مجد الرأس والجسد - الأصحاح الثاني
في نهاية الأصحاح الماضي, رأينا المسيح مَلكاً مُقاماً مرفوعاً, ممجداً, متسلطاً على كل القوات الملائكية وغير الملائكية, في السماويات, مالئاً كنيسته بحياته وشخصه, منفّذاً بها مشيئته, ومعلناً بواسطتها جلال مجد نعمته, ومالئاً كلّ الكون بجلال حضرته, وسلطان قوته. فهو مركز الدائرة في الكون بأسره "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته". هو علة "كل ما هو حق, وجليل, وعادل, وطاهر, ومسر" في الكون. هو حياة الكل وكل الحياة!
على أن رسول الأمم, لم يكتفي بتبيان المجد الذي ناله المسيح رأسنا ورئيسنا الأعلى, بل أظهر أن المجد الذي تكلل به "الرأس" هو عين المجد الذي صار من نصيب "الجسد"-والقياس مع الفارق. لأن الجسد يشاطر الرأس آلامه وآماله. وما جسد المسيح إلا جماعة المؤمنين المفديين في كل أُُُمة, وفي كل جيل. فكما أُقيم المسيحُ بعد أن مات عن الخطية, كذلك أقمنا نحن أيضاً معه بعد أن كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا, وكما أُُُُجلس المسيح على عرش المجد, كذلك أُُُجلسنا نحن أيضاً معه في السماوات. فعمل شدة قوة الله الذي عمله في المسيح, قد عمله أيضاً, في المؤمنين به من اليهود-وبولس الرسول واحد منهم-ومن الأمم, هؤلاء هم المعنيُّون بقوله: "...وأنتم". هذه هي عظمة قدرة الله الفائقة التي يريدهم الرسول أن يعرفوها (1: 19).
فلنستقبل هذا الفصل الجديد بروح الخشوع والتعبد. لأن الرسول لم يكتب هذه الحقائق بقلم جاف, كما لو كان محاضراً, بل كتبها بمحلول من ذوب قلبه, لأنه في كتابته كان متعبداً, ومخبراً بحقائق جليلة سامية, تمس المؤمن في تاريخه الماضي, وحالته الحاضرة, وحياته العتيدة.
في الأصحاح الأول تكلم الرسول عن دعوة الله العليا التي قصدها بالكنيسة, وعن الأمجاد العلوية التي رُفع إليها رأس الكنيسة-فكان بذلك متكلماً عن عمل شدة قوة الله في علوه. وفي هذا الأصحاح الثاني رغب الرسول إلى المؤمنين أن يلقوا نظرةً إلى "النقرة" التي منها أخذوا, بل إلى المقبرة التي منها أُقيموا ورفعوا-فكان بهذا متكلماً عن عمل شدة قوة الله في عمقه. لذا وجه الخطاب أولاً إلى الأمم بقوله: "إذ كنتم أمواتاً". ولئلا يلتبس الأمر على الأمم فيظنوا أنهم هم الموتى دون سواهم, أزال الرسول عنهم هذا اللبس, فقرر أن اليهود, بلا استثناء-بما فيهم الرسول نفسه- يشاطرون الأمم هذا الماضي المظلم, فقال في بدء العدد الثالث... نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا... وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين" -أي الأمم- "أيضاً". إن هذا الاستدراك شبيه بذاك الذي مررنا به في العدد الثالث عشر من الأصحاح الأول. ولكنهما يختلفان في هذا: في الأصحاح الأول تكلم الرسول عما نال اليهود من بركات في المسيح (1: 11). ولئلا يظن الأمم أن اليهود هم وحدهم أصحاب هذه المزايا, أزاح عنهم هذا الظن بقوله: "الذي فيه أنتم أيضاً" -أيها الأمم- "...إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس". لكنه في الأصحاح الثاني تكلم عن "المقبرة" المظلمة التي أُقيم منها الأمم, ولئلا يتوهموا أن الرسول أراد أن يذكرهم دون سواهم بماضيهم المظلم, أزال عنهم هذا الوهم بقوله في العدد الثالث: "الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم" –أي لستم أنتم وحدكم أصحاب الماضي التعيس الغير المشرّف, بل نحن أيضاً "كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين".
ومن الملاحظ أن الرسول - من فرط المعلنات المسلمة له - كثيراً ما عرّج في سياق كلامه على بعض العبارات ليزيد المعنى إيضاحاً.
وما قصد بولس بتوجيه التفات الأمم واليهود معاً, إلى حالتهم الطبيعية الساقطة, إلا ليرفع أنظارهم إلى أمجاد الحالة الراقية التي رفعتهم إليها النعمة الإلهية. فيحق لنا أن نلقب هذا الفصل ب "معجزة النعمة" -أو "من الطبيعة إلى النعمة"- أو "ما كنا عليه بالطبيعة, وما صرنا عليه بالنعمة" وعلة العلل في هذا الفارق العظيم ما بين ماضينا ومستقبلنا – "الله"! (2: 4) أما قصده في كل هذا, فهو إظهار "غنى نعمته الفائقة باللطف علينا في المسيح يسوع" (2: 7). هذا ملتقى الأصحاح الأول, بالأصحاح الثاني من هذه الرسالة: في العدد السادس من الأصحاح الأول, نجد القول: "لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب". وفي العدد السابع من الأصحاح الثاني, نجد القول: "ليظهر غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع". وكل قول منهما مواز للآخر ومكمل له, ومفسر.
هذا الأصحاح يماشي الأصحاح الأول من سفر التكوين –هذا يتكلم عن الخليقة الثانية وذاك عن الخليقة الأولى.
- عدد الزيارات: 3592