور في كل مكان, فضلاً عن طولها, إذ كانت تبلغ نحو عشرة أميال. أو أن يكون قد مشى على الماء, وهذا أمر لم يألفوه حتى الآن.لذلك تقدموا إلى المسيح نفسه طالبين إليه أن يحل لهم هذا اللغز, قائلين: "متى صرت هنا"؟ عدد26 و27. (ب) جواب المسيح."أجابهم يسوع وقال الحق

«ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. 27اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ

الحق." أن يسوع المترفع عن سفاسف الغايات الجسدانية, لم يكترث لاحتفائهم به, ولم يحاول أن يحل لهم اللغز الذي تعقد في أدمغنهم, مع أن ذلك كان ميسوراً له, فيتمجد في نظرهم, متى أعلمهم أنه مشى على الماء. لكن تعظيمهم إياه لم يصرفه عن توبيخه إياهم, فأجابهم بلغة الواثق المطمئن, صاحب السلطان المطلق"الحق. الحق" (انظر تفسير 3: 3) -"أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات, بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم... اعلموا...". في جوابه هذا, نجد: (1) توبيخاً: "أنتم تطلبونني...". (2) نصحاً: "اعلموا...". (3) حجة دامغة: "لأن هذا الله الآب قد ختمه".

(1) توبيخاً: لقد أجاب المسيح على أفكارهم, لا على كلامهم, فوبخهم على الجسدانية التي طبع بها إعجابهم به, والأنانية التي دمغت تفتيشهم عليه. نعم رأوا معجزته, لكنهم لم يروا "أية"لأنفسهم, فكانت عيونهم شبيهة بعيون التماثيل المتحجرة – مفتوحة لكنها لا ترى, فبدلاُ من أن يروا "آية" في الخبز, رأوا خبزاً في الآية. ذلك لأنهم نظروا إلى الآية بعيون بطونهم لا بعيونهم الباطنية, فلم يروا فيها إلا الأرغفة والسمك. أما قدرة الله, أما حكمة الله وعنايته, فهذه قد خفيت عنهم بإرادتهم. أما قوله: "آيات" فيريد به الآيتين السابقتين أو كل الآيات بوجه عام.

(2) نصحاً: عدد 27"اعلموا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي

بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ لأَنَّ هَذَا

للحياة الأبدية". في هذا النصح, أرادهم المسيح أن يقلعوا عن طلبهم الأمور المادية الفانية, وحضهم على أن يطلبوا القوت الحقيقي الدائم. إن كل طعام مادي, لا محالة بائد وزائل- في كيانه وفي تأثيره, فهو يشبع اليوم ليجيع غداً. وفي النهاية يزول. إن في قول المسيح هذا, شيئاً من الغرابة: فقد نهاهم عن أن يعلموا للطعام البائد, الذي لا ينال عادة إلا بالكد وعرق الجبين(تك 3: 19), وحضهم على أن يعملوا للطعام الباقي, الذي لا ينال عادة بالتعب والكد, بل بالإيمان, فهو عطية من ابن الإنسان. لكن وجه الغرابة يزول متى ذكرنا, أن المراد بقوله: "اعلموا", هو"اهتموا, واطلبوا". إنهم كانوا يطلبون شخصه طمعاً في النفع المادي الذي يأتيهم منه, فأرادهم أن يطلبوا شخصه, حباُ في شخصه, فيأتيهم منه خير أبدى خالد. ومع أن الطعام الباقي يعطيه لنا المسيح, لكننا لن نناله إلا إذا طلبناه باهتمام. لأننا باهتمامنا نعد أنفسنا للطعام. إن قوله: "للحياة الأبدية يصف الطعام الباقي: -في فاعليته, وفي أمد بقائه. وقصد بقوله: "يعطيكم" أن يرفع انتظارا تهم إلى طعام أفضل من الذي أعطوه في المعجزة. لأن طعام المعجزة لم يكن سوى رمز له. وقد وصف المسيح نفسه هنا بقوله: "ابن الإنسان". لأنه يهبنا هذا الطعام عن طريق تجسده. بل بتجسده صار هو طعامنا الروحي الخالد(6: 35 و38 و50 و58).(3) حجة دامغة: "لأن هذا" إن ضمير الهاء في كلمة: "ختمه" يعود على المسيح "ابن الإنسان". وختم الله الآب للمسيح, يراد به شهادته له بأنه

اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ». 28فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟» 29أَجَابَ يَسُوعُ:

ابن الله, وبأن الله قد وهبه لبنى الإنسان (3: 16). وذلك:

(أ) بشهادة الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله. (ب) بالصوت الإلهي الذي سمع وقت المعمودية. (ج) بتأييد الآب له بالمعجزات وسائر أركان خدمته على الأرض (قابل هذا العدد مع 3: 33).

2- المحاولة الثانية 6: 28 و29. إذا كان المسيح قد بين في المحادثة الأولى نوع الطعام الذي يهبه للمؤمنين, فقد أظهر في المحادثة الثانية وسيلة نوال هذا الطعام. كانت محادثته الأولى رداً على سؤالهم: "متى صرت هنا" (ع 25). أما محادثته الثانية فقد فاه بها جواباً على استفهامهم: "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله"(ع 28).

عدد 28. (أ) سؤالهم "فقالوا له ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله"؟ لم يستنكر هؤلاء اليهود توبيخ المسيح لهم, بل أظهروا استعدادهم أن "يعملوا" حسب قوله, ولو أنهم لم يفهموا مراده من قوله: "اعملوا", فظنوه يتكلم عن "أعمال" خارجية كالفرائض الطقسية التي يشترون بها هذا الطعام الباقي. مع أن المسيح لم يذكر شيئا عن الأعمال, بل تكلم عن "العمل" على نوال الطعام الباقي. لكنهم فهموا أنه يقصد "الأعمال" التي يأتيها الإنسان كدين له على الله. فكانوا كمن ينظر الأشباح في ضوء الفجر, فلا يراها كما هي بل يلمح أشباهها. عدد 29. (ب) جواب المسيح: "أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو

«هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ». 30فَقَالُوا لَهُ:

عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله". عاد المسيح فأكد لهم أنه ما قصد "أعمالا" متناثرة يعملها الإنسان, لينال بها ذلك الطعام الباقي على سبيل الأجر, بل أراد عملا واحدا لا أعمال فيه بالمرة – وهو:"أن يؤمنوا بالذي هو أرسله. فالطعام الباقي لا يناله الإنسان استحقاقا على أعمال يأتيها, بل هبة مجانية من يد الله, والعمل الوحيد الذي يعمله الإنسان ليحصل به على هذه الهبة, إنما هو أن يفتح يده ويقبلها. فما الإيمان سوى اليد المفتوحة التي تتناول بركات الله. الكلمة: "عمل الله", لا تفيد العمل الذي يعمله الله, بل العمل الذي يطلبه الله ويقبله. هنا نقطة الاتصال, بين تعليم يعقوب رسول الأعمال وبين تعليم بولس رسول الإيمان. لأن الإيمان هو في حقيقته عمل, بل من أسمى الأعمال وأجلها إذ فيه يقدم الإنسان ذاته لله. هذا هو العمل الذي يكرم الله,إن نقبل ما عمله الله لنا. إن الإيمان الذي يستنكره يعقوب هو الإيمان العقلي الميت الذي لا ينتج ثمرا.

3-المحاولة الثالثة 6: 30- 33. في هذه الحادثة أوضح المسيح طريق البلوغ إلى الإيمان. عجيب أن اليهود لم يعترضوا على كلام المسيح لهم عن "العمل", إنما اعترضوا عن كلامه عن الإيمان هذا هو الاتجاه الخاص الذي تميل إليه الطبيعة البشرية. إنها على الدوام تتمسك بأهداب الأعمال لأن فيها تمجيدا لذاتها, وتنفر من الإيمان لأنه يجردها من كل مجد, ويعطي المجد كله لله.

«فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ 31آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا».

عدد 30و31 (أ) سؤالهم 6: 30و31."فقالوا له فأية آية". ما أسرع الإنسان إلى النسيان! لم تمض أربع وعشرون ساعة, مذ أن رأوا الآية التي أجراها المسيح بإشباعه الخمسة الآلاف, لكنهم لم يروا في تلك المعجزة "آية" محرضه لهم على الإيمان, بل مجرد أرغفة أشبعت بطونهم.فضلا عن ذلك, فإن العقل الطبيعي شرها مستمراً إلى المعجزات, ليعجب ويتلذذ. لابد أنهم فهموا من قول يسوع عن نفسه: "الآب قد ختمه"(ع27),"وأرسله"(ع29),أنه يريدهم أن يتأكدوا أنه هو المسيح, الذي ينبغي أن يؤمنوا به, لذلك طلبوا منه أن يصنع آية جديدة ليفحصوها بدقة ويميزون العنصر الإلهي فيها. وكما قال لهم: "اعملوا". قالوا هم له: "تصنع". ولعلهم كانوا يعتبرون معجزة إشباع الآلاف أقل من معجزة إنزال المن من السماء لبني إسرائيل, لأن معجزة إشباع الخمسة الآلاف أقل لم تكن – في نظرهم – سوى مضاعفة عدد الأرغفة الأرضية إلى حد معين. لكن المن كان طعاما نازلا رأسا من السماء. ويقول معلمو اليهود: إذا كان ولينا الأول – موسى – قد أتى لنا بمن من السماء, فإن ولينا الثاني – مسيا –سيأتي أيضا بمن جديد من السماء. فليس من المستغرب أنهم قارنوا بين موسى ومسيا: "آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب"- في مزمور78: 54و25- "أنه" -الله- "أعطاهم" -أي بني إسرائيل- "خبزا من السماء ليأكلوا ".

32فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ 33لأَنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ».

عدد 32و33. (ب)جواب المسيح"فقال لهم يسوع..." كانت أفكارهم منحصرة في مصدر "المن" – "من السماء". فقصد المسيح أن يوجه قلوبهم إلى جوهر المن الحقيقي – والجوهر أهم من المصدر. وقد صدر جوابه بهاتين الكلمتين الحاسمتين: "الحق. الحق". فبين لهم في جوابه: (أ) أن موسى لم يعطهم المن, إنما هو الذي أعطاهم إياه "ليس موسى أعطاهم الخبز من السماء". (ب) ليس المن هو الخبز الحقيقي الذي من السماء إنما هو خبز مادي رمزي. (ج) إن المن خبز "أعطاه" الله مرة للأمة الإسرائيلية, فصار في خبر كان, وذهب مع الذين أكلوه, لكن الخبز الحقيقي الذي من السماء يعطيه الله باستمرار لأنه خبز حي دائم, يتجدد كل يوم. (د) إن خبز الله, الحقيقي, ليس هو المن الذي أكله بنوا إسرائيل في البرية فماتوا, بل هو الخبز النازل "من السماء, الواهب حياة". فهو لا يكتفي بأن يقيت الحياة إن وجدت, بل يهبها للموتى ليبعثهم من العدم. (هـ) إن المن أشبع الإسرائيليين. لكن الخبز الحقيقي النازل من السماء هو الذي يهب حياة للعالم كله. وخلاصة مميزات هذا الخبز الحقيقي, أنه هبة من الله رأساً, وأنه نازل من السماء, وأنه يعطى باستمرار للجياع, وأنه يهب الحياة, وأنه معد للجميع لا لشعب خاص.

34فَقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الْخُبْزَ». 35فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ.

4- المحادثة الرابعة 6: 34- 40. المسيح يعلن لهم أنه هو خبز الحياة.

عدد 34. (أ) سؤالهم 6: 34. "فقالوا له يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز". إلى الآن لم يكشف لهم المسيح عن ماهية هذا الخبز. لكن الأوصاف السالفة التي خلعها على هذا الخبز جعلت لعابهم يسيل شوقاً إليه. فقالوا له: "يا سيد أعطنا كل حين هذا الخبز".

مل أشبه كلامهم هذا بكلام المرأة السامرية: "يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي" (4: 15). إلى الآن كانوا جسديين, نفعيين, عائشين ببطونهم لا بقلوبهم. إن في قولهم: "كل حين" إشارة ضمنية إلى المن الذي كان يرسله الله "كل يوم", لبني إسرائيل.

عدد 35. (ب) جواب المسيح 6: 35- 40. كانت أمنيتهم شريفة, مع أنها كانت ناقصة. ولكن على رغم ما كان يحيط بها من سحب الجهالة الكثيفة, لم تقابل من المسيح بالصد والإعراض, لكنه أزاح الستار الذي كان يحجب به معلناته المجيدة, وانتقل من التعميم إلى التخصيص, فصرح لهم قائلاً: "أنا هو خبز الحياة". طلع المسيح عليهم بنور هذا الإعلان الممتاز, وهو عالم أن بعض العيون المريضة سيبهرها النور فلا تقوى على البصر, لكن عيوناً أخرى سينجلي لها الحق بأكثر وضوح, لأنها "بنوره ترى نوراً".

مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً. 36وَلَكِنِّي قُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ

في هذا العدد, أوضح لهم المسيح: ماهية الخبز: "أنا هو خبز الحياة", وفوائده: الإشباع والارواء: "لا يجوع.. ولا يعطش", وطريق الحصول عليه: "من يقبل إلى".. "من يؤمن بي".إن قوله: "أنا هو خبز الحياة", هو خير إجابة لطلبهم: "أعطنا في كل حين هذا الخبز". فبين لهم أنهم ليسوا في حاجة إلى أن يقولوا: من يحضر إلينا هذا الخبز, لأنه قريب منهم, وعند أفواههم, وما عليهم إلا أن يقبلوه ويتناولوه. ما على الله قد أتمه, وما على البشر إلا أن يقبلوا فيأكلوا ليشبعوا, ويشربوا ليرتووا. الكلمة: "خبز الحياة" معناها, الخبز الذي يعطي الحياة. "والحياة المقصودة" هنا, هي حياة الله بالذات, التي تآنست في المسيح فصارت بشراً سوياً (1يو1: 2) أما العبارتان: "لا يجوع" و "لا يعطش" فهما متكاملتان – الجوع يرمز عادة إلى الإحساس بالضعف والعجز. والعطش يرمز إلى شوق القلب إلى السلام التام. والعبارتان: "يقبل إلى" و "و يؤمن بي", تفسر ثانيتهما أولاهما. أولاهما تفيد ترك الإنسان حاله والإتيان إلى الفادي, والثانية تفيد الثقة العملية التي يلقى بها نفسه عليه. الأولى تعني مجئ العطشان إلى النهر, والثانية تشير إلى شربه منه. هذه هي المرة الأولى التي قال فيها المسيح: "أنا هو".

عدد 36. مبصرين لا ينظرون: "ولكني قلت لكم أنكم قد رأيتموني

قَدْ رَأَيْتُمُونِي وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. 37كُلُّ مَا

ولستم تؤمنون"-إن في هذه الكلمات حزناً تمازجه مرارة, يخالجهما تعجب, ويخالطهما تلويم. هذا هو جواب المسيح على قولهم له: "أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك" (عدد 30 ). وكأن به يقول لهم: يا من تطلبون آية لتروا وتؤمنوا, هوذا الآية موجودة أمامكم ولم تنظروها – هذه الآية هي أنا: "قد رأيتموني ولستم تؤمنون" أني أنا هو المسيح.

مزايا المؤمنين بالمسيح 6: 37- 40. بين كلمات التلوين والتقريع الذكورة في العدد السابق, وبين المعلنات المجيدة المذكورة في هذه الأعداد, نلاحظ انتقالاً في الفكر, وفي نغمة الكلام, يتخلله صمت مهيب.

إن أولئك الذين طلبوا الخبز المادي لا سواه, قد رفضوا المسيح. لكنهم برفضهم إياه لم يخذلوا المسيح, بل خذلوا أنفسهم, ولم يغيروا قصد الله الثابت: "لأن الرب يعلم الذين هم له". لذلك فاه المسيح بنغمة الواثق قائلاً: "كل ما يعطيني الآب. فإلي يقبل. ومن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً ". فاللوم إذاً واقعاً عليهم وحدهم, والفشل والخسارة يحقيان بهم دون سواهم. فمن مزايا المؤمنين بالمسيح: (أ) أنهم عطية الآب للابن: "كل ما يعطيني الآب فإلي يقبل. (ب) إنهم موضوع ترحيب المسيح الدائم: "مكن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً " (عدد 37). (ج) إنهم موضوع صيانة المسيح وعنايته (عدد 38 و39) ".... لأني لا أتلف منه شيئاً ". (د) إن الحياة الأبدية لهم (عدد 40).

عدد 37. (أ) المؤمنون بالمسيح هم عطية الآب للابن: "كل ما

يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ

يعطيني الآب فإلي يقبل", وهم أيضاً (ب) موضوع ترحيب المسيح الدائم: "ومن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً ". في هذا العدد أربعة مقاطع: المقطع الأول يتماشى مع الثالث, والثاني يساير الرابع. الأول يصف للإنسان من الجانب الإلهي السماوي: "كل ما يعطيني الآب" والثالث يصفه من الجانب الإنساني: "من يقبل إلي". فالمؤمن, من الجانب الإلهي السماوي, مختار من الله ومدعو دعوة فعالة, لأن الآب دبر منذ الأزل أن يعطيه للمسيح (17: 6). الكلمة: "يعطي" وردت بصيغة المضارع لتصف فعل الله المتواصل في قلوب البشر وقت اقتبالهم إلى المسيح. وقد ذكر المسيح هذه الحقيقة لا لينتقص بها من حرية البشر الاختيارية, بل ليظهر لسامعيه الفرق العظيم بين من يأتوا إليه نتيجة تحريضات بشرية جسدا نية (عدد 26), وبين من يأتون إليه نتيجة فعل الله في قلوبهم.

المقطع الثاني: "فإلي يقبل", يحقق ويضمن نجاح قصد الله في المؤمنين."والإقبال" هنا, لا يعني مجرد الإتيان إلى المسيح بل يفيد الخلاص إلى المنتهى. إن كلمة: "كل" التي يستهل بها المقطع الأول, كاملة تعميمية تصف المؤمنين كجماعة كاملة, لكن كلمة "من" التي يستهل بها المقطع الثالث, كلمة تفصيلية لأن المؤمنين يأتون إلى المسيح فرداً, مع أنهم أعطوا له جماعة. المقطع الثالث: "من يقبل إلي" يبتدىء حيث انتهى المقطع الثاني وهو يصف الإيمان من الجانب الإنساني, بما فيه ترك الخطايا التي يكون عليها الإنسان قبل النقطة الفاصلة في الإيمان, حتى يقبل إلى المسيح.

لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً. 38لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. 39وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي:

أما المقطع الرابع: "لا أخرجه خارجاً", فإنه يتمشى مع الثاني, وهو يصف لنا سعة قلب المسيح المحب. فإذا كان المقطع الثاني يقرر يقينية خلاص المؤمنين بكلمات إيجابي جامعة, فإن المقطع الرابع يؤكد هذه اليقينية بكلمات سلبية قاطعة, مانعة: "لا أخرجه خارجاً". إن جيشاً عظيماً من البشرية, على ممر الأجيال, مدينون لليهود, بهذه الكلمات المشجعة التي فاه المسيح رداً عليهم.

عدد 38 و39. (ج) المؤمنون بالمسيح هم موضوع صيانته ورعايته 6: 38 و39.

في نهاية العدد السابق, أعلن المسيح ترحيبه الدائم بمن يقبلوه إليه. وفي هذين العددين يرينا الباعث الأساسي لهذا الترحيب – وهو أنه تجسد ليعمل مشيئة الآب الذي أرسله, وإن هذه المشيئة هي: أن لا يتلف شيئاً مما أعطاه الآب إياه, وإن موت الجسد لا يحسب إتلافاً, لأنه سيقيم الموتى في اليوم الأخير. قبلاً رأينا المسيح مرحباً بمن يقبلوه إليه, والآن نراه معتنياً بهم, ومحافظاً عليهم, إن ترحيب المسيح بالمؤمنين, يعبر عن سعة قلبه وغزارة حبه. أما محافظته عليهم, فتعبر عن عظمة قدرته, وشدة ولائه للآب الذي يريد جميع المؤمنين بالمسيح يكونون محفوظين. قد أشار المسيح أربع مرات في هذا الخطاب,إلى نزوله من السماء (عدد 38 و50 و51 و58), وهو يريد بها التجسد. وفي هذا برهان جلى على سبق المسيح قبل

أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ

التجسد. إما الغاية المثلى من تجسد المسيح فهي إتمام مشيئة الآب الذي أرسله. لأنه من حيث كونه فادياً, قبل على نفسه القيام بكل مطاليب الفداء كوسيط.

على أن تسليم المسيح إرادته للآب, لا يجرده من حرية إرادته, بل يجعل إرادته موافقة لإرادة الآب. ولا يطعن في شخصيته, بل يعتبر أقوى حجة لإثبات كمال بنوته. فمن كمال الابن, الطاعة للآب. هذا برهان جديد على صحة أقنوميته, وبالتالي على عظمة لاهوته.

فإذا كل من يقبل "يقبل إليه", حاملاً على جبينه ختم الآب, "لا يخرجه خارجاً ", بل يرحب به ويرعاه ويحافظ عليه. لأنه إذا كان المسيح قد أظهر حرصه على كسر الخبز التي فضلت عن الآكلين, والخبز المادي عطية من الآب (عدد 12), أفلا يحرص بالأولى جداً على أعضاء جسده الروحي, السري, لكي لا يفلت ولا يتلف منهم أحد, وهم عطية الآب له؟!

في عدد 39 عبر المسيح عن محافظته عن المؤمنين بكلمتين: إحداهما سلبية:"لا أتلف منه شيئاً". والثانية إيجابية: "بل أقيمه في اليوم الأخير". والسلبية تمهيداً للإيجابية. الكلمة"أعطاني" وردت هنا بصيغة الماضي لتفيد التعليم السابق والدعوة الأزلية (رو 8: 29 و30). والعبارة: "أقيمه في اليوم الأخير" تكررت أربع مرات في هذا الخطاب (عدد 39 و40 و44 و54). ما أشبهها بقرارة أنشودة جميلة! إن الخبز الطبيعي يحفظ حياة آكله, إلى أن يأتيه مرض من ثم يتحول له مصدر الغذاء, إلى سبب للداء. ومتى هجم عليه الموت فلا حول ولا طول للخبز المادي. ولكن

أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. 40لأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ

المسيح – الذي هو"الخبز الحي النازل من السماء" – يحصن الإنسان ضد "التلف", الذي هو الضعف الروحي الناشىء عن الارتداد والرجوع إلى الشر والأركان الضعيفة, ويقيه شر الموت الجسدي, إذ"يقيمه في اليوم الأخير". (1 كو 15).

عدد 40. مسؤولية الإنسان في هذه الصيانة: "لأن هذه هي مشيئة" لم يشأ المسيح أن يختتم هذا الجزء من الخطاب من غير أن يشير إلى مسؤولية الإنسان في هذا الحفظ – وهي أن "يرى الابن ويؤمن به". وقد كان من الضروري أن يصرح بهذا التصريح, لأن عدم إيمان سامعية به, كان علة عدم ترحيبه بهم. عيبهم أنهم رأوا ولم يؤمنوا مع أنهم سبقوا فطلبوا آية, "ليروا ويؤمنوا". ولما أعطيت الآية لهم في شخصه, انطبق عليهم القول: "مبصرين يبصرون ولا ينظرون": "رأيتموني ولستم تؤمنون" (عدد 36). وفي الواقع يعتبر عدد40 مكملاً ومؤيداً لعدد 39. والفرق الرئيسي بينهما هو أن عدد 39 يشير إلى الجانب الإلهي في الخلاص, وعدد 40 يتكلم عن الجانب الإنساني. إن نصيب المؤمنين, كما يتبن من عدد 39هو "الصيانة" كما يتبن من عدد 40هو "الحياة الأبدية".

"يرى ويؤمن" – كلمتان: أولهما ممهدة للثاتية, وثانيتهما مكملة للأولى. فالإنسان يرى ويسمع, فيكون لنفسه صورة لما يراه ويسمعه, ثم يتأمل الشخصية المرتسمة أمامه في الصورة, فيميل إليها, ويعجب بها,

وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ». 41فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ قَالَ: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ».

فيثق, ويتكل, ثم يعبد. "يرى ويؤمن" – كلمتان: أحدهما مفسرة للأخرى. فالرؤية هي النظر للعين الطبيعية المجردة, والإيمان هو النظر بالعين الروحية الباطنية التي ترى ما – ومن لا يرى (عب 11: 1).

عدد 41. (ب) الحديث الثاني 6: 41- 51. يتضمن هذا الحديث

أولا:ً تذمر اليهود 6: 41 و42. ثانياً: المسيح يصارحهم بعدم أهليتهم له (6: 43- 46). ثالثاً: المسيح يعلن لهم أنه هو خبز الحياة 6:47- 51.

أولاً: تذمر اليهود 6: 41و42. (أ) طبيعة تذمرهم (عدد 41). نرى في هذا الحديث انتقالاً في الفكر, وتبايناً في روح الكلام, وتغير في البيئة, عما في الحديث الأول. غالباً كان الحديث الأول موجهاً إلى الجمهور, وأما الحديث الثاني فموجه إلى رؤساء اليهود. ولعل بعضاً منهم كانوا موفدين من السنهدريم ليمسكوا يسوع بكلمة, والبعض الآخر من الجليل. الكلمة"تذمر" – في الأصل – لا تفيد بالضرورة أنهم نطقوا بكلمات على مسمع من المسيح, بل أنهم تمتموا, فعلم المسيح بما كان يختلج في صدورهم (5: 23و2: 25). كان تذمرهم مظهراً من مظاهر شكوكهم (7: 32). وتعثرهم (6: 61ولوقا 5: 30). أما الباعث لهم على هذا التذمر قول المسيح: "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء". ومع أن المسيح لم يفه بهذه الكلمات كما هي, ولكنهم انتقدوها وجمعوها معاً في جملة عبارات فاه بها الفادي (عدد 33و35و38).

42وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟» 43فَأَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ.

عدد 42. (ب)موضوع تذمرهم عدد 42."أليس هذا هو المسيح...."؟ عبر اليهود – فيمابينهم- عن تذمرهم, بكلمات تحقير ألقوها كمهام مسمومة على المسيح.وهذا التحقير كان منصباً على –(أ) شخصه: "أليس هذا هو يسوع"؟ إن نغمة تحقيرهم له, بلغت أشدها عند نطقهم بكلمة:"هذا". (ب) أصله: "ابن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه". لم يكن هؤلاء اليهود عارفين بالطريقة المعجزية التي ولد بها المسيح من عذراء, وليس بغريب أن مر المسيح بلغوهم هذا, مر الكرام. لأنه لم يجد داعياً لمناقشة قول من أمر لا يقبل إلا بالتسليم والإيمان سيما وأنه ولد في سكون الليل, في خان وضيع والبشر كلهم نيام. وأي نفع يرتجى من إلقاء درة هذه المعجزة الخالدة, أمام من تسلحوا بنية عدم الإيمان؟! وإذا كان قد صرح لهم بالمعاناة فلم يؤمنوا, فكيف يؤمنون إذا أفضى إليهم بالأسرار والمكنونات؟ فضلا عن هذا فإن عدم علمهم بميلاد المسيح من عذراء لم يكن العلة الرئيسية في عدم إيمانهم.

عدد 43.(ج)جواب المسيح 6: 43-51. بين المسيح لهم في جوابه هذا أن لا معنى لتذمرهم من كلامه. فليس العيب في كلامه, بل في فهمهم لأنهم من ذواتهم لا يقدرون أن يأتوا إليه, ولا أن يفهموا كلامه. أنهم لا يقدرون أن يأتوا إليه إن لم يجتذبهم الآب (عدد 44),ولا يستطيعوا أن

44لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي

يفهموا كلامه ما لم يتعلموا من الله (عدد45), وينتسبوا إليه انتساباً فعلياً حيوياً (عدد 46).

عدد 44. الطريق الوحيد إلى المسيح. لم يقصد المخلص بهذه الكلمات, أن يعجز الناس عن الإتيان إليه, بل أراد أن يظهر لهم عجز قدرتهم الطبيعية عن تخليص أنفسهم, وعدم قدرة العقل الطبيعي على فهم المعلنات السماوية السامية. وفي الوقت نفسه فتح لهم باب المجيء إليه, على مصراعيه, إذ أراهم الباب الوحيد الحقيقي. على أن المسيح في تصريحاته هذه لم يطلع عليهم بحديث جديد, بل كلمهم عن حقيقة سبق وكتب عنها الأنبياء. وقصد بـ"الأنبياء" تلك الأسفار المعروفة بهذا الاسم في العهد القديم العبري (انظر أشعياء 54: 13 وقابله بما جاء في أرميا 31: 33و34 ويوئيل 2: 28و3: 1).

إن كا قاله المسيح عن اجتذاب الآب للمؤمنين, يوضح ويكمل ما قاله في عدد 37. عن كون المؤمنين عطية الآب له. وما هذان القولان, سوى تعبيرين لحقيقة واحدة. فاجتذاب الآب للمؤمنين هو الوسيلة الفعالة لتنفيذ ما قصد بهم منذ الأزل, من حيث كونهم عطية للمسيح. فالمؤمنون هم عطية الآب للمسيح بقضاء خارجي, لكنهم يأتون إلى المسيح بجاذبية داخلية, سرية فعالة. ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن اجتذاب الآب للمؤمنين, لا يلغى إرادتهم, بل يطبع إرادتهم بطابع إرادته, فيريدون من تلقاء ذواتهم, ما سبق فأراده هو لهم وبهم. لأنه لا يجتذبهم اغتباطاً. ولا يدفعهم بالعنف بل يستميلهم باللطف: "بحبال البشر.. بربط المحبة". إن اجتذاب الآب

وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. 45إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ.

للخطاة هو النقطة التي يلتقي عندها الاختبار, بالدعوة الفعالة. فالله من فرط حبه للخطاة, أرسل المسيح من السماء إلى العالم, ليكون واسطة اجتذاب الناس من العالم إلى السماء. وقد ذكر المسيح كلمة: "وأنا أقيمه في اليوم الأخير" في هذا المكان أيضاً, ليفهم سامعيه أنه إذا كان الآب منشىء الخلاص فإن المسيح مكمله. باجتذاب الآب يأتي الخطاة إلى المسيح, وبمحافظة المسيح عليهم يظلون على الدوام معه وله.

عدد 45. قوة المكتوب... أو كلمة الله المتجسد يستشهد بكلمة الله المكتوبة وكذلك كلمة الله المكتوبة تشهد "لكلمة الله" المتجسد (انظر 5: 39). متى علمنا مما جاء في عدد 59., إن المسيح نطق بهذه الكلمات وهو يعلم في المجمع في كفرناحوم, فلا يبعد أن يكون قد قرأ هذه الكلمات من درج الكتاب (قابل لوقا 4: 17). كان أشعياء مشيراً بنبوته إلى العصر المسيحي, الذي يكون رجاله متعلمين من الله. وواضح أنه لا يتعلم من الله إلا الشخص الذي يدخل مدرسة الله الروحية, ليسمع منه. ومن يسمع من الآب ويقبل تعاليمه ويتفهمها, ويخضع نفسه لسلطانها, يقبل إلى المسيح. إن كلمة"جميع", التي في بدء العدد, تختلف عب كلمة: "كل" التي في الجزء الثاني منه. الأولى تعميمية تشير إلى رجال العصر المسيحي كمجموع, والثانية تخصيصية تشير إلى كل من يقبل تعاليم الله فرداً فرداً. فكلمة: "كل"

فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. 46لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللَّهِ.

تعين تفصيلياً من تعنيهم كلمة"جميع" إجمالياً. وعليه يكون الجزء الثاني من هذا العدد, نتيجة طبيعية للجزء الأول ومؤيداً له. فما أجل قدرة المسيح! إذ لا يقدر أحد أن يدخل مدرسته إلا متى تتلمذ في مدرسة الآب: "كل من سمع من الآب وتعلم,يقبل إلى". هذا هو الشيء الجوهري الذي كان يعوز سامعيه.

عدد 46. تفرد المسيح برؤية الآب: "ليس أن أحداً رأى الآب إلا الذي من الله" – هذا استدراك لما يمكن أن يستنتج خطأ من العدد السالف. فرق عظيم بين من يتعلم من الله وبين المسيح. إن من يتعلم من الله يسمع الله يتكلم, لكن المسيح وحده, هو الذي رأى الآب, لأنه "من الله" – هذه الكلمة الأخيرة: "من الله", تفسرها العبارة التي وردت في 1: 14: "كما لوحيد من الآب" (انظر 1: 18و 8: 42 و 16: 27). إن الذين يتعلمون من الآب, لا يشاركون المسيح في مقامه, لأنه في مقام ممتاز لا يدانيه فيه سواه, وهو الوحيد الذي كان في حضرة الآب, ورآه, وعرفه, ويستطيع أن يخبر عنه بتدقيق وإفاضة, فهو "كلمة الله" (17: 3 ومت 11: 27).إن قوله: "من الله" لا يصف المسيح في مصدر رسالته كأنه مجرد رسول "من الله, بل يصفه في جوهره وأصل طبيعته. (انظر 7: 29). "أنا أعرفه لأني منه".. "هذا قد رأى الآب". قد يكون القصد الأساسي من هذه الكلمات, وصف المسيح قبل التجسد. لكنها مع ذلك تصفه أيضاً وقت التجسد.

هَذَا قَدْ رَأَى الآبَ. 47اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ.

فهي لا تصف اختباراً ماضياً وكفى, لكنها تتناول أيضاً حالة دائمة مستمرة – هي شعور المسيح الدائم بصلته الوثيقة بالآب. (3: 34 و 35 و 14: 10). وقال: "قد رأى" من قبيل التحقيق, للدلالة على أن هذه الرؤية مبنية على الصلة الأزلية التي بين الآب والابن.

عدد 47. يسوع خبز الحياة 6: 47 - 51. إن كلام المسيح في الأعداد السابقة ممهد لكلامه الآتي, كما إن كلامه الآتي مقرر ومثبت لكلامه السالف. فكل من يقرأ كلامه – من عدد 47 وما بعده – يشعر أن نغمة خاصة لابسته, هي نغمة الثقة, واليقين, والجد الرهيب: "الحق. الحق". فقد اعتدنا أن نسمع هاتين الكلمتين معاً, من فم المسيح. كلما أراد أن يقدم لسامعيه إعلاناً جديداً ممتازاً, مستمداً من الصلة الفريدة التي تربطه بالآب (عدد 46). إنه بقوله هذا, يتحدى اليهود"المتذمرين فيما بينهم" من جهة أصله (عدد 41و42). هذا وإن مكافأة الإيمان بالمسيح هي: "الحياة الأبدية" – هذه مكافأة طبيعية لا تعطى اعتباطاً, لأن الإيمان الحي يتحد الإنسان الميت, بالمسيح الحي, فيخلع عنه أكفان العدم ويمتعه بجدة الحياة. لا بل هذه مكافأة حالية ولو أنها أبدية": "له". فهي ملك المؤمن في الحياة الحاضرة ولو أن غنى مكوناتها سيكشف في الحياة العتيدة. هي لنا الآن. في البزرة وستكون لنا في الدهر الآتي, شجرة ناضجة الثمار (3: 36).

48أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. 49آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا.

إن الإيمان هو الوسيلة التي بها تعرف النفس المسيح – ومعرفته هي الأبدية (17: 3).

عدد 48. الإعلان الأول في هذه البشارة – أنا هو خبز الحياة. بعد أن رد المسيح على اعتراضات اليهود التي بدت من تذمرهم, استأنف كلامه الذي فاه به في 6: 32-40, وتقدم فيه مرتقياً على درجات متصاعدة. فما صرح به في ع 48, يؤيد ما نطق به في ع 47, ويقرر ما فاه به في ع 36, ويزيده توكيداً وإيضاحاً.

عدد 49.الخبز البائد: "آباؤكم أكلوا المن.." – في هذا العدد ردد المسيح ما قتاله اليهود في ع 31. ومن كلامهم دانهم: "آباؤكم أكلوا المن في البرية واتوا" – إذاً فالمن الذي افتخروا به, إنما هو طعام ميت. ولو كانت فيه حياة, لظهر أثرها في الذين أكلوا منه.ومع أن الموت المشار إليه هنا, هو الموت الجسدي الذي أصاب الإسرائيليين في البرية, إلا انه كان أيضاً موتاً عقابياً, تأديبياً, أبدياً. لم يستطع المن أن يرفع عنهم حكم الموت, ولا أن يدفع عنهم غائلة الفناء, فيجوز لنا أن نلقبه :"خبز الموت" – بخلاف المسيح الذي هو "خبز الحياة". فهو خبز حي محي, وقد رفع عن المؤمنين حكم الموت, ووهبهم حياة أبدية, لن تتطاول إليها يد الموت. فهي "أبدية" في مداها, وفي طبيعتها, وفي عمقها, وفي سعتها.

50هَذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ

عدد 50. وصف مثلث لخبز الحياة: "هذا هو الخبز...": (أ)أصله: "النازل من السماء". ويلاحظ أن ضمير المتكلم: "أنا" (عدد 48), قد استعيض عنه باسم الإشارة: "هذا" (عدد50), لأن المسيح كان يتكلم في عدد 48 عن شخصه باعتبار كونه خبز الحياة, وهو الآن يتكلم عن شخصه باعتبار كونه واهب هذا الخبز للعالم. في الأول رأيناه طعام العالم, والآن نراه مطعم العالم ومقيته. فيما سبق, تكلم عم كفاية شخصه وقوته, والآن يتحدث عن مشيئته الحرة التي بها قدم نفسه اختيارياً وطوعاً, لأجل حياة العالم. إن في قوله:/ "النازل من السماء" إشارة إلى تجسده وحضوره الدائم المتجدد. (ب) القصد الإلهي فيه :"لكي يأكل منه الإنسان". إن الغاية الأساسية من الخبز, ليست أن يتطلع إليه الإنسان, ولا أن يحلله تحليلاً كيماوياً, بل أن يأكله. ولا يفوتنا أن في استعارة الأكل تخصيصاً فردياً. فقد يتكلم إنسان بدلاً من آخر, وقد يعمل عمله عوضاً عنه, لكن من المحال أن يأكل إنساناً عوضاً عن آخر, فالأكل عمل فردي.كذلك الإيمان. وكما أن الطعام يصير بأكله جزءاً لا يتجزأ من جسم الإنسان, ويستحيل بعد مضغه وهضمه إلى غذاء يتغلغل في عصارة الجسم, فيصير بعضه لحماً, والبعض الآخر عظماً, والآخر دماً, لدرجة يصبح في الإنسان, والإنسان فيه, كذلك بالإيمان يتحد الإنسان اتحاداً حيوياً بالمسيح, فيصير

وَلاَ يَمُوتَ. 51أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ.

المسيح فيه, وهو في المسيح. (ج)فاعليته: "ولا يموت" الإشارة هنا الموت الروحي الأبدي – هذا هو الموت الثاني.

عدد51.يسوع الخبز الحي:"أنا هو الخبز الحي".عاد المسيح في هذا العدد إلى ضمير المتكلم: "أنا". كما في عدد 48. إلا أنه في هذا العدد, وصف نفسه بأنه"الخبز الحي". والوصف الثاني هو العلة الأساسية للوصف الأول. فهو خبز الحياة لأنه خبز حي. العبارة :"خبز الحياة" – تصفه في فعاليته: أي أنه يهب الحياة ويحفظها. والكلمة:"الخبز الحي": تصفه في طبيعته- أي أن الحياة ذاتية فيه.

إذا ألقينا نظرة عامة على هذا العدد, ألفيناه – في الجزء الأول منه – يماشي العدد السابق. مع تدرج في المعنى, وتعمق في الوصف, وتقدم في الإعلان: عدد 50– هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت

عدد 51- أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.

فقوله:"أنا هو الخبز الحي"يخلع على الخبز وصفاً جديداً لم يذكر في العدد السابق –"الحي". والفرق بين قوله: "النازل من السماء"(عدد 50),وقوله"الذي نزل من السماء"(عدد 51), هو أن الأول يصف تجسد المسيح باعتبار كونه طعاماً, مستديماً, متجدداً كل يوم, وفي متناول جميع البشر. والثاني يصف التجسد كحقيقة تاريخية, تمت مرة واحدة. أما قوله: "لكي يأكل منه الإنسان"(عدد 50), فيصف الخبز من جهة قد الله الأزلي

إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ

فيه. وقوله:"إن أكل أحد من هذا الخبز"(عدد 51) يصفه من جهة حرية إرادة البشر في تناوله أو رفضه. إن كلمة "إنسان" في عدد 50, كلمة إجمالية, وكلمة "أحد" في عدد 50, كلمة تفصيلية. أما فاعلية هذا الخبز فقد وصفت في عدد 50, وصفاً سلبياً: "لا يموت" – لأن الإنسان الطبيعي مولود تحت حكم الموت: وقد وصفت في عدد 51, وصفاً إيجابياً. "يحيا إلى الأبد". هذا وصف أقوى, يشير إلى دوام الحياة. ولعل الوصف الأول يشير إلى بدء اختبار المؤمن, والثاني إلى بلوغه وتمامه.

إلى هنا يفترق العددان, فتنتهي خطوات أولهما إلى الحد الذي تركناه فيه, ويتقدم بنا الثاني إلى إعلان جديد:"والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله أنا من أجل حياة العالم". فيما سبق كان المسيح يتكلم عن شخصه, والآن نراه منتقلاً من الكلام التعميمي عن" شخصه", إلى التخصيص التفصيلي عن "جسده". فبدلاً في قوله فيما مضى: "أنا هو الخبز " نسمعه يقول الآن: "والخبز.. هو جسدي".ثم انتقل من هذه النقطة إلى ما هو أبعد منها, فأرانا الطريقة التي بها يقدم جسده ليكون طعاماً للعالم – بالصليب: "الذي أبذله".فمن الكلام عن شخصه – إلى الكلام عن تجسده – إلى الكلام عن موته. إن شخصه أزلي, لكنه ظهر للعالم بالتجسد, وجسده صار طعاماً للعالم بكسره على الصليب.

مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». 52فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «كَيْفَ

متى علمنا من مقدمة هذا الفصل, إن المسيح فاه بهذه الكلمات في وقت كان فيه عيد الفصح قريباً (عدد 4),فمن المحتمل جداً أن يكون هذا الكلام منطوياً على مقابلة ضمنية بين حمل الفصح اليهودي الذي كان يقدم لأجل عائلة يهودية واحدة, وبين المسيح فصحنا الأعظم الذي كان آنئذ على استعداد أن يبذل على الصليب "من أجل حياة العالم" أجمع.

وكما كان اليهود ينتفعون من حمل الفصح, بدمه الذي يرشونه على القائمتين والعتبة العليا, وبلحمه الذي كانوا يأكلونه داخل البيت, كذلك ينتفع المؤمنون, بدم المسيح وبجسده. هذه هي الحقيقة التي أراد المسيح أن يوضحها في الحديث الآتي.

(ج) الحديث الثالث 6: 52-59. يعتبر هذا الحديث تتمة للحديث السابق وتوضيحاً له. في الحديث السابق لمحنا اليهود "يتذمرون فيما بينهم" (6: 41-43), والآن نسمعهم "يخاصمون بعضهم بعضاً.. قائلين.." (6: 52).

عدد 52. (1) تخاصم اليهود. إن تذمر اليهود فيما بينهم. قد تطور إلى تخاصم وتنابذ. قبلاً كانوا يتذمرون كمجموع. أما الآن, وقد أزاح المسيح حجاباً خفيفاً كشف عن جانب من الحق الإلهي, وأراهم بصيصاً من نوره, أضحى بعضهم في جانبه, وأمسى البعض الآخر ضده. فخاصم بعضهم بعضاً قائلين :"كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل". إن استعارة الأكل لم

يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» 53فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ

تكن غريبة عن العقلية اليهودية. فقد استعير بها عن كلام الله في نبوات أرميا :"وجد كلامك فأكلته" (أرميا 15: 16).ووردت أيضاً في التلمود عن مسيا (المسيح9, فقيل: "أكل مسيا" – بمعنى بقبوله بفرح واعتناق مبادئه القويمة. لذلك يلوح لنا أن اليهود, لم يخاصم بعضهم بعضاً لأن المسيح استعمل استعارة "الأكل" في حد ذاتها, بل لأنه, وهو وضيع الأصل في نظرهم (عدد 42), اتخذ لنفسه مقام "مسيا", وقال أنه يقدم جسده طعاماً للعالم أجمع !! إن أمر كلمة في احتجاجهم, هي قولهم: "هذا" !! ويتضح لنا جليا ًمن كلمة "خاصم.."بعضهم بعضاً ", إن بعضاً منهم, وربما بسبب ما رأوه من معجزاته, أو بما تأثروا به من قوة شخصه قد قبلوا كلامه, وأقروا له بهذا الحق, فوقفوا في جانبه, والبعض الآخر كانوا في موقف التعجب: "كيف يمكن"؟! لذلك تخاصم الفريق الأول مع الثاني.

2- جواب المسيح 6: 53-59. "فقال لهم يسوع. الحق الحق أقول لكم.. ". أمام تخاصم اليهود, مع بعضهم البعض, لم يتراجع المسيح في كلامه, لكنه تابع أقواله, لكي يزداد النور أمام من أعطى لهم أن يروا, ويتكاثف الظلام أمام من أغمضوا عيونهم ضد النور, بإرادتهم. قبلاً كان يحدثهم عن جسده الذي "يبذله من أجل حياة العالم, والآن حدثهم تفصيلياً عن جسده ودمه: "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه

فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. 54مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي

فليس لكم حياة فيكم". ومن المؤسف أن نرى أن هذا الإعلان الجديد لم يزحزح اليهود قيد أنملة عن شكوكهم, بل زادهم من موقفهم صلابة, سيما عند قوله لهم: ".. وتشربوا دمه". (عدد 53). لأن أكل الدم - أو شربه – كان محرماً على اليهود(تك 9: 4 ولاويين 17: 10- 16), لذلك بلغ نفورهم مبلغاً كبيراً لدى سمعهم قوله: "وتشربوا دمه". فحق للذين لم يعترفوا بأصله السماوي, أن يتذمروا من كلامه هذا, سيما وأنهم كانوا يزعمون أنهم يعرفون أصله وأهله, جيد المعرفة.

وجدير بنا أن نذكر أن المسيح فاه بهذا الإعلان الجديد بنغمة الواثق, إذ استهله بهاتين الكلمتين التاريخيتين: "الحق الحق" كعادته عند كل إعلان جديد ممتاز, مستمد من صلته الفريدة بالآب. وقد ردد الفادي هذا الإعلان المجيد أربع مرات (عدد 53و54و55و56).

عدد 53. المرة الأولى التي صرح فيها المسيح بهذا الإعلان: في هذه المرة ذكر المسيح هذا الإعلان بصيغة سلبية مبيناً بصورة قاطعة أن أكل جسد ابن الإنسان وشرب دمه لازمان لزوماً حتمياً لنوال الحياة[2]. عدد 54. بصيغة إيجابية, مفرغاً المعنى في قالب التخصيص فبدلاً من قوله: "جسد ابن الإنسان ودمه". (عدد 53), قال: "جسدي ودمي". مبيناً أنه هو ابن الإنسان, وصرح

فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ 55لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ

أيضاً بوعد وصف فيه أمد الحياة التي ذكرها في عدد 53: "حياة أبدية". أما جسد المسيح فيكني به عن حياته, ودمه يكني به عن موته. فحياته هي قوام حياتنا وأصلها. بدمه الكفاري ننجو من الموت العقابي فنحيا. وبحياته نقتات بواسطة روحه القدوس كل يوم فنحتفظ بالحياة. كذلك كان حمل الفصح. فدمه يرش للنجاة من الموت, ولحمه يؤكل ليحفظ الحياة. وقد أشار المسيح إلى دمه في هذا الحديث, للدلالة على أن حياته لا يمكن أن تكون لنا إلا متى سكبها للموت عنا. فجسده لا يؤكل إلا بعد كسره, ودمه لا يشرب إلا إذا انفصل عن جسده بالصليب. وجسده ودمه معاً, يشير أن إلى المسيح الحي التاريخي – ابن الله وابن الإنسان – الله ظهر في الجسد في ملء الزمان. أما قوله: "وأنا أقيمه في اليوم الأخير", فيشير به إلى قيامة الأجساد. ويقول "لا نجى" أن اليوم الأخير هو الفترة التي بين مجيء المسيح الثاني والدينونة. هذه هي المرة الرابعة التي ذكر فيها المسيح هذا الوعد: "وأنا أقيمه في اليوم الأخير"(39و40و41) ليقرر مؤكداً, أن من يأكل الخبز الحي الذي هو المسيح, فلا سلطان للموت عليه – سوداء أكان موت الجسد أم موت الروح, بخلاف الذين أكلوا المن فماتوا – بالجسد وبالروح أيضاً.

عدد 55. المرة الثالثة: في هذه المرة كرر المسيح كلامه عن أكل جسده وشرب دمه مبيناً العلة الأساسية في كون أكل جسده وشرب دمه, شرطين لازمين لنوال الحياة الأبدية:"لأن جسدي مأكل حق, ودمي

حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. 56مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ

مشرب حق". أعني أن أكل جسد المسيح, وشرب دمه, ليسا من الأمور الوهمية بل من الحقائق الراسخة الجوهرية. على أن هذا لا ينفي كون كلام المسيح مجازياً, كما مبين هو في عدد 63, لأن الحقيقي لا ينافي المجازي, وإنما يتنافى مع الوهمي. ويجوز أن تترجم هذه العبارة إلى: "جسدي[3] مأكل حقيقي ودمي مشرب حقيقي".

عدد 56و57. المرة الرابعة. في هذه المرة عاد المسيح فتكلم عن أكل جسده وشرب دمه, فبين: (أ) جوهر الحياة الأبدية, التي يتمتع بها من يأكل جسد المسيح ويشرب دمه – وهو اتحاده بالمسيح وثبوته المتبادل فيه, (عدد 56): "من يأكل جسدي, ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه". أن ثبوت المؤمن في المسيح, هو نقله من تربة الذات الميتة, إلى تربة الحياة الجديدة في المسيح. وهو قطعة من شجرة العالم الجرداء, وتطعيمه في المسيح الذي هو الكرمة الحقيقية. أما ثبوت المسيح في المؤمن, فيراد به أن شخصية المسيح الحي تتغلغل في حياة المؤمن وفي شخصيته فلا يعمل المؤمن إلا ما يعمل المسيح. فكما أن الطعام الذي يأكله الإنسان يسري في الجسم, فيصبح هو في الجسم والجسم فيه, وكما أن الماء الذي يشربه المرء يتوزع في أوعية الجسم فيصير هو في الجسم والجسم فيه, كذلك من يأكل جسد المسيح ويشرب دمه يثبت في المسيح والمسيح فيه. كلمة "ثبوت" تفيد الدوام المبني على الحياة المتبادلة. وهي من الكلمات التي

فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. 57كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ

اختص يوحنا بتسجيلها (14: 10و20و15: 4و5و17: 21). هذه باكورة كلام المسيح الوارد في الإصحاح الخامس عشر. وبالإجمال فإن قول المسيح "يثبت فيّ وأنا فيه" يحقق لنا أن المسيح هو الكل في الكل في حياة المؤمن. فإذا شبهنا حياة المؤمن بدائرة, فالمسيح مركزها ومحيطها... أو بنهر, فالمسيح نبعه وهو هو البحر الذي فيه يصب النهر... أو بطريق, فالمسيح بدء هذا الطريق وغايته.

عدد 57. (ب) نبع حياة المؤمن. إذا كان العدد الماضي يحدثنا عن جوهر الحياة الأبدية, فإن هذا العدد يحملنا إلى أصل هذه الحياة ونبعها – فهي حيا تستمد من المسيح, وتنبع من الآب رأساً: "كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي" أي أن اجتياز الحياة من الآب الحي إلى الابن الحي, فهو نموذج, ومثال, وعلة اجتياز الحياة من الابن الحي إلى المؤمن. يتألف هذا العدد من سطرين متوازيين: يخبرنا أولهما عن صلة الآب بالمسيح الأبن, ويحدثنا الثاني عن صلة المسيح بالمؤمن. وكل من هذين الشطرين يتضمن عبارتين – احداهما تصف المعطي والأخرى تصف الآخذ. فالآب هو الحي, وهو المصدر الأصلي للحياة, والعلة المطلقة لها. والابن – باعتباره كونه فادياً, ومرسلاً من الآب – وهو حي به, لأنه يستمد كيانه الإنساني منه ليتم رسالته التي جاء أرضنا لأجلها. كلمة: "أنا حي" لا تعني الكيان المطلق, لكنها تصف حياة المسيح الإنسانية في جميع مظاهرها (2: 4و7: 6و16و8: 28). والنتيجة الطبيعية لهذه الحقيقة هي أن

فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. 58هَذَا هُوَ الْخُبْزُ

المسيح في حياته على الأرض قد أرانا "صورة طبق الأصل" من حياة الله. والشطر الثاني يصف المسيح لأنه قوت المؤمن, ويصف المؤمن في اقتياته الدائم في المسيح: "من يأكلني فهو يحيا بي".

من هنا يتضح لنا عمق الصلة الفريدة الممتازة التي بين الابن والآب – تلك الصلة, التي لا يشاطره إياها أحد من البشر. إن الآب قد أودع الحياة في الابن وحده, فالسبيل الوحيد للتمتع بالحياة, هو أن يتقدم الإنسان إلى المسيح لينال منه الحياة.

ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن المسيح يتكلم في هذا العدد عن حياته الإنسانية الأرضية, أما حياته الإلهية فقد حدثنا عنها في عدد 46 "ليس أن أحداً رأى الآب الذي من الآب".

عدد 58. مجمل الحديث. عاد المسيح إلى تلك الاستعارة الأولى التي استمدها من معجزة إشباع الآلاف – استعارة "الخبز". فبدلا من تكلمه تفصيلياً عن "أكل جسده وشرب دمه" (53و54و55و56) أجمل الكلام فركزه في شخصه فقال: "من يأكلني" عدد 57. ولما بلغ الحديث منتهاه, رجع إلى الكلام عن "الخبز", مقارنة إياه: "المن" الذي أكله الإسرائيليون في البرية وماتوا, ومقرراً فائدته الخالدة: "من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد

". إن الحياة هنا, جامعة بكل أنواعها ومظاهرها – من طبيعية, وروحية.

ويجدر بنا الآن, أن تستوقف أنفسنا قليلاً, عند خاتمة هذا المطاف

الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ.

لنصغي إلى همس الكثيرين المتسائلين: هل كان المسيح في كلامه عن أكل جسده وشرب دمه,متحدثاً إلى سامعيه عن عشاء الرباني؟ وجواباً على هذا السؤال نقول بكل صراحة: "كلا": (1) لأنه ليس من الطبيعي أن يتحدث المسيح إلى سامعيه, عن فريضة لم تكن قد رسمت بعد – وواضح من اخبار البشيرين, أن فريضة العشاء الرباني رسمت بعد مرور عام على هذا الحديث – فمن المحقق أن سامعيه في كفرناحوم لم تكن عندهم أية فكرة عن الفريضة, لا تصريحاً, ولا تلميحاً. (2)إن الكلمة المترجمة "جسد" في كلامه عن العشاء الرباني. في هذا الأصحاح استعمل المسيح الكلمة اليونانية: "ساركس" – ومعناها الحرفي: "لحم", لكن في كل موضع جاء فيه ذكر فريضة العشاء الرباني – سواء أكان على لسان المسيح أم على لسان بولس الرسول – استعملت الكلمة: "سوما" – ومعناها الحرفي "جسد" (مت 26: 26 ومرقس 14: 22ولوقا 22: 19وكو11: 24-27). وكل منهما تتفق والمناسبة الخاصة التي قيلت فيها. فلما تكلم المسيح هنا عن الخبز الحي, بمناسبة المن الذي أكله الإسرائيلييون وماتوا, كان من الطبيعي أن يستعمل كلمة: "ساركس" – "لحم" على اعتبار كونه مادة مغذية مشبعة. لكنه لما تكلم عند رسمه فريضة العشاء الرباني بمناسبة صلبه وتركه للتلاميذ علامة يذكرون بها موته, كان من الطبيعي أن يستعمل كلمة: "سوما" أي "جسد" – على

لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا.

اعتبار كون الجسد نظاماً آلياً مركباً من أعضاء, وقد كسر بالموت على الصليب. (3) لقد علمنا المسيح ورسله, في كل مناسبة, أن الإيمان الحي هو الوسيلة الوحيدة التي بها ينال الإنسان الحياة الأبدية, فليس من المعقول أن يناقض المسيح نفسه, ويهدم تعاليمه التي أوحى بها, ويعلمنا أن الحياة الأبدية تنال بواسطة وسيلة مادية بحتة – مثل الأكل والشرب. فضلاً عن ذلك فإن المفكرين من أخوتنا التقليديين يقررون معنا أن كثيرين جداً ممن يتناولون العشاء الرباني يهلكون هلاكاً أبدياً, فكيف إذاً يوفقون بين هذه الحقيقة الراهنة, وبين قول المسيح في عدد 54: "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية"؟ فلا مناص إذاً من التسليم بأن أكل جسد المسيح وشرب دمه, يراد بهما شيء آخر غير فريضة العشاء الرباني. (4) يتضح لنا لدى التأمل في كلام المسيح في عدد 63: "الروح هو الذي يحيي. أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة", إنه لم يقصد الأكل الحرفي, ولا الشرب الحرفي, اللذين يحصلان عند تناول الفريضة إنما قصد شيئاً آخر.

فما هو إذاً هذا الشيء الآخر الذي قصده المسيح عندما تكلم عن أكل جسده وشرب دمه؟ الجواب على هذا السؤال, نجده في كلام المسيح نفيه (عدد 35): "أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً ". ولدى تحليل هذا القول, يتبين لنا, أن كلمة: "من يقبل

مَنْ يَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا

إلي", تقوم مقام كلمة: "من يأكل جسدي" لأن النتيجة واحدة : "فلا يجوع". وإن كلمة: "من يؤمن بي", تقوم مقام كلمة : "من يشرب دمي". لأن النتيجة واحدة أيضاً: "فلا يعطش". فواضح إذا أن الأكل والشرب إنما هما استعارتان عن الإقتبال إلى المسيح, والإيمان به. هذا وإن بين الأكل والشرب وبين الإيمان, أوجه شبه شتى فمنها: - أ – الأكل والشرب يسبقهما جوع وعطش, كذلك الإيمان بالمسيح يسبقه جوع وتعطش إليه (مت 5: 6) - ب – الأكل والشرب يستلزمان تخصيص الطعام والشراب للآكل والشارب, فلا فائدة من الطعام ما لم يؤكل, ولا نفع للشراب ما لم يشرب. كذلك الإيمان, لا يجدي إن لم يكن شخصياً, للمؤمن نفسه, فيخصص المسيح لذاته –ج- الأكل والشرب ترافقهما لذة خاصة يتمتع بها من يأكل ويشرب. كذلك الإيمان بالمسيح يملأ القلب بهجة, فيقتات الإنسان به وعليه, ويشعر بلذة لا تعدلها لذة – د- بالكل والشرب ينال الإنسان غذاء يحفظ حياته ضدّ غوائل الموت. كذلك بالإيمان بالمسيح ينال المرء غذاء حياً, يكون قوام حياته الروحية. أما جسد المسيح ودمه, فهما كنايا عن "ذاته" التي قدمت لنا بالصليب. ورب سائل يقول: "أما من صلة بين حديث المسيح هنا وبين العشاء الرباني"؟ وجوابا على هذا نقول: توجد صلة متينة بين هذا الحديث وبين العشاء الرباني. فكلاهما يشير إلى مبدأ واحد, وكلاهما يعلم حقيقة واحدة وهي: شدو لزوم الإيمان الحي الذي

إِلَى الأَبَدِ». 59قَالَ هَذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ

يقبل المسيح ويخصصه لذاته, فيصير المؤمن بالمسيح, والمسيح في المؤمن. والفرق بين حديث المسيح هنا وبين العشاء الرباني هو أن هذا الحديث يشير إلى هذا المبدأ بالكلام. وأما العشاء الرباني هو أن هذا الحديث يشير إلى هذا المبدأ بالكلام. وأما العشاء الرباني فيشير إليه بالفعل. فالحديث كلام رمزي, والعشاء الرباني فعل رمزي. نطق المسيح بالحديث في وقت كان فيه فصح اليهود قريباً, ورسم فريضة العشاء الرباني لتقوم مقام الفصح اليهودي, وليكون هو نفسه فصح المسيحيين. على أنه لا يغرب عن بالنا أن حقيقة أكل جسد المسيح وشرب دمه ليست مؤسسة على رسم الفريضة المقدسة, بل أن رسم الفريضة المقدسة مؤسس على هذه الحقيقة.

عدد 59. خاتمة تاريخية 6: 59. "قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفرناحوم". جرت عادة اليهود قديماً أن يجتمعوا في المجمع أيام الاثنين, والخميس, والسبت, من كل أسبوع. فإذا كانت هذه الحادثة قد وقعت سنة 29 للميلاد, كان عيد الفصح في تلك السنة موافقاً يوم الاثنين الواقع في 18 أبريل – حسب رأي ثقات المؤرخين. وإذا فرضنا أن معجزة إشباع الخمسة الآلاف, حدثت في المساء السابق لعيد الفصح (عدد 4), فإن اليوم الذي بعده, الذي فاه فيه المسيح بهذا الحديث في المجمع هو يوم الاثنين.

ما أهم هذا الحديث في نظر يوحنا البشير حتى ذيله بهذه الخاتمة التاريخية, التي تصور لنا جلال الموقف وكثرة عدد السامعين! كلمة: "هذا" تشير إلى الحديث كله ابتداء من عدد 26. وقوله: "يعلم" يبرق نوراً على الطريقة

فِي كَفْرِنَاحُومَ. 60فَقَالَ كَثِيرُونَ

التي كان المسيح يشرح بها الآيات الكتابية.

أما "كفرناحوم", "التي كانت مرتفعة إلى السماء" – بسبب علوها الجغرافي, وعظمتها المادية, وامتيازاتها الروحية لوجود الفادي فيها- فقد "هبط إلى الهاوية" (لوقا 10: 15) وبقيت مكانها إطلال دارسة معروفة اليوم باسم "تل حوم". ومن بينها آثار مجمع[4] قديم يظن انه ذلك المجمع الذي سمعت جدرانه هذا الحديث التاريخي. وعلى أحد أحجاره منقوشة صورة قسط فيه من.

أكان اليهود ناظرين إلى ذلك الرسم المنقوش حين قالوا للمسيح, في عدد 31 "آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب"؟!!

نتيجتان منتاقضتان 6: 60- 71

شعاعة واحدة من نور الشمس, تقع على قطعة الفحم, فتزيدها سوادا على سواد. وتقع هي بعينها على قطعة من الماس, فتزيدها لمعانا على لمعان. كذلك كلام المسيح. وقع على سمع أناس, فأثار فيهم التعجب (عدد 30), والتذمر (عدد 41), والشحناء (عدد 52), والاحتجاج (عدد60). ووقع على سمع أناس آخرين, فأضاء بصائرهم بنور اليقين, وأنطق ألسنتهم بمعجزات الحكمة (عدد 68 و69).

فيما مضى لمحنا تعجب اليهود, وسمعنا تذمرهم, ومجادلاتهم, والآن نرانا أمام نوع جديد من سامعيه, فنسمعهم يحتجون ويتذمرون.

مِنْ تلاَمِيذِهِ إِذْ سَمِعُوا: «إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟»

عدد 60. (1) تذمر كثيرين من تلاميذه 6ك 60 (أ) المتذمرون: "فقال كثيرون من تلاميذه" – هؤلاء هم جماعة تبعوا المسيح حيناً, وكان قد انصرف بعض منهم عن أشغالهم العادية (عد 66), ومن بينهم أختار المسيح رسله الاثني عشر. ولعل بعضا منهم كان بين الخمسمئة أخ الذين استشهد بهم بولس في حديث القيامة (1 كو 15: 6).

(ب) موضوع تذمرهم: "إذ سمعوا. إن هذا الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه". كلمة: "صعب", لا تفيد أن الكلام غامض في معناه, ولا أنه عسير الفهم, بل أنه كلام مفهوم, لكن من الصعب قبوله. لأنه كلام مناف للعرف, فهو معثر. الكلمة الأصلية معناها الحرفي "جاف. قاس". ولعلهم أرادوا بقولهم: "من يقدر أن يسمعه", إن لا أحد يقدر أن يصبر على سمعه من غير أن يحتج عليه, أو يصم ضده أذنيه؟. أما عن سبب تذمرهم, فقد ذهب فيه المفسرون مذاهب شتى. يقول ما ير أنهم تذمروا بسبب انبائهم بموت مسية – فهذه عثرة اليهود, قبل الصلب وبعده. ويقول هنجستنبرج أن سبب تذمرهم هو قول المسيح أن خلاص العالم موقوف على شخصه, ويقول لامب: إن السبب الحقيقي هو قول المسيح عن نفسه أنه نزل من السماء. ويقول جودي: إن السبب يرجع إلى قوله أن أكل جسده وشرب دمه لازمان لنوال الحياة الأبدية. ويلوح لنا أن هذه الأسباب ليست متباعدة عن بعضها كثيراً, وإن كان الأخير أقربها لأنه يتفق وجواب المسيح في عدد 61. ولعل الإشارة متجهة إلى كل كلامه في هذا الحديث.

61فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا فَقَالَ لَهُمْ: «أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ 62فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً! 63اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فلاَ يُفِيدُ شَيْئاً.

عدد 61. (2) جواب المسيح 6: 61- 65. لم يكن المسيح في حاجة إلى من يسمع كلامهم الذي كانوا يتكالمون به, "لأنه علم من نفسه أن تلاميذه يتذمرون". هذا برهان جديد على أن المسيح عليم بذات الصدور.

ومن العجب إن المسيح أراد أن يزيل الصعوبة التي وجدوها في إعلانه الأول بإعلان جديد يفوقه في الصعوبة: "أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولاً..." إن جواب الشرط في هذا السؤال محدود – جوازاً أو وجوباً – تقديره: "فإن الصعوبة تزداد أمامكم تعقيداً في بادىء الأمر, لكنكم سترون ابن الإنسان صاعدا بعد موته. ولكن حينئذ ستزال الصعوبة التي وجدتموها في كلامي, وتدركون أني لم أقصد أن تأكلوا جسدي بالذات – لني سأصعد بهذا الجسد بالذات إلى السماء – ولكن الروح القدس الذي سأرسله غليكم بعد صعودي, سيأخذ مما لي ويخبركم. عندئذ تأكلونني بالروح لا بالجسد".

عدد63. "الروح المحيي". "الروح هو الذي يحيي.. أما الجسد فلا يفيد شيئا" كلمة "جسد" مستعملة هنا للإطلاق. بمعنى أن أي جسد لا قيمة له بدون الروح. وما قبيل التطبيق تطلق على جسد المسيح. فإنه

اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ

لا يفيد شيئاً, لأنه لا يمكن أن يؤكل أكلا حرفياً. لكن الذي ينفع هو شخص المسيح – أي جسده مقترناً بروحه الحي. هذا هو الذي يؤكل(1كو15: 45) ومن المحقق أن بعضا ممن سمعوا هذا الكلام شاهدوا المسيح صاعداً.

بعد هذا السؤال المقتضب فاه المسيح بإعلان مجيد عن طبيعة كلامه وقوته. فلم يكتف بأن قال: "إن كلامي روحي وحي" بل قال أنه "روح وحياة", لأن كلامه هو الأداة التي بها يحمل إليهم الروح القدس هبة الحياة الأبدية. إن كلام شخص ما, يحمل معه نفسه, وروحه, وسلطانه, وشخصيته, كذلك كلام المسيح يحمل للناس روحه وسلطانه وشخصيته, لأن كلام المسيح يقوم مقام شخصه كما أن المسيح نفسه هو الله المتجسد, لأنه "كلمة الله". من أجل هذا, لما تكلم المسيح عن ثبوت المؤمنين به, ووضع كلامه قي مقام نفسه, فقال: "اثبتوا في وأنا فيكم" وأردف هذا بقوله: "إن ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم" (15: 4و7) فقد استعاض عن كلمة: "أنا" بكلمة: "كلامي". فكلامه روح وحياة لأن شخصه روح وحياة. وفي موضع آخر تكلم عن كلام الله فقال: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي" (5:39). ويقول أغسطينوس أن كلام المسيح روح وحياة, بمعنى أنه ينبغي أن يفهم روحيا. مع أن هاتين الكلمتين: "روح وحياة", تصفان كل كلام المسيح الذي نطق به بوجه عام, إلا أنهما تصفان بنوع خاص كلام المسيح الذي نطق به في هذا الفصل, سيما قوله

64وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ». لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ هُوَ

الذي استعصى عليهم قبوله "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم" – عدد 53و54.

عدد 64و65. جواب المسيح المباشر على تذمر أولئك التلاميذ: "ولكن منكم قوم لا يؤمنون.". سلّم المسيح معهم بأن كلامه صعب, ولكن على "الذين لا يؤمنون". فالعقبة الكؤود, في سبيل فهم كلام المسيح وقبوله, ليست في كلام المسيح بل في قلوبهم المتسلحة بنية عدم الإيمان. كم كان مؤلما على قلب المسيح, أن يقول لتلاميذه "ولكن منكم قوم". إن أمر كلمة هي الوسطى: "منكم". لكن وجه العزاء أن أولئك الغير المؤمنين لم يكونوا أغلبية ساحقة في التلاميذ, بل كانوا أقلية مسحوقة: "منكم قوم". كان هذا الإعلان الجارح, أشبه الأشياء بنبوة. ويحدثنا يوحنا البشير أن هذه النبوة مبنية على علم المسيح السابق: "لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه". فهو إذا: (أ) علم سابق: "من البدء" –أي منذ الوقت الذي فيه بدأوا يلتفون حوله كتلاميذ له (15: 27و16: 4 وأعمال 1: 21و22) أو بعبارة أخرى. منذ بدء اتصالهم بالمسيح. (ب) علم شامل: "من هم الذين لا يؤمنون" –هذا القول يعين مسؤوليتهم في عدم إرادتهم, كأنهم كانوا مصممين على عدم الإيمان (عدد 71), فهو لا يشير إلى قضاء الله السابق, بل إلى الحالة الراهنة التي كانت عليها قلوبهم ونواياهم.

الَّذِي يُسَلِّمُهُ. 65فَقَالَ: «لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ

(ج) علم خاص: "ومن هو الذي يسلمه". هنا انتفل الفادي, في كلامه, من التعميم: "الذين لا يؤمنون", إلى التخصيص: "من هو الذي يسلمه" – هذا وصف ابتدائي خلعه على عمل يهوذا "مسلمه". وفيما بعد خلع عليه وصفاً جارحاً: "الشيطان" (عدد 70). ومن المحقق أن المسيح لم يختر يهوذا لهذه الغاية الدنيئة, لأن الله لم يدعنا إلا على "القداسة, بالمجد والفضيلة", وأنه لم "يعطنا روح الفشل بل روح القوة, والمحبة, والنصح". (2بط1: 3و 2تى1: 7). إن الله يضع الناس في مراكز. فإن لم تساعده هذه المراكز على التغلب على خطاياهم, ساعدت خطاياهم على النمو والنضوج. كالشمس تنمي الورود وتنضج الشوك والقتاد. ومتى نضجت خطاياهم استخدمتهم العناية في الخدمة التي تتفق ومؤهلاتهم. كان من الممكن أن تلك السقطة, التي سقطها يهوذا تكسر كبرياء قلبه, وتقوده إلى التوبة, لو كان عنده استعداد بطرس.

"فقال" – هذه كلمة يوحنا البشير. "لهذا قلت لكم" – هذه كلمات المسيح. ولا شك انه نطق بها وقلبه مفعم بالألم والحزن. في هذا العدد يقتبس المسيح كلاما قد سبق وقاله في عدد 36. والكلام فيه يصف الخلاص في جانبيه – الجانب الإلهي: "إن لم يعط من أبي", والجانب الإنساني: "يأتي إلي". على أن الجانب الإلهي هو العلة الأساسية, والجانب الإنساني هو العلة الثانوية. "لا يقدر أن يأتي.. إن لم يعط من أبي" لم ينطق المسيح

مِنْ أَبِي». 66مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ

بهذا القول ليضع حجة في أفواه الغير المؤمنين, بل ليصيغ كلمة شكر على شفاه المؤمنين: "نحبه لأنه أحبنا أولاً".

التلاميذ الأخصاء في بوتقة التصفية 66-71

بلغ المسيح الآن دوراً دقيقاً في خدمته. لقد بدأ خدمته في اليهودية, فالتأمت حوله جموع كثيرة, وسرعان ما انصرفت عنه لأنها لم تعرف رسالته, أو عرفتها فوجدتها غير ملائمة لمطاليبها. فانتقل الفادي من اليهودية إلى الجليل, وبعد أن خدم بضعة أشهر, تجمعت حوله الجماهير.فكانوا كالسحب المحيطة بالقمر. ولم يمض وقت طويل حتى تبخرت تلك السحب الخريفية, أمام نوره الساطع. لأن عدداً وفيراً من أولئك التابعين, كانوا يتبعونه ببطونهم وجيوبهم, لا بإرادتهم وقلوبهم. إن وجه البحر لا يخلو من الفقاقيع التي تطفو على وجه الماء حيناً, ثم لا تلبث أن تذهب ضياعاً, إذا ما هبت عليها نسمات البحر.

عدد 66. ارتداد كثيرين من التلاميذ: "رجع كثيرون إلى الوراء". كلمة :"من هذا الوقت" كما وردت في الأصل, تفيد الزمنية والسببية. أي منذ ذلك الحين ومن أجل هذا السبب. وقد ورد هذا التعبير في العهد الجديد مرة واحدة سوى هذه (يوحنا 19: 12). "رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء" – الظاهر أن هؤلاء كانوا قد تركوا أشغالهم الدنيوية, وتبعوا المسيح, طمعاً في مراكز تدر عليهم ربحاً أوفر, وجاهاً أكبر, ولما خابت آمالهم رجعوا

وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. 67فَقَالَ يَسُوعُ لِلاِثْنَيْ عَشَرَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ

إلى أشغالهم الأولى. ولم يعودوا يشاطرونه حياة الإغتراب التي كان يحياها على الأرض (7: 1).

عدد 67. النار الممحصة: 6: 67 الآن وجد المسيح أن الوقت ملائم لوضع التلاميذ الاثني عشر في بوتقة التصفية. هذه أول مرة ذكر فيها عدد الرسل في هذه البشارة – ولم يرد هنا كأنه خبر جديد, بل كأمر معروف (6: 13). وعلى نفس هذه الطريقة ظهر اسم بلاطس واسم مريم المجدلية على صفحات هذه البشارة (18: 29 و19: 25). "ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا"؟ إننا نستطيع أن نلمس بين كلمتي: "أنتم أيضاً", ثقة المسيح بتلاميذه. فالجواب الطبيعي لسؤاله هذا هو: "حاشى". في الوقت الذي أظهر فيه المسيح ثقته بتلاميذه, قدم لكم منه الحرية الكاملة ليرجع إلى الوراء إذا شاء. يا ليتك يا يهوذا رجعت إلى الوراء منذ هذه اللحظة! هذا كان خير لك وأبقى! لأن رجوعك إلى الوراء كلن يحسب لك تقدماً إلى الأمام, كما أن تقدمك إلى الأمام حسب عليك رجوعاً إلى أركان الظلام؟ وفي الوقت نفسه بين المسيح بهذا السؤال استقلاله التام عن كل تعضيد بشري. أليس هو القائل: "هوذا تأتي الساعة. وقد أتت الآن, تتفرقون فيها كل واحد إل خاصته وتتركونني وحدي"؟ (16: 32). ليس معنى هذا أن المسيح يريد أن يستغني عنهم, بل أنه يقدر على ذلك. وجدير بنا أن نذكر أن المسيح يلق سهمه جزافاً.

أَنْ تَمْضُوا؟» 68فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ 69وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ

إذاً كان المسيح قد علم من البدء من هو الذي يسلمه فقد علم من البدء أيضاً من هم الذين يتمسكون به إلى المنتهى.

عدد 68و69. الجواب المزكى -6: 68 "فأجابه سمعان بطرس" –كليم الرسل _ "يا رب إلى من نذهب"؟ لم يعط بطرس لرفاقه فرصة ليجيب كل منهم عن نفسه, لكن قلد نفسه وشاح الزعامة وتكلم عنهم. فكان جوابه ترديداً لصدى كلمات المسيح في عدد 63 "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة".كان جوابه قوياً وحازماً. حقيقياً بالاسم الذي ناله من المسيح: "بطرس" (1: 42). يتضمن هذا الجواب ثلاث حجج مرتبة ترتيبا منطفياً: (أ) انعدام المصادر الأرضية: "إلى من نذهب"؟ -كان يوحنا المعمدان قد مات, وبينهم وبين الفريسين النار والحديد, وبينهم وبين الفلاسفة الزعماء حجاب كثيف يفصل بين عالمين. (ب) كفاية المسيح: "كلام الحياة الأبدية عندك" ليس هذا هو الكلام المتعلق بالحياة الأبدية وكفى, بل هو الكلام الذي ينيلنا الحياة الأبدية. (ج) سمو مقام المسيح الفريد: "ونحن" على خلاف التلاميذ الذين تركوك (عدد 66) – "قد آمنا"- بالتصديق- "وعرفنا"-بالاختبار- "إنك أنت المسيح ابن الله الحي", "آمنا وعرفنا"- المعرفة نوعان: معرفة تسبق الإيمان (1يو4: 16), وهي المعرفة السماعية الإعدادية. ومعرفة تعقب الإيمان (فيلبى3: 10) وهي المعرفة الاختبارية الناضجة. المعرفة الأولى هي الإيمان في البزرة.

أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». 70أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ

والمعرفة الثانية هي الإيمان في البلوغ. المعرفة الأولى هي النور مزدهراً, والمعرفة الثانية هي النور مثمرا. "إلى من نذهب"؟- لا بديل للمسيح!! (قابل هذا الاعتراف المجيد, بذاك المسجل في مت 16: 16).

عدد 70 الطعنة النجلاء 6: 70. إنه وإن كان بطرس قد تكلم عن نفسه, وعن إخوانه الرسل, إلا أن جواب المسيح موجه للجميع: "أجابهم يسوع".

كان اعتراف بطرس أشبه شيء بنقاب حجب وراءه خيانة يهوذا, فكان جواب المسيح أشبه شيء بسهم مزق هذا الحجاب, وأشهر خيانة يهوذا علانية: "أليس أني أنا اخترتكم الاثني عشر؟"- الإشارة هنا إلى مقامهم الجديد الذي وضعهم فيه المسيح بالنسبة لمقام الاسباط الاثني عشر- "وواحد منكم شيطان". كلمة: "شيطان" كما وردت هنا, هي صفة لا اسم. أي أن يهوذا له صفات الشيطان الذي يحول الخير شراً بطبيعته الرديئة المتمردة. كذلك تحول الحشرات السامة عصير الأزهار إلى سم قاتل.

قد يكون في هذا القول خير تحذير ليهوذا ليكف عن مواصلة السير في السبيل الذي وضع نفسه فيه طوعاً.

إن في كلام المسيح مقابلة خطرة بين محبته لتلاميذه وتقديره لهم, وبين كراهة أحدهم له وعدم تقديره إياه. أما المسيح, فقد أحب يهوذا بلا سبب, ويهوذا أبغض المسيح بلا سبب. لأن المسيح هو الله متأنساً, ويهوذا هو الشيطان متأنسا. المسيح يجازي عن الشر خيراًَ, ويهوذا يجازي عن الخير شراً.

الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!» 71قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ

وإذا ما قيل لماذا اختار المسيح يهوذا مع علمه بشر قلبه؟ كان جوابنا: لحكمة فائقة لا ندرك كنهها. لكننا نستطيع أن نتلمس بصيصا من النور فبها. إن المسيح لم يسخر يهوذا لإتمام غرضه ولا لكي يتمم به المكتوب (13: 18), لكنه على عكس ذلك حذر يهوذا مرارا وتكرارا, أما يهوذا فقد هوى إلى ذلك الدرك الأسفل لأنه انجذب وانخدع من شهوته التي كانت تلتهب احتراقا إلى حب المال. ولعل يهوذا كان واحدا من الذين انتظروا في الفادي مسيحا أرضيا, فلما خاب فيه انتظاره, غدر به في النهاية. وفي اعتقادنا أن الذين يحاولون الدفاع عن يهوذا ليسوا أعدل على يهوذا من نفسه, ولا أرحم عليه من ضميره, الذي اشتكى عليه, واحتج, فلما ارتفع صوت الاحتجاج لجأ يهوذا إلى الانتحار إذ مضى وخنق نفسه (أعمال 1: 18). هذا أكبر دليل على عدالة الله. لأن الله لم يحكم على يهوذا بأقسى مما حكم يهوذا على نفسه. لا حدود لنعمة الله التي لا تقودنا إلا إلى الخير والصلاح, كما أنه لا حدود لنقمة الطبيعة الساقطة التي تقودنا إلى الهلاك. فالإنسان الشرير هو القاتل وهو القتيل, فلا عذر. والإنسان الصالح محمول بيد علوية, فلا فخر.

عدد 71. خاتمة تاريخية: "قال هذا عن يهوذا الاسخريوطي. لأن هذا كان مزمعا أن يسلمه وهو واحد من الاثني عشر. كلمة "اسخريوطي" مشتقة من كلمتين في الأصل: "ايش" ومعناها: رجل و"قريوت" – اسم بلد أي "رجل قيروت"". وقد ورد ذكر هذه المدينة في أرميا 48: 24.

وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ.

وهي من مدن يهوذا. يكون يهوذا, هو الرسول الوحيد الغير الجليلي.

أليس من العجيب أن يهوذا سمعان ليس اسما على مسمى؟ ان معنى "يهوذا سمعان" هو: "المحمود السميع" لكن المسمى, مذموم عنيد. هذا معنى كلمة "شيطان" – من "شطن" أي عاند. وقد يكون معنى "أسخريوطي" رجل البطل.

ربما لم يقدر أحد من الرسل أن يفهم كلام المسيح هذا, سوى يهوذا ويوحنا البشير.

من المؤلم أن تكون هذا خاتمة الاصحاح. واكثر منه إيلاما أن تكون هذه رمزاً لخاتمة خدمة المسيح في الجليل.


1- -"وصل المنقبون في فلسطين إلى أثر من أهم الآثار المتعلقة بحياة السيد المسيح. وعثروا على أرضية من أبدع ما عرف من القيشاني عندما كشفوا عن الكنيسة التذكارية التي أنشأها الحجاج المسيحيون على أثر حكم الإمبراطور قسطنطين العظيم في القرن الرابع".

"وهذه الكنيسة مقامة على البقعة نفسها التي قام المسيح فيها بمعجزته الواردة في الكتاب المقدس حيث أطعم خمسة آلاف رجل بخمسة أرغفة وسمكتين".

"وتقع الكنيسة على نحو 12 ميلا شمالي طبرية وعلى مسافة قريبة من الجليل" عند سفح "تل التطويبات".وهو التل الذي يمتد فوقه الطريق القديم الموصل إلى "كفر ناحوم". كما أنها تقع على بضع خطوات من "الينابيع السبعة"التي ذكرها"يوسيفوس"في كتابه: "آثار اليهود". وتحيط بها صحراء "بيت صيدا"التي وصفها الإنجيل".

" وفي الجانب الأمامي من الكنيسة اكتشفت لوحة من القيشاني فيها حجارة صغيرة جميلة, سوداء وحمراء. وفيها رسم منقطع النظير, لسلة وأرغفة خبز وسمكات. وهو من صنع الصناع المسيحيين في العهد الأول, أرادوا به تخليد ذكرى المعجزة الواردة في العهد الجديد"

"ويرى الإنسان على طول النصف الغربي من الكنيسة رسماً غريباً بالقيشاني لطيور لا تزال ألوانها زاهية من أحمر فاتح إلى أحمر قان إلى أصفر وأسود. ويخيل للإنسان أن الرسم حديث مع أنه ظل تحت الردم نحو 1600 سنة. وهذه الأرضية الفريدة المثال من القيشاني فيها أشكال متنوعة مختلفة تحوي رسوم أنواع شتى للطيور والنباتات وأزهار اللوتس.

"ووجدت أيضا أجزاء محطمة من الفخار والأواني ولمبات خزفية وأشياء أخرى صغيرة". ولا شك في أن كل منطقة هذه الكنيسة تطابق ما ورد في الإنجيل عن وقوع معجزات المسيح حول شواطئ الجليل.

"ويرجع فضل الإكتشاف الى البعثة الألمانية التي يرأسها الدكتور إيفارست ماير الذي يمثل لجنة فلسطين الكاثولوكية الألمانية ويعاونه الدكتور شنيدر".

2- إن قوله "حياة فيهم" يتفق تماماً مع قوله للسامرية ".. فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (4: 14).

3- كما في ترجمة اليسوعيين

4- انظر الحاشية الموجودة في مقدمة هذا الإصحاح

  • عدد الزيارات: 5008