Skip to main content

الفصلُ الأوَّل نُبُوَّةُ هُوشَع

الأنبِياء الصِّغار: لمحة عامَّة

نبدأُ الآن بدراسةِ آخِر إثني عشرَ نبِيَّاً في العهدِ القديم، والذين يُشارُ إليهم عادةً بالأنبياء الصِّغار. دُعِيَ الأنبياءُ الصِّغار كذلكَ لأنَّ أسفارَهم أصغرُ من الأسفار النبَويَّةِ الأُخرى التي سبقَ ودرسناها. وبما أنَّ الأنبياء الإثني عشر الأخيرين قد كَتَبُوا في زَمَنٍ مُتأخِّرٍ في التاريخ العِبري، كانَ يُشارُ إليهِم أحياناً بالأنبياءِ المُتأخِّرين. لقدِ إحتَفَظَ الكتبَةُ القُدامى بأسفارِ هؤلاء الأنبِياء في وِحدَةٍ مُتكامِلة تُسمَّى "الإثني عشر"، لأنَّهُم أولَوْهُم كُلَّ إحتِرامٍ وتقدير، ولم يكُونُوا مُستَعِدِّينَ لخسارَةِ أيِّ سفرٍ منهُم.

إنَّ الأسفار التاريخيَّة الإثني عشر في العهدِ القديم تُقدِّمُ الإطارَ التاريخي الذي عاشَ وكرزَ فيهِ الأنبِياءُ الذينَ كتبُوا أسفاراً. ولِكَي تُحافِظَ على توازُنِكَ التاريخي، عليكَ أن تُحاوِل وضعَ لائحةٍ بَيانيَّةِ تُظهِرُ لكَ أينَ ينبَغي وضعَ كُلِّ نبيٍّ في التاريخِ العِبري الذي تعلَّمنا عنهُ في دِراستِنا لأسفارِ العهدِ القديم التاريخيَّة. وبما أنَّ هذه الدراسة ليست أكاديميَّةً، بل هي دِراسَةٌ تأمُّليَّة تعبُّديَّة للكتابِ المقدَّس، دعني أُذكِّرُكَ بالحقَائِقِ السبع عن التاريخ العِبري، والتي يجِب أن تنظُرَ من خِلالِها، بينما تدرُسُ هذه الأسفار:

1- المملكة.

2- المملكة المُنقَسِمة.

3- الإحتِلال الأشُوري للملكة الشماليَّة.

4- إنقِراض المملكة الشماليَّة.

5- السبي البابِلي للمملكة الجنُوبيَّة.

6- الإحتِلال الفارسي لبابِل.

7- الرُّجوع من السبي البابِلي.


 نُبُوَّةُ هُوشَع

مُعظَمُنا يعرِفُ أنَّ اللهَ محبَّة، ولكن كم من الكُتُب رأيتَ أو قرأتَ عن موضُوعِ محبَّةِ الله؟ إن سفرَ هُوشَع هو الكِتابُ المُوحَى بهِ في مكتَبَةِ الله المُقدَّسة حولَ موضُوع محبَّة الله. لقد كُلِّفَ هُوشَع من الله بأن يكونَ نبِيَّ محبَّةِ الله للأسباطِ العشر الذين عُرِفُوا بالمملكة الشماليَّة، وكانُوا يُدعَونَ ببساطٍ "إسرائيل." وهكذا كرزَ هُوشَعُ بمحبَّةِ الله لهؤلاء عندما إبتَعدوا عن الله وصاروا يعبُدُونَ الأوثان.

أوَّلُ حقيقَةٍ نتعلَّمُها من النبي هُوشَع هي أنَّهُ عندما يدعُونا اللهُ لنعمَلَ عملاً عظيماً لهُ، فهُوَ غالِباً يُحضِّرُنا لهذا العمل من خِلالِ إختِباراتِ حياتِنا. فاللهُ يستخدِمُ كُلَّ يومٍ نعيشُهُ لكي يُعِدَّنا لكُلِّ يومٍ آخر سنعيشُهُ ونخدم اللهَ فيه.


مَجازٌ مُؤلِم

لقدِ إعتَبَرَ اللهُ هُوشَع مُستَعِدَّاً ليكرِزَ بمحبَّةِ الله لشعبٍ غير مُؤمِن، لأنَّ هُوشع كانَ قد تزوَّجَ بإمرأةٍ زانية، كانَ اسمُها "جُومَر" (1: 2، 3).  لقد أحبَّ هُوشَع جُومَر وجعلَ منها أُمَّاً لأولادِه، وعامَلها وكأنَّها أكثَرُ امرأةٍ فاضِلة وتقيَّة في الأرض. وبعدَ عدَّةِ سنوات، عندما رجعت جُومَرُ إلى عُشَّاقِها، طلبَ الربُّ من هُوشَع أن يقبَلَ بِرُجوعِها إلى البيتِ الزوجي ثانيَةً، وأن يستمرَّ بِحُبِّهِ لها (3: 1). كُلُّ هذا كانَ مسمُوحاً بهِ من الله لتحضيرِ هُوشَع لكي يكرِزَ لإسرائيل عن محبَّة الله وقبُولِهِ غير المشروطَين.

ورُغمَ عدَم إستِحقاقِهم، تمَّ إختِيارُ إسرائيل من قِبَلِ اللهِ ليكُونُوا شعبَهُ، تماماً كما إختارَ هُوشَع جُومَر لتكونَ زوجَتَهُ ولكنَّها كانت زانِيَة. فالمجازُ هو قصَّةٌ يتَّخِذُ فيها الأشخاصُ والأماكِنُ والأشياء معنَىً أعمَق يُعلِّمُنا حقائِقَ رُوحيَّة وأخلاقيَّة. لقد كانَ زواجُ هُوشَع مجازاً مُؤلِماً عن محبَّة الله غير المشروطَة لإسرائيل.


كِرازَةُ هُوشَع

كانت عبادَةُ الأوثان الخطيَّة المُستَمِرَّةَ المُزمِنة التي مارسها شعبُ المملكة الشمالية عندما ألقى عليهم هُوشَع عظاتِهِ الشُّجاعة والمُوبِّخة. لقد كانت عبادتُهم للأوثان أيضاً ممزوجةً بالمُمارسات غير الأخلاقية. لهذا كانَ هُوشَع فَظَّاً وصَريحاً عندما وعظَهُم.

إليكُم بعضُ المُختارات المُفسَّرة التي تعُرِّفُكُم على أسلُوبِ وعظِهِ:  "إنَّ رِجالَ إسرائيل ينتهُونَ من شربِ المُسكِر، ثُمَّ يذهَبُونَ للبحثِ عن زانِياتٍ. إنَّ محبَّتَهُم للعار هي أعظَمُ من محبَّتِهم لِلكَرامَة. ...الزِّنَى والخَمرُ والسُّلافةُ تخلُبُ القلبَ. شَعبِي يسألُ خَشبَهُ وعصاهُ تُخبِرُهُ. ...إنَّهُم مثلُ قوسٍ مُعوَجٍّ، دائماً يُخطِئُ الهدَف. إنَّهُم يزرَعونَ الريح ويحصُدونَ الزوبَعة. ...قد ابتُلِعَ إسرائيلُ. الآنَ صارُوا بينَ الأُمَم كإناءٍ لا مَسَرَّةَ فيهِ. أفرايِمُ تَطِيرُ كَرَامَتُهُم كَطائِرٍ."

بما أنَّهُم كانُوا شعبَ الله المُختار من قِبَلِ الإلهِ الواحِد الحقيقي، إعتَبَرَ هُوشَع ذهابَهم إلى آلهةٍ أُخرى بمثابَةِ "زِنىً روحي" ضدَّ الله: "شعبي يسألُ خشبَهُ وعصاهُ تُخبِرُهُ. لأنَّ رُوحَ الزِّنى قد أضَلَّهُم فزَنَوا من تحتِ إلهِهِم."

"كُلُّهم فاسِقون كتَنُّورٍ مُحْمَىً من الخَبَّاز. يُبطِّلُ الإيقاد من وقتِتما يعجُنُ العجينَ إلى أن يختَمِر. هكذا يلتَهِبُ هذا الشعبُ بالشهوة. لقد إختَلَطَ شعبي معَ الوثنيين، وتعلَّمُوا طُرُقَهُم الرديئة. لهذا أصبَحوا غيرَ نافِعينَ لشيء، وصاروا مثلَ خُبزَ ملَّةٍ لم يُقلَب." وعندما وعظَ هُوشَعُ بالقَول، "كما الكاهِنُ هكذا الشعب،" صرخَ قائِلاً، "أيُّها الكَهَنة، لا تُوجِّهُوا إصبَعَ الإتِّهامِ إلى أيِّ إنسانٍ آخر، بل أنا أُوجِّهُ إصبَعَ الإتِّهامِ نحوَكُم."

فنتيجةً لعبادَتِهم للأوثان، كانُوا سيُؤخَذُونَ في السبي: " قدِ ابتُلِعَ إسرائيلُ. الآنَ صاروا بينَ الأُمَم كإناءٍ لا مسرَّةَ فيه. لأنَّهُم صَعِدُوا إلى أشُّور" (8: 8-9). لقد كانَ السبيُ الأشُّوريُّ مأساوِيَّاً على المملكةِ الشمالية، لأنَّها لن ترجِعَ إلى أرضِها ثانِيَةً لتكونَ مملكةً. فالذينَ عاشُوا منهُم بعدَ الإجتِياح والسبي الأشوري، تشتَّتوا بينَ أُمَمِ الأرض.


محبَّة الله غير المَشرُوطَة

لقد ذهبَ إسرائيلُ في السبي، ولكنَّ اللهَ أحبَّهُم وأرادَ أن يُرجِعَهُم في عودَةٍ روحيَّةٍ إلى نفسِه: "وأخطُبُكِ لنَفسي إلى الأبد وأخطُبُكِ لنَفسي بالعَدلِ والحَقِّ والإحسان والمراحِم. أخطُبُكِ لنَفسي بالأمانَة فتعرِفينَ الربّ" (2: 19- 20). إن هذه العودَةَ الرُّوحيَّة لشعبِ اللهِ إلى الربّ، والتي تنبَّأَ عنها الأنبِياءُ، لم تتحقّ‍َقْ بعد، ولكنَّنا لا نـزالُ ننتَظِرُ حُلولَ آخِرِ الأيَّام لنشهَدَ تحقُّقَ هذه النبُوَّةَ.

لقد كرزَ هُوشَع بفصاحَةٍ عن محبَّةِ الله قائِلاً: لا أُريدُ ذبائِحَكُم، بل أُريدُ محبَّتَكُم؛ ولا أُريدُ تقدِماتِكُم، بل أُريدُكُم أن تعرِفُوني." ولكي يجعَلَ قُلوبَهُم مُستَقيمةً مع الله، وعظَ هُوشَع مثل إرميا قائِلاً: "إحرُثُوا أرضَ قُلوبِكُم القاسِية، فإنَّهُ وقتٌ لطلبِ الربّ، حتى يأتِيَ ويُغدِقَ عليكُم خلاصَهُ. وأنتَ فارجِعْ إلى إلهِكَ. إحفَظِ الرحمَةَ والحَقَّ وانتَظِر إلهكَ دائماً." (10: 12؛ 12: 6).


التطبيقُ التعبُّديُّ الشخصيّ

رُغمَ أنَّهُ علينا أن ننتظِرَ تحقُّقَ عودة شعب الله المُرتد رُوحيَّاً إلى إلهه، ولكن علينا أن ننتَظِرَ أيَّ شيءٍ لنرجِعَ نحنُ أنفُسنا إلى إلهِنا المُحِبّ. إنَّ المقطَعَ المُفضَّلَ عندي من هُوشَع هو أفضَلُ طريقَة لختامِ هذا المُوجز المُقتَضَب للبرامج الإذاعيَّة التي سمِعتُمُوها عن هوشع النبي:

"هَلُمَّ نَرجِعُ إلى الربِّ لأنَّهُ هُوَ افتَرَسَ فيَشفِينا. ضربَ فيجبُرُنا. يُحيينا بعدَ يومَين. في اليومِ الثالِثِ يُقيمُنا فنحيا أمامَهُ. لِنَعرِفْ فلنَتَتَبَّعْ لِنَعرِفْ الربَّ. خُروجُهُ يقينٌ كالفَجرِ. يأتِي إلينا كالمَطَر. كَمَطَرٍ مُتَأَخِّرٍ يسقِي الأرض." (6: 1-3).

  • عدد الزيارات: 12398