الفصلُ الثالِث "ستراتيجيَّةُ يسُوع"
في كُلٍّ من الأناجيل الأربَعة، نرى يسوع مُصوَّراً كأكثَرِ من رجُل ذا رِسالة. نراهُ مُصوَّراً كرَجُلٍ ذا ستراتيجيَّة لتتميم هذه الرسَّالة. هذا يصحُّ بِشكلٍ خاص على إنجيلِ متى.
فلو عرفتَ مثلاً أنَّهُ لم يعُدْ أمامَكَ لِتَعيش إلا ثلاث سنوات، وأردتَ أن تَصِلَ إلى العالَمِ أجمَع برِسالتِك، ماذا ستفعَل؟ لقد عرفَ يسوعُ أنَّهُ لم يعُدْ لدَيهِ إلا ثلاث سنوات ليعيش، وأرادَ أن يَصِلَ إلى العالمِ أجمَعِ بإنجيلِه. فما الذي فعلَهُ على ضوءِ معرِفَةِ هذا الأمر؟ إنَّ طرحَ هذا السؤال والإجابَةَ عليهِ بينما نقرَأُ إنجيلَ متَّى، سيُحدِّدُ سترايجيَّة يسوع لإتمامِ أهدافِ رِسالتِه.
إذا أخذتَ دُرُوساً حولَ كيفَ يُمكِنُكَ أن تكون مُديراً تنفيذيَّاً، سيُقَالُ أنَّكَ لِكَي تُصبِحَ مُديراً تنفيذيَّاً فعَّالاً، عليكَ: بالتحليل، بالتنظيم، بالتفويض، بالإشراف، وبالمُعاناة.
في إنجيلِ متى، كُلَّ مرَّةٍ نقرَأُ فيها أنَّ يسوعَ رأى الجُمُوع وأشفقَ عليهم، نرى صُورَةً عن شفقتِهِ على العالَمِ أجمَع، وعن ستراتيجيَّتِهِ للوُصُولِ إلى العالَمِ أجمَع برسالةِ خلاصِه. عندما نظرَ يسوعُ إلى الجمُوع بعَينِ الشفقة، قامَ دائماً بعمَلٍ ستراتيجيّ. أوَّلُ مرَّةٍ نرى هذا يَرِدُ في إنجيلِ متى، هو عندما كانَ يسوعُ يشفي كُلَّ مرَضٍ في الشعب على ضِفافِ بحرِ الجليل. لقد حلَّلَ حاجات الجُمُوع، ومن ثمَّ نظَّمَ ما أُسمِّيهِ، "الخُلوَةُ المَسيحيَّةُ الأُولى،" حيثُ أعطَى عظتَهُ على جَبَلِ الزَّيتُون (متى 4: 23 – 5: 2).
المرَّةُ التالية التي نظرَ فيها إلى الجُموع بعَينِ الشفقة، فوَّضَ بعضاً من الذين أصغُوا إلى تعليمِهِ على قِمَّةِ الجبل، ليكُونوا رُسُلاً أو مُرسَلين، بالمعنى المُعاصِر للكلمة. هُناكَ فرقٌ بينَ التلميذ والرَّسُول. لقد كانَ لدى يسوع عدَّة تلاميذ – أو أتباع، ولكن لم يكُنْ لديهِ إلا إثنا عشرَ رسُولاً.
بإمكانِنا أن نقُول أنَّهُ الآن قد حَلَّلَ، نظَّمَ، وفوَّضَ أُولئكَ الذين سيُطبِّقُونَ ستراتيجَّتَهُ للوُصُولِ إلى العالم. وإذ نتَتَبَّعُ آثارَ ستراتيجيَّتِهِ عبرَ إنجيلِ متَّى، نقرَأُ عن حادِثَتَين شِبه مُتَطابِقَتَين. هُنا نظَرَ يسوعُ مُجدَّداً إلى الجُمُوع وأشفَقَ عليهِم. هذه المرَّة، بالإضافةِ إلى كُلِّ مشاكِلِهم الأُخرى، كانُوا جِياعاً. فجاءَ الرُّسُل إليهِ وطلبُوا منهُ أن يُرسِلَ الجُمُوعَ بعيداً لكَي يبتاعُوا طعاماً. فتحدَّى يسوعُ رُسُلَهُ بالسؤال التالي، "كم من الخُبزِ لدَيكُم؟ ثُمَّ قالَ لهُم أنَّهُ لا يتوجَّبُ على الجُموع أن يذهبُوا إلى أيِّ مكان، لأنَّ الرُّسُل كمُفَوَّضين عنِ المسيح، بإمكانِهم أن يُلبُّوا حاجات هؤلاء الجُمُوع. إنَّ هذه القصَّة المألُوفة، والتي هي مُعجِزَةُ يسوع الوحيدة المُسجَّلة في كُلٍّ من الأناجيل الأربَعة، هي بالحقيقَةِ مثَلٌ عن رُؤيا يسوع الإرساليَّة (متى 14: 14- 36؛ 15: 32- 39).
إذا لاحظنا أنَّ الجُمُوعَ يُمثِّلُونَ العالم بِكُلِّ حاجاتِه، - عندما نراهُ يُكلِّفُ الرُّسُلَ ستراتيجيَّاً ويُفوِّضُهم ليحمِلُوا بركاتِهِ لسَدِّ حاجاتِ هذه الجُمُوع، نُدرِكُ أنَّنا نقرَأُ قصَّةً ترمُزُ إلى ستراتجيَّة يسوع لسدِّ حاجاتِ العالم. إن توفير أو تدبير الله الخارِق للطبيعة لِسدِّ حاجاتِ الجُمُوع، لا ينتَقِلُ مُباشَرَةً من يسوع إلى الجُموع. إنَّ بركات الله مرَّت من يسوع إلى الجمُوع من خِلالِ أيدي الرُّسُل. إنَّ هذه لا تزالُ خُطَّتُهُ اليوم. فالمسيحُ المُقامُ الحيُّ يختارُ أن يستَخدِمَ تلاميذَهُ لِكَي يُمرِّرَ حقَّهُ وإنجيلَهُ لأولئكَ الذين يحتاجُونَ خلاصَهُ.
إن القصَّةَ المُوحى بهِا من الله لهذه المُعجِزة هي بِشكلٍ واضِح قصَّةٌ يأخُذُ فيها النَّاسُ والأماكِنُ والأشياء معنَىً أعمَق. إنَّ ستراتيجيَّة يسوع المُمَثَّلَة بهذه المُعجِزة تجِدُ أقصى معناها في نِهايَةِ إنجيلِ متَّى عندما يُسجِّلُ متى الطريقة التي أعطى بها يسوعُ ما نُسمِّيهِ المَأمُوريَّةَ العُظمَى (متَّى 28: 16- 20). عندما كانَ يسوعُ على وَشَكِ الإرتِفاع عن هذا العالَم ومُغادَرَتِه، أمرَ هؤلاء الرِّجال بأن يذهبُوا إلى العالَمِ أجمَع كمُمَثِّلينَ عنهُ.
قد نستطيعُ القول أنَّهُ بعدَ صُعودِهِ، إتِّخَذَ يسوعُ آخِرَ خُطوَتَين كمُدِيرٍ تنفِيذِي فعَّال، مُشرِفاً على تلاميذِهِ عبرَ أكثر من ألفَي عام من تاريخِ الكنيسة، بينما هُم يُحاوِلونَ الوُصُول إلى العالم من أجلِ المسيح. ويبدو من المَنطِقِيّ أن نستَنتِجَ أنَّهُ أيضاً تألَّمَ عندما راقَبَ جُهودَهُم. وهذا يَصِحُّ بِشكلٍ خاصّ على مراحِل الإضطِّهاد الفظيع الذي عانى منهُ المسيحيُّونَ في القُرُون الثلاثة الأُولى من تاريخِهم. بإمكانِنا أن نفتَرِض أنَّ المسيحَ إستمرَّ بالمُعاناةِ والألَم طِوالَ الألفي سنة من الإضطِّهاد الذي حدَثَ في تاريخ الكنيسة ولا يزالُ يحدُثُ اليوم في عدَّةِ أماكِن من العالَم. بإمكانِنا أيضاً أن نفتَرِض أنَّهُ تألَّمَ عندما كُتِبَت بعضُ الفُصُول الرهيبَة من تاريخِ الكنيسة.
ينبَغي أن يُساعِدَنا هذا على فهمِ كنيسةِ اليوم. بإمكانِنا أن نرى جَوهَرَ قصد الكنيسة إذ نُراقِبُ يسوعَ وهُوَ يُطبِّقُ ستراتيجيَّتَهُ في إنجيلِ متى. إنَّ الكَنيسَةَ هي مُؤسَّسَةٌ إرساليَّة، وهي مُصَمَّمَةٌ ومُحرَّكَةٌ من قِبَلِ المسيح لتكُونَ وسيلَةَ نقلٍ من خِلالِها تُعلَنُ نِعمَةُ وحقُّ يسوع المسيح لِهذا العالم. جميعُ الخُطَط والبرامِح والنشاطات في الكنيسة ينبَغي أن تكونَ وسيلَةً تُؤدِّي نحوَ هذه الغايَة.
إنَّ التأكيدَ العظيم لهذه الحقيقة هو سفرُ الأعمال. إنجيلُ متى يُختَمُ بمأمُوريَّةِ يسوع لكنيستِهِ لتَذهَبَ وتكرِزَ بالإنجيل للعالَمِ الهالِك. وإذ يذهَبُون، عليهِم أن يُقيمُوا تلاميذ، ويُعمِّدُوهُم، ويُعلِّمُوهم جميعَ ما علَّمَهُم إيَّاهُ يسوع. في سِفرِ الأعمال، هذا بالتحديد ما كانُوا يفعَلُونَهُ. ففي يومِ الخَمسين قَبِلُوا مَوهِبَةَ الرُّوحِ القُدُس – قُوَّة الله – لكي يعمَلُوا هذا الأمر، وبينما هُم يُتمِّمُونَ هذه المأمُوريَّة العُظمَى، وُلِدَتِ الكنيسةُ.
إنَّ سفرَ الأعمال هُوَ بِبَساطَة سَردٌ لِذهابِ الرُّسُل إلى عالَمِهم، وكيفَ أقامُوا تلاميذ وعمَّدُوهُم وعلًَّمُوهُم جميعَ ما علَّمَهُم إيَّاهُ الرَّبُّ. إنَّ سِفرَ الأعمال وتاريخَ الكنيسة يُخبِرانِنا أنَّ ستراتيجيَّةَ يسوع هي سارِيَةُ المفعُول. ونحنُ الذين نُشكِّلُ الكنيسةَ اليوم، لا نـزالُ مَدعُوِّينَ لنذهَبَ، لنُتَلمِذَ، لِنُعمِّدَ ولِنُعلِّم بكُلِّ ما علَّمَ بهِ يسوع.
- عدد الزيارات: 3134