Skip to main content

موقف أهل النور تجاه الظلام وأعوانه

(5: 14-6)

ركّز الرسول في هذه الأعداد، الأوامر والنواهي التي ذكرها في الأعداد السابقة

(5: 1-5)، مفرغاً إياها في قالب مجازي عن النور والظلام، أو بعبارة أخرى: عن موقف أبناء النور تجاه الظلام وأعوانه. وعلى هذا الاعتبار نقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

أولاً: موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام (5: 6-8 (ا) )

ثانياً: موقف أبناء النور إزاء دعوتهم هم (5: 8 (ب)-10)

ثالثاً: موقف أبناء النور تجاه أعمال الظلمة (5: 11-14)

أولاً: موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام (5: 6-8 (ا) )

أوضح الرسول موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام في عبارتين سلبيّتين، معقباً على كل منهما بباعث خاص. فهو إذاً موقف مزدوج.

عدد6 (1):

6لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الأُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ. الجانب الأول من هذا الموقف: عدم الاغترار بالكلام الباطل الذي يذيعه أهل الظلام: "لا يغركم أحد بكلام باطل". كانت أفسس في ذلك العصر مرتعاً للآراء الفلسفية ووكراً للشيع الدينية المتباينة- بينها شيعة الغنوسيّين التي كانت تذيع تعاليم سفسطة، مفادها أن الحياة العملية مستقلة تمام الاستقلال عن الحياة النفسية فيحق للمرء، والحالة هذه، أن يتصرف كما يحلو له في دائرة الجسد، من غير أن يؤثر هذا التصرف الأدبي في موقفه الروحي- فيشاطر أهل الظلام تصرفاتهم، ويشاطر أبناء النور عقيدتهم، فيصبح من أبناء الله في النهاية، ويمسي مع أبناء بليعال في الظلام. هذا هو "الكلام الباطل" الذي كانت تذيعه تلك الفئة العجيبة محاولة أن تستميل به بسطاء العقول، ضعاف الإيمان. هذا هو الكلام الملق، المعسول، الخادع الغدار، الذي يفيض لطفاً، وحقاً، وصلاحاً- في ظاهره، ويضمر القسوة والبطل والمفاسد في باطنه هذا هو الكذب الملبس بالصدق، والباطل المقنّع بالحق، والسمّ المختفي في الدسم. وإن وجدت في الباطل دركات، فإن أحطها ذلك الدرك الذي يهوى إليه الإنسان فيخفي خنجره بين باقة الرياحين، ويدس سهامه الملتهبة بين كؤوس الورود. وشر الأعداء من استعار وجه الصديق!!

"بكلام باطل"- استعمل الرسول هذه العبارة عينها في كولوسي2: 18 وصفاً للحجج الكفرية التي تقود إلى الإلحاد، وهي مبرقعة ببرقع التواضع.

ولعل الرسول أشار في رسالة سابقة إلى هذا "الكلام الباطل" الذي أفرغ في ذلك القالب المأثور: "الجوف للأطعمة والأطعمة للجوف" (1 كورنثوس6: 12).

-ا- الباعث على هذا الموقف- وقوع غضب الله على أبناء المعصية "بسبب هذه ... يأتي غضب الله". تتجلى هذه الكلمات عن ثلاث حقائق:

(1) علة العقاب: "بسبب هذه الأمور"- أعني بسبب تلك الخطايا الصادرة عن الجسد، المذكورة في العدد الخامس. فهي ليست معفاة من العقاب كما ظنت شيعة الغنوسيين باطلاً. لكنها تجلب غضب الله على أبناء المعصية. ويظن بعضهم أن "هذه الأمور"، هي الكلام الباطل، لكن الأول هو الأصوب.

(2) أهل العقاب: "أبناء المعصية". هذه هي المرة الثانية التي تصادفنا فيها هذه العبارة في هذه الرسالة- فتصدمنا. فقد سبقنا والتقينا بها في العدد الثاني من الإصحاح الثاني، فاطلب تفسيرها هناك.

(3) ماهية العقاب: "يأتي غضب اللهط في تلك المناسبة السابقة (2: 3.2) أشار الرسول إلى عقب أبناء المعصية بكلمة مركزة: "وكنا بالطبيعة أبناء الغضب". فاطلب تفسيرها في موضعها.

ويكفي أن نذكر هنا أن هذا الغضب ليس ناتجاً عن حقد شخصي موجه إلى الأشرار من قبل الله جل وعلا- تعالى الله عن ذلك علواً عظيماً! لكنه غضب عقابي منشأه عدم رضاه تعالى عن تصرفاتهم، على رغم كونه يحب أشخاصهم، لكنهم جعلوا أنفسهم مستحقين لهذا العقاب برفضهم كفارة المسيح، فصاروا أهلاً للغضب- بل من أبنائه.

إنه عقاب منصبّ عليهم في العالم الحاضر (رومية1: 27). وهو لهم بالمرصاد في العالم العتيد (رؤيا21: 8). ونسبة الغضب الحاضر إلى الغضب العتيد، كنسبة الزهرة إلى الثمرة أو كنسبة العربون إلى الثمن الكامل. أو كنسبة النعمة إلى المجد- مع الفارق!!

عدد7 :

7فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.

(2) الجانب الثاني من الموقف: "فلا تكونوا شركاءهم"- أي لا تكونوا شركاءهم في تصرفاتهم لئلا تصبحوا شركاءهم في عقابهم. إن في هذا تذكيراً لطيفاً للمؤمنين من أهل أفسس، بعيشتهم السالفة التي كانوا عليها قبل إيمانهم بالمسيح، وحضاً قوياً لهم على الاتجاه إلى الأمام في مسلكهم، وتحذيراً فعالاً ضد الارتداد إلى الوراء.

وغير خاف أن المشاركة تتخذ مظاهر كثيرة وإن توحّدت في جوهرها فقد تتخذ المشاركة شكل التضامن التام سراً وجهراً. وقد تتخفى فتكتفي بالتحريض من وراء الستار وقد تقنع بمجرد المصادقة القلبية وابتسامات الرضى، ترسل عن بعد. هذا في الواقع أشر أنواع المشاركة. وهو ما ختم به الرسول قائمة الشرور التي اسودّت بها "غرة" رسالته إلى رومية: "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرّون بالذين يفعلون (رومية1: 32).

عدد8 :

8لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ. اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ

ثانياً: موقف أبناء النور إزاء دعوتهم- في الماضي، والحاضر، والمستقبل (5: 8)

مرة أخرى أوقف بولس أهل كنيسة أفسس بين ماض محمّل بالآثام ومثقّل بالأوزار، وحاضر يشعّ منه نور الأنوار، ومستقبل مفعم برجاء الظفر والانتصار: "لأنكم كنتم قبلاً..." هذا موقفهم الماضي. "وأما الآن فنور في الرب"- هذا موقفهم الحاضر. "اسلكوا كأولاد نور"- هذا مسلكهم في المستقبل.

موقف في الماضي والحاضر: "كنتم قبلاً ظلمة...أما الآن فنور". هذا خير باعث يفصّل المكتوب إليهم عن ماضيهم الذي كان ظلاماً في ظلام، وعن حاضرهم الذي هو نور في نور. فهو شبيه بسيف ذي حدين- حده الأول يقطع الطريق من خلفهم كيلا يرجعوا إلى الوراء، ويقطع أمامهم الأشواك والمعاثر التي تعترض طريقهم في المستقبل.

"كنتم ظلمة...وأما الآن فنور"- هذه تعبيرات قوية مركزة، فلم يقل الرسول: "كنتم سالكين في الظلمة"،بل: "كنتم ظلمة" أي أنهم كانوا "الظلمة مجسّمة". ولم يقل: "وأما الآن فأنتم في النور"، ولا"أنتم تابعون للنور"، بل: "وأما الآن فنور".

وغير خاف أن الرسول وصفهم في ماضيهم وصفاً مطلقاً: فقال"كنتم ظلمة"- أي أنهم كانوا في أنفسهم ظلاماً في ظلام. لكنه حين أراد أن يصفهم في حاضرهم خلع عليهم وصفاً نسبياً، قائلاً: "وأما الآن فنور في الرب". أي أنهم ليسوا نوراً في أنفسهم، لكنهم"نور في الرب". فالظلام منّا وفينا، ولكن النور من الرب. أن نور المؤمنين ليس نور الشمس بل نور القمر، هو نور اكتسابي لا ذاتي. فإذا كان المسيح قد قال للتلاميذ: "أنتم نور العالم". فالإنسان يستنير أولاً ثم ينير. مثله مثل قطعة من حديد يجتذبها المغناطيس، فيكسبها قوة مغناطيسية تجذب إليها سائر المعدن.

موقفهم في مستقبلهم: "اسلكوا كأولاد نور" أن مستقبلهم مشتقّ من حاضرهم، كما تشتق الزهرة من البزة، والثمرة من الزهرة. فالحياة الروحية أساس السلوك العملي. والسلوك العملي مترجم عن الحياة الروحية.

إن قول الرسول: "اسلكوا كأولاد نور"، يذكرنا بكلام المسيح: "النور معكم زماناً قليلاً بعد. فسيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام...ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور" (يو12: 25و26) وبمقابلة هذين القولين معاً، يتضح لنا، أنهما يصفان وجهين متكاملين لحقيقة واحدة. فكلام المسيح يرينا أن الطاعة العملية هي السبيل إلى الشركة مع اله،وكلام الرسول يعرفنا أن السلوك العملي هو برهان صحة شركتنا مع الله.

إن"أولاد النور" هم الذين يسلكون في النور مبتهجين فرحين، لأنهم في الجوّ الذي يناسب طبيعتهم، وفي البيئة التي تنمي ملكاتهم، وفي الوطن الروحي الذي يغذّي حياتهم. فيدخلون ويخرجون بكل حرية وسلام. فلا النور يؤذي عيونهم الرمداء، ولا هو يزعج ضمائرهم العوجاء.

"النور" هنا، تعبير مجازيّ يكنى به عن الشركة مع الله الذي هو النور- نور الحياة ونور الخلود فأبناء النور هم أبناء الله الذين صاروا بالميلاد الثاني"شركاء الطبيعة الإلهية" (2بطرس1: 4، 1تسالونيكي5: 4).

وقد لاحظ الأسقف وستكوت أن الكلمة المترجمة"أولاد" نور، نادرة الورود في العهد الجديد، وقد وردت فيه بصيغة الجمع فقط (لو7: 35و 1بطرس1: 14وغلاطية4: 28ورومية9: 8).

عدد9:

9لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ.

–ب- ثمر النور: "لأن ثمر النور هو في كل صلاح، وبر، وحق". الكلمة المترجمة: "الروح" وردت في أغلب النسخ: "النور". وهذه تتمشى مع سياق الكلام في هذا الفصل. لأن الرسول تكلم في العدد السابق عن طبيعة المؤمن المتجدد. فقال إنها: "نور"، فمن الطبيعي أن يبين لهم ثمر هذا النور بسلوكهم العملي في جدة الحياة. وقد شبه الرسول هذا النور بشجرة حية مثمرة،ولعله اقتبس هذه الاستعارة من المزامير: "نور قد زرع للصديق" (مزمور97: 11). والفكرة التي ينطوي عليها قول الرسول في هذا العدد، هي أن النور الداخلي لا يلبث أن تشع أنواره فتظهر في الحياة العملية وإلا فهو نور صناعيّ رائف. لأن بزرة النور متى زرعت في القلب، لا بد أنها تثمر ثماراً تنبثق منها انبثاقاً طبيعياً. وهي ليست ثماراً على وتيرة واحدة، لكنها تتجلى في كل نواحي حياة الإنسان الشخصية، والاجتماعية، والروحية: "في كل صلاح وبر وحق".

"فالصلاح" يشير إلى صفات الإنسان الشخصية (رومية5: 7 (ا) )

"والبر" يعيّن صلة الإنسان في معاملاته مع الآخرين (رومية5: 7 (ب) )

"والحق" يشير إلى مبدأ حياة الإنسان في صلته بالله (يوحنا14: 6)

هذا هو مثلث الحياة الكاملة، الذي يتجلى فيه ثمر نور الطبيعة الجديدة.

الكلمة المترجمة: "صلاح" وردت أيضاً في رومية15: 14وغلاطية5: 22،2تسالونيكي1: 11، وهي في معناها الأصلي مضادة لكل رزيلة، كأنها الفضيلة مجسّمة. ف"الصالح" بهذا المعنى هو"الفاضل" حقاً وفعلاً، لا لقباً وقولاً.ويعتقد يوحنا الذهبي الفم أنها مضادة للغضب. لكنها أوسع من ذلك وأعم.

ولا يبرح ذهننا أن الرسول، في كلامه عن ثمر الحياة الجديدة، استعمل كلمة المفرد: "ثمر" لا الجمع: "ثمار"، لأن الحياة الروحية وحدة كاملة لا تتجزأ، فمن الواجب أن يظهر ثمرها في كل مناحي الحياة، من غير إفراط ولا تفريط في إحدى نواحيها (غلاطية5: 22و23).

والكلمة المترجمة: "بر" وردت أيضاً في 4: 24وتيطس2: 12- وهي تعني المحافظة على حقوق الآخرين، كعنصر لازم لحفظ الشريعة الإلهية.

والكلمة المترجمة: "حق" تعني الجوهر الحقيقي المضاد لكل مظهر خادع والمنافي لكل صفة زائفة، وادعاء باطل.

يميل الدكتور ديفدسمث إلى تفسير هذا العدد على هذه الصورة: "لأن ثمر النور ينمو في تربة الصلاح والبروالحق". والفرق بين قوله وبين ما ذهبنا إليه، ليس ببعيد.

  • عدد الزيارات: 4563