الفَصلُ الثَّالِث "الشَّاهِد"
(يُوحنَّا 1: 1- 11)
"كانَ إنسانٌ مُرسَلٌ منَ الله إسمُهُ يُوحنَّا. هذا جاءَ للشَّهادَة لِيَشهَدَ لِلنُّور لِكَي يُؤمِنَ الكُلُّ بِواسِطَتِهِ. لم يكُنْ هُوَ النُّور بَلْ لِيَشهَدَ لِلنُّور. يُوحنَّا شَهِدَ لهُ ونادَى قائِلاً هذا هُوَ الذي قُلتُ عنهُ إنَّ الذي يأتي بعدِي صارَ قُدَّامِي لأنَّهُ كانَ قَبلي. ومِن مِلئِهِ نحنُ جميعاً أخذنا. ونِعمَةً فوقَ نِعمة. لأنَّ النَّامُوس بِمُوسى أُعطِيَ. أمَّا النِّعمَةُ والحَقُّ فَبِيَسُوع المسيح صارا." (1: 17)
في الإصحاحاتِ الأُولَى من هذا الكُتَيِّب، رَكَّزتُ بِشَكلٍ أساسِيٍّ على ثلاثَةِ أعدادٍ منَ مُقَدِّمَةِ :إنجيلِ يُوحنَّا، أي الأعداد الثمانية عشر الأولى. وبينما كُنَّا ننظُرُ إلى هذه المُقدِّمة في حلقتِنا الأخيرة، ركَّزنا بِشَكلٍ أساسِيٍّ على ثلاثَةِ أعدادٍ منَ الإصحاحِ الأوَّل: العدد 1، 14، و18. بينَ هذه الأعدادِ السِّتَّة، أي في الأعداد 6 إلى 8، و15 إلى 17، تمَّ تقدِيمُنا إلى رَجُلٍ آخر هُوَ يُوحَنَّا المعمدان. قالَ يسُوعُ شَيئاً عن هذا الرَّجُل، الذي يُعتَبَرُ أعظَمَ إطراءٍ حصلَ عليهِ إنسانٌ في التاريخ. قالَ يسُوع، "لا يُوجَدُ مَولُودُ امرأَة أعظَم من يُوحَنَّا المعمدان، ولا يُوجَدُ نَبِيٌّ أعظَم من يُوحَنَّا المعمدان."
وهكذا كانَ يُوحنَّا المعمدان أعظَمَ الأنبِياء بنَظَرِ يسُوع، أو أعظم الناس الذي عاشُوا حتَّى ذلكَ الوقت. (متَّى 11: 11؛ لُوقا 7: 28). إنَّ هذا ينبَغي أن يستَوقِفَنا ويجعلَنا ننظُرُ عن كَثَبٍ إلى هذا الإنسان، الذي أُرسِلَ من الله، والذي كانَ إسمُهُ يُوحنَّا.
إنَّ كاتِبَ هذا الإنجيل يُوضِحُ تماماً أنَّ يُوحَنَّا هذا لم يَكُنْ هُو َالنُّور، بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور. في هذه المُقدِّمَة، لاحِظُوا كم مرَّةً إستُخدِمَت صِيغَةُ الفِعل "كَانَ"، إشارَةً إلى يسُوع المسيح. فنحنُ نقرَأُ مراراً وتِكراراً في الأعدادِ الثَّمانِيَة عشر الأُولى من إنجيلِ يُوحَنَّا عن أنَّ يسُوعَ: "كانَ، وكانَ، وكانَ." ولكن لاحِظُوا أنَّهُ عندَما يتِمُّ تعريفُنا على هذا الرَّجُل، يُوحَنَّا المعمدان، كيفَ أنَّنا نقرَأُ دائِماً: "لم يَكُنْ، لم يَكُنْ، لَم يَكُن."
لاحِظُوا أنَّهُ عندَما أصبَحَ يَسُوعُ، الكَلمِة الحَيّ، جسداً، كم كانَ يُكَرِّرُ القَولَ، "أنا هُوَ، أنا هُوَ، أنا هُوَ." إحدى أروَع ِالطُّرُق لدِراسَةِ حياةِ المسيح في إنجيلِ يُوحَنَّا، هِي تَتَبُّعُ أقوالِ المسيح عن نفسِهِ عبرَ هذا الإنجيل، حيثُ كانَ يَقُولُ: "أنا هُوَ..." وحَيثُ كانَ يسُوعُ يُصِرُّ على القَولِ "أنا هُوَ..."، لاحِظُوا كم منَ المرَّاتِ نَسمَعُ يُوحَنَّا يَقُولُ غالِباً العَكس. فنحنُ نسمَعُ يُوحَنَّا المَعمدان يُصِرُّ على قَولِ التَّالِي: "وهذه هي شَهادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أرسَلَ اليَهُودُ من أُورشَليم كَهَنَةً ولاوِيِّين لِيَسأَلُوهُ مَنْ أنتَ. فاعتَرَفَ ولم يُنكِرْ وأقَرَّ أنِّي لَستُ أنا المسيح. فسألُوهُ إذاً ماذا، إيليَّا أنتَ. فقالَ لَستُ أنا. ألنَّبِيُّ أنتَ. فأَجابَ لا. فقالُوا لهُ من أنتَ لِنُعطِيَ جواباً لِلَّذِينَ أرسَلُونا. ماذا تَقُولُ عن نفسِكَ. قالَ أنا صَوتُ صارِخٍ في البَرِّيَّة قَوِّمُوا طَريقَ الرَّبِّ كما قالَ إشَعياءُ النَّبِيّ. وكانَ المُرسَلُونَ منَ الفَرِّيسيِّين." (يُوحَنَّا 1: 19- 24).
عندما تمَّ تَكليفُ السُّلطاتِ الدِّينيَّة بمُقابَلَةِ يُوحَنَّا المعمدان ومُساءَلَتِهِ: "أَلمَسيحُ أنتَ؟ أَإيليَّا أنتَ؟ أَلنَّبِيُّ أنتَ؟ من أنتَ؟ ماذا تَقُولُ عن نفسِكَ؟" عندما أجابَ، "لا، لَستُ أنا،" إجابَةً على أسئِلَتِهِم، لاحِظُوا كم كانَ مُصِرَّاً على التَّصريح قائِلاً، "لَستُ أنا."
نَلَتَقِي بِهَذا الرَّجُل مُجَدَّداً في الإصحاحِ الثَّالِث. جاءَ تلاميذُ يُوحَنَّا إليهِ وسألُوهُ، "يا مُعَلِّم، الجميعُ يذهَبُونَ ليَسمَعُوا ذاكَ الرَّجُل الذي قالَ أنَّهُ أعظَمَ منكَ. ولم يعُدْ أحدٌ يأتي ليَسمَعَ وعظَكَ." فأجابَ يُوحنَّا المعمدان بما معناهُ، " لقد قُلتُ لَكُم لَستُ أنا إيَّاهُ. قُلتُ لكُم لَستُ أنا، بَل هُوَ المُهِمّ. وينبَغي أنَّهُ هُوَ يَزيد وأنِّي أنا أنقُص. فهُوَ العَريسُ وهؤُلاء النَّاس هُمُ العَرُوس. وأنا لَستُ سوى صديق العَريس، الذي يفرَحُ بِرُؤيَةِ العَريسِ يتزوَّجُ من عَرُوسِهِ (3: 28- 30).
من المُمكِن أن يكُونَ سِرُّ عظمة هذا النَّبِيّ والرَّجل والشاهِد، هُوَ بِبَساطَةٍ التالي: أنَّهُ قَبِلَ محدُودِيَّاتِه، وقَبِلَ مَسؤُوليَّةَ مُؤَهِّلاتِهِ. لقد قَبِلَ مسؤُوليَّةَ كَونِهِ من أرادَهُ اللهُ أن يَكُون، وأيضاً عرَفَ من لم يَكُن. وعندَما أصرَّ عليهِ رِجالُ الدِّينِ طالِبينَ جوابَهُ على سُؤالِهم، قالَ لهُم أنَّهُ صَوتٌ صارِخٌ في البَرِّيَّة. هذا من وما وحيثُ كانَ يُوحَنَّا مُكَلَّفاً منَ اللهِ أن يَكُون. لقد عرفَ أنَّهُ سيَكُونُ منَ الغَباءِ بأن يُحاوِلَ أن يَكُونَ أكثَرَ من ذلكَ، وآمنَ أنَّ الحياةَ كانت ذاتَ قيمَةٍ أكثَر من مُجَرَّدِ أن تَكُونَ أقَلَّ مِمَّا أرادَهُ اللهُ لهُ أن يَكُونَهُ.
أحدُ الأسئِلَة التي طَرَحَها رِجالُ الدِّينِ على يُوحَنَّا المعمدان، كانَ: "ماذا تقُولُ عن نفسِكَ؟" إنَّ كلمة "نفس" مُعرَّفَةٌ في القامُوس كالتالي: "فرادَة أو فَردِيَّة أيّ شَخص التي تجعَلُ منهُ مُمَيَّزاً عن أيِّ شَخصٍ آخر."
يُعلِّمُ الكتابُ المقدَّسُ بإنسِجامٍ معَ نفسِهِ أنَّهُ عندما صنعكَ اللهُ وصنعني، وعندما صنعَ اللهُ يُوحنَّا المعمدان، صنعَ كُلاً منَّا ورمى القالَبَ الذي صنعَنا بهِ. ففي كُلِّ مرَّةٍ يصنَعُ بها اللهُ كائِناً بَشَرِيَّاً، يَرمي القالبَ بعيداً. فليسَ هُناكَ أحدٌ نظيرَكَ، ولم يكُنْ ولن يكُونَ أحدٌ نظيرَكَ تماماً. فأنتَ شخصٌ فريدٌ وفَرديّ. وكُلُّ كائِنٍ بَشَريٍّ مُصَمَّمٌ لِيكُونَ فريداً. فهُناكَ ما يَزيدُ على السِتِّينَ بَليون بَصمَةَ إصبَعٍ في العالَمِ وأكثَر، وكُلُّ إصبَعٍ يحمِلُ بَصمَةً مُختَلِفَةً عنِ الإصبَعِ الآخر. هذه شهادَةٌ على فرادَةِ خُطَّةِ اللهِ لكُلِّ كائنٍ بَشَرِيٍّ بذاتِهِ. فما نُسَمِّيهِ اليوم بالحَمضِ النَّوَوِيّ، يذهَبُ إلى ما هُوَ أبعَدُ من بصماتِ الأصابِع، للتَّاكيدِ على صِحَّةِ هذه المُعجِزَةِ العظيمة.
بِحَسَبِ كَلِمَةِ الله، أحدُ أوَّلِ نتائِجِ خلاصِنا، هي ما يُسمِّيهِ بُولُس، "إرادَة الله الصَّالِحَة المرضِيَّة والكامِلَة" لِحياتِنا (رُومية 12: 1، 2). بِكَلِماتٍ أُخرى، عندما نُولَدُ من جَديد، نكتَشِفُ فرادَتَنا وخُصُوصِيَّتَنا في المسيح. وقبلَ أن نُولَدَ من جديد، نميلُ للتَّقليدِ والنَّسخِ و المُطابَقَةِ، أو لنَسمَحَ لِنُفُوسِنا بأن يتسلَّطَ الآخرُونَ علينا إلى أن نُصبِحَ مثلَ الآخرين. ونَكُونُ بهذا مُشابِهينَ لِعِيسُو في العهدِ القَديم. "نَبيعُ بُكُورِيَّتَنا من أجلِ صحنٍ منَ الحِساء." (تَكوِين 25: 29- 34) ولهذا سوفَ نخسَرُ فرادَتنا وفَردِيَّتِنا، وما نُسمِّيهِ هُوِيَّتَنا.
تُشيرُ كَلِمَةُ اللهِ إلى هذا الشَّخصِ الفَريد الذي يُريدكَ اللهُ أن تَكُونَهُ بِ"النفس أو الذَّات." عندما قالَ يسُوع، "لأنَّهُ ماذا ينتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نَفسَهُ،" أو "ماذا يُعطي الإنسانُ فداءً عن نفسِهِ،" كانَ يتكلَّمُ عن الشخصِ الفَريد الذي أرادَنا اللهُ أن نكُونَهُ، والذي سيُمَيِّزُنا عن الآخرين. (مرقُس 8: 36، 37)
إنَّ مَشيئَةَ اللهِ تجاهَكَ كَكائِنٍ بَشَريّ هي صالِحَة، مَرضِيَّة، وكامِلة. ولن تكتَشِفَ هذه الفرادة أو الفَردانِيِّة، إلى أن تأتيَ إلى المسيح، ولكن إحدى نتائج المَجيء إلى المسيح، هو إكتِشاف إرادة الله الصالِحة والمَرضِيَّة والكامِلة لحياتِنا. أيُّ شَخصٍ إكتَشَفَ إرادَةَ الله الصالِحَة لهُ، كما إختبَرَها يُوحنَّا المعمدان، سوفَ يقبَلُ محدُوديَّاتِهِ ومسؤوليَّاتِهِ ليَكُونَ من وما وحيثُ يُريدُهُ اللهُ أن يَكُون.
إنَّ مِثالَ يُوحنَّا المعمدان يُقَدَّمُ لنا على صَفَحاتِ الكتابِ المُقدَّس، ليضَعَنا أمامَ التَّحدَّي أن نُؤمِنَ أنَّ الإلهَ نفسَهُ الذي كانَ لدَيهِ قصدٌ لِحياةِ يُوحَنَّا المعمدان، لهُ قَصدٌ لحياتِنا نحنُ اليوم. هل تَعرِفُ من يُريدُكَ اللهُ أن تَكُون؟ وهل تُؤمِنُ أنَّ اللهَ لَدَيهِ خُطَّةٌ لما وأينَ يُريدُكَ أن تَكُون في هذا العالم؟ بهذه الطريقة ينبَغي علينا أن نُطَبِّقَ على حياتِنا الشَّخصِيَّة ما يُعَلِّمُنا بهِ الكتابُ المُقدَّسُ عن أعظَمِ إنسانٍ وأعظَمِ نَبيٍّ عاشَ حتَّى ذلكَ الحين.
- عدد الزيارات: 8689