تنوّع في وحدانية، ووحدانية من تنوّع
(4: 16-7)
تنوّع في وحدانية، ووحدانية من تنوّع (4: 7-16). هذا باعث آخر على الاتحاد، مبنيّ على تنوّع الهبات. وكلام الرسول عنه في هذا الفصل، مشابهٌ لكلامه في رو12: 3-8، كو12: 4-30 ومطابق لكلام بطرس الرسول في 1بط4: 10و11.
إن الموضوعات التي تناولها الرسول في هذا العدد هي: أ ـ النعمة الموهوبة، ب ـ الأشخاص الموهوبون، ج ـ قياس الهبة.
أ ـ النعمة الموهوبة: "ولكنّ لكلّ واحد منا أعطيت النعمة". هذه نعمة معطاة من المسيح لكلّ واحدٍ من المؤمنين. فما هي هذه النعمة؟ يقول الدكتور أرمتاج روبنسون: إن "النعمة" المقصودة هنا هي تلك التي تحدّث عنها الرسول في الأصحاح الثالث من هذه الرسالة: "إن كنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم" (3: 2)، "الإنجيل الذي صرت أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي حسب فعل قوّته" (3: 7)، "لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشّر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى" (3: 8).
8لِذَلِكَ يَقُولُ: «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا».
غير أننا بمراجعة ما كتبه بولس عن "النعمة" في الثلاثة الأصحاحات الواردة ضمن هذه الرسالة ـ الثاني، والثالث، والرابع، يتبيّن لنا، أن ما أراده الرسول بـ "النعمة" في كلّ من هذه الأصحاحات، يختلف عما قصده بها في الآخر. فالنعمة المذكورة في الأصحاح الثاني، هي النعمة التي يخلّص بها الإنسان الخاطئ: "بالنعمة أنتم مخلّصون" (2: 5و8). والنعمة التي تحدّث عنها الرسول في الأصحاح الثالث، هي النعمة التي بها أؤتُمن الرسول على غنى المسيح الذي لا يستقصى، والكرازة به للأمم: "لي أعطيت هذه النعمة أن أبشّر الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى" (3: 8). والنعمة الواردة في هذا الأصحاح (4: 8) هي نعمة حلول الروح القدس في قلب كلّ مؤمن فيصبح بها كلّ المؤمنين واحداً. فالأولى مخلّصة، والثانية مؤهّلة، والثالثة موحّدة.
هذا مؤيّد لما جاء في الأعداد التالية: "إذ صعد إلى العلاء.... أعطى الناس عطايا... لكي يملأ الكلّ". وهو مطابق لكلام بطرس الرسول في عظته الخمسينية: "فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهودٌ لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه في هذه الرسالة ـ وفي رسائله الأخرى: كرومية وكورنثوس ـ هي مواهب الروح القدس.
ب ـ الأشخاص الموهوبون: "لكلّ واحد منا أعطيت". إن نعمة حلول الروح القدس في القلب، هي من حقّ كلّ مؤمن، بل هي بكورية كلّ مؤمن: "إن كان أحدٌ ليس له روح المسيح فذلك ليس له" (رومية8: 9). "لأنّ كلّ الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أولاد الله" (رومية8: 14). إن أصغر المؤمنين له حقّ في هذه النعمة كأكبر مؤمن فيأخذ كلذ مؤمن حقه من هذه الهبة، على قدر طاقته واستعداده.
ج ـ قياس هذه الهبة: "حسب قياس هبة المسيح". إن المسيح، رأس الكنيسة الأوحد، قد رتّب لكلّ عضو في كنيسته عملاً معيّناً، ووضع عليه مسؤولية خاصة. لكنّ كلّ مسؤولية مصحوبة بمزية، وكلّ واجب يحمل معه وعداً بمعونة تتكافأ معه. لذلك وزّع المسيح هبات روحه الأقدس على كلّ عضو في كنيسته الحية الغير المنظورة، كلّ بحسب المطاليب المطلوبة منه، وعلى قياس المسؤوليات الملقاة على عاتقه من قِبل ربّ الكنيسة وغير خافٍ أن الإنسان لا ينال من ملء الروح إلاّ على قدر إيمانه، وطاعته، وتسليمه، وأمانته في استخدام المواهب التي عنده: "كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير". على هذا المبدأ ينتفي الحسد، لأنّ كلّ إنسان يغترف من بحر المواهب الروحية بقدر إيمانه: "افغر فاك فأملأه". ولما نفذت الأوعية "وقف الزيت". هذه هي هبات المسيح الملك الذي يُعطي بوفرة، ولا يُسأل عن مقدار ما يعطي.
عدد2 ـ شهادة العهد القديم لهذه الحقيقة (4: 8):
8لِذَلِكَ يَقُولُ: «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا».
اقتبس الرسول هذا القول من العهد القديم ـ وهو عبارة عن كلّ الكتاب المقدّس المسلّم به في أيام بولس، وإليه يشير الرسول في كلمة: "يقول" ـ أي أن الكتاب المقدس هو القائل (مزمور68: 18). ويجوز أن نفهم أن القائل هو الله أو هو الروح القدس. هذه نبوة متعلّقة بالمسيح، مبينة العلاقة التي بين صعوده وهباته.
يرسم هذا القول أمامنا صورة ملك ظافر، استولى على قلعة منيعة فغزا منها غزواً، وغنم منها غنماً. ثم عاد بموكبه الظافر متبوعاً بما غنم، محفوفاً بمن كسب. وتتمة هذه النبوة ـ كما وردت على لسان داود في قوله: "قبلتَ عطايا بين الناس" ـ تفيد أن الإشارة منصرفة إلى الجزية التي تقدّم للملك الظافر ممن ظفر بهم فعلاً، أو إلى الهدايا التي توضع عند موطئ قدميه، ممن يترضون وجهه (1كو15: 25و2كو10: 3-5).
استطاع الرسول بولس بنور الوحي والإلهام، أن يطبّق هذه النبوّة القديمة على صعود المسيح ونواله موعد الروح القدس، وإيهابه هبة الروح لكلّ مؤمن متّحد به اتحاداً حيوياً. ومع أننا نلاحظ أن بين هذه النبوة القديمة وبين التطبيق الرسوليّ لها، شيئاً من التباين، إلاّ أنه لا يتعدّى التفصيلات العرضية، وأما جوهر الشبه فهو واحد: إن المسيح ملك زافر كسر شوكة الموت وارتفع إلى السماء ظافراً بالرؤساء والسلاطين، وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب من روحه الأقدس على كلّ عضو من أعضاء كنيسته، نصيباً فعالاً حسب قياس مشيئته الحرّة المطلقة، حال كونها صالحة ومرضية وكاملة.
قد يلاحظ الباحث شيئاً من التباين اللّفظيّ بين الصيغة التي وردت بها هذه الحقيقة في العهد القديم (مزمور68: 18)، والصيغة التي أفرغها فيها بولس في هذه الرسالة ـ فمثلاً جاء في المزمور: "قبلتَ عطايا بين الناس" مقابل قول الرسول: "أعطى الناس عطايا". فحاول المفسّرون أن يوفّقوا بين الصيغتين ولعلّ أفضل ما قيل بهذا الصدد: إن المرنّم ذكر الأمر الواقع ـ وهو قبول العطايا. وأن الرسول ذكر غاية هذا الأخذ ـ وهو إعطاء الناس. لأن العطايا لا تؤخذ إلاّ لتعطى، ولا تكسب إلاّ لتوهب. فالملك الظافر يوزّع الغنائم التي يأخذها. فهو إنما يأخذ ليعطي.
ولا يغرب عن البال، أن كلام الرسول هنا يصف المسيح في عمله الفدائيّ كوسيط، لا في لاهوته. إذ في هذه الصورة يرتسم الفادي أمامنا ملكاً كاهناً، وكاهناً ملكياً. وعلى هذه الصورة المجيدة أراق الرسول نوراً باهراً في العددين التاليين.
عدد9و10:
9وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. 10اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَأَ الْكُلَّ.
ـ المسيح واهب العطايا، هو الباسط نفوذه على جميع العالمين: كلّ صعود يفترض النزول أولاً. فصعود المسيح يفترض نزوله. وعلى قدر الصعود تكون درجة النزول السابق له. فكما أن المسيح في ارتفاعه، قد ارتقى فوق السموات، فهو أيضاً في اتّضاعه قد نزل إلى أقسام الأرض السفلى، فهو إذاً باسط نفوذه على كلّ العالمين، فلا يخلو من حضوره مكان مهما تكن درجة سموّه، ولا يبرح نفوذه مكاناً، مهما يكن درك تنازله. هذا هو المسيح الملك الجليل الصفات، الذي تنازل في اتّضاعه حتى بلغ "أقسام الأرض السفلى"، وارتقى في صعوده إلى ما "فوق جميع السموات". فالأرض وما دونها، والسموات وما فوقها، وكلّ ما هو كائن بين هاتين المسافتين الشاسعتين، داخل ضنم دائرة نفوذه هذا الملك العظيم. فهو ليس رأس الكنيسة وكفى، بل هو أيضاً مالئ كلّ العالمين، مالك إياها، وملكٌ عليها. هذه خلاصة الإنجيل.
أ ـ مبلغ اتّضاع المسيح: "نزل إلى أقسام الأرض السفلى". تباينت أقوال المفسّرين في معنى هذه العبارة: فبيرسون يعتقد أن العبارة في وضعها اليوناني تعني حرفياً: الأقسام السفلى ـ أي الأرض. بمعنى أن الأرض هي بالذات الأقسام السفلى، بالقياس إلى السماء التي هي الأقسام العليا. ويستند في رأيه هذا إلى ما جاء في إشعياء44: 23 "ترنّمي أيتها السموات... اهتفي يا أسافل الأرض". ولكنّ أصحاب هذا الرأي قليلون، لأنه مبنيّ على تحميل الكلمات معاني فوق احتمالها.
ويعتقد بعض المفسّرون أن "أقسام الأرض السفلى" تعني القبر، بدليل ما جاء في مزمور62: 9 "أما الذين هم للتهلكة يطلبون نفسي فيدخلون في أسافل الأرض" ـ أي في القبر. فالإشارة منصرفة إلى موت المسيح ودفنه في القبر. هذا آخر دركٍ تنازل إليه المسيح في اتّضاعه: "وأطاع حتى الموت"، "لن تترك نفسي في الهاوية".
ذهب كثير من المفسّرين، وعلى رأسهم الآباء الأوّلون، إلى أن هذه العبارة. "نزل إلى أقسام الأرض السفلى" تشير إلى عمل معيّن قام به المسيح في "العالم الأسفل"، منقذاً أرواح قديسي العهد القديم من سجن الأرواح "لمبوس"، الذي كانوا فيه محروسين، في انتظار إتمام الفداء. وفي اعتقادنا أن الرأي الثاني هو أقربها إلى الصواب، ويليه الأول. وأبعدها الأخير.
ب ـ أوج ارتفاعه: "فوق جميع([1]) السموات" : هذه العبارة تعني أرفع مكان وأسمى مكان "فوق كلّ رياسة وسلطان وقوة وسيادة" (1: 21) "وفوق كلّ اسم" (فيلبي2: 9)، فوق كلّ البرايا المنظورة والغير المنظورة "سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين" (كولوسي1: 16).
ج ـ غاية اتّضاع المسيح وارتفاعه: "لكي يملأ الكلّ". تحتمل هذه العبارة معنيين: أوّلهما: لكي يملأ المسيح كلّ حيّز بحضوره، وسلطانه، ومجده. وثانيهما: لكي يتمّ قصد الله ومشيئته في كلّ الأشخاص وبهم، وفي جميع الأشياء وبها. هذا رأي الدكتور ارمتاج روبنسون. لكنّ أغلب المفسّرين يميلون إلى الرأي الأول، على اعتبار أن المسيح يملأ الكلّ بحضوره روحياً لا جسدياً.
- عدد الزيارات: 3679