الفَصلُ الثَّانِي "التَّجاوُب والعَلاقَة"
(يُوحَنَّا 11: 17- 32)
كُلَّما تابَعنا القِراءَةَ في هذا الإصحاح، نُلاحِظُ أنَّهُ عندما وصَلَ يسُوعُ أخيراً إلى بَيتِ عَنيا، كانت القَضِيَّةُ الأساسيَّةُ هي تجاوُب مريم ومرثا معَ مُشكِلَةِ مَرض وموتِ أخيهِما. والتَّجاوُبُ الذي أرادَهُ يسُوعُ منهُما يتعلَّقُ بالطَّريقَةِ التي يتعامَلانِ بها معَهُ في الأزمات، خاصَّةً الحقيقَةَ التي صَعُبَ عليهِما قُبُولُها أنَّهُ لم يَصِلْ في الوقتِ المُناسِب ليُخَلِّصَ أخيهِما. علاقَتُنا معَ الرَّبّ تُشَكِّلُ دائماً العُنصُرَ الأكثَرَ حَساسِيَّةً حيالَ تجاوُبِنا معَ مشاكِلِنا.
أنا مقتَنِعٌ أنَّ الرَّبَّ حصَلَ على التَّجاوُبِ العقلانِيِّ الصَّحيح من مَريم. فتَجاوُبُ مريَم يُذَكِّرُنا بأنَّ رَدَّةَ فعلنا الأُولى ينبَغي أن تثَبِّتَ علاقَتَنا معَ المسيح وإيمانَنا الرَّاسِخ بمحبَّتِهِ لنا. أمَّا مرثا فكانت ردَّةُ فعلِها كما تَكُونُ رَدَّةُ فعلِ مُعظَمِنا عندما تُفاجِئُنا المآسِي.
نقرَأُ إبتِداءً منَ العددِ السَّابِع عشر: "فَلَمَّا أتَى يسُوعُ [إلى بَيتِ عَنيا] وَجَدَ أنَّهُ قد صارَ لهُ أربَعَةُ أيَّامٍ في القَبر. وكَانَت بَيتُ عَنيا قريبَةً من أُورشَليم نحوَ خَمسَ عشرَةَ غُلوَةً. وكانَ كَثيرُونَ منَ اليَهُودِ قد جاؤُوا إلى مَرثا ومَريَم ليُعَزُّوهُما عن أخيهِما.
"فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرثا أنَّ يَسُوعَ آتٍ لاقَتْهُ. وأمَّا مَريَمُ فإستَمَرَّتْ جالِسَةً في البَيت. فقالَت مَرثا لِيَسُوع يا سَيِّدُ لو كُنتَ هَهُنا لم يَمُتْ أخِي. لَكِنِّي الآنَ أيضاً أعلَمُ أنَّ كُلَّ ما تَطلُبُ منَ اللهِ يُعطِيكَ اللهُ إيَّاهُ.
"قالَ لها يسُوع سيَقُومُ أخُوكِ. قالَتْ لهُ مَرثا أنا أعلَمُ أنَّهُ سَيَقُومُ في القِيامَةِ في اليَومِ الأخير. قالَ لها يسُوعُ أنا هُوَ القِيامَةُ والحَياةُ. مَنْ آمنَ بي ولو ماتَ فسَيَحيا. وكُلُّ من كانَ حَيَّاً وآمنَ بي فَلَنْ يَمُوتَ إلى الأبد. أتُؤمِنِينَ بهذا؟
"قالَت لهُ نعَم يا سَيِّد. أنا قد آمنتُ أنَّكَ أنتَ المسيح إبنُ اللهِ الآتي إلى العالم. ولمَّا قالَت هذا مضَتْ ودَعَتْ مَريَمَ أختَها سِرَّاً قائِلَةً المُعَلِّمُ قد حَضَرَ وهُوَ يدعُوكِ. أمَّا تِلكَ فلَمَّا سَمِعتْ قامَت سَريعاً وجاءَتْ إليهِ.
"ولم يَكُنْ يسُوعُ قد جاءَ إلى القَريَةِ بل كانَ في المكانِ الذي لاقَتْهُ فيهِ مرثا. ثُمَّ إنَّ اليَهُودَ الذينَ كانُوا معَها في البَيتِ يُعَزُّونَها، لما رأَوا مريَم قامَتْ عاجِلاً وخَرَجَت، تَبِعُوها قائِلينَ إنَّها تَذهَبُ إلى القَبرِ لتَبكِيَ هُناكَ. فمَريَمُ لَمَّا أتَت إلى حَيثُ كانَ يسُوعُ ورَأَتْهُ خَرَّتْ عندَ رِجلَيهِ قائِلَةً لهُ يا سَيِّدُ لَو كُنتَ هَهُنا لم يَمُتْ أخِي." (يُوحَنَّا 11: 20: 32)
عندما جاءَ يسُوعُ إلى بَيتِ عَنيا، إلتَقى أوَّلاً بِمَرثا، لأنَّها هي بادَرَت بِلِقائِهِ. وكانت القَضِيَّةُ المُهِمَّةُ في هذا اللِّقاء تَجَاوُبَ مَرثا معَ مُشكَلَةِ المرض والمَوت المُستَعصِيَة. فماذا كانت ردَّةُ فعلِها على هذه المُشكِلَة؟ مرثا لا تزالُ مرثا. ونحنُ نُحبُّها، ويسُوعُ أحبَّها. ولكنَّها سُرعانَ ما سَمِعَت بأنَّ يسُوعَ وصلَ إلى قَريَتِها، رَكَضَت لتَلتَقِيَ بهِ على الطَّريق. أمَّا مَريَمُ فبَقِيَت في المَنزِل. عندما إلتَقَتْ مرثا وجهاً لِوَجهٍ معَ يسُوع، قالتْ لهُ الكلماتِ التَّالِيَة: "لَو كُنتَ هَهُنا، لم يَمُتْ أخِي." منَ المُثيرِ للإهتِمامِ أنَّ مَريَمَ ستقُولُ لاحِقاً الكلماتٍ ذاتِها.
لا نعلَمُ كيفَ كانت تَقَاسِيمُ وَجهِها، ولا نعلَمُ شَيئاً عن نبرَةِ صَوتِ مَرثا عندما نطَقَت بهذه الكلمات. بكلامٍ آخر، الرَّسُولُ يُوحَنَّا لا يَصِفُ ما نُسمِّيهِ اليَوم "الحَرَكاتِ الإيمائِيَّة." يُخبِرُنا الخُبراءُ في الإتِّصالاتِ بأنَّنا عندما نتواصَلُ، تُشَكِّلُ الكلماتُ التي نَقُولُها سبعة بالمائَة فقط من تواصُلنا معَ الآخرين. وأربَعَةٌ وأربَعُونَ بالمائة تأتي من نبرَةِ الصَّوت عندما ننطِقُ بكلماتِنا، وتسعةٌ وأربَعُونَ بالمائة تعُودُ إلى حركاتِ جَسدِنا الإيمائيَّة، أي تعابيرُ وجهِنا، حركاتِ أطرافِنا، وطُرُق أُخرى نُعَبِّرُ بها عن معنَى الكلماتِ التي نستَخدِمُها.
بَينَما نقرَأُ وقائِعَ لِقاءاتِ يسُوع معَ هاتَينِ الشَّقيقَتَين، كُلُّ ما نَجِدُهُ هُوَ الكلماتُ التي قِيلَت. حتَّى ولو أنَّنا لا نعرِفُ شَيئاً عن تقاسيمِ وجهِ مرثا ولا عن تعابيرِها وحَرَكاتِها الإيمائيَّة، ولكن لَدَيَّ الإنطِباعُ أنَّهُ عندما قالَت مرثا، "لو كُنتَ هَهُنا، لم يَمُتْ أخِي،" كانت تقصُدُ القَول، "أينَ كُنتَ يا رَبّ؟ فَلَو كُنتَ هَهُنا، لما ماتَ أخي لِعازار."
الرَّبُّ يُحِبُّ مَرثا، ولذلكَ تابَعَ الحِوارَ معَها قائِلاً، "سيَقُومُ أَخُوكِ." لم يَكُنْ يُشيرُ يسُوعُ بالطَّبعِ إلى قِيامَةِ المُؤمِنين التي تُؤَهِّلُهُم للحالَةِ الأبديَّة. بل كانَ بالطَّبعِ يتكلَّمُ عمَّا كانَ على وشكِ الحُدُوث. ولا ينبَغي أن نَقسُوَ كَثيراً على مرثا. فهي بالطَّبعِ لم تَعرِفْ أنَّهُ كانَ يتكلَّمُ عمَّا كانَ على وشكِ الحُدُوث. فلو كُنتَ مكانَها، هل كُنتَ ستَتَوقَّعُ حُدُوثَ هكذا مُعجِزَة؟ أجابَت مرثا بما معناهُ، "أنا أعلَمُ أنَّهُ سيَقُومُ في القيامَةِ في اليَومِ الأخير. فأنا أعرِفُ ما تُعَلِّمُهُ كَلِمَةُ الله."
عندَها نطَقَ يسُوعُ بما يُعتَبَرُ أكثَر كلمات إنجيل يُوحَنَّا ديناميكيَّةً. وهي تنضَوي تحتَ تصريحات يسُوع المَعرُوفَة بِ "أنا هُوَ": "أنا هُوَ القِيامَةُ والحَياة. من آمنَ بي ولو ماتَ فَسَيَحيا. وكُلُّ من كانَ حيَّاً وآمنَ بي فلن يَمُوتَ إلى الأبَد. أتُؤمِنينَ بهذا؟"
تُعجِبُني صراحَةُ مرثا. فهِيَ لم تُجِبْ بالقَول، "أنا أُؤمِنُ بذلكَ." لَرُبَّما لم تفهَمْ مرثا تماماً ما كانَ يقُولُهُ لها يسُوع. فأجابَت بالتَّصريحِ بما تُؤمِنُ بهِ، وما تُؤمِنُ بهِ يرتَبِطُ بالمَوضُوعِ الأساسيّ لإنجيلِ يُوحَنَّا. أجابَت مرثا بما معناهُ، "أنا أُؤمِنُ أنَّكَ المَسيحُ (أو المَسِيَّا)، إبنُ اللهِ الذي جاءَ إلى العالم. هذا ما أُؤمِنُ بهِ."
لقد عرفَت مرثا ما كانت تُؤمِنُ بهِ، وآمنَتْ بما كانت تَعرِفُهُ. إحدَى أكثَر صَلَواتِ الكتابِ المُقدَّس التي تمَّت تَلاوَتُها بِدُمُوعٍ كانت: "آمنتُ، فأَعِنْ عَدَم إيمانِي!" (مَرقُس 9: 24). ولقد تجاوَبَ يسُوعُ معَ تلكَ الصَّلاة لأنَّها كانت صلاةً صادِقَة. جَميعُنا لدَينا مُستَوىً مُعَيَّناً ينتَهي فيهِ إيمانُنا ويبدَأُ عدَمُ إيمانِنا. فالأبُ الذي صَلَّى تلكَ الصَّلاة كانَ يَقُولُ ليسُوع، "إرفَعْ مُستَوى إيمانِي وأَخفِضْ مُستَوى عدَم إيمانِي." قد تَكُونُ هذه هي الرُّوحُ التي أجابَت بها مرثا على سُؤالِ يسُوع لها: "أتُؤمِنينَ بهذا؟"
أنا مُتَيَقِّنٌ أنَّ يسُوعَ أحبَّ مَرثا بِإخلاص. وتَصِفُ مرثا مُستَوى إيمانِها قائِلةً ليسُوعَ بِطريقَةٍ أو بِأُخرى، "فوقَ هذا المُستَوى لن أقُولَ أنَّني أُؤمِنُ بما تَقُولُهُ لي." لم يَكُنْ هُناكَ أيُّ شَيءٍ زائِفٍ في مرثا، بل كانت مرثا صادَقَةً تماماً.
إذا تأمَّلنا بحالِنا عندما نتكلَّمُ معَ الله، نَجِدُ أنَّهُ يَعرِفُ تماماً أينَ ينتَهِي مُستَوى إيماننا وأينَ يبدَأُ شَكُّنا. ومنَ الغَباءِ لنا أن نتعامَلَ معَ رَبِّنا الحَيّ المُقام في وسطِ مِحنَةٍ مأساوِيَّةٍ بمصداقِيَّةٍ وشفافِيَّةٍ أقل ممَّا تعامَلَت بهِ مرثا. فيسُوعُ كانَ قَلِقاً تماماً من أُولئِكَ الذين وصفَهُم بالمُرائِين، أو من أُولئكَ الذين قصدَ بأنَّهُم يضَعُونَ أقنِعَةً إصطِناعِيَّةً على وُجُوهِهم، كتلكَ التي كانَ يستَعمِلُها المُمَثِّلُونَ المَسرَحِيُّونَ في حضارَةِ القَرنِ الأوَّل. الرَّبُّ يعلَمُ أنَّهُ بِغَضِّ النَّظَرِ عنِ الحالَةِ التي كانت فيها مرثا، ولكنَّها لم تَكُنْ مُرائِيَةً على الإطلاق.
تُشَكِّلُ عبارَة "أنا هُوَ" التي نسمَعُ يسُوعَ يستَخدِمُها في لِقائِهِ معَ مَرثا، قَلبَ الإصحاحِ الحادِي عشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا. فأكثَرُ المُشكِلاتِ المُستعَصِيَة في الحَياة لها حَلٌّ، وهذا الحَلُّ يُسمَّى بالقِيامَة. فالتَّعريفُ الحَرفِيُّ لِلقِيامَةِ هو، "الإنتِصارُ على المَوت." يقُولُ يسُوع، "أنا هُوَ الحَلُّ لهذه المشاكِل المُستعصِيَة يا مَرثا." فأنا لستُ فقط الغلَبَة على المَوت، بل أنا أيضاً الحَلُّ لمُشكِلَةِ الحياة." ويُكَرِّرُ يسُوعُ هذا التَّصريح لاحِقاً عندما يَقُولُ ما معناهُ: "أنا هُوَ الحياةُ التي جَئتُ إلى هذا العالم لآتِيَ بها." (يُوحَنَّا 14: 6)
نقرَأُ في الأعدادِ الأُولى منَ هذا الإنجيل: "فيهِ كانَتِ الحياةُ، والحَياةُ كانت نُور النَّاس." وفي كُلِّ إصحاحٍ نطرَحُ السُّؤال، "ما هِيَ الحياة؟" ونحنُ نطرَحُ السُّؤال، لأنَّ يُوحَنَّا يَقُولُ لنا ما هي الحياةُ. مُجدَّداً يُخبِرُنا يُوحَنَّا، إصحاحاً بعدَ الآخر، بأنَّ الحياةَ هي ما هُوَ يسُوع. والحياةُ هي أيضاً شَيءٌ يعمَلُهُ يسُوعُ غالِباً فينا، لأجلِنا، ومن خلالِنا. الحياةُ مُرتَبِطَةٌ دائماً بيسُوع، عندما يُخبِرُنا كاتِبُ هذا الإنجيل بما هي الحياةُ الأبديَّة.
يَقُولُ يسُوعُ في لِقائِهِ معَ مرثا: "من آمنَ بي، وإن ماتَ فَسَيَحيا." إنَّهُ يتكلَّمُ عن قِيامَةِ التِّلميذِ الحَقيقيّ. ويُقدِّمُ الرَّسُولُ بُولُس المَزيدَ منَ التَّعليم حولَ هذا المَوضُوع. فعندما يمُوتُ المُؤمنُون، لا يُدفَنُون، بل يُزرَعُونَ كحَبَّةٍ حِنطَةٍ سوفَ تُفرِخُ وتقُومُ يوماً ما. (1كُورنثُوس 15؛ 2 كُورنثُوس 5).
ويذهَبُ يسُوعُ إلى ما هُوَ أبعَد من هذا التَّعليم الدِّينامِيكيّ في هذا التصريحِ العظيم عن حياةِ القِيَامَة. لاحِظُوا التَّالي عندما يُكَرِّرُ يسُوعُ وعدَهُ: "وكُلُّ من كانَ حَيَّاً وآمنَ بي لن يَمُوتَ إلى الأبد." يسُوعُ يَقطَعُ بالحقيقَةِ عهدَ قيامَةٍ بينَهُ وبينَ المُؤمِن. وفي كُلِّ عهدٍ، يَعِدُ يسُوعُ بأن يحفَظَ دَورَهُ في العهد، وعلينا نحنُ أن نحفَظ دَورَنا في العهد. والشَّخصُ الذي يدخُلُ إلى عهدِ القِيامَةِ هذا معَ يسُوع، عليهِ أن يُلَبِّيَ شَرطَين. الشَّرطُ الأوَّلُ: ينبَغي أن يُؤمِنَ بالمسيح. هذا هُوَ الشَّرطُ الواضِحُ. ولكن عليهِ أيضاً أن يحفظَ الشَّرطَ التَّالِي: عليهِ أن يحيا في المسيح.
هل تعلَمُ أنَّهُ منَ المُمكِنِ أن نحيا حياتَنا في المسيح؟ حوالي مائتي مرَّة يذكُرُ كُتَّابُ العهدِ الجديد عبارَة "في المسيح" عندما يُشيرُونَ إلى تلاميذ يسُوع المسيح الحقيقيِّين.
لقد بَرهَنَ يسُوعُ معنَى هذه الكَلمات بشَكلٍ جَميلٍ، بواسطَةِ إستَعارَةٍ إستَخدَمها في الحَقل. كانَ يُعَلِّمُ هؤُلاء التَّلاميذ كيفَ يَكُونُونَ مُثمِرينَ عندما أظهَرَ للرُّسُل كَرمَةً ذاتَ أغصانٍ مُثقَلَةٍ بالثِّمار. ثُمَّ وضعَ أمامَ تلاميذِهِ التَّحدِّي بأن يثبُتُوا فيهِ، تماماً كما تثبُتُ هذه الأغصانُ في الكَرمَة التي كانت تجعَلُ هذه الأغصان مُثمِرَةً (يُوحَنَّا 15: 1- 16).
تَرِدُ هاتانِ الكَلِمتان "في المسيح" حوالي مائتي مرَّةً في العهدِ الجديد. وهذه واحدَةٌ منَ الطُّرُقِ المُفَضَّلةِ عندَ بُولُس الرسُول ليُعَبِّرَ عن العلاقة بينَ المُؤمن وبينَ المسيح الحَي المُقام. فهُوَ يستخدِمُ هذه العبارَة 97 مرَّةً في كتاباتِهِ. هاتانِ الكَلِمَتان، بالإضافَةِ إلى إستَعارَةِ يسُوع التي تُفَسِّرُ معناها، تُساعِدُنا على فهمِ القسمِ الثَّاني منَ العهد الذي قطَعَهُ يسُوعُ معَ مرثا. "كُلُّ من كانَ حَيَّاً وآمنَ بي، لن يَمُوتَ إلى الأبد."
لا يبدُو أنَّ مَرثا تفهَمُ ما كانَ يسألُها إيَّاهُ يسُوع، عندما طرحَ عليها السُّؤال: "أتُؤمِنينَ بهذا؟" ولكن هل كُنتَ أنتَ ستفهَمُ هذا السُّؤال؟ لو كانَ يُوجَدُ مُتَّسَعٌ منَ الوقتِ لِتَلقِينِ مرثا دَرساً منَ الكتابِ المُقدَّس، لرُبَّما لَفَهِمَتِ المقصد. أنا مُقتَنِعٌ أنَّها لو أخَذَت وقتَها وبَذَلَتِ الجُهدَ لتفهَمَ ما كانَ يسُوعُ يَقُولُهُ لها، لكانت آمنَتْ بِرَبِّها.
هذا جوابٌ آخر على السُّؤال، "ما هُوَ الإيمان؟" كما تعلَّمنا في الإصحاحِ السَّادِس، من خلالِ مَثَلِ بُطرُس، تُوجدُ أوقاتٌ عندما يتبَعُ الإيمانُ يسُوع، حتَّى ولو لم نفهَمْ ذلكَ تماماً (يُوحَنَّا 6: 67، 68). إنَّ مِثالَ مَرثا السَّلبِيّ، الذي يُعَلِّمُنا ما ليسَ هُوَ الإيمانُ، يُعَلِّمنا أنَّ الإيمانَ ينبَغي أن يأخُذَ أحياناً الوقتَ الكافِي وأن يبذُلَ مجهُوداً كافياً ليفهَمَ ما يَقُولُهُ الرَّبُّ لنا عندما تجتاحُ مصائِب غير إعتِيادِيَّة حياتَنا. فالقضِيَّةُ الأكثَرُ أهمِّيَّةً بالنِّسبَةِ لكَ ولي هي التَّحدِّي التَّالِي: هل نُؤمِن، وهل نحيا حياتَنا في المسيح؟
بعدَ أن نُلاحِظَ جوابَ مرثا الصَّريح، نقرَأُ بعدَها أنَّ مَرثا: "...مَضَتْ ودَعَت مَريَمَ أُختَها سِرَّاً قائِلةً المُعَلِّمُ قد حَضَرَ وهُوَ يَدعُوكِ. أمَّا تِلكَ فلَمَّا سَمِعَتْ قامَتْ سَريعاً وجَاءَت إليهِ." (يُوحَنَّا 11: 28- 29).
بينَما تقرَأُون هذه القِصَّة عن كيفيَّةِ تجاوُبِ هاتَينِ الشَّقيقَتينِ معَ مرَضِ ومَوتِ أخيهِما، لاحِظُوا التَّالِي: مَريم لم تَذهَبْ لتَرى يسُوعَ، إلا عندما أرسَلَ يدعُوها. أمَّا مرثا التي تجعَلُ الأُمُورَ تحدُث، فقرَّرَت الوقتَ الذي ستلتَقي فيهِ بيسُوع. فإلتَقَتْ بهِ على الطَّريقِ، قبلَ أن يَصِلَ إلى بَيتِ عَنيا. هذه هي مرثا. أمَّا مريَم فلَم تَكُنْ مثلَها. بل إنتَظَرَت مريم إلى أن أرسَلَ الرَّبُّ بِطَلَبِها. ولكن سُرعانَ ما سَمِعَتْ كَلِمَةً منَ الرَّبّ بأنَّ مُعَلِّمَها يُريدُ أن يلتَقِيَ بها، حتَّى تجاوَبَت بأقصَى سُرَعَةٍ.
نقرَأُ بعدَ ذلكَ: "فَمَريَمُ لمَّا أتَتْ إلى حَيثُ كانَ يسُوعَ ورَأَتْهُ، خَرَّت عندَ رِجلَيهِ قائِلَةً لهُ يا سَيِّدْ لو كُنتَ هَهُنا، لم يَمُتْ أخِي." هذه هي الكلماتُ نفسُها التي خاطَبَت بها مرثا يسُوع. لا نستطيعُ أن نرى كيفَ كانت تقاسيمُ الوجهِ أو نبرَةُ الكلماتِ التي قالَتها مريم. ولكنَّنا نقرَأُ شيئاً عن تعابير جسدِها. فلقد خَرَّت عندما قَدَمَيهِ وقالَت، "يا سَيِّد، لو كُنتَ هَهُنا لم يَمُتْ أخِي." (يُوحَنَّا 11: 32)
في العهدِ الجديد، تُوجدُ سَبعُ نساءٍ تُدعَى كُلٌّ منهُنَّ مريم. ولدَينا لمحاتٌ أُخرى على حياةِ مريم هذه بالتَّحديد. فَمَثَلاً، كما سبقتُ وأشَرتُ، عندما زارَ يسُوعُ أوَّلاً هاتَينِ الأُختَين، جَلَسَت مريمُ عندَ قدَمَيهِ تُصغِي لكَلماتِهِ (لُوقا 10: 38- 42). في الإصحاح الثَّانِي عَشَر، سوفَ نَجِدُها عندَ قَدَمَي يسُوع تعبُدُهُ. في هذا الإصحاح، نَجِدُها عندَ قَدَمَيهِ تقَبَلُ إرادَتَهُ. نَجِدُها تَقُولُ: "لو كُنتَ هَهُنا لم يَمُتْ أخِي. ولكنَّني أُريدُكَ أن تعرِفَ أنَّني سأعبُدُكَ على أيَّةِ حال. فسواءٌ أفَهِمتُ أنا ذلكَ أم لا، لديَّ الإيمانُ لأقبَلَ الحقيقَةَ الصَّعبَةَ بأنَّهُ لدَيكَ أسبابكَ لعدَم كَونِكَ مَوجُوداً لتُنقِذَ حياةَ أخي في الوقتِ المُناسِب."
- عدد الزيارات: 2929