الفَصلُ الخامِس "حقَّاً قام"
الآيَةُ القُصوَى
(يُوحَنَّا 20: 1- 31)
إذا فتحنا كِتابَنا المُقدَّس على الإصحاحِ العشرين من إنجيلِ يُوحنَّا، نَصِلُ عندها إلى آخِرِ آياتِ يسُوع العجائِبيَّة، التي كلَّمَنا عنها يُوحنَّا في الإنجيلِ الرَّابِع، ليُقنِعَنا أنَّ يسُوعَ هُوَ المسيح، إبن الله، ولكي تكُونَ لنا إذا آمنَّا بهِ، حياةٌ بإسمِهِ. والآن وَصَلنا إلى ما قد يُشَكِّلُ الآيَةَ القُصوَى التي يُقدِّمُها لنا يُوحَنَّا في سيرَةِ حياة يسُوع كما دَوَّنَها لنا.
لم يستَطِعْ يُوحَنَّا أن يَصبُرَ حتَّى الإصحاحاتِ الأخيرة من إنجيلِهِ، ليُقدِّمَ لنا هذه الآية القُصوى التي تُبَرهِنُ كُلَّ تصريحات يسُوع عن نفسِهِ، من هُوَ، ولماذا جاءَ إلى هذا العالم. وهُوَ يُخبِرُنا عن هذه الآية في الإصحاحِ الثَّانِي. عندما كانَ يسُوعُ يُطَهِّرُ الهَيكل، وسألَهُ رِجالُ الدِّين اليَهود عن أوراقِ إعتِمادِهِ التي تُبَرهِنُ سُلطَتَهُ للقِيامِ بهكذا عملٍ قاسٍ، أجابَ يسُوع: "أنقُضُوا هذا الهَيكَل، وفي ثلاثَةِ أيَّامٍ أُقيمُهُ."
يُخبِرُنا كُتَّابُ الأناجيل الثَّلاثة الأُخرى عن هذا الحوارِ العدائِيّ أنَّ رِجالَ الدِّينِ اليَهُود ظَنُّوا أنَّ يسُوعَ كانَ يُشيرُ إلى هيكَلِ سُليمان عندما قدَّمَ هذا التَّصريح. ولكنَّ كُتَّابَ الأناجيل يُدخِلُونَ تعليقَهُم القائِل بأنَّ يسُوعَ كانَ يُشيرُ إلى هيكلِ جَسَدِهِ. ويُخبِرُونَنا أنَّ جوهَرَ ما كانَ يَقُولُهُ لهُم هُوَ التَّالِي: [جيلُ شِرِّيرٌ وفاسِقٌ يطلُبُ آيَةً لأنَّ لا إيمانَ لهُ. فكما كانَ يُونانُ في بَطنِ الحُوتِ ثلاثَةَ أيَّامٍ، سوفَ أُدفَنُ أنا لمُدَّةِ ثلاثَةِ أيَّامٍ ثُمَّ سأقُوم. هذه هي العلامة الوحيدة والنِّهائِيَّة التي سأُعطيها لكُم." (متَّى 12: 39- 41)
وكما رأينا مُسبَقاً، بما أنَّ هذا هُوَ القَصدُ الأولَويّ لإنجيلِ يُوحَنَّا، تكلَّمَ الرَّسُولُ يُوحَنَّا عن يسُوع وهُوَ يُقدِّمُ آياتٍ تُبَرهِنُ مِصداقِيَّةَ كُلِّ الإدِّعاءات التي قدَّمَها عن من هُوَ وما هُوَ ولماذا جاءَ إلى هذا العالم. ولكنَّني مُقتَنِعٌ أنَّ يُوحَنَّا تعمَّدَ بدءَ وخِتامَ تقديمِهِ لهذه البراهِين المُعجِزِيَّة في الإصحاحِ الثَّاني والإصحاحِ العِشرين من هذا الإنجيل، معَ هذه الآية القُصوَى – قيامَة يسُوع المسيح منَ المَوت!
أنا مُقتَنِعٌ كذلكَ أنَّ هذا هُوَ السَّبَبُ الذي لأجلِهِ يُخبِرُنا يُوحَنَّا عن تطهيرِ الهَيكَل في بدايَةِ هذا الإنجيل، بينما تضَعُ الأناجيلُ الأُخرى هذا الحدَث في نهايَةِ أحداثِها. وأنا مُتيقِّنٌ أنَّ يُوحَنَّا فعلَ هذا على الأقلّ لِسَبَبين: أوَّلاً، هذه المُعجِزة تُعَزِّزُ بِقُوَّةٍ القصدَ الأساسيّ الذي لأجلِ كتبَ يُوحَنَّا إنجيلَهُ، والذي كانَ أن يُقنِعَنا أنَّ يسُوعَ هُوَ المسيح، أو المَسِيَّا. والسَّبَبُ الثَّانِي لوضعِهِ حادِثَةَ تطهيرِ يسُوع للهَيكل في بدايَةِ إنجيلِه كانَ تَوضِيح نُقطَة كون يسُوع هُوَ الله. لم يَهتَمّ يُوحَنَّا كثيراً بالتَّرتيبِ التَّاريخيّ للأُمُور، بل إهتَمَّ بإقناعِ كُلِّ من يقرأُ إنجيلَهُ بالحقائِقِ الأساسِيَّة التي أرادَنا أن نُؤمِنَ بها – والتي يُعلِنُها بِوُضُوحٍ في نهايَةِ الإصحاحِ العِشرين.
يُقدِّمُ لنا الإصحاحُ العِشرون قَلبَ إنجيل يسُوع المسيح الذي فوَّضَ تلاميذَهُ ورُسُلَهُ بالكِرازَةِ بهِ في كُلِّ أُمَّةٍ على الأرض (مرقُس 16: 15). القِيامَةُ هي النِّصفُ الأكثَرُ إثارَةً في هذا الإنجيل. فالإنجيلُ هُوَ مَوتُ يسُوع المسيح من أجلِ خطايانا وقيامَتُهُ لتَبرِيرِنا.
في 1كُورنثُوس 15، عندما لخَّصَ بُولُس الإنجيلَ قال، "وأُعَرِّفُكُم أيُّها الإخوَة بالإنجيلِ الذي بَشَّرتُكُم بِهِ وقَبِلتُمُوهُ وتقُومُونَ فيهِ. وبِهِ أيضاً تَخلُصُونَ إن كُنتُم تَذكُرُونَ أيُّ كلامٍ بَشَّرتُكُم بهِ إلا إذا كُنتُم قد آمنتُم عبَثاً. فإنَّني سلَّمتُ إليكُم في الأوَّلِ ما قَبِلتُهُ أنا أيضاً، أنَّ المسيحَ ماتَ من أجلِ خطايانا حسبَ الكُتُب. وأنَّهُ دُفِنَ وأنَّهُ قامَ في اليومِ الثَّالِثِ حسَبَ الكُتُب." (1كُورنثُوس 15: 1- 4)
يتكلَّمُ الإنجيلُ بِشكلٍ أساسيٍّ عن حقيقَتَينِ تختَصَّانِ بِيَسُوع المسيح: مَوتُ يسُوع لِغُفرانِ خطايانا، وقيامَةُ يسُوع التي تُبرهِنُ أنَّهُ كانَ مُؤَهَّلاً ليَكُونَ حمل َاللهِ الذي سيرفَعُ مَوتُهُ قصاصَ الخطيَّةِ – ماضِياً، حاضِراً ومُستَقبَلاً – ذلكَ القصاص الذي نستَحِقُّهُ على خطايانا. في الإصحاحِ التَّاسِع عشَر من هذا الإنجيل، يُقدِّمُ لنا يُوحَنَّا الحقيقَةَ الأُولى عن الإنجيل، وفي الإصحاحِ العِشرين يُقدِّمُ لنا الحقيقَةَ الثَّانِيَة عن يسُوع المسيح – قيامَتُهُ!
هُنا في الإصحاح 20، نجدُ وقائِعَ هذه الآية القُصوى، أي قيامَةُ يسُوع. ويأتي الإصحاحُ بالحقيقَةِ بِثلاثِةِ أحداث. الحادِثة الأُولى هي عندما إكتَشَف الرُّسُلُ، وأُولئكَ الذين كانُوا مُقَرَّبينَ من يسُوع المصلوب، مُعجِزَةَ القَبرِ الفارِغ المَجيدة. جرَتْ هذه المُعجِزة صباحَ يوم الأحد، أوَّل أيَّام الفِصح، اليومَ الذي قامَ فيهِ يسُوعُ من الموت.
اليومُ الذي قامَ فيهِ يسُوعُ منَ المَوت ليسَ الأساس الوحيد لما نُسمِّيهِ "الفِصح" أو "أحد القِيامَة،" ولكنَّهُ شكَّلَ تلكَ الظَّاهِرَة المُدهِشَة بتغييرِ الرُّسُل اليَهُود يومَ عبادَتِهِ من يَومِ السَّبتِ، سابِع يوم في الأُسبُوع، إلى اليوم الأوَّل منَ الأُسبُوع، أي يوم الأحد. ماذا يا تُرى كانَ الدَّافِعُ الذي جعلَهُم يُغَيِّرُونَ يومَ العِبادَة؟ إذا قرأنا بِتَمَعُّنٍ، نَجِدُ أنَّهُم لم يُسَمُّوا بتاتاً اليومَ الأوَّلَ منَ الأسبُوع بيَومِ السَّبت. بل أشارُوا إلى هذا اليوم المُمَيَّز بأنَّهُ "يوم الرَّب." وغَيَّرُوا يومَ عبادَتِهِم، لأنَّ اليوم الأوَّل منَ الأُسبُوع كانَ اليومَ الذي قامَ فيهِ يسُوعُ منَ المَوت! وحقيقَةُ كونِ المُؤمنينَ قد جعلُوا يومَ العبادَةِ عندَهُم يومَ الأحد، لِمُدَّةِ ألفَي عام، تُشَكِّلُ واحداً من عدَّةِ براهين أنَّ يسُوعَ قامَ من المَوت.
القِصَّةُ التي تَصِفُ هذا الحدَثَ الأوَّلَ تبدأُ قبلَ فجرِ يومِ الأحد بعدَ صَلبِ يسُوع. ثُمَّ الحَدَثُ الثَّانِي في الإصحاح جرى مساءَ يومَ الفِصحِ ذاك، أي مساء الأحد، أوَّل أيَّام الفِصح. أمَّا الحدثُ الثَّالِثُ فحَدَثَ بعدَ أُسبُوع، عندما تعلَّمَ تُوما وعلَّمنا جواباً هامَّاً عمَّا هُوَ الإيمان.
هذه هي الطريقة التي يَصِفُ بها يُوحنَّا أوَّلَ حَدَثٍ من هذه الأحداثِ الثَّلاثَة: "وفي أوَّلِ الأُسُبوع، جاءَت مريَمُ المَجدَلِيَّة إلى القَبرِ باكِراً والظَّلامُ بَاقٍ فنَظَرَتِ الحجَرَ مَرفُوعاً عنِ القَبر. فَرَكَضَت وجاءَت إلى سِمعان بُطرُس وإلى التِّلميذِ الآخَر الذي كانَ يسُوعُ يُحِبُّهُ وقالَت لهُما أخَذُوا السَّيِّدَ منَ القَبرِ ولسَنا نعلَمُ أينَ وضَعُوهُ." (يُوحَنَّا 20: 1، 2)
عندما جاءَت مريمُ المَجدَلِيَّة إلى القَبرِ قبلَ طُلُوعِ الفَجر، وتحتَ جناحِ الظَّلام، رأت أنَّ الحجَرَ قد أُزِيحَ عن بابِ القَبر. نفهَمُ من اللُّغَةِ اليُونانِيَّةِ الأصلِيَّة، أنَّهُ كانت تُوجَدُ سِكَّةٌ في الصخرِ، إنزَلَقَ فيها الحجَرُ لفتحِ بابِ القَبر المَختُوم. يُخبِرُنا يُوحَنَّا أنَّ مريمَ رأَت أنَّ هذا الحَجَر قد أُزيحَ عن هذه السِّكَّة، التي إنزَلقَ فيها الحجرُ الذي كانَ يختُمُ القَبر.
تُوجَدُ بِضعُ كلماتٍ يُونانِيَّةٍ للتعبيرِ عن فِعل "رأتْ." الكلمةُ الأُولى التي يستخدِمُها يُوحَنَّا هُنا، هي تلكَ الكلمة التي تُستَخدَمُ للإشارَةِ إلى الرُّؤية من بَعيد، بنَوعٍ من المُلاحَظَةِ العابِرة. ولكنَّها ركَضت على الفَور نحوَ سمعان بُطرُس. أعتَقِدُ أنَّ هذا مُثيرٌ للإهتِمامِ. فلقد أنكَرَ بُطرُس الرَّبَّ ثلاثَ مرَّاتٍ، ولكن يبدُو أنَّ مريمَ كانت لا تزالُ تعتَبِرُ بُطرُس أوَّلَ شَخصٍ ينبَغي أن يعلَمَ عن هذه القَضِيَّة. لقد إعتَبَرَت أنَّهُ كانَ قائِدَ هذه المجمُوعة المُبَكِّرَة.
هذا يعني أنَّهُ لم يعلَمْ أحَدٌ بنُكرانِ بُطرُس ليَسُوع ثلاثَ مرَّاتٍ، بإستِثناءِ يسُوع نفسُهُ ولَرُبَّما واحِدٌ أو إثنانِ منَ الرُّسُل. نحنُ أيضاً نتساءَلُ كيفَ وأينَ قضى بُطرُس وقتَهُ بينَ خُرُوجِهِ إلى الظُّلمَةِ الخَارِجيَّة ليبكِيَ بُكاءً مُرَّاً، وبينَ سَمَاعِهِ هذه الأخبارِ السَّارَّة عن القيامة؟ يعتَقِدُ بعضُ المُفَسِّرينَ أنَّهُ يُوجَدُ في كَلِمَةِ اللهِ ما يُؤَكِّدُ أنَّ بُطرُس قضَى هذا الوقت معَ يُوحَنَّا. إن كانُوا على صَوابٍ، هذا يعني أنَّ يُوحَنَّا أحَبَّ بُطرُسَ لِدَرَجَةِ أنَّهُ ضمَّهُ إلى بيتِهِ. فرَسُولُ المَحبَّةِ الذي كتبَ هذا الإنجيل، لم يُحِبّ يسُوعَ فقط، بل وبُطرُسَ أيضاً.
يبدُو أنَّ مريَمَ المجدَلِيَّة كانت لا تزالُ تعتَبِرُ بُطرُس قائِدَ التَّلاميذ. فمنَ الواضِحِ أنَّهُ كانَ قائِدَ هذه الحلقَة الصغيرة من أُولئكَ الذي كانُوا مُقَرَّبينَ من يسُوع، وإكتَشَفُوا النِّصفَ الثَّانِي من إنجيلِ المسيح. تعني كلمة "إنجيل" أخبار سارَّة!" بإمكانِنا أن نفتَرِضَ أنَّ بُطرُسَ لم يَنسَ كُلِّياً وعدَ يسُوع بأنَّهُ سيبني كنيستَهُ على حقيقَةِ أنَّ بُطرُس يُمكِنُ أن يكُونَ ناطِقاً بإسمِ الله (متَّى 16: 13- 18). وبسببِ نُكرانِهِ ليسُوع، لا بُدَّ أنَّ بُطرُسَ قد تساءَلَ كيفَ يُمكِنُ لهذا الوعدِ أن يتحقَّقَ. سنَجِدُ الجوابَ على هذا السُّؤال في الإصحاحِ الأخيرِ من هذا الإنجيل.
ركَضَت مريمُ إلى بُطرُس ويُوحَنَّا قائِلةً، "أخَذُوا السَّيِّدَ من القَبرِ، ولسنا نعلَمُ أينَ وضَعُوهُ!" ماذا قصدَت بِ "هُم؟" لَرُبَّما كانت تقصِدُ بذلكَ اليَهُودَ الذين صَلبُوا رَبَّها. أو قد تَكُونُ تقصِدُ الرُّومان الذين نفَّذُوا حُكمَ الصِّلبِ بيسُوع. ولقد تكلَّمَت بِصِيغَةِ الجمع، "لسنا نعلَمُ أينَ وضعُوهُ،" لأنَّ الأناجيلَ الأُخرى ذكرَت أنَّها لم تأتِ وحدَها إلى القَبر.
وتُتابِعُ القِصَّةُ بالقَول، "فخرجَ بُطرُس والتِّلميذُ الآخرُ وأتَيا إلى القبر. وكانَ الإثنانِ يَركُضَانِ معاً. فسبقَ التِّلميذُ الآخَرُ بُطرُس وجاءَ أوَّلاً إلى القَبرِ." (لَرُبَّما لأنَّ التلميذَ الآخرَ الذي هُوَ يُوحنَّا، كانَ شابَّاً أكثَرَ من بُطرُس.) "وإنحنَى فنظرَ الأكفانَ موضُوعَةً ولكنَّهُ لم يدخُلْ. ثُمَّ جاءَ سِمعانُ بُطرُس يتبَعُهُ ودخلَ القَبرَ ونظرَ الأكفانَ موضُوعَةً. والمِنديلُ الذي كانَ على رأسهِ ليسَ موضُوعاً معَ الأكفانِ بل ملفُوفاً في موضِعٍ وحدَهُ. فحينئذٍ دخلَ أيضاً التِّلميذُ الآخَرُ الذي جاءَ أوَّلاً إلى القَبرِ ورأَى فآمنَ." (يُوحَنَّا 20: 3- 8)
رَسُولُ المَحبَّة، الذي إستَخدَمَ كلمة محبَّة أكثَرَ جدَّاً من أيّ كاتِبٍ آخر من كُتَّابِ العهدِ الجديد، لم ينسَ بتاتاً أنَّهُ عندما إلتَقى بيسُوع، إلتَقى شخصاً أحبَّهُ كما لم يُحِبُّهُ أحدٌ من قَبل. وبعدَ سِتِّينَ سنَةً، كتبَ هذا الإنجيلِ الرَّابِع، عندما خَصَّصَ آخِرَ سِفرٍ من أسفارِ العهدِ الجديد ليسُوع، وكانَت أوَّلُ ذِكرى لديهِ عن يسُوع أنَّهُ "أحَبَّنا!" (رُؤيا 1: 5) ورسائِلُهُ المُوحَى بها، والتي نَجِدُها قُرابَةَ نهايَة ِالعهدِ الجديد، تُعطينا في مقطَعٍ واحِدٍ عشرَة أسبابٍ ينبَغي لأجلِها أن نُحِبَّ بَعضُنا بعضاً (1يُوحَنَّا 4: 7- 21).
يُخبِرُنا تاريخُ الكنيسة أنَّ يُوحَنَّا هُوَ الرَّسُولُ الوحيدُ الذي عاشَ حياةً طَويلَةً جدَّاً. وفي نهايَةِ هذه الحياةِ الطَّويلة، كانَ قد أصبَحَ ضعيفاً واهِياً لِدَرَجَةِ أنَّهُ كانَ يحتاجُ أن يُحمَلَ إلى إجتِماعاتِ الكنيسة في أفسُس، حيثُ قضَى أيَّامَهُ الأخيرة. وإذ كانَ يبدُو ذا مظهَرٍ جليلٍ مُمَيَّزٍ، بِلِحيَةٍ بيضاءَ طويلة، كانَ رَسُولُ المَحَبَّةِ هذا يرفَعُ يدَهُ ويقُولُ مُبارِكاً المُؤمنين بِصوتٍ مُتَهَدِّج: "يا أولادِي، أحِبُّوا بعضُكُم بعضاً!"
يبدُو أنَّ الكلماتِ المُستَخدَمة للتعبيرِ عن فعل "رأى" هي مُتنوِّعَة (يُوحنَّا 20: 5- 6). فبِتَفَحُّصِ هذه الكلمات التي تقُولُ، "رأى"، بإمكانِنا أن نُكوِّنَ فِكرَةً حقيقيَّةً عمَّا حصلَ أمامَ القَبرِ الذي دُفِنَ فيهِ يسُوع. فعندما دخلَ بُطرُس إلى القَبرِ الفارِغ، كتبَ يُوحَنَّا يَقُولُ أنَّ بُطرُس رأى شَيئاً. الكلمةُ التي يستَخدِمُها يُوحَنَّا هُنا تعني أنَّ بُطرُس تفحَّصَ عن كَثَب ما رآهُ. لقد رأى بُطرُس أعظَمَ مُعجِزَةٍ في الأناجيل الأربَعة.
إذا دَرَسنا عن كَثَب هذا المقطَع، سنجدُ أنَّ المُفَسِّرينَ يُوافِقُونَ جميعاً على أنَّ ما رآهُ بُطرُس ويُوحَنَّا هُوَ أنَّ كُلَّ هذه الأكفان التي كانت مَلفُوفَةً حولَ جسدِ يسُوع، وحولَ يديهِ ورِجليَهِ ورأسهِ، والتي كانت بالطبع تنضَحُ بالطِّيبِ، كانت هذه الأكفانُ تلتَفُّ حولَ جسدٍ لم يعُدْ موجُوداً فيها، بل كانت تأخُذُ شكلَهُ الخارِجي مثلَ شرنَقَة. فيسُوعُ لم يعدْ مَوجُوداً فيها. ولكنَّ هذه الأكفان لم تكُنْ مَفكُوكَةً، ولم تَكُن مُجرَّدَ كُومَةٍ مُتراكِمة من الأكفان. بل كانت لا تزالُ مُرتَّبَةً كَشَرنَقَةٍ بِشكلٍ جسد. قد تَكُونُ هَبَطَت بِشكلٍ مُسطَّحٍ. أَكْفَانُ الرَّأسِ كانت مُنفَصِلَةً، وكانت نوعاً ما موضُوعَةً جانِباً، ولكن ليسَ بِطريقَةٍ تُشيرُ إلى أنَّ القبرَ تعرَّضَ لِعَمَلِيَّةِ سَرِقة. بل عندما دخلَ بُطرُس ويُوحَنَّا إلى ذلكَ القَبر، عَلِمَا مُباشَرَةً أنَّهُما كانَا ينظُرَانِ إلى أعظَمِ مُعجِزَةٍ حدَثَت على الإطلاق.
عندما نقرأُ أنَّ يُوحنَّا رأى وآمنَ، فهُنا نجدُ كلمةً يُونانِيَّةً أُخرى للتعبيرِ عن النَّظَر. والمقصُودُ بها هُوَ عندما نَقُولُ: الآن أنا أرى، أي أنا أستَوعِبُ. فعندَما نستَخدِمُ الكلمة بهذه الطريقة نعني، "أنا أفهَم، وأنا أُؤمِنُ بما أراه." ونحنُ نُعَبِّرُ بالحقيقَةِ عن مفهُوم "الرُّؤية" بنفسِ الطريقة التي بها رأى يُوحنَّا، عندما نقرَأُ أنَّهُ رأى مُدرِكاً تماماً ما حدَثَ، ولهذا آمنَ."
ويُضيفُ يُوحَنَّا هذه الكَلِمة كتَفسِيرٍ: "لأنَّهُم لم يكُونُوا بَعدُ يَعرِفُونَ الكِتابَ أنَّهُ ينبَغي أن يَقُومَ من الأموات." ويُتابِعُ الإنجيلُ بالقَول، "فَمَضى التِّلميذانِ أيضاً إلى مَوضِعِهما. أمَّا مَريَمُ فكَانت واقِفَةً عندَ القَبرِ خارِجاً تَبكِي." (يُوحَنَّا 20: 9)
لَرُبَّما كانَ بُطرُس ويُوحنَّا مُندَهِشَينِ بما رأياهُ، فَتَجَاوزَاها دُونَ أن يُلاحِظاها أو يُحدِّثاها. ولم يتوقَّفا لكَي يشرَحا لها ما رأياهُ وماذا كانَ يعني هذا. تَصَوَّرُوا ماذا كانَت ستعنيهِ هذه الأخبارُ السَّارَّةُ لمريم. ولكن بإمكانِنا أن نتفهَّمَ أنَّهُما في دهشَتِهِما، تَرَكاها خارِجَ القَبرِ تَبكِي، بنما رجعا لكَي ينشُرا الأخبارَ السَّارَّةَ عن ذلكَ اليومِ الأوَّلِ في الفِصح، أي الأخبار السَّارَّة عن الآيَةِ القُصوى. فلقد كانَ النَّاسُ قد دَمَّرُوا الهيكَل، أي جسدَ يسُوع، الذي أشارَ إليهِ يسُوعُ عندما أعلَنَ لهُم آيَتَهُ القُصوى (2: 19). لقد حَرِصَ يُوحَنَّا عبرَ هذا الإنجيل ليجَعَلَنا نعرِفُ أنَّ يسُوعَ هُوَ الذي وضعَ حياته بِسُلطانِهِ وإختِيارِه بالطَّاعَة. وكان لديهِ السُّلطانُ لوضعِ حياتِهِ ولإستِرجاعِ حياتهِ، وهذا ما حدَثَ بالفِعل. (10: 18)
ويَقُولُ النَّصُّ، "وفيما هي تَبكِي، إنحَنَت إلى القَبرِ، فنَظَرَتْ مَلاكَينِ بِثِيابٍ بِيضٍ جالِسَينِ واحداً عندَ الرَّأسِ والآخَرُ عندَ الرِّجلَين، حيثُ كانَ جسدُ يسُوعَ موضُوعاً. فقالَ لها يا إمرأة لماذا تَبكِينَ؟ قالَت لهُما إنَّهُم أخَذُوا سَيِّدي ولَستُ أعلَمُ أينَ وضَعُوهُ. ولمَّا قالَت هذا إلتَفَتَتْ إلى الوراءِ فنَظَرَتْ يسُوعَ واقِفاً ولم تعلَمْ أنَّهُ يسُوع." (يُوحَنَّا 20: 11- 14)
لاحِظُوا أنَّهُ في ظُهُوراتِ يسُوع بعدَ القِيامَةِ، أُولئكَ الذينَ عرفُوا وأحَبُّوا يسُوعَ قبلَ مَوتِهِ وقيامَتِهِ، لم يتعرَّفُوا عليهِ بعدَ قيامَتِهِ. يَبدُو أنَّ جسدَهُ بعدَ القِيامَة كانَ مُختَلِفاً عن الجسد الذي عرَفُوهُ تماماً. الآن يسُوعُ هُوَ الذي كانَ يتكلَّمُ معَ المجدَلِيَّة. "قالَ لها يسوع يا إمرأَة. لماذا تبكِينَ؟ مَنْ تطلُبِين. فَظَنَّتْ تلكَ أنَّهُ البُستانِيّ فقالَتْ لهُ يا سَيِّدُ إن كُنتَ أنتَ قد حمَلتَهُ فقُلْ لي أينَ وضَعتَهُ وأنا آخُذُهُ." (تقُولُ الكلماتُ اليُونانِيَّةُ أنَّ مريمَ قالَت، "وأنا أحمِلُهُ بَعيداً"). (15)
ثُمَّ نقرأُ: "قالَ لها يسوعُ يا مَريَم. فألتَفَتَتْ تِلكَ وقالَتْ لهُ رَبُّونِي. الذي تَفسِيرُهُ يا مُعَلِّمُ. قالَ لها يسُوعُ لاتَلمُسِيني لأنِّي لم أصعَدْ بَعدُ إلى أَبِي. ولكنِ إذهَبِي إلى إخوَتي وقُولِي لهُم إنِّي أصعَدُ إلى أبِي وأبيكُم وإلهِي وإلهِكُم. فجاءَتِ مَريَمُ المَجدَلِيَّةُ وأخبَرَتِ التَّلامِيذَ أنَّها رأَتِ الرَّبَّ وأنَّهُ قالَ لها هذا." (16- 18)
إنَّ هذه لَقِصَّةٌ مُؤثِّرَةٌ بالفِعل. فمريمُ المَجدَلِيَّةُ كانت المرأةُ التي كانَ يسُوعُ قد أخرجَ منها سبعَةَ شَياطِين، الأمرُ الذي لهُ دلالَةٌ رمزِيَّةٌ. فسبعَةٌ هُوَ عددُ الكَمال في الكِتابِ المُقدَّس. وهذا يعني أنَّها كانت مسكُونَةً كُلِّيَّاً بالشياطِين، وقامَ يسُوعُ بإخراجِ الشياطِين كما يَبدُو، طارِداً كُلَّ هذه الشياطين منها. (لُوقا 8: 1- 3) فلا عجَبَ أنَّ المجدَلِيَّةَ كانت عندَ أقدامِ الصَّليبِ وكانَ حُضُورُها هُناكَ يقُولُ، "لن أنسَى أبداً ما فعلَهُ يسُوعُ من أجلِي!"
تصَوَّرْ إن كُنتَ أنتَ مسكُوناً بالأرواحِ الشرِّيرَةِ، وتحرَّرتَ من هذه الحالَة الرَّديئة، فكم من الحُبِّ سَتَكُنُّ تجاهَ يسُوع الذي حرَّرَكَ. قالَ يسُوعُ عن مريم في أحدِ الأناجيلِ الأُخرى قائِلاً، "لقد أخطأَتْ كَثيراً، ولهذا عندما غُفِرَ لها الكثيرُ، أحبَّت كَثيراً." (لُوقا 7: 47- 50) نعمَ مرَيم المجدَلِيَّةُ هذه التي أخطَأَت كَثيراً، وفي النِّهايَةِ أحبَّت كَثيراً ذاكَ الذي حَرَّرَها وخَلَّصَها من خطاياها. ولهذا كانت واقِفَةً هُناكَ، في وقتٍ تركَهُ فيهِ كُلُّ تلاميذِهِ.
يتساءَلُ الكَثيرُونَ عن هذا المَشهَد، حَيثُ يَقُولُ الكتابُ، "لا تَلمُسِيني، لأنِّي لم أصعَدْ إلى أبِي،" ثُمَّ يقُولُ يسُوعُ لاحِقاً في الإصحاحِ نفسِهِ لتُوما أن يَلمُسَهُ. (يُوحَنَّا 20: 17؛ 27) إنَّ ما قالَهُ يسُوعُ لها كانَ، "لا تتمسَّكِي بِي. لا تُعوِّقِيني." يبدُو أنَّها عندَما أدرَكَت أنَّهُ هُوَ، تمسَّكَت بهِ. لَرُبَّما تمسَّكَت بقَدَمَيهِ وبِرجلَيهِ. لقد كانت مأخُوذَةً بالفرحِ. لَرُبَّما فَكَّرَتْ أنَّهُ عليها أن تُمسِكَهُ لِتُبَرهِنَ أنَّهُ شَخصٌ حَقِيقيٌّ، أو أنَّهُ قامَ من المَوتِ كما أقامَ ألعازار، فخافت أن تخسَرَهُ مُجدَّداً. وهكذا صرَّحَ بقولِهِ لها، "لا تتمسَّكِي بِي."
لقد أوضَحَ للرُّسُلِ في العُلِّيَّةِ أنَّهُ سيكُونُ هُناكَ أساسٌ جديدٌ لعلاقَةٍ جديدَةٍ أكثَر حميميَّةً معَهُ بعدَ مَوتِهِ وقيامَتِهِ، وبعدَ حُلُولِ الرُّوحِ القُدُس عليهِم. لقد كانَ سيحضُرُ فيهِم وهُم فيهِ ومعَهُ بطريقَةٍ أكثر حقيقيَّةً ممَّا كانَ حُضُورُهُ الجَسَدِيّ معَهُم خلالَ ثلاث سنواتٍ ونِصف. ولكنَّ هذه الحقائِق لم تُفَسَّرْ لمَريم المجدَلِيَّة.
وها هُوَ يسُوعُ الآنَ يُشيرُ إلى الرُّسُلِ كإخوتِهِ، عندَما كشفَ لها عن خبرِ صُعُودِهِ إلى الآب. "إذهَبِي وقُولي لإخوَتِي". فلقد أخبَرَهُم أنَّهُ لديهم آبٌ واحدٌ لجميعِهم، وهُم جميعاً إخوة. (متَّى 23: 8) والآن يُشيرُ إليهِم كأنَّهُم إخوتُهُ، عندما يَقُولُ لِمَريَم، "إذهَبِي قُولِي لإخوَتِي، ها أنا ذاهِبٌ إلى أبي وأبيكُم، وإلهِي وإلهِكُم." (17) كاتِبُ الرِّسالَةِ إلى العِبرانِيِّين يبدُو أنَّهُ يُعَلِّقُ على هذا المقطع، عندما يُعَبِّرُ عن دهشَتِهِ بأنَّ يسُوعَ لا يستَحي بأن يَدعُو المُؤمِنينَ بهِ إخوةً لهُ (عبرانِيِّين 2: 11).
لاحِظُوا التمييزَ هُنا. أبُوهُ وأبُوهُم؛ إلهُهُ وإلهُهُم. لرُبَّما قصدَ بذلكَ معنَيَين. في المعنى الأَوَّل، كانَ يَقُولُ أنَّ علاقَتَهُ معَ الآبِ كانت فريدَةً. فلا يُمكِنُكُم أن تَجِدُوهُ يُصَلِّي معَ التلاميذ، الأمرُ الذي أجِدُهُ مُثيراً للإهتِمامِ. فهُوَ يُعَلِّمُهم كيفَ يُصَلُّون، ولكنَّهُ عندما يُصلِّي، كانَ دائماً يُصلِّي وحيداً. لأنَّهُ كانَ يتمتَّعُ بعلاقَةٍ فريدَةٍ معَ الآب. إنَّهُ الإبنُ، وليسَ مُجرَّدَ إبن. لَرُبَّما هذا ما قصدَهُ بهذه الطريقة.
ولَرُبَّما قصدَ ما عَلَّمَهُ في العُلِّيَّةِ للرُّسُلِ عندما قالَ ما معناهُ، "إنَّ أبِي السماوِي هُوَ تَفسيرُ كُلِّ كَلِمَةٍ أنطِقُ بها وكُلّ عمل أقومُ بهِ. فأنا الطَّريقُ للآب. وهُوَ أبُوكُم أيضاً. وإلهِي هُوَ تَفسيرُ كُلِّ الأُمُورِ التي رأيتُمُوني أعمَلُها وسَمِعتُمُوني أقُولُها. ولهذا، يُمكِنُكُم أن تكُونُوا قريبينَ منهُ بقدرِ قُربي أنا منهُ."
فلقد ذهَبَت مريَمُ المَجدَلِيَّةُ إلى التلاميذِ وقالَت لهُم، "لقد رأيتُ الرَّبَّ." (يُوحَنَّا 20: 18) يا لهذه الأخبار السَّارَّة المجيدة. وأخبَرَتْهُم أنَّهُ قالَ لها هذه الأُمُور، أي عمَّا يتعلَّقُ بِصُعُودِهِ للسَّماء.
- عدد الزيارات: 3405