Skip to main content

الفَصلُ الرَّابِع "نهايَةُ البِدايَة"

(يُوحَنَّا 12: 1- 23)

  يبدَأُ الإصحاحُ الثَّاني عشر من إنجيلِ يُوحَنَّا كالتَّالِي: "ثُمَّ قَبلَ الفِصحِ بِسِتَّةِ أيَّامٍ أتَى يسُوعُ إلى بَيتِ عَنيا، حيثُ كانَ لِعازَرُ المَيتُ الذي أقامَهُ منَ الأموَات. فَصَنَعُوا لهُ هُناكَ عشاءً. وكانت مرثا تخدِمُ وأمَّا لِعازارُ فكانَ أحد المُتَّكِئِينَ معَهُ. فأَخَذَت مريَمُ منَّاً من طِيبِ نارِدينٍ خالِصٍ كَثيرِ الثَّمَن ودَهَنَت قَدَمَي يسُوع ومَسحَت قَدَمَيهِ بِشَعرِها. فامتَلأَ البَيتُ من رائِحَةِ الطِّيب.

"فقالَ واحِدٌ من تلاميذِهِ وهُوَ يَهُوَّذا سِمعان الإسخَريُوطِيُّ المُزمِعُ أن يُسَلِّمَهُ. لماذا لم يُبَعْ هذا الطِّيبُ بِثلاثمئة دينار ويُعطَ للفُقَرَاء. قالَ هذا ليسَ لأنَّهُ كانَ يُبالِي بالفُقراء بل لأنَّهُ كانَ سارِقاً وكانَ الصُّندُوقُ عندَهُ وكانَ يحمِلُ ما يُلقَى فيهِ. فقالَ يسُوعُ أترُكُوها. إنَّها لِيَومِ تَكفيني قد حَفِظَتْهُ. لأنَّ الفُقَراءَ معَكُم في كُلِّ حِينٍ. وأمَّا أنا فلَستُ معَكُم في كُلِّ حِينٍ.

"فعَلِمَ جمعٌ كَثيرٌ منَ اليَهُودِ أنَّهُ هُناكَ، فجاؤُوا ليسَ لأجلِ يسُوعَ فقَط بل لِيَنظُرُوا أيضاً لِعازار الذي أقامَهُ منَ الأموات. فتَشاورَ رُؤَساءُ الكَهَنَةِ ليَقتُلُوا لِعازارَ أيضاً. فإنَّ كَثيرينَ منَ اليَهُودِ كانُوا بِسَبَبِهِ يذَهبُونَ ويُؤمِنُونَ بيسُوع." (يُوحَنَّا 12: 1- 11)

يبدَأُ هذا الإصحاحُ بمَشهدِ غَداءٍ آخر يتضمَّنُ مَريَم ومَرثا. وكما نتوقَّعُ، نقرأُ هذهِ الكَلِمَات التي تَصِفُ دَورَ مرثا: "وكانت مرثا تخدِمُ." كانَ هذا نَمُوذَجُ مَوهِبَتِها ودَعوَتِها. نجدُ أيضاً مريم تُظهِرُ دعوَتَها، نَوعَ مَوهِبَتِها، وأولويَّاتِها – أي عندَ قَدَمَي يسُوع، مُقدِّمَةً لهُ تضحِيَةَ عِبادَةٍ غالِيَة جدَّاً.

في تلكَ الحَضَارَة، إعتادَ النَّاسُ أن يستَلقُوا على وَسائِدَ بينما كَانُوا يتناوَلُونَ الطَّعام. وكانت العادَةُ أيضاً أن يغسِلُوا أرجُلَ ضُيُوفِ الوَليمَةِ حالَ وُصُولِهم. في هذا الإطارِ الحضارِيّ قدَّمت مريَمُ هديَّتَها الجميلة في تضحِيَةِ العبادَة. فلقد سَكَبَت طيبَ ناردينٍ زَكِيّ على قَدَمَي يسُوع، كانت تُساوِي قيمَتُهُ أجرَ عامٍ كامِل. فعبقَ المنزِلُ برائِحَةِ الطَِّيب.

ولقد سبقَ وذَكَرَنا أنَّهُ في نهايَةِ الإصحاحِ العاشِر من إنجيلِ لُوقا، عندما إتَّهَمت مرثا يسُوع بعدَمِ إكتِراثِهِ لكونِ مريم لم تَكُن تُساعِدُها في خدمَتِهِ، أنَّ يسُوعَ دافَعَ عن مريَم. هُنا أيضاً نَجدُهُ يُدافِعُ عن مريم، وهُوَ يَقُولُ ما فحواهُ، "هذا ذَبيحَةُ عبادَة. فَلَقَد حَفِظَتْ هذا الطِّيب لهذه المُناسَبَة، لكي تتنبَّأَ بشكلٍ رَمزِيٍّ بيَومِ تكفيني." (عدد 7)

إبتداءً من هذا الإصحاح، سوفَ يُسَجِّلُ النِّصفُ الثَّانِي من هذا الإنجيل أحداثِ أهمِّ أُسبُوعٍ من أهمِّ حياةٍ سبقَ وعاشَها أحدٌ على وجهِ هذه الأرض.

في تِلكَ الأيَّام، وكما رأَينا في حالَةِ لِعازار، كانُوا يُقَمِّطُونَ المَيتَ بالأكفان، كالمُومياء القديمة. وكانُوا يضعُونَ أيضاً أطياباً غالِيَةَ الثَّمَن في الأكفان، لكَي تطغَى على رائِحَةِ المَوتِ الكريهة التي كانت تنبَعِثُ عادَةً منَ الجُثَث.

بينما كانَ يسُوعُ يُدافِعُ عن مريَم، قدَّمَ التَّعليقَ التَّالِي عن نفسِهِ: "لأنَّ الفُقَراءَ معَكُم في كُلِّ حِينٍ، وأمَّا أنا فَلَستُ معَكُم في كُلِّ حِين." (عدد 8) هذه واحِدَةٌ من عِدَّةِ طُرُقٍ سَريعَةٍ يُقدِّمُها يُوحَنَّا في هذا الإنجيل، ليُؤَكِّدَ أنَّ يسُوعَ هُوَ الله. لقد عبَدَت مريَمُ يسُوعَ، وقَبِلَ يسُوعُ عبادَتَها لهُ. ولقد دافَعَ بالحقيقَةِ عن عبادَتِها له. ولكنَّنا نَجِدُ أنَّ الرِّسُولَين بُولُس وبُطرُس لم يقبَلا أن يسجُدَ لهُما أحدٌ ولا أن يعبُدَهُما (أعمال 10: 25 و26، 14: 11- 18). ولكنَّ يسُوعَ كانَ أكثَرَ من مُجَرَّدِ إنسانٍ، وكونَهُ الله في صُورَةِ إنسان، قَبِلَ منَ النَّاسِ سُجُودَهُم وعبادَتَهُم لهُ.

إنَّ كاتِبَ هذا الإنجيل يُدخِلُ تعليقَهُ بأنَّهُ ليسَ لأنَّ يَهُوَّذا كانَ يهتَمُّ بالفُقراء قالَ ما قالَهُ حِيَالَ ثَمَنِ هذا الطِّيب الذي سكبَتْهُ مريَمُ على قَدَمَي يسُوع، وأنَّهُ كانَ ينبَغي أن يُعطَى لِلفُقَراء. فيُوحَنَّا قالَ بدُونِ تحَفُّظٍ أنَّ يَهُوَّذا قالَ هذا لأنَّهُ كانَ لِصَّاً.

تُعجِبُني الطَّريقة التي يكتِبُ بها يُوحَنَّا. في رسالتِهِ الصَّغيرة، في نهايَةِ العهدِ الجديد، والتي تُسَمَّى بِرسالَة يُوحَنَّا الأُولى، نَجِدُهُ بَسيطاً ومُباشَراً عندما يُخبِرُنا كيفَ يُمكِنُنا أن نعرِفَ إنْ كُنَّا مُؤمنينَ حقيقيِّين. يكتُبُ قائِلاً أنَّنا إن قُلنا أنَّ لنا شَرِكَةٌ معَ المسيح ولكنَّنا إستَمَرَّينا بالسُّلُوكِ بالظُّلمَة، نكُونُ كاذِبين! (1يُوحَنَّا 1: 6؛ 4: 20، 21). فعندما أضافَ يُوحَنَّا تعليقَهُ حولَ يهُوَّذا، كتبَ يقُولُ بِبَساطَة، "قالَ هذا لأنَّهُ كانَ سارِقاً ولِصَّاً." ثُمَّ يُخبِرُنا يُوحَنَّا بأنَّ يَهُوَّذا الإسخريُوطِي كانَ أمِينَ الصُّندوق، وكانَ يسرِقُ منهُ دائماً.

يَظُنُّ البَعضُ أنَّهُ بما أنَّ يسُوعَ قالَ، "الفُقراء معَكُم في كُلِّ حِين، علينا أن لا نهتَمَّ كَثيراً بمُساعَدَةِ الفُقراء. ولكن ليسَ هذا ما قصدَهُ يسُوع. بل كانَ يُشيرُ إلى أنَّهُ سوفَ تكُونُ الفُرصَةُ سانِحَةً دائماً لنا لنُساعِدَ الفُقراء، ولكن لن تَكُونَ الفُرصَةُ سانِحَةً دائماً ليَكُونَ يسُوعُ معنا في الجسد. لهذا كانَ منَ المُناسِبِ جداً لمريم أن تُقدِّمَ هذه العبادَة الجميلة والمُكلِفَة، والتي إعتَبَرَها يسُوعُ تُشيرُ رمزِيَّاً إلى مَوتِهِ ودفنِهِ.

نقرَأُ أنَّ جُمُوعاً كثيرَةً تجمهَرَت حولَ هذا المنزِل، ليسَ فقط ليَرَوا يسُوع، بل أيضاً ليَرَوا لِعازارُ الذي سبقَ وأقامَهُ يسُوعُ منَ الموت. لهذا، قامَ رُؤساءُ الكَهَنة، الذي كانُوا أصلاً يُعِدُّونَ خُطَّةً لِيقتُلُوا يسُوع، قامُوا بالتَّخطيطِ لقتلِ لعازار أيضاً، لأنَّ مُعجِزَةً إقامَتِهِ منَ الموت جعَلَت الكثيرِينَ منَ اليَهُود يُؤمِنُونَ بيسُوع.

وكما سبقَ ورأينا في الإصحاحِ الحادِي عَشَر من هذا الإصحاح، عندما نُؤمِنُ بالمسيح ونحيا فيهِ، لن نَمُوتَ إلى الأبد. وبينما نُتابِعُ عَيشَ حياتِنا في المسيح في هذا العالم، بمعنى ما سنختَبِرُ قيامَةً شَخصِيَّةً. وصفَ بُولُس هذه القيامة كالتَّالِي: "إن كانَ أحدٌ في المسيح فهُوَ خليقَةٌ جديدة. الأشياء العَتيقة قد مَضَت. هُوَّذا الكُلُّ قد صارَ جديداً. (2كُورنثُوس 5: 17، 18).

بمعنىً ما، هذا تَحَوُّلٌ أو إختِبارٌ للإنتِصارِ على المَوت. فإذا كُنتَ قدِ إختَبَرتَ الوِلادَةَ الجديدة، إحدَى الطُّرُق التي يُمجِّدُ بها إختِبارُكَ اللهَ ويُعظِّمُ يسُوعَ المسيح، هي عندما يأتي أشخاصٌ للإيمانِ بالمسيح عندما يرَونَ أيَّ نَوعٍ منَ الخليقَةَ الجديدَةً قد أصبَحتَ. ومثل لعازار، سوفَ يُجذَبُونَ إلى يسُوع عندَما سيَرَونَ المُعجِزَة التي عَمِلَت في حياتِكَ.

سيَكُونُ أيضاً أُولئكَ الذين يكرَهُونَ المسيح الذي يسكُنُ فيكَ، ولذلكَ سيَكرَهُوَنَكَ أنتَ أيضاً. وقد يُحاوِلُونَ أن يتآمَرُوا ليقتُلُوكَ كما أرادُوا قتلَ لِعازار.

  • عدد الزيارات: 3058