المسيحي في حياته الاجتماعية
(5: 21-1)
-ا- اسلكوا في المحبة، فينتزع الفساد (5: 1-5)
-ب- اسلكوا في النور،فيطرد الظلام (5: 6-14)
-ج-اسلكوا بحكمة، فتبعد الجهالة (5: 15-21)
عدد1 (1) خير باعث على السلوك في المحبة (5: 1):
1فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ،
في الفصل السابق، بدأ الرسول كلامه، بذكر الرذائل التي حضّ المؤمنين على نبذها، وأردفها بالفضائل التي أرادهم أن يتمسكوا بها، ثم توّج كلامه بذكر الباعث على الترك والتمسك. لكنه في هذا الإصحاح استهل كلامه بذكر الباعث الرئيسي الذي يرفعهم عن الدنايا، ويدفعهم إلى الفضائل العليا، وهو التمثل بالله في محبته المتسامحة المضحية التي ظهرت في المسيح المصلوب: "فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة". إن خير باعث على المحبة، هو المحبة نفسها. لأن كل شئ يلد نظيره.
"كونوا متمثلين بالله كأولاد أحبّاء"- تعتبر هذه الكلمات حلقة اتصال بين ختام الإصحاح السابق، ومطلع هذا الإصحاح. لأن الإقتداء بالله في محبته المتسامحة المضحية، هو الطابع الخاص الذي يجب أن تتميّز به حياة أولاد الله، فيحيا كل منهم، في دائرته الضيقة، حياة تحاكي- على نوع ما- حياة الله المتجلية في دائرة النعمة، فيبرهنون بذلك على أنهم أبناء الله الكليّ المحبة، بل الذي هو محبة،لأن من أقدس واجباتهم أن يقتدوا بأبيهم السماوي.
وبما أن لكلّ صوت صدى من جنسه، فمن الطبيعي أن يظهر المسيحيون نحو الآخرين، نفس الشعور الذي أظهره الله نحوهم-المحبة، فيكونوا محبين لغيرهم. بقدر ما صاروا هم محبوبين من الله، فيصبحوا كأنهم محاصرون بالمحبة من كل صوب: من خلف ومن قدام ومن فوق ومن أسفل- فتكون المحبة جواً مقدساً فيه يحيون، ويتحركون، ويوجدون، لأن حبهم للآخرين هو وليد حب الله لهم.
"كأولاد أحباء"- هذا باعث سام شريف، بل هو أسمى البواعث وأشرفها: "كأولاد أحباء"- لا كعبيد يملكهم الرّعب كلما لمحوا سيدهم، ولا كجبناء يبغون الفرار من عذابات الجحيم، ولا كنفعيّين يسعون وراء ثواب النعيم، بل "كأولاد أحباء" ملأت المحبة قلوبهم، فأضحت لأقدامهم قوة دافعة إلى الأمام، ولأشخاصهم أجنحة رافعة إلى العلى، في سبيل التضحية، والرحمة والمحبة، فيسلكون بروح البنين، ودالة البنين، وحرية البنين.
عدد2 (1) أعلى قياس للسلوك في المحبة (5: 2):
2وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
إن محبة الله لنا، قد تجلت بأسمى مظاهرها في محبة المسيح لنا، إذ "أسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة". فقدّم لنا بذلك خير باعث، وأعلى قياس لسلوكنا في المحبة.
وكما أن كلام الرسول في العدد الأول مستمد من كلام المسيح في الموعظة على الجبل (متى5: 48)، كذلك كلامه في هذا العدد الثاني يعتبر ترديداً لصدى كلام المسيح في خطابه الوداعي لتلاميذه: "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً".. "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم"..."ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه"..."أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيتكم به" (يوحنا13: 34، 15: 12-14).
استهل الرسول هذا العدد، موجهاً الخطاب إلى المكتوب إليهم: "واسلكوا...". لكنه ما كاد يصل إلى الكلام عن محبة المسيح حتى بدّل ضمير المخاطب بضمير المتكلم: "كما أحبنا المسيح"، لأنه لم يطق أن يذكر شيئاً عن محبة المسيح ويظل هو بعيداً عن دائرتها القدسية المجيدة. هذه الدائرة التي تعاظمت فيها مطامع بولس الرسول لدرجة أنه احتكرها مرة لنفسه إذ قال: "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية2: 20). وفي هذا فليتنافس المتنافسون، لأنه "حسنة هي الغيرة في الحسنى". في العدد حدّثنا الرسول عن عمل المسيح الكفاري في جانبيه:
أولهما في كونه ثمناً لحبه للإنسان: "كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا...".
في هذا الجانب يتجلى لنا العنصر المستقل الاختياري في هذه المحبة: "...كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه"، هذا دليل على أن محبة المسيح لنا لم تكن مجرد تعبير عن محبة الله لنا، لكنها محبة شخص له عاطفة مستقلة نحونا. إلا أن محبة الله لنا، هي بعينها محبة المسيح لنا، وما محبة الله ومحبة المسيح سوى وصفين جامعين للمحبة الإلهية الواحدة:الأول يصفها في جوهرها، والثاني يصفها في مظهرها. (1بط4: 2و3،5: 5).
هذه محبة-ا- تطوعية اختيارية: "أسلم نفسه". إن كلمة "أسلم" تفيد التسليم التام التطوّعي، الاختياري، ليس فقط بغير إكراه ولا مقاومة، بل بروح حرّ منتدب، كأنه مقدم على عمل يريده هو، بل يتوق إليه، لا كأنه أريد عليه، فهو أحبنا لأنه أراد. نعم لا جدال في أنه قدّم نفسه للصلب إتماماً لبرنامج الفداء العجيب الذي دبره الآب منذ الأزل، إلا أن هذا البرنامج لم يفرض على المسيح فرضاً، لكنه مستمد من روحه الأزلي الذي به قد قدّم نفسه ذبيحة عنّا، لأنه أحب، وأحب لأنه أراد.
-ب- هذه أيضاً محبة فدائية، مضحية: "لأجلنا" أو بدلاً منا، أو عوضاً عنا. ومتى ذكرنا ما للمسيح من سمو، وقداسة، وإكبار، وما نحن فيه من انحطاط، ونجاسة، وصغار، تبينت لنا التضحية الكبرى التي تكبدها السيد في سبيل افتدائنا من آثامنا. ناهيك عن كونه قد أحبنا ونحن أعداء، غير مستحقين لشئ من هذا الحب العجيب (رومية5: 8.5، غلاطية2: 20، يوحنا15: 13، غلاطية3: 13).
الجانب الثاني: عمل المسيح الكفاري في صلته بالآب: "قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة". هذا دليل على أن عمل المسيح الكفاري وافق رغبة قوية في قلب الله، ووفّى مطلباً جليلاً أوحت به عدالته، وصادف رضى ممتازاً في نفسه تعالى.
" قرباناً، ذبيحة، رائحة طيبة"- تذكرنا هذه الكلمات بأخرى مماثلة لها، سطرها الرسول في رسالة معاصرة لهذه: "قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة مقبولة ذبيحة مرضية عند الله"( فيلبي 4: 18). وبما أن بولس يهودي الأصل والثقافة،
فمن الطبيعي أن يكون قد استقى هذه التعبيرات من سفر اللاويين (الأحبار). وبرجوعنا إلى هذا السفر، يتضح لنا إن العبارة" رائحة طيبة" –"رائحة ارتياح" استعملت وصفاً لثلاثة أنواع من التقدمات -ا- القربان (لاويين2: 2) وهي تعني أصلاً الذبيحة الغير دموية، ولكنها قد تشمل الذبيحة الدموية لأنها مكملة لها، وقد أريد " بالقربان" التكفير الذي به يرد الشعب إلى رضى الله والتقرب منه –ب- المحرقة-"لاويين1: 9"- وهي تعني حرفياً الذبيحة الصاعدة بتمامها إلى السماء، فلا يأكل منها الكاهن شيئاً. وهي رمز إلى تكريس النفس بتمامها لله - ج- ذبيحة السلام- (لاويين3: 5.1)، وهي رمز إلى الشركة المقدسة مع الله المعبّر عنها من جانب الإنسان، بالحمد والشكر.
ومتى ذكرنا أن هذه الثلاثة الأنواع من الذبائح لم تكن سوى رمز للمسيح ذبيحتنا الأعظم، تبيّن لنا أن المسيح قدم نفسه لله عنا، قرباناً ليكفر عن آثامنا وليجلب علينا رضى الله. ومحرقة، دليلاً على تكريسه التام للغرض الأسمى الذي تجسد لأجله: "لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق" (يوحنا17: 19)، وذبيحة سلامة، لأنه وهو الإله الكامل، والإنسان الكامل، قد صنع سلاماً بين الله والناس بشخصه الممتاز.
هذه هي محبة المسيح الفدائية، الكفارية، التطوعية، وبها قدم لنا أعلى قياس للمحبة التي ينبغي أن نحب بها بعضنا البعض. لأنه أحبنا حتى الموت، بل قدم لنا أشرف باعث لهذه المحبة، إذ قدّم نفسه ذبيحة اختيارية: "والمعطى المسرور يحبه الرب". ومتى كان حبنا لبعضنا البعض سامياً، خالصاً، فإن حبنا هذا يحسب ذبيحة تعبدية لله فليتقبلها منا نسيم رائحة طيبة.
إن طاعة المسيح التي أظهرها بتقديم نفسه كفارة عنا، قد تقبّلها منه الآب "نسيم رائحة طيبة". فليس الله محباً للذبائح، ولا لسفك الدماء، ولا لرائحة المحرقات- كما توهم باطلاً أحد الكتاب العصريين-تعالى الله عن ذلك علوّاً عظيماً! لكنه يحب الطاعة، ويريد الرحمة لا الذبيحة.
(3) فلول الظلام تولي الأدبار أمام جيوش المحبة (5: 4.3):
وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ، 4وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ.
كرس الرسول العددين الأولين من هذا الإصحاح للمحبة الإلهية، التي يكنّها قلب الآب نحونا منذ الأزل،فأظهرنا لنا في ملء الزمان بتقديم المسيح نفسه ذبيحة عنا. هذه هي أشعة أنوار محبة المسيح الني انبعثت نحونا من فوق الصليب. وهي التي تولد في قلوبنا حباً من جنسها نحو بعضنا البعض.
غير خاف أن النور سطع في مكان ما، طرد الحشرات الكامنة فيه. ولدى التأمل، يتضح أن الرسول، بعد أن أماط اللثام عن شدة أنوار المحبة الإلهية (عدد1)، وبعد أن أظهر لنا قوة أضواء المحبة الأخوية المسيحية، لم يبق أمامه سوى أن يكشف الغطاء عن فلول الظلام التي تطاردها جيوش أنوار المحبة، حتى تطردها. هذا موضوع كلام الرسول في العددين التاليين (عدد4.3). وبين جيوش المحبة وفلول الظلام، تقف كلمة: "وأما" عند قائم بين مياه عذبة ومياه آمنة، وكحد فاصل بين أنوار الحياة الجديدة وظلمات الحياة العتيقة في سجل الخليقة الجديدة. مثلما كان اليوم الأول في سجل الخليقة الأولى، فاصلاً بين ظلمات الأرض الخربة المغمورة، وأنوار الأرض الجديدة المعمورة!!.
صفّ الرسول جيوش الظلام في فيلقين- كل منهما فيلق ثلاثي
عدد3 الفيلق الأول: "الزنا،النجاسة،الطمع- هذه مرة أخرى، فيها يقرن الرسول خطية النجاسة بخطية الطمع (راجع4: 19).
والظاهر أن الكلمة اليونانية المترجمة "الطمع" تنطوي على معنى أعم من الطمع وأوسع. فهي تعيّن اتجاه حياة الإنسان الذي يعيش لذاته، لأن من عاش لذاته اليوم، عاش للذّاته غداً. فإن حياته تصح بلا ضابط سوى ميوله الخاصة التي لا تعرف حداً للشبع. فيتخطى المرء حقوقه متعدياً على حقوق الآخرين، وفي النهاية يبلغ حد الطمع الأشعبي. وغير خاف أن هاتين الخطيتين- النجاسة والطمع-مشتقان من مصدر واحد: هو عدم الاكتفاء، وهو وليد حب الذات. وما من شك في أن هذا الحافز الذي يدفع إنساناً ما إلى النجاسة، هو بعينه الذي يدفع إنساناً آخر إلى الطمع (1تس4: 3-6).
ولقد أحاط الكاتب هذا المثلث الفاسد: "الزنا،النجاسة،الطمع" بإطار أسود قاتم، محذراً المكتوب إليهم من الخطايا المكوّنة لأضلاعه، فلا يذكر ولا سيما فيما بينهم كقديسين، لأنها والقداسة على طرفي نقيض- والقداسة والقديسون من مصدر واحد وقد لوحظ مراراً أن التمادي في ذكر هذه الخطايا بأسمائها، ولو على سبيل التنديد بها، كثيراً ما يوقظ كوامنها الدفينة في الطبيعة البشرية، ويفتح أمام الأصاغر أبواباً جديدة في سبل ارتكابها، لذلك قال عنها الرسول في موضع آخر "ذكرها أيضاً قبيح" (5: 12)ز فالتلميح في هذا الباب قد يكون أفعل من التصريح. والإيجاز خير إعجاز، والصمت أبلغ من الكلام.
فليكن المؤمن نقيّ الحياة، عفّ اللسان، مصلياً على الدوام أن يجعل الرب حارساً على باب شفتيه. لأن عدم التحفظ في التكلم عن هذه الخطايا يعتبر تحريضاً للتجربة على أن تجرّبنا. وتحرشاً بهذه الخطايا لتقوم وتتحرش لنا.
فمن أوجب الواجبات على القديسين بالدعوة السماوية، أن يكونوا قديسين في حياتهم العملية على الأرض، بذلك يصبحون قديسين نظرياً، وعملياً.
عدد4 الفيلق الثاني- "القباحة،كلام السفلة،الهزل". غير خاف أن الرسول وضع الخطايا الكلامية في المستوى واحد مع خطايا الحياة العملية. لأن الكلام يسوق إلى الفعال، فكم من خطايا تحاول الدخول إلى مدينة نفس الإنسان، وإذ يتعذر عليها الدخول من أبواب الفعال، تلج باب الأقوال فتجده مفتوحاً على مصراعيه. وكم من كلمات قبيحة جرّت إلى أفعال ذكرها أيضاً قبيح.
الكلمة الأصلية المترجمة: "القباحة" لم ترد في العهد الجديد سوى هذه المرة. وهي في اللغة اليونانية القديمة (كلاسيك) من ذات المصدر الذي تشتق منه شرّ الأفعال وأقبحها.
وكذلك العبارة المترجمة: "كلام السفاهة" لم ترد في العهد الجديد سوى هذه المرة، وهي تعني التكلم عن الخطية بلسان "الجاهل" وروح الغبي المستخف بخطاياه وخطايا الآخرين.
أما الكلمة المترجمة: "الهزل" فهي تعني المزاح الثقيل والسخرية والسمجة التي يحاول بها المرء أن يدخل السرور على نفسه ونفوس سامعيه بالنيل من مقام الآخرين والحطّ من أقدارهم. والظاهر أن هذه العادة كانت شائعة بين سكان أفسس في ولائهم وسهراتهم، وهي أيضاً فاشية بين أقوام كثيرين في عصرنا الحاضر، ومنهم حذرنا كاتب المزمور الأول في غرة المزامير "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس". ومن المحقق أن من يستمد سروره من إيلام الآخرين لهو مطبوع بطابع حب الذات الذي هو"نبع كل نجاسة وطمع"، ولئن تنوعت الثمار، فالبزة واحدة. ويقول المؤرخون إن أهل آسيا كانوا متفننين في ضروب السخرية لأن الفيلسوف أرسطاطاليس كان يحسب المجون ضرباً من الفنون الجميلة! وغالى أحياناً فحسبه فضيلة! وقد استنتج أوليمبيودورس أن بولس الرسول شجب الهزل لدرجة لم يترك فيها مجالاً لكلام التفكهة الذي قد يكون أحياناً بريئاً، لأنه كان حريصاً على أن يبعدنا عن الشر، وشبه الشر. فكم من مجلس يبدأ بكلام "الهزل البرئ"، فيختتم بالكلام المبتذل[1].
ويعتقد بعض المفسرين أن كلمة: "لا تليق" تصف خطية الهزل وحدها لا كل الخطايا سالفة الذكر.
القوة الطاردة لكلام الظلام: " بل بالحري الشكر". إن الحياة المسيحية الحقة لا تكتفي بالأعمال السلبية، لأنها لا ترضى بالأعمال الإيجابية بديلا. فهي لا تقف عند حد الإقلاع عن كلمات القباحة، والسفاهة، والهزل، التي لا تليق، بل تتسامى بلغة الكلام فترتقي بها من الابتذال إلى الشكر. فتجعل من كلامنا عبادة مقدسة مرضية لله. فلا شئ يطرد الظلام، سوى النور، ولا قوة تذيب الثلج مثل قوة أنوار الشمس المشرقة. فبدل أن يكون كلامنا متجهاً اتجاهاً أفقياً عن الناس وإلى الناس، بنعمة التحقير والتشهير، يجب أن يتجه اتجاهاً عمودياً إلى الله بنعمة الحمد والتمجيد.
الكلمة اليونانية المترجمة "الشكر" (يوركارستيا) مجانسة في اللفظ والاشتقاق للكلمة "كارس" التي ترجمتها "نعمة" هذا هو كلام الشكر المشبع بنعمة، الذي يليق بأناس عرفوا الله، بل عرفوا منه وصاروا له أبناء.
ولا يفوتنا أن نذكر أن قوله: "لا تليق" يحمل ضمناً زجراً شديداً لا يقدّره إلا عارفوه: "اسلكوا بلياقة". فاللياقة لمن يقدرونها ويتذوقونها، لهي من أشرف البواعث وأقواها. فهي في عرف المؤمنين، لا تقل عن كلمة "حرام"، في لغة الغير المؤمنين. وهي تفيد التكافؤ، والتوافق، والتوازن- بمعنى أن حياة المؤمنين العملية على الأرض يجب أن تكون متكافئة ومطابقة لدعوتهم السماوية في الأعالي.
عدد5 الحرمان العظيم الواقع على أهل الظلام (5: 5):
5فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ.
هذا كلام يقيني واضح، لا شئ فيه من الغموض والإبهام. ولا يأتيه اللبس من إحدى نواحيه، فلا مجال فيه للجدال أو المساومة: "فإنكم تعلمون هذا". ويجوز أن تترجم أيضاً إلى: "فإنكم تعلمون وتفهمون" فإن كنتم في شك من جهة حقائق أخرى، فلا مجال للشك في هذه الحقيقة لأنها واضحة كالنهار.
في العدد الحادي عشر من الإصحاح الأول، عرّف الرسول المكتوب إليهم "أنهم في المسيح نالوا نصيباً" وفي العددين الثالث عشر والرابع عشر من ذات الإصحاح، قرر أنهم "ختموا بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثهم"، فمن الطبيعي أن يعرّفهم هنا أن من يقع في الخطايا سالفة الذكر (5: 4.3) يحكم على نفسه بالحرمان من هذا الميراث المجيد. لا لأنه كان له فأضاعه، بل لكونه غير أهل له من البداءة: "لأنه أية خلطة للبر والإثم وأية شركة للنور مع الظلمة وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن. وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان" ( 2كو 6: 14-16)...... "عابد الأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح".
(1)الخطايا: هذه هي الحقيقة. المرة اللاذعة – والحق بطبيعته مرّ – "إن كل زانٍ أو نجس أو طماع الذي هو عابد للأوثان ليس له نصيب في ملكوت المسيح والله". في هذه الكلمات، وضع الرسول خطية الطمع في مقامها اللائق بها، إذ أحاطها بخطيتين شنيعتين :النجاسة عن يمينها، وعبادة الأوثان عن يسارها: "نجس.. طماع ... عابد أوثان". فالطمع وليد النجاسة وشريكها، وهو والد عبادة الأوثان. وأم الجميع هي محبة الذات.
قال لتيفوث في هذا الصدد: الرجل الطماع يضع نصب عينيه معبوداً آخر شريكاً لله"-أو بعبارة أدق-" معبوداً آخر بديل الله".
إن من يقع في منطقة هذا المثلث الفاسد. "النجاسة، الطمع، عبادة الأوثان" يحكم على نفسه بأنه لم ينتقل بعد من ملكوت الظلمة. فهو إذاً متغرب عن إسرائيل الروحي،لأنه باقٍ في ظلام أميته الوثنية: وهو بحكم الطمع "أجنبي عن رعوبة إسرائيل غريب عن عهود الموعد"، لأنه بطبيعته من "أبناء الغضب" وأتى لابن الغضب أن يكون له" ميراث في ملكوت المسيح والله؟".
(2) الحرمان: عبرّ الرسول عن النصيب الذي يحرم منه كل نجس أو طماع بكلمة: "ميراث:، وهي تعبير مجازي يكنى به عن نيل الحياة الأبدية في الحال ، والتمتع بكمال مجدها ، ومجد كمالها ، في الاستقبال (مرقس 11: 17 ومتى25: 34، يعقوب 2: 5، كو15: 20).
الكلمة اليونانية: " كليرونوموس" المترجمة"ميراث" تعني النصيب الذي يتمتع به الإنسان في الحال بحكم الامتلاك، أو النصيب الذي يكون من قه أن يتمتع به في الاستقبال.
فالمعنى الأول يعين" ميراث" المؤمن في ملكوت النعمة، والمعنى الثاني يعين"ميراثه" في ملكوت المجد.
أم ماهية هذا "الميراث" فقد أشار إليها الرسول بقوله: "ملكوت المسيح والله". هذا تعبير فذ لم يرد في الكتاب سوى هذه المرة. وهو يفيد أن الملكوت واحد لا اثنان. ولكنه نسب إلى المسيح باعتبار كونه الفادي الوسيط الذي تسلم هذا الملك من الآب لينفذ فيه برنامج الفداء، ومتى أتمََّ عملية الفداء يسلم الملك لله الآب (1كو 15: 27 و 28) .
ونسب هذا الملكوت إلى الله باعتبار كونه الملك النهائي على هذا الملكوت. ويغلب على اعتقادنا- والحالة هذه- أن الرسول أراد "بملكوت المسيح" ،" ملكوت النعمة"، "بملكوت الله"،"ملكوت المجد". فالعبارة الأولى تعني " الكنيسة المجاهدة على الأرض و الثانية تعني " الكنيسة الممجدة " في السماء . فيكون معنى العبارة : " ليس له نصيب في ملكوت المسيح والله". أن ليس له نصيب في الحياة الأبدية- لا في الحال ولا في الاستقبال لا بالتمتع ولا بحق الامتلاك. مع العلم أن المسيح ملك على ملكوت المجد أيضاً. والله ملك على ملكوت النعمة أيضاً (رؤيا11: 15 ، كو1: 13) إن في قوله" ملكوت المسيح والله" برهاناً ضمنياً على أن المسيح إله تام . و إلا فهل كان الرسول يجسر أن يضع اسم المسيح جنباً إلى جنب مع اسم الله في السيادة على هذا الملكوت ؟ وإن لم يكن المسيح إلهاً، فما بولس إلا مشركاً!؟ وحشاك من هذا يا رسول الأمم – حاشاك!! ولم لا تعتبر الواو في كلمة "والله" واوً وصفية لا عطفية، فتفسر هذه العبارة على هذه الصورة: " ملكوت المسيح الذي هو الله؟" – هذا رأي الدكتور هودج، وهو في عرفنا أقرب الآراء إلى الصواب.
موقف أبناء النور تجاه الظلام وأعوانه (5: 6-14)
أولاً:موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام (5: 6(ا) )
(1) الموقف: لا تغتروا بكلامهم الباطل (5: 6(ا) )
-1- الباعث: "لأنه بسبب هذه الأمور" (5: 6(ب) )
(2) الموقف: لا تشاطروهم حالهم ولا مالهم(5: 7)
-ب- الباعث: "لأنكم كنتم قبلاً.. والآن" (5: 8(ب) )
ثانياً: موقف أبناء النور إزاء دعوتهم (5: 8(ب)-10)
(أ) الموقف: "اسلكوا كأولاد نور" (5: 8(ب) )
-ب- ثمر النور: "لأن ثمر الروح هو في كل صلاح..." (5: 9)
-ج- الباعث على السلوك في النور: "مختبرين..." (5: 10)
ثالثاً: موقف أبناء النور تجاه أعمال الظلمة (5: 11-13)
-ا- الموقف: (1) سلباً: "لا تشتركوا" (5: 11(ا) )
(2) إيجاباً: "بل وبخوا" (5: 11(ب) )
-ب- الباعث: (1) لأن الأمور الحادثة سراً...قبيح (5: 12)
-ج- تأثير النور على الظلام "لأن الكل إذا توبخ يظهر..." (5: 13)
كلمة ختامية: معدن النور الذي يجابه الظلام- نور المسيح (5: 14)
قال القديس برنارد: "الهزل بين أهل العالم، يحسب مزاحاً. لكنه بين المؤمنين يحسب تجديفاً".
وقيل عن جونسون الأديب الكبير إنه كان يوماً مع أحد رفاقه فسمع على مقربة منه جماعة من خدام الذين يمزحون ويهزلون آملين أنهم بمزاحهم يكسبون إعجاب ذلك الأديب الكبير، لكن الرجل التفت إلى زميله وقال: "إن مزاح هؤلاء الخدام من أكثر العثرات لي في الحياة".
- عدد الزيارات: 4076