التبني
نرى هذين العددين - أ- حقيقة التبني. "عيننا للتبني". - ب - الوقت الذي فيه تبنانا الله: "سبق فعيننا" - جـ - وسيط التبني: "بيسوع المسيح" - د - علة التبني: "حسب مسرة مشيئته". - هـ - غاية التبني: "لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب".
أ- حقيقة التبني: "إذ سبق فعيننا للتبني لنفسه".
التبني في اصطلاح علماء اللاهوت "هو فعل نعمة الله المجانية, الذي به يُقبل في عداد بني الله فيصير لنا حق في جميع أنعامهم". وكلمة "تبنّ" يُراد بها اتخاذ شخص ابناً, ومعاملته كذلك. فالمتبنون ليسوا أبناء بالطبيعة, لكنهم محسوبون كذلك, لا لشيء صالح فيهم, ولا لفضل يُنتظر منهم, بل لمجرد نعمة الله المجانية. فقد ينفق لأحد الموسرين أن يزور أحد ملاجئ اليتامى أو اللقطاء, فيعجب بذكاء أحد الأولاد, ويكون الزائر بلا ولد, فيتخذ ذلك اليتيم ابناً له. ولكن اله قد تفضل كرماً منه, فتبنانا لنفسه, ونحن نجسون لا شيء فينا يدعو إلى الإعجاب والحب, فضلاً عن ذلك, فإن الله لم يعوزه أبناء, إذ كان يكفيه أن يتمتع بالمسيح ابن محبته الأوحد, "وكنا نحن بالطبيعة أبناء الغضب - لا أبناء المحبة- كالباقين أيضاً", لكن الله حسبنا أبناء له تعالى. هذا هو تبني النعمة. وهو يختلف عن التبني العام, في أن الثاني يُراد به حسبان جميع البشر أبناء الله, باعتبار كونه خالقهم وحافظهم. لكن "تبني النعمة" يُراد به اختيار الله بعضاً من الناس ليكونوا أبناءه, بنوع خاص يمتاز عن بنوة البشر العامة. وفي الوقت نفسه لا نبلغ مرتبة بنوة المسيح لله, لأن بنوتنا اكتسابية بالحسبان, لكن بنوة المسيح حق جوهري وصلة أزلية.
هذا هو التبني, الذي ظل فكرة غامضة مبهمة في العهد القديم, فأراق عليه تجسد المسيح نوراً سماوياً ساطعاً, أرانا فيه امتيازاً مجيداً يتمتع به الفرد نتيجة إيمانه بالمسيح (غلاطية3: 26, 4: 4 و5, يوحنا1: 12 و13), بعد أن كان حقاً مشاعاً على الأمة اليهودية (مزمور103: 13, هوشع11: 1). "لنفسه"- هنا يلتقي طرفا درج التبني- فباعثه ونشأته من قلب الله, ومآله إليه تعالى.
- ب – الوقت الذي فيه تبنانا الله: "إذ سبق فعيننا للتبني". معروفة لدى الله منذ الأزل, كل أعماله. فالمستقبل ماثل أمامه كالماضي, والحاضر. فمن هذا القبيل ليس في أعمال الله سابق ولا لاحق, ولكن في لغة المنطق, أو بالحري في عرف اللغة التي يحاول العقل أن يفهم بها شيئاً عن أعمال الله, قد عرَّفنا الرسول أن التبني سابق للاختيار لأن قوله "إذ سبق" عائد على قوله "اختارنا فيه" فالله سبحانه وتعالى, أحبنا أولاً, ثم عيننا للتبني, ومن ثمّ اختارنا ليحقق فينا هذا القصد المجيد كل هذا قد دبره الله قبل تأسيس العالم (رومية8: 29).
في العدد السابق استعمل الرسول كلمة: "اختارنا", وفي هذا العدد استعمل كلمة: "عيّننا- وهما تعبيران إلهيّان لحق واحد. والفرق بينهما- على الغالب- هو أن أولاهما: "اختارنا" تشير ضمناً إلى معدن الخطأ الذي انتقانا الله منه, وثانيهما: "عيّننا" تشير إلى الامتياز الذي رفعنا الله إليه فالأولى ترجع بنا ضمناً إلى "المنجم" الذي أخذنا الله منه. والثانية تشير إلى المقام الذي وضعنا الله فيه. الأولى تشير إلى الأشخاص, والثانية تشير إلى الغاية التي اختيروا لها. وما دمنا أولاد لله, فكل ما لله لنا. وجميع الأشياء تعمل معاً لخيرنا. والثقة المتبادلة بيننا وبينه من نصيبنا. والهداية والإرشاد من حقنا. ومجد الخلود, وخلود المجد, لنا.
- جـ - وسيط التبني: "بيسوع المسيح". في المسيح اختارنا الله, وبه عيّننا للتبني. فهو وسيط الاختيار ووسيط التبني. فيه رآنا الله قبل أن نخلق, فأحبنا. وبه تبنانا لنفسه. وقد تم لنا هذا الامتياز بواسطة تجسد المسيح وموته على الصليب, وكما أن المسيح هو الوسيط الذي به تبنانا الله. فهو أيضاً الوسيط الذي به نتمتع بهذا الامتياز, بإيماننا باسمه (يوحنا1: 12 وغلاطية3: 26).
- د – باعث التبني: "حسب مسرة مشيئته". إن هذه العبارة عائدة إلى ما قبلها إلى بدء العدد الرابع: "كما اختارنا فيه". فهي تصف الباعث الإلهي للاختيار والتبني معاً. وقد وردت في الكتاب المقدس بمعنيين: أولهما: سلطان الله المطلق الذي به يدبر كل ما يحسن في عينيه, بعيداً عن كل مؤثر أو دافع, أو باعث خارجي, ومن غير أن يكون في حاجة إلى تقديم حساب من أعماله, بدليل ما جاء في متى11: 26 ولوقا10: 21. والمعنى الثاني يشير إلى رضى الله ونعمته, وتعطفه المتفاضل على أبنائه, وإرادته الصالحة المرضية الكاملة نحوهم. هذا, في الغالب, هو المعنى الذي أراده الرسول هنا, وفي سائر كتاباته (رومية12: 2). فالاختيار ينطوي على محض مسرة الله التي أظهرها نحو شعبه, فلا يداخله شيء من غضب الله على غير المؤمنين لأن الاختيار هو علة خلاص المؤمنين, لكنه ليس علة رفض الغير المؤمنين. فإذا حق للمختارين أن يفرحوا به وأن يشكروا الله عليه, فلا حق لغير المخلصين أن يتذمروا أو يشكوا منه لأنه ليس علة هلاكهم وإنما العلة هي عدم إيمانهم.
6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ،
- هـ - غاية التبني: "لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب".
هنا تتجاوب الغاية النهائية مع العلة الأساسية. فالعلة الأساسية هي "مسرة مشيئته", والغاية النهائية هي: "مدح مجد هذه النعمة".
إن نعمة الله, مجانية في أساسها. فليس لها من دافع سوى نفسها, فلا تستدرّها الدموع, ولا تستعطفها الأنات, إلا إذا كانت حرارة الفتيلة المدخنة تضيف شيئاً إلى حرارة الشمس, وهي مجانية في طريق الحصول عليها, فلا الذهب يشتريها. ولا الحسنات تحييها, ولا الصلوات تغذيها, فهب منبت الحسنات. ومبعث الصلوات, وهي مجانية في غايتها, لأنها لا تنتظر من المنعم عليهم أجراً ولا شكوراً.
يحدثنا هذا العدد عن ثلاث حقائق متعلقة بالنعمة (1) مجد النعمة. (2) مدح مجد النعمة. (3) وسيط النعمة:
"مجد النعمة". بما ان هذه النعمة منحدرة على البشر من علوّ شاهق,
وصادرة عن الله ذي الجلال والإكرام والمجد, فهي إذاً نعمة ذات مجد, لأنها مشتقة من غنى الله في المجد, ولأنها ترفع المتمتعين بها إلى ذُرى المجد- فهي كالمياه, ترتقي إلى المستوى الذي منه نبعت, وهي ذات مجد لأنها مظهر كمال الله الممجد, ومجلى صلاحه المطلق, ومجتمع صفاته القدسية المجيدة, فمجد النعمة هو كمالها, وفيضها, ومجانيتها, وتنازلها, وسموّها. فكما أن مجد الله هو التناسق المتكون من مجتمع صفاته, كذلك مجد النعمة هو التناسق المتكوّن من مجتمع كل مزاياها.
(2) "مدح مجد نعمته" إن الهوة السحيقة التي هوى إليها البشر, قدّمت مجالاً متسعاً لإعلان مجد نعمة الله, وإعلائه. فمع أن مجد نعمة الله عال, وسام في ذاته, سواء أخُلق البشر وافتُدوا أم لم يخلقوا ويفتدوا, إلا أن لوحة خطايا البشر السوداء, كانت أداة لإظهار مجد نعمة الله, وإعلائه وإعلانه للرؤساء والسلاطين في السماويات والأرضين. فلو كان البشر أطهاراً في أنفسهم, أو كان لهم أقل يد في تخليص ذواتهم, لنقص جمال مجد نعمة الله. فمجد نعمة الله, ظاهر في مجانيتها وفي المسافة الشاسعة التي قطعتها النعمة في تنازلها من السماء إلى أركان الأرض السفلى, وفي رفع الخطاة من مهاوي الفساد إلى أوج المجد ومدح مجد هذه النعمة, هو إظهار هذا المجد, وشكر الله عليه, والتغني به, ليعرفه كل دان وقاص "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله, متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" (رومية3: 23 و24), ".... لكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد... التي أيضاً دعانا إليها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضاً (رومية9: 23 و24).
- عدد الزيارات: 7611