Skip to main content

الفَصلُ الخامِس "جاءَتِ السَّاعَة"

(يُوحَنَّا 12: 20- 50)

 يتبَعُ أحداثُ أحدِ الشَّعانِين الأوَّل تعليقٌ عنِ الأشخاص الذينَ تأثَّرُوا بِقِيامَةِ لِعازار. لقد تابَعُوا نشرَ الكلمة. ولقد رَأَينا أنَّهُ بما أنَّ جَمعاً كبيراً راحَ يتجمهَرُ حَولَ يسُوع في كُلِّ مرَّةٍ كانَ يظهَرُ فيها، قالَ الفَرِّيسيُّونَ: "هُوَّذا العالَمُ قد ذَهَبَ وراءَهُ." (يُوحَنَّا 12: 19).

هَؤُلاء القادة الدِّينيُّون كانُوا بالحقيقَةِ ينطِقُونَ بنُبُوَّةٍ عندما قدَّمُوا هذه المُلاحَظة. فلقد كانت دائماً خُطَّةُ اللهِ أن تكُونَ خِدمَةُ يسُوع مُوجَّهَةً للعالَمِ أجمَع (تكوين 12: 3؛ لُوقا 2: 10). لأنَّهُ هكذا أحَبَّ اللهُ العالَمَ، وليسَ فقط شعب إسرائيل المُختار، قبلَ أن يختارُوا هُم بأنفُسِهِم أن لا يَكُونُوا مُختارِينَ. في هذه المرحلة من إنجيلِ يُوحَنَّا، يُخبِرُنا الرَّسُولُ المَحبُوب أنَّ مُهِمَّةَ يسُوع المسيح كانَت مُوجَّهَةً بِوُضُوحٍ إلى العالَمِ أجمَع.

في قِمَّةِ هذهِ الشَّعبِيَّة، جاءَ يُونانِيُّونَ إلى فِيلبُّس قائِلينَ: "يا سَيِّد، نُريدُ أن نرى يسُوع." فِيلبُّس أخبَرَ أندراوُس عن طَلَبِ هؤُلاء اليُونانِيِّين؛ وأندراوُس وفيلبُّس قالا بِدَورِهِما ليسُوع. بِمعنىً ما، يُمَثِّلُ طَلبُ هؤُلاء اليُونانِيِّين ما ينبَغي أن يَكُونَ مَوقِفُنا عليهِ خلالَ قِراءَتِنا لهذا الإنجيل. إذ علينا أن نقرَأَ الإنجيل باحِثِينَ عن يسُوع.

قامَ شُيُوخُ أوَّلِ كنيسَةٍ رَعيتُها بإلصاقِ قَولٍ منحُوتٍ إلى داخِلِ المنبَر الذي يعظُ منهُ راعي الكنيسة. وفي كُلِّ مرَّةٍ كُنتُ أعِظُ، كُنتُ أنظُرُ إلى هذه الكَلِمات: "يا سَيِّد، نُريدُ أن نرى يسُوع." ما كانَ يُشَدِّدُ عليهِ شُيُوخُ الكَنيسة كانَ: نُريدُ أن نرى يسُوعَ عندما تتكلَّمُ أنتَ أو أيُّ واعظٍ آخر من هذا المَنبَر.

سُرعانَ ما سَمِعَ يسُوعُ أنَّ هؤُلاء اليُونانِيِّينَ يطلُبُونَ رُؤيَتَهُ، حتَّى أجابَهُم، "جاءَتِ السَّاعَةُ ليَتَمجَّدَ إبنُ الإنسان." (12: 23)

خلالَ قراءَتِنا عبرَ هذه الإصحاحاتِ الإثنَي عشَر، رأينا أنَّ يسُوعَ كانَت لديهِ أولويَّاتُهُ الخاصَّة من ناحِيَةِ وقتِهِ. فلقد قالَ لأُمِّهِ قبلَ أن يُحَوِّلَ الماءَ خمراً، "لم تأتِ ساعَتي بَعد." (يُوحَنَّا 2: 4) وعندما إقتَرَحَ إخوَتُهُ عليهِ ما ينبَغي أن يَكُونَ برنامَجُ عملِهِ، أوضَحَ لهُم أنَّ لدَيهِ برنامج عمل وكُلُّ بَندٍ على هذا البرنامجِ كانَ ينبَغي أن يَكُونَ بِمَشيئَةِ الآب. نقرَأُ أنَّ يسُوعَ قالَ: "لم تأتِ ساعَتي بَعد." (يُوحَنَّا 7: 6) ولقد كرَّرَ هذا التَّصريح بِقولِهِ، "وقتي لم يُكمَلْ بعد." (يُوحَنَّا 7: 8). في الإصحاحِ التَّالِي، نقرَأُ أنَّهُ "لم يُمسِكْهُ أحدٌ لأنَّ ساعَتَهُ لم تَكُنْ قد جاءَت بَعدُ." (يُوحَنَّا 8: 20)

هذا يُحَضِّرُنا لنُقدِّرَ مدى خُطُورَة ما قصدَهُ يسُوعُ عندما قالَ، "لم تأتِ السَّاعَةُ بعد." (يُوحَنَّا 12: 23). هذه الكَلمات تَعني أنَّهُ كانَ على وشكِ البَدءِ بعملِهِ البالِغ الأهمِّيَّة – كانَ يدخُلُ إلى عمَلِ الصَّليب، المَوت، القِيامَة، وبدايَة العمل الذي سيستَمِرُّ إلى مجيئِهِ الثَّانِي وسيتخطَّاهُ وُصُولاً إلى مُلكِهِ الأبديّ الذي لن ينتَهِي. نحنُ الآن مُهَيَّأُونَ لإكتِشافِ واحِدٍ من أكثر المقاطِع أهمِّيَّةً في الإنجيل: "قد أتَتِ السَّاعَةُ ليَتَمَجَّدَ إبنُ الإنسان. الحقَّ الحَقَّ أقُولُ لكُم إن لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الحِنطَةِ في الأرضِ وتَمُتْ فَهِيَ تَبقَى وحدَها. ولكن إن ماتَت تأتِي بِثَمَرٍ كَثِير. من يُحِبُّ نفسَهُ يُهلِكُها، ومن يُبغِض نفسَهُ في هذا العالم يحفَظها إلى حياةٍ أبديَّة. إن كانَ أحَدٌ يخدِمُني فليَتبَعني. وحَيثُ أكُونُ أنا هُناكَ أيضاً يَكُونُ خادِمِي. وإن كانَ أحدٌ يخدِمُني يُكرِمُهُ الآبُ."

"الآن نفسِي قدِ إضطَّرَبَت. وماذا أقُولُ. أيُّها الآبُ نَجِّنِي من هذه السَّاعَة. ولكن لأجلِ هذا أتَيتُ إلى هذه السَّاعَة. أيُّها الآبُ مَجِّدِ إسمَكَ. فجاءَ صَوتٌ منَ السَّماءِ مَجَّدتُ وأُمَجِّدُ أيضاً. فالجمعُ الذي كانَ واقِفاً وسَمِعَ، قالَ قد حَدَثَ رَعدٌ. وآخرُونَ قالُوا قد كَلَّمَهُ ملاكٌ. أجابَ يسُوعُ وقالَ ليسَ من أجلِي صارَ هذا الصَّوتُ بَل من أجلِكُم. الآنَ دَينُونَةُ هذا العالم. الآنَ يُطرَحُ رَئيسُ هذا العالم خارِجاً. وأنا إنِ إرتَفَعتُ عنِ الأرض، أجذِبُ إليَّ الجَميع."

"قالَ هذا مُشيراً إلى أيَّةِ مِيتَةٍ كانَ مُزمِعاً أن يَمُوتَ. فأجابَهُ الجَمعُ نحنُ سَمِعنا منَ النَّامُوسِ أنَّ المسيحَ يبقَى إلى الأبد. فكَيفَ تَقُولُ أنتَ إنَّهُ ينبَغي أن يرتَفِعَ إبنُ الإنسان. من هُوَ هذا إبنُ الإنسان." (يُوحَنَّا 12: 23- 34)

في إجابَتِهِ على عَدَمِ إيمانِهِم الواضِح، إقتَبَسَ مقطَعَين من إشَعيَاء، حيثُ يُطرَحُ السُّؤالُ لماذا يُؤمِنُ البَعضُ ولا يُؤمِنُ البَعضُ الآخر. بدَأَ إشَعيَاءُ إحدَى أهمّ عظاتِهِ (أو إصحاحاتِهِ) بالسُّؤال: "من صَدَّقَ خَبَرَنا، ولِمَنِ إستُعلِنَت ذِراعُ الرَّبّ؟" وفي مكانٍ آخر، يُعَلِّمُ إشَعياءُ أنَّنا عندَما نرى التَّجاوُبَ بِعَدَمِ الإيمان، أحياناً يَكُونُ السَّبَبُ أنَّ اللهَ أعمَى عيُونَ أُولئِكَ الذينَ لا يُؤمِنُون (إشَعياء 53: 1؛ 8: 10).

"فقالَ لهُم يسُوعُ النُّورُ معَكُم زَماناً قَليلاً بعد. فَسِيرُوا ما دامَ لكُمُ النُّورُ لِئلا يُدرِكَكُم الظَّلامُ. والذي يَسِيرُ في الظَّلامِ لا يَعلِمُ إلى أينَ يذهَبُ. ما دامَ لكُمُ النُّورُ، آمِنُوا بالنُّور لِتَصِيرُوا أبناءَ النُّور. تكلَّمَ يسُوعُ بِهذا ثُمَّ مَضَى وإختَفَى عنهُم."

في هذا المَقطَع، يقتَبِسُ يُوحَنَّا قَولَ يسُوع أنَّ الصَّليبَ كانَ الغايَةَ الأساسِيَّةَ لمجيئِهِ إلى هذا العالم. في حوارِهِ معَ مُعَلِّمِ النَّامُوس نيقُوديمُوس، قدَّمَ يسُوعُ تصريحاً واضِحاً ومُوجَزاً عن مُهِمَّتِهِ الإرساليَّة، عندما قالَ لمُعلِّمِ النَّامُوسِ هذا ما معناهُ: "ينبَغي أن أُرفَعَ (أي أن أُصلَبَ)، لأنِّي أنا إبنُ اللهِ الوحيد، وأنا حَلُّ اللهِ الوحيد، وأنا المُخلِّصُ الوحيدُ المُرسَلُ منَ الله." (يُوحَنَّا 3: 14- 21). في هذا المقطَع هُنا في الإصحاحِ الثَّانِي عَشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا، نجدُ التَّصريحَ الإرسالِيَّ الواضِحَ والمُختَصَر ذاتَهُ.

وعندما وصلَ إلى ساعَتِهِ، وكانَ يُواجِهُ الصَّليب، إستَخدَمَ صُورَةً مجازِيَّةً جميلَةً عندَما قالَ، "حبَّةُ الحِنطَةِ إن لم تقَعْ في الأرضِ وتَمُتْ فهِيَ تبقَى وحدَها. ولكن إن ماتَت، تأتي بِثَمَرٍ كَثير." (24) لقدِ إستَخدَمَ نامُوساً طبيعيَّاً ليُعلِّمَ نامُوساً رُوحِيَّاً. وكونهُ المُعلِّم الأعظَم، إنطَلَقَ منَ المَعلُومِ إلى المَجهُول، لكَي نتمكَّنَ من فهمِ حقيقَةٍ رُوحيَّة. وبما أنَّنا مُعتادِينَ على أن نُلاحِظَ دَوريَّاً النَّوامِيس الطَّبيعيَّة، غالِباً ما يستَخدِمُ يسُوعُ إيضاحاتٍ منَ الطَّبيعة. مثلاً، "تأمَّلُوا زنابِقَ الحقلِ كيفَ تنمُو،" – ثُمَّ تأمَّلُوا كيفَ تنمُونَ أنتُم رُوحِيَّاً. (متَّى 6: 28).

وهذا ما يَفعَلُهُ هُنا. فإن لم تُدفَن حبَّةُ الحِنطَةِ أو إن لم تُزرَعْ في التُّرابِ، فهِيَ تبقَى مُجَرَّدَ حبَّةِ قَمح، وستبقَى هكذا مدَى العُمر. ولكن عندمَا تُدفَنُ في التُّراب، تُنتِجُ عدَّةَ بُذُورٍ مثلَها. يُطَبِّقُ يسُوعُ هذا المبدَأُ أوَّلاً على نفسِهِ، فيما يتعلَّقُ بموتِهِ على الصَّليب. فهُوَ يَقُولُ أنَّهُ هُوَ حَبَّةُ الحِنطَة، وينبَغي أن يُصلَبَ، وأن يُدفَنَ ويَقُومَ منَ المَوت، لأن هذه هي الطريقة التي سيجعَلُهُ اللهُ بها مُثمِراً.

ثُمَّ يُطَبِّقُ المبدَأَ على أيٍّ شَخصٍ يدعُوهُ رَبَّاً ويُسمِّي نفسَهُ تلميذاً يتبَعُ يسُوع. ويختُمُ يسُوعُ هذا التَّعليمِ العَميق بتصريحٍ عَلَنِيٍّ أنَّنا إذا دَعَونا أنفُسَنا تلاميذَهُ، فسوفَ نتبَعُهُ ونخدُمُهُ بتطبيقِ هذا المبدَأ على حَياتِنا.

بهذه الطريقة يُوضِحُ لاحِقاً جَوهَرَ هذا المبدَأ الذي علَّمَهُ: "من يُحِبُّ نفسَهُ يُهلِكُها. ومن يُبغِضُ نفسَهُ في هذا العالم يحفَظُها إلى حياةٍ أبديَّة." نجدُ هذا التَّطبيقِ التَّوضِيحي مُسَجَّلاً أيضاً في الأناجيلِ الأُخرى. (لُوقا 9: 23- 25؛ متَّى 10: 39؛ مرقُس 8: 35).

يُعَلِّمُ يَسُوعُ هُنا بعضَ الحقائِقِ الرُّوحِيَّةِ عنِ الحياة. ولكي نفهَمَ إيضاحَهُ هذا بِشَكلٍ أفضَل، دَعُونا نتخيَّلُ ساعَةً رَملِيَّة. ولنَدَعِ الزُّجاجَ يُمَثِّلُ جسدَنا، والرَّملَ يُمَثِّلُ حياتَنا في هذا الجسد. لن يكُونَ بإمكانِنا أن نُوقِفَ الوقتَ عنِ الضَّياع تماماً كما لا يُمكِنُنا أن نُوقِفَ الرَّملَ عنِ الإنسيابِ عبرَ هذه السَّاعَةِ الرَّملِيَّة. يُعَلِّمُنا يسُوعُ هُنا أنَّهُ لن يَكُونَ بإمكانِنا أن نُخَلِّصَ أو أن نحفَظَ حياتَنا. وهذا ما قصدَهُ المُرَنِّمُ عندما قالَ في المَزمُور 22: 29 ما معناهُ، "لا أحدَ يستَطيعُ أن يُحِييَ نفسَهُ."

فنحنُ لا نَستَطيعُ أن نُخَلِّصَ حياتَنا، ولا أن نُحافِظَ عليها. بالحقيقة، الكائِنُ البَشَريُّ الذي يُحاوِلُ أن يَحفَظَ حياتَهُ، سَيَكُونُ أكبَرَ خاسِرٍ لحَياتِهِ، بِحَسَبِ يسُوع. فهَل تستطيعُ أن تتصوَّرَ نفسَكَ تقُولُ، "سوفَ أحبِسُ نفسِي وأجلِسُ لأُحافِظَ على حياتِي؟"

ذاتَ يَومٍ كُنتُ أركُضُ في الهواءِ الطَّلقِ في حضارَةٍ بِدائِيَّة. فخرجَ النَّاسُ من بينِ الأدغالِ ليتفرَّجُوا مُندَهِشينَ، لأنَّهُم كانُوا يعتَقِدُونَ أنَّ أفضَلَ طريقَةٍ للحفاظِ على حياتِهم هي بالخُلُودِ للرَّاحَةِ أطوَلَ وقتٍ مُمكِن. كانَ تفكيرُهُم يَقُولُ أنَّهُم كُلَّما عَمِلُوا بِجُهدٍ أكبَر وأحرَقُوا طاقَةً أكثَر، كُلَّما تسارَعَ مَوتُهُم، لأنَّهُم يُنفِقُونَ حياتَهُم بإحراقِهم الطَّاقَة." بالطَّبعِ نحنُ نعرِفُ أنَّ العكسَ هُوَ الصَّحيح. فإذا جَلَسنا بِكَسَلٍ وإستسلَمنا للرَّاحَةِ طوالَ الوقت، فسَوفَ نُقَصِّرُ حياتَنا بِشَكلٍ مأساوِيّ. رُغمَ أنَّ يسُوعَ كانَ يُطَبِّقُ تعليمَهُ على مُستَوىً أعمَق، ولكنَّ تعليمَهُ يَصُحُّ على المُستَوى الجَسَديّ أيضاً. فعَلَينا أن نستَهلِكَ حياتَنا حرفِيَّاً بالتَّمارِين الرِّياضِيَّة، وإلا لخَسِرنا حياتَنا.

لا يُمكِنُنا أن نُخَلِّصَ حياتَنا، ولكنَّ يسُوعَ يُعَلِّمُ أنَّهُ تُوجَدُ أُمُورٌ مُعَيَّنَة يُمكِنُنا أن نعمَلَها بِحياتِنا. إذ لَدَينا سَيطَرَة محدُودَة على كَيفِيَّةِ خُرُوجِ الرَّملِ منَ زُجاجِ السَّاعَة، أو على كيفيَّةِ قضاءِ أيَّامِ حياتِنا. مثلاً، بإمكانِنا أن نجعَلَ الرَّملَ يستَمِرُّ بالإنسيابِ حتَّى لا تبقى ولا حبَّة رمل واحِدَة في السَّاعَةِ الزُّجاجِيَّة. وبإمكانِنا أن نحيا سَبعِينَ سنَةً وأن لا نُفَكِّرَ بتاتاً بالقَصدِ الذي نعيشُ حياتَنا من أجلِهِ.

نقرَأُ في العَهدِ القَديم: "لأنَّهُ لا بُدَّ أن نَمُوتَ ونَكُونَ كالماءِ المُهراقِ على الأرض الذي لا يُجمَعُ أيضاً." (2صَمُوئيل 14: 14). إن كُنَّا لا نُفَكِّرُ بالقَصدِ من حياتِنا إلى أن نُصبِحَ في الخامِسَةِ والثَّمانِين منَ العُمر، نَكُونُ قد أَضَعنا حياتَنا سُدَىً. نحنُ مخلوقاتٌ ذات خيار، وهذا خيارٌ بإمكانِنا أن نتَّخِذَهُ. فبإمكانِنا أن نُبَدِّدَ حياتَنا كالماءِ المُهراقِ على الأرض الذي لا يُمكِنُ جَمعُهُ أيضاً.

وبإمكانِنا أيضاً أن نقتَرِفَ خَطِيَّةَ عِيسُو، وأن نبيعَ بُكُورِيَّتَنا بأكلَةٍ منَ العَدَس (تكوين 25: 29- 34). أشخاصٌ كَثيرُونَ يُراهِنُونَ على حياتِنا. بإمكانِنا أن نَبيعَ حياتَنا للذي يدفَعُ الثَّمَنَ الأغلى في المزادِ العَلَنِيّ، أو لأيِّ شَخصٍ يدفَعُ أُجرَتَنا. يَسُوعُ يُحَذِّرُنا بأن لا نبيعَ بُكُوريَّتَنا: "لأنَّهُ ماذا ينتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نفسَهُ؟ أو ماذا يُعطِي الإنسانُ فِداءً عن نفسِهِ؟" تستخدِمُ بعضُ التَّرجمات كلمة "ذات" بدَل "نفس." وهكذا تُصبحُ التَّرجمَةُ، "لأنَّهُ ماذا ينتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ ذاتَهُ أو هُوِيَّتَهُ الحقيقيَّة؟ وماذا يُمكِنُهُ أن يُعطِيَ مُقابِلَ إستردادِ ذاتِهِ التي خَسِرَها؟" (مرقُس 8: 35- 37) نَجِدُ سُؤالَين هُنا: "ماذا ينتَفِعُ الإنسانُ لو أعطاهُ أحدٌ ما صُكُوكَ مُلكيَّةِ كُلِّ عقاراتِ الأرض، وكُلّ مال العالم، إن كانَ بِبَساطَةٍ سيخسَرُ نفسَهُ؟" و، "بماذا يُمكِنُ أن يُبادِلَ الإنسانُ نفسَهُ؟" هذان السُّؤالانِ هُما في غايَةِ الأهمِّيَّة.

يُعَرِّفُ القامُوسُ "نفس" كالتَّالِي: "الشَّخصِيَّة الفَردِيَّة، أي فرادَة أي شَخص التي تجعَلُ منهُ مُمَيَّزاً عن كُلِّ كائِنٍ بَشَرِيٍّ آخَر." بِكَلِماتٍ أُخرى، اللهُ يُريدُكَ أن تَكُونَ شَخصِيَّةً فَريدَةً فَذَّة، ويُعَلِّمُ يسُوعُ أنَّكَ ستَكُونُ غَبِيَّاً لو ضَحَّيتَ بهذه الهُوِيَّة الشَّخصِيَّة الفَريدة وبعتَ نفسَكَ لتربحَ العالََمَ بأسرِهِ.

السُّؤالُ الثَّانِي هُو أكثَرُ فحصاً منَ الأوَّل. "أو ماذا يُعطي الإنسانُ فداءً عن نفسِهِ؟" بكلماتٍ أُخرى، مُقابِلَ ماذا يُمكِنُ أن يَبيعَ الإنسانُ نفسَهُ؟ الجوابُ الكتابِيُّ كانَ فيما يتعلَّقُ بِعِيسُو: من أجلِ أكلَةِ عَدَس." لم يَعرِفْ عِيسُو قيمَةَ نفسِهِ، فباعَها رَخيصَةً جداً.

لقد قدَّمَ لنا يسُوعُ نَمُوذجاً عندما مضَى إلى الصَّليب. فهُوَ لم يُقدِّمْ نفسَهُ فقط ذَبيحَةً تستطيعُ أن تُحقِّقَ الخلاص لكَ ولي. فهذا هُوَ قَلبُ إنجيل يسُوع المسيح، ورِسالَةُ العهدِ الجديد ولاهُوتُهُ. ولكن بالإضافَةِ إلى الخلاص المُؤَسَّس على صَليب المسيح، هُناكَ فَلسَفَةُ حياةٍ تمَّ تعليمُها وتمثِيلُها في مُواجَهَةِ يسُوع للصَّليب. فلقد أظهَرَ لنا كيفَ نتَّخِذُ الخَياراتِ الصَّحيحة عن كيفَ "ينبَغي أن يخرُجَ الرَّملُ من الساعَةِ الزُّجاجِيَّة" التي هي حياتُنا. لقد كانَ يسُوعُ يُعَلِّمُنا أن نُضَحِّيَ بحياتِنا، عندما قالَ لنا أنَّنا لن نتمكَّنَ من أن نَكُونَ مُثمِرينَ إن لم نُزرَعْ في التُّراب.

  • عدد الزيارات: 3108