الحكمة والفطنة
أعداد 8 و 9 و 10
في هذه الأعداد ذكر الرسول الحلقة الرابعة في سلسلة البركات الإلهية الموهوبة للمؤمنين- الحكمة والفطنة. فأشار إلى هاتين البركتين, إشارة مجملة في عدد 7, ثم فصلها في الأعداد 8- 10, فذكر المعلنات الإلهية التي كفلتها لنا الحكمة والفطنة الموهوبتان لنا من إله النعم والعطايا ومن فرط غنى الله, وحكمته, ونعمته, أنه لم يكتفِ بأن أنعم علينا بالفداء حسب غنى نعمته, بل أفاض علينا نعمته, وأردفها بفضيلتين ناجمتين عنها: الحكمة والفطنة.
8ﭐلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، 9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ
وقد حرص الرسول على أن يرينا غنى هاتين الهبتين فقال: "كل حكمة وفطنة" – فالله قد وهبنا هاتين النعمتين بأعلى قياس. هذا دليل آخر على غنى نعمته, وفيض سخائه, إذ أفاض علينا كل حكمة وفطنة. بل هذا برهان حكمته المتعالية, لأنه لم يقتصر على أن يهبنا نعمة الفداء, بل وهبنا مع الفداء كل حكمة وفطنة, لنميز بركات الفداء, ونقدّرها حق قدرها, فنستمتع بها ونشكر الله عليها, وإلا فما قيمة اللآلىء والجواهر في نظر غِرّ جهول لا يعرف قدرها؟ وفي إمكاننا أن تتحقق شدة لزوم هاتين الهبتين- "الحكمة والفطنة", متى ذكرنا أن بين الذين يكتب إليهم بولس, قوماً هم عبيد وخدم (6: 5-9). ومع أنه من الجائز أن نفسر هاتين الكلمتين على اعتبار أنهما صفتان للإله لمعطي, كما ارتأى بعض المفسرين, إلا أنهما نعمتان موهوبتان للإنسان المعطى, فالحكمة (فرونيزيس) هي القدرة التي بها ندرك مقاصد الله المعلنة في إنجيله الطاهر, ونميز بركات الفداء. والفطنة (صوفيا) هي الشعور الباطني الذي به نتمتع بما تدركه الحكمة.
الحكمة لغةً, هي العلم بحقائق الأشياء_ وهي عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل الوسائل- وضدها الجهالة.
والفطنة هي الحذق والفهم. وقد تُفسر بجودة تهيؤ النفس لتصوُّر ما يرد عليها من الغير- وتقابلها الغباوة.
فإذا كانت الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء, فالفطنة هي تذوّق ثمرة العلم.
وإذا كانت الحكمة هي الوصول إلى أفضل الغايات بأفضل الوسائل.
فالفطنة هي الحيطة والاتزان والتدبر في استعمال هذه الوسائل.
الحكمة هي إحدى ملكات العقل والإدراك بها نحاط علماً بالأشياء.
والفطنة تتعلق بالفهم والتمييز, بها نقارن بين الغث والسمين فنتخير السمين ونوجهه أحسن اتجاه في حياتنا.
إن الحكمة التي يعنيها الرسول في هذا الباب, تختلف عن الحكمة الكلامية التي وبخ الكورنثيين عليها. هذه حكمة "أسرار" عملية, مشبعة, ومروية, وتلك حكمة مماحكات سفسطية لا تشبع إلا لتجيع ولا تروي إلا لتعطش. هذه حكمة الجهلاء الحكماء (مت 11: 25 ), وتلك حكمة الحكماء الجهلاء (كولوسي 2: 4و8). إن خير سلاح نصرع به كبرياء المعرفة العقلية, ليس الجهالة الفكرية, بل الحكمة القلبية.
فنعمة الله تعزي القلب, وتغذي العقل, وتنير الضمير, وتشحذ العزيمة, وتقوي الإرادة.
-ب- مشتملات الحكمة والفطنة: "إذ عرفنا ... "
في هذه الأعداد (8 و 9و10), فصَّل الرسول ما سبق فأجمله في العدد السابع, فذكر "سر" الفداء الذي كان مكتوماً منذ الدهور, إلى أن جاء الوقت المعين لإذاعته, ومن ثمَّ أعلن لنا تجسيد المسيح الذي سرّ الآب أن "يجمع فيه كل شئ- ما في السموات وما على الأرض ".
إن كلمة "سر" كما وردت في العهد الجديد تحمل معنى غير الذي تحمله الآن. فهي
بحسب الاستعمال الحاضر, تعني الأشياء التي نعجز عن فهمها حتى بعدما نحاط علماً بها_ مثال ذلك: "ميلاد المسيح من عذراء", و"اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح","وكون الله ثلاثة أقانيم في إله واحد, والهاً واحداً في ثلاثة أقانيم" و لكن كلمة "سر" في هذا العدد, تعني الخبر المكتوم في الصدر إلى أن يجئ وقت الإفصاح عنه, ومن ثم يصبح العلم به في حيّز الإمكان فهي تعني "المجهول" الذي يصير معلوماً بإذاعته, وإنه علا, وكشفه(رؤ 1: 20,17: 7, متى 13: 11). وفي الغالب استقى بولس الرسول كلمة "سر" من مصادر يهودية كسفر دانيال ومن الملاحظ أن البقية الباقية من السفر التاريخي القديم, المعروف بسفر أخنوخ- وهو أحد الأسفار غير القانونية- يكثر فيه ورود كلمة "السر" الإلهي الذي أحيط به البشر علماً.
ومن المحتمل, أن بعض الهيئات اليونانية التي كان لبعض أعضاء كنيسة أفسس علاقة بها, قبل إيمانهم, كانت تحتفظ"بأسرار"لها, فلا تفضي بها إلا لأخصاء من تابعيها, يكونون حائزين على اختبارات معينة, ومن المحتمل أن بولس كان يخاطب أمثال هؤلاء القوم بلغتهم, مظهراً لهم أن المسيحية ليست خالية من" الأسرار", لكنها عامرة بالأسرار الشريفة, الراقية الإلهية, التي أعلنت للبشر بتجسد "الكلمة" الحي.
أما هذا "السر" الإلهي, الذي أعلن لنا بتجسد المسيح فهو سر مشيئة الله في الفداء وفي العناية, إذ"قصد أن يجمع كل شئ في المسيح في ملء الأزمنة". فموضوع الحكمة والفطنة إذاً هو معرفة مشيئة الله. ومن أوصاف هذه المشيئة-1- أنها صالحة ومرضية, مفعمة رحمة وسعادة وهناء للبشرية, لذلك قال فيها الرسول:"حسب مسرة مشيئته". وهي أيضاً مشيئة مستقلة منبعثة من قلب الله مباشرة, غير خاضعة لمشورات ولا لمؤثرات خارجة عنه, لأنه قصدها "في نفسه", أي"في فكره, وفي أعماق قلبه".
ويفضل بعض ثقات المفسرين أن يفسر كلمة"فيه" على اعتبار أن قصد الله تم في المسيح المتجسد والمصلوب, والمقام, والممجد, الذي فيه يجتمع كل شئ (أفسس 1: 11 و
رومية 8: 28, 9: 11, 2تي 1: 9).
عدد 10: (2) إن قصد هذه المشيئة- أو بالحري, مشيئة هذه المشيئة- هو إن"يجمع الله كل شئ في المسيح ما في السموات وما على الأرض". وقد عبر الرسول عن هذا القصد بكلمات أخرى إذ قال: "تدبير ملء الأزمنة". إن أفضل تفسير لهذه العبارة الأخيرة, هو ما جاء في ص3 : 8-11 من هذه الرسالة عينها: "لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى. وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور, في خالق الله الجميع بيسوع المسيح لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة. حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا".
"تدبير ملء الأزمنة"- هذه أول مرة نلتقي فيها بكلمة: "تدبير" في هذه الرسالة. وهي من مميزات كتابات بولس الرسول. وقد وردت خمس مرات في العهد الجديد: "لهذه الأمة مصالح بتدبيرك" (أعمال 24: 3), "لا تصنعوا تدبيراً للجسد" (رومية 13: 14), "لتدبير ملء الأزمنة" (أفسس 1: 10), "سمعتم بتدبير نعمة الله" (أفسس 3: 2), "حسب تدبير الله المعطى لي" (كولوسي 1: 25). والكلمة في معناها النهائي تنطوي على الحكمة, والاقتصاد, والعناية, وبعد النظر. وقد استعملت ابتدائياً- في اليونانية والعربية- للتدبير المنزلي. ثم عُمّمت لتشير إلى تدبير الكنيسة. لذلك وصفت بها طغمة خاصة من خدام الكنيسة- "الشيوخ المدبرون حسناً" (1 تي 5: 17, 1 كو 12: 28).
ويعتقد الدكتور مواليه, أنها تعني "وكالة" أو "توكيل". أي أن يسوع المسيح هو الوكيل الأعلى لبيت الله الذي هو كنيسته تعالى, وقد وضعت في يديه مقاليد جميع شؤون الكنيسة والكون. وفي ملء الأزمنة يكون كل شيء وكل شخص مركزاً فيه, ويكون هو رأساً ورئيساً لكل ما في السموات وما على الأرض. والمستفاد من كلمة "ملء الأزمنة". أنَّ سياسة الله للكون- في دائرة الفداء وفي دائرة العناية- تسير على نظام تدريجي متناسق, فلا تُكتمل إلا في عصور متعاقبة, وأدوار متوالية: فالتجسيد تم في ملء زمن آخر معين (غلاطية 4: 4), وكذلك استقر الروح القدس في الكنيسة في ملء زمن آخر معين, وستتم الكرازة بالإنجيل في ملء زمن آخر معين. ومن ثم ننتقل من ملء "أزمنة النعمة" تدريجياً إلى ملء "أزمنة المجد". وفي هذا إشارة ضمنية إلى ما جاء في سفر دانيال: "زمان وزمانين ونصف زمان (دانيال 12: 7). أو بعبارة أخرى: أن الآب دبر أن يكون الابن سيداً, ورأساً, ومدبراً, ومديراً لكل شيء في عصور النعمة المتعاقبة, التي ستُتوج وتختم بعصر المجد. فالمجد هو النعمة في نضوجها وإثمارها, والنعمة هي المجد في بدايته وأزهاره.أما ماهية هذا التدبير فقد أوضحها الرسول فيما يلي. والأزمنة المقصودة في هذه القرينة هي تلك المدة الممتدة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني.
"ليجمع كل شيء في المسيح ...." هذه العبارة بدلٌ لما قبلها, ومفسرة لها: "تدبير ملء الأزمنة". "ليجمع"- هذه كلمة حسابية. فالجمع هو "ضمّ" أشياء متفرقة, وربطها بعضها ببعض لتكون على نسق واحد, تحت رأس واحد- هذا هو القصد النهائي في الفداء: "أن يجمع الله كل شيء في المسيح". فمع أن الفداء في فعله الابتدائي يُقصد به خلاص المؤمنين, إلا أنه في معناه الكمالي. وفي بلوغه, يتناول جميع الأشياء- "ما في السماء وما على الأرض" فتتوحد كلها تحت سلطان ابن الإنسان المطلق. هذه هي النصرة النهائية التي أوضحها الرسول في رسالة أخرى معاصرة لهذه الرسالة. "لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فيلبي 2: 11).
إن قوله: "كل شيء...ما في السموات وما على الأرض" يعني طبقات مختلفة من الخلائق- من الملائكة المختارين (1 تي : 21) إلى أبناء الله المؤمنين المتفرقين مذاهب وجماعات في أنحاء المعمورة, في كل عصر ومصر (يوحنا 11: 52), إلى جميع الخلائق الحية الناطقة, إلى الخلائق الغير الناطقة التي شاطرت الإنسان آلام السقوط, لتشاطره شيئاً من حرية المجد (رومية 8: 21). فتخضع كلها تحت سلطان المسيح: "الذي قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له" (1 بط 3: 22), "الذي هو رأس كل رياسة وسلطان" (كولوسي 2: 10).
ويميل بعض المفسرين أمثال يوحنا الذهبي الفم, وموليه, إلى حصر هذه العبارة في المؤمنين من البشر, وفي الملائكة المختارين. ولكن الترجمة العربية تؤيد ما ذهب إليه فريق كبير من المفسرين كما أسلفنا- بدليل قول الرسول: "كل شيء" لا "كل شخص". "وما في السموات وما على الأرض", لا "من في السموات ومن على الأرض".
كما أن الأرض هي المركز الرئيسي للنظام الشمسي بأسره, كذلك "يسوع المسيح" شمس البر هو الرأس الذي "فيه" يجتمع كل ما في السموات وما على الأرض (كو 1: 16). "فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض, ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم رياسات أم سيادات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق".
ومن الملاحظة, أن كلمة "المسيح" كما وردت في الأصل, متصلة بأداة التعريف. فيراد بها إذاً- المسيح في وظيفته الفدائية.
- عدد الزيارات: 10192