التهور في الشر
"ليعملوا كل نجاسة في الطمع". وردت كلمة "يعملوا" في العهد الجديد ضمن كتابات لوقا الطبيب وبولس الرسول وحدهما-في لوقا 58:12 بمعنى: "صناعة" أو "حرفة" فهي إذاً تنطوي على معنى الكدّ، والاحتراف، والمهارة، والتفنّن. وهل من حالة أسوأ من هذه التي يهوى إليها الإنسان، إذ يبذل جهده في الشر، ويتفنن فيه فيصبح مهنته الخاصة وصناعته التي منها يعيش؛ ولها يحيا ويتحرك؟
إن قوله "في الطمع" يصف درجة توغلهم في النجاسة، أي أنهم يرتكبون كل نجاسة بفرض الطمع؛ فلا يتركون فيها باباً إلا ويطرقونه حتى لا يفوتهم لون من ألوانها، ولا صورة من صورها. فعوامل النجاسة قد طغت فيهم على كل شيء آخر، والجسد قد طمع على العقل والنفس، فسلبهما حقوقهما، وسخرها كلها لذاته ولذّاته. لأن الكلمة المترجمة: "الطمع" تعني حرفياً "تخطي حدود النصيب المعيّن". فالإنسان الطماع هو الذي يتخطى حدود النصيب المرتب له من الله، ويتعدى على حقوق الغير، لأنه لا يرى أمامه غير مصلحته الذاتية، فلا يراعي سوى لذّاته الخاصة. وهو لا يبالي بحقوق الآخرين إلا بقدر ما يستطيع أن يغتصبه منها، ويستلبه لنفسه.
إن من يقرأ ما سطره المؤرخون عن حالة الرومان واليونان وقت كتابة هذه الرسالة، يتبين له أن أولئك القوم سخروا أكلهم وشرابهم، ونومهم ويقظتهم، ومجال لهوهم وأمكنة عبادتهم؛ وجدهم وهزلهم، لتغذى فيهم عوامل الإثم والفجور: فلم تكن حكومتهم تبيح ارتكاب النجاسة فحسب، بل كانت تشجع على ارتكابها، وتبتكر للشعب منها أصنافاً وألواناً. فالنجاسة كانت وحي شعرائهم، وإلهام ممثليهم وهدف مثّاليهم.
على أن هذه ليست حال الأمميين الوثنيين وحدهم، وإنما هي حال كل إنسان غير متجدّد (رومية3: 10-18). فهي حالنا كلنا- لولا نعمة الله!
لم ترد كلمة "طمع" في العهد الجديد مقصورة على المال ، لكنها استعملت في مواضع كثيرة- سيما في رسائل بولس المكتوبة إلى الأمم- مقترنة بكلامه عن النجاسة (1كو 115، 1تس 6:4 وأفسس :5: 3 و5، كولوسي 3: 5 ). ويلوح لنا أن الرسول قرن كلمة "طمع" بكلمة "نجاسة" في هذه القرينة وسواها، لأن النجاسة والطمع مشتقان من مصدر واحد- هو حب الذات فالنجس والطماع يعبدان ذاتهما ولذّاتهما. وقد لوحظ بعد البحث والإستقراء أن النجاسة تقود إلى الطمع، فالإنسان الذي ينفق شبابه على النجاسة، يكرس شيخوخته للطمع!!
"النجاسة".."الطمع". إن مرضاً واحداً من هذين الاثنين كاف لأن يقتل أكبر الجبابرة. فكيف بهما إذا اجتمعا في إنسان واحد؟! فالطامع لا يكتفي بضرب من ضروب النجاسة، بل يريد أن يتمرغ في كل حمأة، و النجاسة تضع على المرء تكاليف باهظة فينفق فيها وينفق، ولفرط إفلاسه يطمع في حقوق الآخرين.
عدد20: الكلمة الثانية في الجانب السلبي: "أنتم" (4: 17-19):
20وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ هَكَذَا
"وأما أنتم"-وصف الرسول حياة الأمميين الوثنيين في الأعداد الماضية، وفي نفسه غضاضة مرّة، كتلك التي يشعر بها المصور الحساس عندما يقضى عليه بأن يرسم صورة بشعة، أو كذلك الشعور الذي يخامر قلب حفار القبور، عندما يتحتم عليه أن يفتح قبراً أغلق حديثاً فتنبعث منه روائح كريهة. فما كاد الرسول يتم تصوير الوثنيين في حياتهم الفكرية، والروحية والأدبية، حتى تنفس الصعداء وانتقل بسرعة إلى رسم هذه الصورة الجليلة الجميلة التي تمثل المسيحيين في حياتهم الجديدة، فقال بنغمة الشاكر المشجع: "وأما أنتم".
إن موقف الرسول هنا، يماثل موقف كاتب الرسالة إلى العبرانيين- ولعله بولس نفسه- عندما وصف المرتدين بكلمات مريرة، متكلما من"اللّعنة التي نهايتها للحريق"- ولعله خاف لئلا يتطرق إلى ذهن المكتوب إليهم شك من جهة موقفهم هم، لذلك انتقل بهم حالا إلى الجانب المنير، مشجعاً إياهم ومواسياً "ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل" (عب7: 9و8)
في هذين العددين (4: 21و20)وصف الرسول موقف المؤمنين إزاء حياتهم العتيقة، مبتكراً استعارة جديدة، ترينا تلاميذ يتلقون الدرس في مدرسة عالية. فالمكتوب إليهم هم التلاميذ: "وأما أنتم". والمسيح هو الدرس والأستاذ، والمدرسة : "لم تتعلموا المسيح هكذا إن كنتم قد سمعتموه".
-ا-الرذيلة-التلاميذ: "وأنا أنتم". وردت كلمة "أنتم" بصيغة التوكيد مقابل كلمة "هم" (عدد 18 )
- عدد الزيارات: 3863