Skip to main content

بولس مبشر بالإنجيل

 (3: 8):

8 لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى،

في هذا العدد, ذكر الرسول أربع حقائق: -أ-مقامه: "أنا أصغر جميع القديسين" –ب-مؤهلاته: "لي أعطيت هذه النعمة" –ج-مهمته: "أن أبشر بين الأمم" –د-رسالته: "غنى المسيح الذي لا يُستقصى".

-أ-مقامه: "أنا أصغر جميع القديسين". هذه العبارة متممة لما قبلها. في بدء العدد السابق صدرت من الرسول إشارة عن نفسه إذ قال "الذي صرت أنا...". فمرّ بكلمة "أنا" مرور الكرام على غير عادته. لأن بولس الكريم على غيره, بخيل على نفسه –إلا بألقاب التحقير والمذلة, فلم يسعه إلا أن يعود إلى "أنا" ليعطيها حقها الواجب, فعلقها على الصليب ليرفع المسيح على عرش القلب والحياة! فإلى كل من يداخله في نفسه شكّ من جهة وداعة بولس وتواضعه, وإلى كل من أساء فهم كلام بولس عندما سمعه يتحدث عن نعمة الله التي أوحت إليه بالسرّ الذي خفي عن غيره إلى هؤلاء ومن على شاكلتهم نسوق الحديث راجين منهم أن يقرأوا: الكلمات الآتية بإمعان: "لي أنا أصغر جميع القديسين" –مع العلم أن كلمة "قديسي" لا تعني تلك الطغمة الخاصة التي رفعتها بعض السلطات البشرية إلى مراتب الأملاك, وسمت بها إلى ما فوق الأفلاك, ولكنها تضمّ بين جوانبها أضعف المؤمنين بالمسيح, وأحقرهم شأناً, وأدناهم مقاماً, ممن تساورهم الهواجس أحياناً, وتعصف بهم الضعفات ألواناً. ومع كلّ, فإن بولس, أصغر جميع هؤلاء الأصاغر- ولكن في عيني نفسه فقط! لا في نظر الله ولا في عيون المنصفين من البشر. وغير خافٍ أن الرجل الأممي الذي قال عن نفسه: "لستُ مستحقاً" (لوقا 7: 6). وقال فيه المنصفون من البشر: "إنه مستحق" (لوقا 7: 4) قال فيه المسيح ربّ المجد: "لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا" (لوقا 7: 9) وجدير بالملاحظة أن الكلمة اليونانية المترجمة "أصغر" تعني حرفياً: "أصغر الأصغرين"- فلا مجال فيها لمزيد من التواضع.

ثلاث مرات وضع بولس تقديراً لنفسه بالنسبة إلى الآخرين –وفي كل مرة كان ينقص تقديره لنفسه عن المرة السابقة لها, مما يدل على أن بولس كان متصاعداً صعوداً متوالياً على سُلم النعمة. وكلما سما الإنسان في درجات النعمة والقداسة, هبطت نفسه في عينيه, فأضحت لا شيء.

في المرة الأولى –عام 59 م قال: "إني أصغر الرسل" (1كو 15: 9)

وفي الثانية –عام 64 م قال: "أنا أصغر جميع القديسين" (أفسس 3: 7)

وفي الثالثة –عام 65 م قال: "أنا أول الخطاة" (1تي 1: 15)

من هذا نرى أن تلك الأنانية النفسانية المعبر عنها بكلمة "أنا" كانت تصغر في عينيه تدريجاً. في البداءة قابلها بالرسل, فإذا هي أصغر منهم. ثم قابلها بالقديسين, فإذا هي أحقر منهم. أخيراً لم يجد بداً من مقابلتها بالخطاة فإذا هي في مقدمتهم!! طوباك يا بولس لأنك كلما صغرت في عيني نفسك عظمت في نظرنا –ولكن ماذا يهمك من نظرنا نحن الخطاة! فأنت أعظم في نظر الملائكة. ولكن ماذا يعنيك من الملائكة وهم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص؟ لا بل أنت عظيم في نظر الله وكفى بالله شهيداً!!

ليس من الضروري أن تكون هذه العبارات الثلاث: "أصغر الرسل", و"أصغر جميع القديسين" و"أول الخطاة" معبرة عن ثلاث درجات متتابعة قد ارتقاها بولس في سلم الوداعة, فقد تكون ثلاثة تعبيرات متفاوتة لحقيقة واحدة.

تعوّد يوحنا الذهبي الفم أن يقول "يا رب احمل نفسي على التواضع واحفظها في هذا المستوى دواماً".

-ب-مؤهلاته: "لي... أعطيت هذه النعمة". هذا توكيد لما جاء في العدد الثاني من هذا الأصحاح. حسناً أُطلق على بولس لقب: "رسول النعمة". فبالنعمة نال الخلاص (1تي 1: 14), وبالنعمة دُعي للخدمة (غلاطية 1: 15), وبالنعمة بلغ ما هو عليه (1كو 15: 10) وبالنعمة تأهب للكرازة وقام بها (أفسس 3: 8), وبالنعمة "جاهد وتعب" (1كو 15: 11)

-ج-مهمته: "أن أبشر بين الأمم". جميل بالرسول أن يفخر بكونه "مبشراً". فهلاّ علم "المبشرون" أنهم رسل حاملون البشرى الطيبة المفرحة! "فما أجمل على الجبال قدمي المبشر" –ولكن على شرط أن يكون المبشر مرتقياً, وعائشاً, وسالكاً على جبال القداسة والشركة مع الله, فمن شواهق الجبال يأتيه العون.

إذا كان المنفرون الذين ينفخون في بوق النزاع والشقاق, يرفعون عيونهم إلى الجبال الأرضية الشاهقة, فما أحرى بالمبشرين بغنى المسيح الذي لا يستقصى, أن يرفعوا عيونهم إلى الجبال السماوية لينتظروا العون من رب البشارة. وإذا كان المنادون بأشياء تافهة ذاهبة, لا يستحون ببضاعتهم, فأجمل بحاملي غنى المسيح الذي لا يستقصى, أن يفتخروا بهذه الكنوز التي تصغر دونها أفخر كنوز الذهب.

إن كلمة "أبشر" تعني حمل الخبر المفرح وإذاعته. أليس المستفاد ضمناً من هذا, أن العالم في حزن عميق, بسبب ظلام الخطية, وجروحها الدامية, وطعناتها المميتة! هذه هي الحال التي كان عليها الأمميون قبل أن تصلهم رسالة الإنجيل, فكانوا واليهود سواء بسواء في الحالة الروحية.

-د-رسالته –أو- موضوع بشارته: "غنى المسيح الذي لا يُستقصى". ما أغناك يا بولس وأنت حامل غنى المسيح الذي لا يُستقصى! بل ما أقواك لأنك قدرت أن تحمل "غنى المسيح الذي لا يُستقصى"!  أشبه الرسول في هذا الموقف, بشخص كان يبحث عن لآلئ ثمينة, وبعد الجهد الجهيد, اهتدى إلى كنز ملئ باللآلئ الدريّة, والجواهر الكريمة. فما كاد يرى جانباً من هذا الكنز حتى تفتحت أمامه جوانب عدّة رأى فيها أكداساً من الجواهر, وأهراء من اللآلئ, فبُهر من فرط جمالها وضيائها, وأُخذ من وفرة عددها وفيض غناها, فخرج منادياً لكل من لاقاه: "غنى لا يُستقصى"!! "غنى لا يُستقصى"!. بل ما أشبهه بعالم مستكشفٍ مضى إلى بلاد بعيدة باحثاً ومنقباً عن مناجم. فما كاد يكتشف أول منجم حتى ظهرت له من ورائه مناجم غنية بمعادنها, لا حصر لها ولا عدّ, فكفّ عن الاستكشاف لأنه وجد في تلك البلاد الغنية كنوزاً لا تُستقصى. يفنى الزمان, وكنوزها لا تفنى, ويتقادم الجديدان وهي لا تزال جديدة في كل صباح, ثم عاد يهتف بملء فمه: "غنى لا يُستقصى! غنى لا يُستقصى"!!. غنىً لا حد لعرضه لأنه يغني الجميع من دون أن ينقص منه شيء. ولا حصر لطول مداه فالسنون تفنى وهو باقٍ! وتبلى الليالي وهو جديد. ولا نهاية لعمقه الذي لا يسبر له غور لأنه متأصل في أزلية الله. ولا غاية لعلوه لأنه يجري من تحت عرش الله. فهيهات لبشر أو لملاك أن يعرف "ما هو العرض والطول والعمق والعلو".

المعنى الحرفي للكلمة اليونانية المترجمة "لا يستقصى" هو "لا يمكن أن يقتفى له أثر" – وبالتالي لا يمكن أن يسبر له غور. ولم ترد هذه الكلمة في العهد الجديد سوى مرة أخرى غير هذه – "ما أبعد طرقه عن الاستقصاء" (رومية 11: 33). وقد وردت ثلاث مرات في الترجمة السبعينية – الترجمة اليونانية القديمة للعهد القديم – أيوب 5: 9 ، 9: 10، 34: 24. فتُرجمت في الأولى، وفي الثانية "لا تُفحص"، وفي الثالثة "بدون فحص".

"غنى المسيح الذي لا يُستقصى" – هذه خلاصة الإنجيل، بل نبعه الفياض الذي لا ينضب له معين. فلا خلاص بغير إنجيل، ولا إنجيل بغير مسيح، ولا مسيح بغير غنى لا يُستقصى. إن المسيح غنى في وداعته، غنى في قدرة فعالة، غنى في حكمة أقواله، لكنه فوق الكل غنى في محبته المضحية.

  • عدد الزيارات: 4906