Skip to main content

عطف المسيح وصفحه

اَلأَصْحَاحُ الثَّامِنُ

8: 1- 11

1َمَّا يَسُوعُ

هذه حادثة فريدة في بابها, موسومة في طابع خاص في أسلوبها وموضوعها لذلك قد أحيطت بشيء من الشبهة, سيما من جانب الذين لم يفهموا حقيقة مراميها, فظنوا خطأ أنها تعلم التساهل في الشر, وقد فاتهم أن الصفح عن الشر شيء, وأن التساهل في شيء آخر. هؤلاء يمسخون رسالة هذه الحادثة إذ يبترونها, فيذكرون الجزء الأول من قول المسيح للمرأة: "ولا أنا أدينك" وينسون – أو يتناسون – الجزء الثاني منه : "اذهبي ولا تخطئي أيضاً". لم يقصد المسيح بالجزء الأول من كلامه, أن يشجع المرأة على الشر, وإنما أراد أن يشجعها على ترك الشر. فكانت كلمته لها, مشرطاً حاداً قطع به كل صلة بينها وبين ماضيها الأسود. بل كانت يداً لطيفة رفعت عنها حملاً أثقل كاهلها, وبلسماً شافيا للشلل النفسي الذي أصابها بسبب الخوف, والفزع, وتأنيب الضمير. لا بل كانت قوة سحرية, فتحت أمامها باباً متسعاً من الرجاء.

ما أشبه هذه الحادثة بشعاع قوة كشاف, كشف لنا عما في قلب المسيح من طهر وصفاء وتسامح. وأعلب ما في قلوب الكتبة والفريسيين من خبث, وقسوة, وعدم نزاهة.

في هذا الحادث, يتجلى أمامنا سلطان المسيح البار, وجبن الفريسيين

فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. 2ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ

الأشرار. كلمة واحدة وجهها المسي إليهم, كانت شبيهة بقذيفة شتت شملهم, فخرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ. وما هي إلا كلمة الحق أمتد أمامهم فلول البطل. ولا شيء يعدل شجاعة البار, سوى جبن الشرير.

عدد 1 كلمة تاريخية عامة: "أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون". هذه الكلمة التاريخية, مكملة لتلك التي أختتم بها الإصحاح السابق: "فمضى كل واحد إلى بيته . . اما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون" – هذا هو بيت المسيح الذي قضى فيه ليلي عديدة منفرداً في الصلاة.

من السنهدريم إلى جبل الزيتون! لعله وجد في وحوش البرية قلوبا أكثر إيناسا من قلوب أولئك الوحوش المتسربلين لباس البشر. فكم من وحوش مستأنسة, وكم من بشر مستوحشين! "إلى جبل الزيتون"! في بيوت البشر لم يجد مكانا يسند إليه رأسه, فوجد هذا المكان بين أحجار الجبال فيا لظلم البشرية, ويا لتعاستها. فقد جهلت فاديها. وأنكرت أكبر محسن إليها.

عدد 2. كلمة تاريخية خاصة بالحدث: "ثم حضر أيضا إلى الهيكل في الصبح . . ". طلعت شمس الطبيعة من وراء أفق جبل الزيتون, وأطلت على العالم الذي خيم عليه ظلام الليل الدامس, فنثرت عليه أشعتها الذهبية حاملة ضياء وشفاء. وفي هذا الوقت عينه, "في الصبح", خرج "شمس البر", تاركا جبل الزيتون عينه, وأطل بوجهه الوضاح على الساكنين في وادي ظلال الموت, "فأشرق عليهم, وفي أجنحته شفاء". وأول ما كان نشر في

وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. 3وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسَطِ

أشعة أنواره, هو "الهيكل": "وجاء إليه جميع الشعب" المتشوق للنور, "فجلس يعلمهم". والعلم نور سواء كان في عالم الأدب أم في عالم النور.

عدد 3. (أ) عدم نزاهة الفريسيين ووحشتهم: "وقدم إليه الكتبة الفريسيين امرأة أمسكت في زنا" – هذا برهان عدم نزاهتهم. لم فشل هؤلاء القوم في إلقاء القبض على المسيح, وعجزوا عن أن يقاوموا حكمته المقنعة, لجأوا إلى حيلة مقنعة, ليقيموا منها فخا يمسكون فيه المسيح بكلمة. ولا شيء دل على عدم نزاهتهم أكثر من انتهازهم فرصة ضعف امرأة مسكينة اغويت على الشر, وذلت بها القدم, فاتخذوا منها وسيلة بها يمسكون المسيح بكلمة. فكأنهم جعلوا من ضعف المرأة وقودا لتغذية نيران حقدهم على المسيح. وإن أناسا هذا شأنهم, لو لم يجدوا امرأة ساقطة, لأسقطوا امرأة لينالوا مأربهم. "ولما أقاموها في الوسط" – ياللقسوة! بدلا من أن يقيموها من سقطتها, ويعالجوا بقوتهم ضعفها, عرضوا بها وشنعوا بخطيتها. إذ "أقاموها في الوسط", فأقاموا منها جحة على قسوة قلوبهم وهم لا يدرون. لم يبالوا بانكسار قلبها, وتعاموا عن مرارة نفسها وهم فرحون شامتون. وأي شخص انحدر إلى مهاوي الرذيلة, مثل إنسان يهنىء نفسه على سقوط غيره. هذه هي المرة الوحيدة التي وردت فيها كلمة: "كتبة" في بشارة يوحنا, مع أن كلمة "الفريسيين" وردت فيها 20 مرة .

4قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ 5وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ.

عدد 4. (ب) عدالتهم العرجاء : "قالوا يامعلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل". ما هي الصفات التي يوسم بها قوم نصبوا أنفسهم بوليساً على الآداب، تطفلا منهم, حتى يمسكوا امرأة في ذات الفعل؟ وإذا أرادوا أن يكون حماة الآداب حقاً ، فلماذا أتوا بالمرأة وحدها؟ أين الرجل الساقط الذي شاركها, بل أسقطها في فعلتها؟ حقاً إن الحياء يستحى منهم!

عدد 5و6. (ج) خداعهم المبرق "وموسى في الناموس" – كلمة: "موسى في الناموس", اختص بها يوحنا البشير وحده (1: 45و9: 4).

كان الوقت عيداً, والمنازل مزدحمة بساكنيها مع الضيوف الآتين إلى العيد, فاضطر كثيرون وكثيرات أن يناموا في الخلاء. هذه الظروف هيأت مزالق انحدرت عليها قدما تلك المرأة المسكينة, وكان في إمكان أولئك الكتبة والفريسيين أن يرثوا لحالها, وينظروا إليها نظرتهم إلى مريضة تحتاج إلى الشفاء, لا إلى مجرمة يتقدمون بها إلى القضاء.

"موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم" – تظاهروا بالحرص على وصية موسى, لكنهم كانوا حريصين على الإيقاع بالمسيح. فوجهوا هذا السؤال إلى المسيح, لا لكي يستنيروا برأيه, فقد اعترفوا بأنهم عالمون بالناموس (تت 22: 23و24, ولاويين 20: 10), بل قصدوا من سؤالهم هذا, شركاً يوقعون المسيح فيه. فان قال لهم: "ارجموها

فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» 6قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ

واقتلوها", ألصقوا به تهمة الاعتداء على حقوق قيصر (أنظر يوحنا 18: 31), واشتكوا عليه لدى بيلاطس.وإن قال لهم: "ارحموا واعفوا عنها",نسبوا إليه تهمة الاعتداء على حقوق موسى الذي قال في ناموسه: "إن مثل هذه ترجم", واشتكوا عليه لدى مجمع السنهدريم. هذه أحبولة خفية دنيئة, نصبوا ليوقعوا فيها مخلص البشرية, فهي شبيهة بحرب الخنادق. إن قوما كهؤلاء لا يستحقون أن يحسبوا في عداد بني آدم. بل هم من أبناء المجرب (8: 4), فالكلمة التي استعملت عنهم في عدد6: "ليجربوه", هي عين الكلمة التي استعملت عن إبليس المجرب (مت 4: 1و3).

فلا عجب إذا امتلأ قلب المسيح بالحزن عليهم: "فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض". إن في صمت المسيح أبلغ جواب على سؤالهم المليء بالمكر. ولعله امتنع عن الجواب لأن مثل سؤالهم لا يستحق جواباً, ولأنه صرح مراراً وتكراراً, أنه لم يأتي ليدين بل ليخلص.

تشعبت أفكار المفسرين في محاولة أن يعرفوا السبب الذي من أجله أجاب المسيح بالكتابة على الأرض, يقول بعضهم إن المسيح كان يكتب على الأرض بعض الكلمات التي تفض هذا الأشكال, كتلك التي جاءت في لاويين 20: 10, وتث 22: 22. ويقول الآخر إنه كان يكتب ما جاء في عدد 5: 17, عن شريعة تقدمه الغيرة المتعلقة بامرأة تحيد عن

بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ. 7وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ:

رجلها وتخونه: "يأخذ الكاهن وتخونه من الغبار . . . . ويجعل في الماء ويوقف الكاهن المرأة أمام الرب . . ". ويقول آخرون إن المسيح كان يشير بكتابته إلى ما جاء في أرميا 17: 13 "الحائدون عني في التراب يكتبون". ويقول قوم إن المسيح لم يقصد بكتابته على الأرض شيئاً, سوى عدم إجابة المشتكين على سؤالهم. ويقول آخرون إن المسيح أشار بكتابته إلى الشريعة المكتوبة على صفحات ضمائرهم بإصبع الله. ويعتقدون آخرون كتابة المسيح على الأرض, تشير إلى كآبته وحزنه على القوة التي تملكت بها الخطية على قلوب الناس, فأغرت امرأة على السقوط, وهوت بالزعماء الدينيين إلى حضيض الخبث. ويقول غيرهم أن المسيح كان يكتب حكم القضاء عليهم, وأنه كتبه على دفعتين. وربما كان الفكران الأخيران أقرب الجميع إلى الصواب.

وجدير بنا أن نلاحظ أن هذه هي المرة الوحيدة التي نرى فيها المسيح يكتب.

عدد 7. الجواب الفاحص. "ولما استمروا يسألونه انتصب وقال:". لم يعتبر أولئك القوم بصمت المسيح. ولعلهم ظنوه صمت العجز, فألحوا عليه في الكلام, "ولما استمروا يسألونه" ألقى سلاح الصمت جانباً, وصوب إليهم جواباً قاطعاً كالسيف, نافذاً كالسهم, كاشفاً كالنور, لاذعاً كالسوط, ملهباً كالنار . . "فانتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا

«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» 8ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ. 9وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا

بحجر". أمام هذا القول الفاحص وقعوا في الهوة التي حفروها بأيديهم.

عدد8. تتمة القضاء. ولكي يترك المسيح لضمائرهم مجالا لتحتج عليهم, عاد إلى صمته الأول: "ثم انحنى أيضا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض". ومن المهم أن نذكر أن المسيح لم يجبهم بهذا الجواب, من قبيل التحدي والإفحام وكفى, لكنه قدم بقوله هذا, مبدأ أساسيا للدينونة الحقيقية. لأنه لا يحق لشخص أن يجلس على كرسي الدينونة إلا المسيح الكامل الأوحد. بهذا الجواب أراهم المسيح أن سلطة القضاء قد ذهبت عنهم بسبب خطاياهم واستعبادهم للنير الأجنبي. على أن المسيح لم يقدم هذا الجواب باعتبار كونه ديانا, إنما قدمه باعتبار كونه مخلصاً ومعلما أدبياً, وروحياً. فكان جل قصده أن يحمل أولئك المشتكين على أن ينصرفوا عن مراقبة الناس, إلى إصلاح ذواتهم – هذا خير وأبقى. سيما وأنهم لم يكونوا قضاة بحكم وظيفتهم بل بحكم ادعائهم. بهذا القول أنقذ المسيح المرأة من الموت, من غير أن ينقض ناموس موسى, إذ عطل الأيادي المنفذة من غير أن يعطل الشريعة. أما احترامه لناموس موسى, فظاهر من قوله, "فليرمها أولا بحجر". وأما تعجيزه للأيادي المنقذة, فواضح من القول: "من كان منكم بلا خطية".

عدد 9. (أ) القضاة يدخلون قفص الاتهام: "وأما هم فلما سمعوا . . " في الفترة التي انحنى فيها المسيح ليكتب على الأرض, استراح أولئك الناس

وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ

من نظرات الفادي التي كانت مصوبة إليهم, لكنهم لم يستريحوا من تأنيب ضمائرهم. ومن العجب, أن ضمائرهم ظلت حية متيقظة رغم خطاياهم المنوعة التي كانوا عائشين فيها. فقد كنا نخشى, ومع تلك المرأة المسكينة, أنه بمجرد خروج آخر كلمة من فم المسيح, ينهال عليها أولئك الناس بالأحجار, ليبينوا بذلك أنهم بلا خطية, لكننا نحمد الله على وجود الضمير في قلب جميع الناس حتى المنحطين. فهو البقية الباقية من نور الله في قلب الإنسان بعد سقوطه. إن كلا منهم تطلع إلى الآخر منتظراً أن يكون هو البادىء برمي أول جحر, فخاب انتظارهم في بعضهم البعض, بعد أن خاب انتظارهم في أنفسهم. فلم يبق أمامهم إلا أن ينسلوا خارجين, مبتدئين من المعتبرين. وهنا أمسى القضاة متهمين, فتطوعوا بالدخول إلى قفص الاتهام فرداً فرداً, لأن الضمير يحاكمنا أفراداً لا جماعات. ولأن قضاءه يبتدىء من المتقدمين فالآخرين. كذلك قضاء الله العادل – فردي, ويبتدىء أولاً من بيت الله (1 بط4: 17). عجيب أن شيخوخة الشيوخ لم تنسهم خطاياهم, وأن نزق الشباب لم يدفعهم إلى الاقتحام. وربما خرج الشيوخ أولا لأن قائمة خطاياهم كانت قد طالت بطول أعمارهم.

إن كل خاطىء يحمل في قلبه أسداً رابضة, وعند أقل إشارة من الضمير, تثور هذه الأسد الضارية فتسلب الإنسان كل سلام واطمئنان.

(ب) الكامل الأوحد: "وبقي يسوع وحده والمرأة واقفا في الوسط"

وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ.

إننا نحتاج إلى ريشة ملائكية لتصوير إحساس تلك المرأة المسكينة, بعد أن وجدت نفسها أمام يسوع وحده. هنا التقت الإنسانية في أحط دركاتها – ممثلة في تلك المرأة الساقطة, بالإنسانية في أسمى درجاتها – ممثلة في المسيح. هنا تلاقى قلب الليل بصدر النهار. هنا شعرت المرأة أن غمامة سوداء قد أزيحت عنها ورأت نفسها وجها لوجه أمام "شمس البر". "يسوع وحده"- هذا هو الكامل الأوحد الذي لم يعرف خطية. فهو وحده الذي له الحق أن يرميها أولا بحجر, وهو وحده الذي لم يفعل ذلك. لأنه لم يأت ليدين بل ليخلص. إن أسرع الناس إلى الحكم على الناس, هم أحط الناس لا أشرفهم. وكلما ارتقى الإنسان على سلم الشرف صار أكثر عطفاً على الجهال والضالين. العين الشريرة ترى لتحكم. والعين الطاهرة ترى لتنصح وتصلح. القلب الدنس يفتش عن المعايب بمصباح ديوجين ليشهرها, والقلب الطهور يفتش عن المحاسن ليشجعها. يسوع وحده‍ هذا جبل تجل آخر رفعت عليه المرأة (قابل مت 17: 8). الآن وقد انصرف عنها الوحوش المتأنسة رأت نفسها أمام الله المتأنس.

الآن سكتت عنها أصوات المشتكين لكن لم يسكت عنها صوت الضمير. وذهب عنها حكم الناموس فبقى لها أن تسمع حكم النعمة.

"وقفت في الوسط"- في المكان الذي أوقفها فيه المشتكون, بل في المكان الذي أوقفتها فيه خطيتها, بل في المكان الذي ينبغي أن يقف فيه كل خاطئ أمام الله, ولولا أن أدركها المسيح بكلمة الغفران لظلت واقفة في ظلام وحدتها ووحشتها إلى الأبد.

10فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟» 11فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ.

عدد 10. استجواب النعمة "قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتمون عليك. أما دانك أحد"؟ كان في إمكان المسيح أن يرميها بحجر, وأن يوقع عليها أي قصاص, ليبرهن أنه هو بلا خطية, وليعلن تفوقه في السلطان على المشتكين. إلا أنه أظهر فعلاً هذا النفوق في السلطان, ولكن برحمة النعمة, لا برجمه الناموس. فإذا كان رجم المذنب يستلزم سلطان القاضي, فإن غفران الخطايا يستلزم سلطاناً أعظم – سلطان الله نفسه, لأن غفران الخطايا, حق لله وحده.

سأل المسيح هذين السؤالين لكي يعيد إلى المرأة المسكينة اطمئنانها, ولكي يفهم الموجودين من الجمع – وهم غير المشتكين – أن القضية سقطت, لأن المشتكين انسحبوا من الجلسة. فلا مدع ولا شاهد.

عدد 11. حكمة النعمة. "فقال لها يسوع ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضا". في جواب المسيح هنا, نرى رحمة, فتبريراً, فقضاء. أما الرحمة فظاهرة من القول: "ولا أنا أدينك". إذا كان الذين أجلسوا أنفسهم على كراسي الدينونة قد تنازلوا عن الدينونة, فهل يدينها الفادي الذي جاء ليخلص (يو 3: 17)؟ تذكرنا هذه الكلمة بما جاء في رومية 8: 34 "من هو ليخلص الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات". أما التبرير فواضح من قوله: "اذهبي".

اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».

ولا يبرحن عن أذهاننا أن البراءة شيء والتبرير شيء آخر. فالبراءة إعلان برارة البار. لكن التبرير هو حسبان المذنب كأنه بار ومسامحته على ذنبه. لم يقل المسيح للمرأة: "اذهبي بسلام", كما قال لغيرها (لوقا 7: 50, 8: 48), ذلك لأنها لم تأت طائعة مختارة طالبة الغفران, لكن غيرها قد أتى بها. إنما هذه هي هبة الغفران قدمت لها, ولها الحق أن تقبلها أو أن ترفضها. هذا باب جديد للرجاء, لها أن تدخله أو أن تتحول عنه. فلن يكون السلام من نصيبها حتى تدخل إلى فردوس الغفران وتتمتع بلذيذ ثماره. وأما القضاء, فظاهر من قوله: "لاتخطئي أيضا". نعم هذا قضاء, بل دينونة – ولكن على الخطية, لا على المرأة. فالمسيح برر المرأة. ودان خطيتها. وهو لم يدن تلك الخطية الخاصة التي وقعت فيها وكفى, لكنه دان الخطية بوجه عام. فقد عالج شجرة الخطية من جذعها, لا من أحد فروعها.

يخطئ من يعتقد أن المسيح تساهل معها في خطيتها. ذلك لأنه لم يتجاهل خطيتها. بل ذكرها بها, ولكن بلطف. إذ قال لها: "لاتخطئي أيضاً".

علم الفادي أن أكبر عقبة في سبيل تلك المرأة, هي خطيتها. فلو بقيت عائشة تحت سحابة خطيتها, لانغمست في الشر, وعاشت فيه محترفة. لذلك رأى الفادي أن أعظم علاج لها, أن يقطع كل صلة تربطها بالماضي, وأن خير علاج يقطع صلتها بالماضي هو الغفران. فلم يرد المخلص أن يتركها فريسة الماضي الأسود, بل جعلها ابنة المستقبل المنير.

 

  • عدد الزيارات: 4071