اتباع الفضيلة ونبذ الرذيلة
ولدى التأمل، يتبين لنا أن الرسول، ذكر في الثمانية الأعداد الآتية(4: 25-32)
خمس رذائل، محرضاً المؤمنين على نبذها، وخمس فضائل حاضاً إياهم على الاستمساك بها ،
قارناً كل تحريض وحض، بباعث جوهرة .
ويلوح لنل أنه سردها في شكل خمس ثلاثيات –كل ثلاثية تتضمن :
-ا- الرذيلة التي حملهم على نبذها –ب- الفضيلة التي يرغب إليهم أن يتمسكوا بها.
-ج-الباعث على النبذ والاستمساك .
(عدد25) الثلاثة الأولى: الكذب، والصدق، والباعث (4: 25)
25لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ.
-ا- الرذيلة "اطرحوا الكذب" –ب- الفضيلة"تكلموا بالصدق" –ج- "الباعث:لأننا بعضنا أعضاء البعض".
الرذيلة : "لذلك اطرحوا عنكم الكذب". هذا مماثل لقول الرسول في رسالة معاصرة لهذه: "لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كولوسى3: 10.9). ولعل الرسول استهل كلامه في هاتين الرسالتين بالتنديد برذيلة الكذب، لأنها كانت فاشية في الأوساط اليونانية ، وفي بعض البيئات الشرقية، والمراد : "طرح الكذب"، نبذه نبذ النواة،وإلقاؤه جانباً بكل غضاضة، مثلما يلقى الإنسان ثوبه العتيق "البالي"(كولوسى3: 8، عبرانيين12: 1ويعقوب1:21 و1بطرس2: 1).
يقول تقليد قديم : إن بين الكلمات التي فاه بها فادينا المجيد، مدة أيامه في الجسد، قوله: "من كان قريباً مني، فهو قريب من النار والنور" . فهو النور، وهو الحق.
وكل من عرفه لا يمكن أن يعيش في الكذب، ولا أن يعيش الكذب فيه. فكما أن الخفاش لا يطيق الوجود في النور، كذلك الكذب لا يطيق أن يحيا في الحياة الجديدة.
-ب- الفضيلة: "يكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه". الصدق مشتق من الحق، والحق نور لا ظلمة فيه البتة. وكما أن النور هو أول شئ خلق في أول يوم للخليقة الأولى ، كذلك يجب أن يكون الصدق غره حياة الخليقة الجديدة. ومن المهم أن نذكر ، أن الإنسان مسئول عن التأثير الذي يلقيه كلامه في ذهن السمع، فلا يليق به أن يذكر كلمات تحمل على معانٍ
مختلفة، ويلتمس لنفسه العذر بأنه أراد غير ما فهمه السامع . وسر الكذب ما كان مموهاً بصيغة الصدق أو ممزوجاً بعنصر من الصدق.
"القريب" المشار إليه هنا، هو الأخ المسيحي الذي تربطنا به روابط الشركة والخدمة (رو12: 5، 1كو12: 12-27).
-ج- الباعث: " لأننا بعضنا أعضاء بعض" – أو"لأننا أعضاء بعضنا البعض". إن كل عضو في الجسم مرتبط رأساً بالرأس وعن طريق الرأس مرتبط بسائر الأعضاء . وإذا كان كل عضو في الجسم الطبيعي يقوم بوظيفته نحو العضو الآخر، بكل ولاء وإخلاص ، من غير مخادعة ولا مواربة، فكم بالحري يجب على كل عضو في جسد المسيح الحي، أن يظهر كل ولاء نحو العضو الآخر! فالكذب- والحالة هذه- يعتبر جريمة على الرأس، لأنه يكلفه كثيراً، وفوق ذلك فهو بمثابة إدخال عضو غريب على الجسد. فإن هجم مرض على أحد الأعضاء تنبهت له سائر الأعضاء وتكاتفت معاً على طرده. فالكذب يحسب خيانة كبرى، وفي نهاية الأمر، يعود بالوبال على العضو الذي أخفى الحقيقة، لأنه مرتبط بالعضو الآخر ارتباطاً حيوياً مكيناً لا تنفصم عراه.
غالباً استقصى الرسول بولس هذا الباعث من نبوة قديمة: " ليكلم كل إنسان قريبه بالحق. اقضوا بالحق. وقضاء السلام في أبوابكم (زكريا8: 16) وأضاف إلى هذا، النبوة القديمة عنصراً جديداً: " لأننا بعضنا أعضاء البعض" لأن هذا العنصر الأخير لم يعلن إلا في المسيح.
يقول علماء النفس المعاصرين: الكذب جريمة على الثقة المتبادلة بين المجموع. ولكن ما ينادي به علماء النفس الآن قد سبقهم إليه رسول الأمم، منذ ألفي عام، لأنه استنار "بنور المشرق من العلاء".
الثلاثية الثانية: الغضب الخاطئ. والغضب البرئ (4: 26و27)
26اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.
-ا-الرذيلة: الغضب الخاطئ: "اغضبوا..." –ب-الفضيلة. الغضب البرئ: "اغضبوا ولا تخطئوا" –ج- الباعث: التحوط ضد إبليس: "لا تعطوا إبليس".
عدد26-ا- الرذيلة: الغضب الخاطئ: "اغضبوا".
26اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ
من المسلم به، أن الغضب انفعال طبيعي. وليس هو شراً في ذاته ولا هو بالخير. فهو كالكأس التي قد يسكب فيها الماء الزلال، وقد يصب فيها سم الأصلاب. وينبغي أن نعترف بأن الغضب الطبيعي من شر العادات، لأن المرء يغضب عادة متى شعر بأن كرامته الشخصية امتهنت. هذا هو الغضب الخاطئ، لأنه يدل على أن الذات هي المسيطرة على الإنسان، وأنها معبوده الأعلى، وفوق ذلك، فإن الكلمات الجارحة التي يتفوه بها المرء وقت الغضب، هي شر قتّال، وهي أقوى دليل على أنه غضب خاطئ.
27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.
-ب- الفضيلة. الغضب البرئ – "... ولا تخطئوا. لا تغرب الشمس على غيظكم". الغضب البرئ هو الانفعال انتصاراً لحق مهضوم، وإنصافاً لضعيف مغلوب على أمره، أو وقوفاً في جانب الله في وجه أنبياء البعل وما أكثرهم في كل عصر ومصر. في مثل هذه الأحوال، لا يكون الغضب أمراً مباحاً فقط، بل أمراً واجباً ، لأن السكوت على المظالم جريمة، وملاقاة الجبان بوجه بسّام لهو جرم أثيم، والرضا بإهانة القدير على مسمع منا، لهو أكبر تجديف على الله. انشر مظهر للخطية هو ذلك الذي وصفه بولس في ختام الإصحاح الأول من رومية- وهو لا يقل عن الشروط الملطخة وجه ذلك الإصحاح: "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه. يستوجبون الموت. لا يفعلونها فقط بل يسرون بالذين يفعلونها". (رومية1: 32)
هذا هو السر في غضبة المسيح على الحق، وباسم الحق: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون "،" اذهبوا قولوا لذلك الثعلب "، إن من لا يعرف غضب المسيح لأجل الحق، لا يعرف معنى قداسته ، لأن القداسة هي المحبة ملتهبة بنار الغيرة على الحق.
غير أن الرسول يحتاط كثيراً في الأمر، فلا يجعل الغضب أمراً مباحاً على الإطلاق، لأن طبيعتنا الفاسدة غدارة خادعة، تريد أن تغضب لنفسها ولكرامتها، تحت ستار الغضب لأجل الحق، ونريد أن تدافع عن كرامتها بحجة دفاعها عن كرامة الله. لذلك يجوز أن نحمل كلام الرسول على هذا المعنى: "أن الغضب أمر خطير. فلا تجعلوه شعار حياتكم. ولا تتخذوه سلاحكم في وقت مناسب وغير مناسب. ولكن إن غضبتم فليكن غضبكم شريفاً بريئاً وليكن غضبكم خالياً من روح الغيظ والحقد، وأن انسبقتم في هذا النوع الأخير، فاسمحوا واستسمحوا قبل أن تغرب الشمس عليكم".
إن التمادي في ما نسميه بـ "الغضب البريء" ليس محمود العواقب. فقد ينزلق الإنسان من "الغضب المقدس" إلى "الغضب النجس" وهو لا يدري. لأن الذات خبيثة، تتسلل من كل نافذة مفتوحة أو شبه مفتوحة، لتبسط نفوذها وسلطانها.
إن قول الرسول: "اغضبوا ولا تخطئوا" مقتبس من مزمور4: 4، وفق الترجمة السبعينية. وفي الترجمة العربية: "ارتعدوا ولا تخطئوا"- والغضب والارتجاف من مصدر واحد: هو اهتزاز الأعصاب، من شدة الانفعال.
وقوله: "لا تغرب الشمس على غيظكم" يعيد إلى فكرنا قول موسى بأن "لا تغرب الشمس على رهن الفقير في بيت الغني، ولا تغرب الشمس على الجثة المعلقة على الصليب" ( تثنية24: 15.13،21: 23). على أنه لا يجب أن يؤخذ كلام الرسول حرفياً، والإجاز لسكان جرينلند أن يحتفظوا بالغيظ في قلوبهم مدةً تقرب من نصف عام- لأن هذا هو طول النهار عندهم! إن قصد الرسول هو أن نسارع إلى السماح والاستسماح
ويقول بلوطارخوس- أحد أعلام التاريخ القديم- إن فيثاغورس الفيلسوف علم أتباعه بأنهم إذا وقعوا في خطية الغضب فليصافحوا بعضهم بعضاً قبل غروب الشمس.
عدد27:
27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.
-ج-الباعث- التحوط ضد مكايد إبليس: "لا تعطوا إبليس مكاناً".
إن إبليس خداع مكير، قضى في مهنته آلاف السنين فأتقن أساليبها وحذق أفانينها. فهو يريد أمعاذير وأعذبها. فمراراً يتدخل بحجة حسم النزاع، وإقامة الصلح.لأنه أحياناً يتخذ شكل ملاك نور، وما غايته إلا توسيع الثغرة، فيجعل من الحبة قبة، ويقيم من النافذة باباً.
لأنه حكيم في فن تأويل الكلام،ليوغر به الصدور، وهو يرحب بالأشواك الصغيرة أمام قلوب المحبين،فيسقيها بعصارة سمومه، ويغذّيها من حمأة قلبه، ليسدّ بها أبواب القلوب إلى الأبد.
لا غرو إذا استعمل إبليس كل وسيلة في إمكانه، ليضرب بين المؤمنين بسهم من الجفاء، لأنه يجد لذة خاصة في أن يشكو كل مؤمن لدى أخيه المؤمن، فهو العدوّ "المشتكي" اسماً و مسمّى، كما يدل عليه اسمه-في اليونانية-"ديلبولوس". ويقول الدكتور مونود: "حيثما يجد الشيطان قلباً مغلقاً، يوجد لنفسه باباً مفتوحاً". ويقول أحد الآباء الأولين: "لا تسارع إلى الغضب لأنه كثيراً ما يولدّ القتل". ومثل الفرد في هذا، مثل الجماعات والهيئات.
عدد 28 الثلاثية الثالثة: السرقة ، والكد الصالح (4: 28):
28لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ.
-ا- الرذيلة- السرقة: "لا يسرق السارق فيما بعد"
-ب- الفضيلة- الكد الصالح: "بل يتعب...."—ج- الباعث- الإحسان: "ليكون...أن يعطى".
-ا- الرذيلة- السرقة: "لا يسرق السارق فيما بعد". إن من يعرف الحالة الأدبية التي كان عليها الأمميون سيما في كورنثوس وأفسس لا يتعجب إذا وجد الرسول يستعمل الصيغة الحالية: "السارق" . فليس من المستبعد أن تكون أهداب هذه الخطية الذميمة قد علقت ببعض منهم.
ويميل بعضهم إلى ترجمة هذه العبارة بصيغة الماضي: "من كان سارقاً"- أي قبل الإيمان على أنه يجب علينا أن نتنبه كثيراً إلى الصور المنوعة التي تتخذها هذه الخطية –فثلم الصيت، وعدم إعطاء الأجير أجراً متناسباً مع عمله وحاجياته، وعدم تكريس العشور لله ، وكف اليد عن مساعدة المسكين، وإهمال المؤمن واجباته نحو المحتاجين من أهله وذويه، وفضول الإنسان العائش على لحم غيره-كل هذه مظاهر مختلفة لجوهر واحد: هو السرقة.
-ب- الفضيلة: الكد الشريف: "بل يتعب عملاً... بيديه" لم يذكر الرسول هنا شيئاً عن رد المسروق مثلما أشار في رسالة معاصرة لهذه(فليمون 18). ولعل كلامه هنا منصرفاً إلى الواجب على المؤمن من جهة المستقبل على اعتبار أن رد المسلوب أمر سلم به . إذ ليس الكد الشريف مجرد فضيلة تقابل رذيلة السرقة، لكنه علاج لذلك المرض. فإذا كان رأس الكسلان معملاً للشيطان، فإن الكد الشريف يسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان إلى قلب الإنسان. هذا هو مبدأ "التسامي" الذي ينادي به علماء النفس في وقتنا الحاضر، وقد نادى به بولس الرسول قبلهم بألفي عام- وهو يقوم بتوجيه قوى الإنسان التي كانت منصرفة إلى الشر، والتسامي بها لتتصرف إلى الخير. فاليدان اللتان كان يسرق بهما السارق قبل الإيمان، يجب أن يكرسهما للعمل الصالح المنتج.
-ج- الباعث- الإحسان: "ليكون له أن يعطى..."
ليس هذا مجرد إصلاح، لكنه انقلاب عظيم- من الظلام الحالك إلى النور الباهر. من الإنسان العتيق الفاسد، إلى الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله. قبل الإيمان، كان الإنسان يفكر في الطرق التي ينهب بها ويسلب، وبعد الإيمان يجب أن يفكر في الطرق التي يعطى بها ويهب. قبلاً كان يقف من الناس موقف المحتاج إلى ما لهم، وبعد الإيمان يجب أن يقف موقف المعين والمساعد. كانت حياته قبل الإيمان حياة البحر الميت الذي يأخذ على الدوام ولكنها أضحت بعد الإيمان حياة بحر بطرية الذي يجود بما فيه بالتمام!
الثلاثية الرابعة:
29لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ. 30وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ.
- الكلام الهادم، والكلام الباني (4: 29و30)
-1- الرذيلة. الكلام الهادم: "لا تخرج كلمة ردية"-ب- الفضيلة- الكلام الباني: "بل .البنيان" (ج) الباعث: "كي يعطى".."لا تحزنوا".
عدد29-1- الرذيلة- الكلام الهادم: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم". الكلمة "الردية" هي الكلمة "الفاسدة" المجردة عن النعمة، والخالية من "الملح" (كولوسي4: 6).
وبما أن الملح يكسب الطعام مذاقاً صالحاً، ويحفظه من الفساد والتعفن، فالكلمة "الخالية من الملح" هي الكلمة العاطلة الخالية من كل طعم ومذاق، وهي أيضاً الكلمة الباطلة المفعمة فساداً فتخرج من الفم كما تخرج الرائحة الكريهة من قبر مفتوح (رومية3:13). وقد وردت كلمة "ردية" في البشائر، وصفاً للشجرة الردية، وللسمك الردئ (متى7:17،12: 33،13: 48). فهي ليست مقصورة على الأشياء التي لا خير فيها، لكنها تتناول الأشياء المفعمة شراً وفساداً. وهي ليست سلبية كما لو كانت غير بانية وكفى، لكنها هادمة. وإن من لا خير فيه، لا يمكن أن يكون خلواً من الشر.
-ب- الفضيلة: الكلام الباني: "بل كل ما كان صالحاً للبنيان"
إن استعارة البناء التي استعملها الرسول في2: 21و4: 16 ما زالت في ذهنه عند كتابة هذه العبارة: "صالحاً للبنيان". وقد أوصى وصية مماثلة لهذه في رسالة سابقة"فلنعكف إذاً على ما هو للسلام وما هو للبنيان بعضنا لبعض" (رومية14: 19).
وصف الرسول الكلام الصالح في هذا العدد وصفاً رباعياً-1- في طبيعته: "صالحاً"- وهو الكلام المصلح بملح –ب- في عمله: "للبنيان" أي لازدياد الأعضاء في النعمة والصلاح. ولقد شهد الأسقف برنت عن رئيس أساقفة ليتون أنه لم يوجد يوماً في حضرته إلا وسمع من فمه كلاماً جعله أحسن حالاً مما كان قبل أن يراه –ج- في مناسبته: "حسب الحاجة" إن كثرة الكلام لا تخلو من المعصية. وليس في الوجود أبدع من كلمة مقولة في وقتها وحسب الحاجة إليها. فليعلمنا الرب متى نتكلم ومتى نصمت "حسب الحاجة"-د- في خدمته: "كي يعطى نعمة للسامعين". فالكلام الصالح يكون خادماً للنعمة. لأن روح الله يستخدمه أداة لإيصال النعمة إلى قلوب السامعين. الكلمة المترجمة "نعمة" يجوز أن تترجم أيضاً إلى: "لذة، وهناء، وسرور". هذا هو الكلام الذي وصفه بولس في كولوسي4: 6"ليكن كلامكم...بنعمة".
عدد30 –ج- الباعث: تقديس شعور الروح القدس:
في العدد السابق، أشار الرسول إلى باعث أقل من هذا خطراً، هو "إعطاء نعمة للسامعين". ولكن الباعث المذكور في هذا العدد، غاية في الأهمية والخطورة: "لا تحزنوا روح الله". فالروح القدس الحالّ في جماعة المؤمنين، وفي قلوبهم، يستمع لكل كلمة تخرج من أفواههم، فيحزن لكل كلمة رديئة يتلفظون بها.
في اليوم الخمسين، ظهر الروح القدس للمؤمنين "بألسنة منقسمة كأنها من نار فاستقرت على كل واحد منهم" (أعمال2: 3). فلا غرو إذا كان الروح القدس رقيباً على الألسنة، فكل كلمة رديئة تحزنه. لأنها دليل على أن الألسنة التي تنطق بها مضرمة من نار سفلى (يعقوب3: 6).
في الخطاب العظيم الذي ألقاه اسطفانوس، قال: "لا تقاوموا الروح" (أعمال7: 51). وفي رسالة سابقة لهذه، قال بولس: "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19). وهنا يقول: "لا تحزنوا الروح". وفي الإصحاح الخامس من هذه الرسالة يقول: "امتلئوا بالروح" (5: 18). فالثلاثة العبارات الأولى تحذرنا من عمل سلبي تأتيه ضد الروح. والعبارة الرابعة (5: 18)توصينا بواجب إيجابي نقوم به إزاءه. إن "مقاومة" الروح تدل على أن الروح يرمز إليه بـ "قوة". وإطفاء الروح يدل على أنه يرمز إليه بـ "نار"، وإحزان الروح يدل على أن الروح القدس شخص - أو أقنوم- له عواطف وإحساسات والامتلاء بالروح يدل على أن الروح يرمز إليه بالماء وفي الماء.
إن هذا الباعث الذي نحن بصدده: "لا تحزنوا الروح" لهو أشرف البواعث لدى المؤمنين الذين يقدرون شعور الأقدس الذي هم له مدينون: "بختمه إياهم ليوم الفداء". والختم يرمز إليه هنا بالضمان، والحفظ (أطلب شرح هذه الكلمة في1: 3 من هذه الرسالة. إن "يوم الفداء" المقصود هنا هو يوم تمجيد المؤمنين، حين يكمل فداء الجسد والروح معاً عند ظهور ربنا يسوع المسيح- هذا هو الرجاء الذي وضعه بولس نصب أعين أهل رومية "متوقعين التبني فداء أجسادنا" (رومية8: 23).
الثلاثية الخامسة: الانفعالات الردية والشعور الطيب (4: 31و32):
31لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. 32وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ.
-ا- الرذيلة- الانفعالات الردية: "ليرفع من بينكم"
-ب-الفضيلة- الشعور الطيب: "وكونوا لطفاء..."
-ج-الباعث- الصفح الإلهي: "كما سامحكم الله"
عدد31-ا-الرذيلة: الانفعالات الردية: "ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث".
هذه الأخوات الستّ: "المرارة، والسخط، والغضب، والصياح، والتجديف، والخبث" قد تتفاوت في شدتها وشناعتها- حسب الظاهر- لكنها كلها مظاهر منوعة لجوهر واحد- هو الإنسان العتيق الغير المتجدد.
المرارة: "هي شراسة الأخلاق التي تجعل الإنسان سريع الغضب، بطئ الرضى".
السخط والغضب: يتميز السخط عن الغضب في أن أولهما: مرض حاد، والثاني: مرض مزمن. وقيل السخط لا يصدر إلا عن الكبراء والعظماء نحو من هم دونهم، والغضب مطلق. ولعل المراد بالسخط ما يشعر به الإنسان عند التجربة المباغتة. والمراد بالغضب ما هو أعمق من السخط في القلب، ويحمل على الانتقام من المغضوب عليه، ولا يشفى إلا به.
الصياح: هو إظهار الغضب بالصوت فيهيج بذلك غضب الغير.
التجديف: هو ما ينتج عن الغضب مقصوداً به إيلام الغير. وأصله في اليونانية يفيد اللعنة والنميمة ولعنة الإنسان لمثله لا تخلو من التجديف على خالقه.
الخبث: هو أصل في القلب وكل ما ذكر آنفاً، هو من فروعه. ورفع الفروع حتى لا تظهر أبداً، يستلزم قلع الأصل وغرس عكسه- وهو المحبة التي قيل فيها إنها: تتأتى وترفق. لا تحسد ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا نظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق" (1كو13: 6.5).
عدد32-ب- الفضيلة- الشعور الطيب: "وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين" وردت كلمة "اللطف" في لوقا6: 35 ورومية2: 4،11: 2 بمعنى "الطيبة والصلاح". وهي في أساس استعمالها تعنى "النفع" – ثم "المساعدة والصلاح". وهي في لأساس استعمالها تعنى"النفع"- ثم "المساعدة والمعونة"- ثم اللطف في الشعور والكلام، وهي نفس الكلمة التي وصف بها نير المسيح، أنه"خفيف" (متى11: 30).
الشفقة: عاطفة قلبية، وردت في 1 بطرس3: 8 ولم ترد في العهد الجديد سوى في هاتين.المرتين. وهي تنطوي على معنى من معاني العطف.
التسامح:جميل أن نذكر أن هذه عبارات وردت في الأصل: "متسامحين نحو أنفسكم". فهي تعتبر جسد المسيح كتلة واحدة- وما يمس العضو الواحد يمس الآخر- وهي تنطوي على معنى التبادل ، فان من يغتفر اليوم قد يكون غداً مسيئاً، فيحتاج إلى من يصفح عنه كما صفح هو بالأمس.
-ج- الباعث: "كما سامحكم الله أيضاً في المسيح"- يرجع بنا هذا القول إلى ما علمنا المسيح إياه في الصلاة الربانية: " اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا"،"في المسيح"- هذا هو مجلى ظهور صفح الله عنا- ان الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه (2كو5: 19)
"في المسيح" هذا هو ضمان صفح الله عنا –إذ قدم الله نفسه ذبيحة عنا، هذا هو حجة صفح الله رآنا متبررين في المسيح فصالحنا فيه وصفح عنا.
- عدد الزيارات: 5837