الفَصلُ الأوَّل "لمحَة عامَّة عن رِسالَةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية"
إذ نقتَرِبُ من رسائِلِ بُولُس، علينا أن نتذَكَّرَ مُجَدَّداً أنَّ أسفارَ الكتابِ المُقدَّس لم يَتِمّ ترتيبُها بالتَّسَلسُل بالنِّسبَةِ إلى تاريخِ كتابَتِها بالتَّتالي. فعلى الرُّغمِ من أنَّ هذه هي الرِّسالَة الأولى لبُولُس كما نَجِدُها في ترتيبِ الأسفارِ الكِتابِيَّة، ولكنَّها لم تَكُنْ الرِّسالَة الأُولى التي كتبَها بُولُس لإحدى كنائِسِه. كُتِبَت رسالَةُ بُولُس إلى أهلِ رُومية في وقتٍ مُتأخِّرٍ من خِدمَتِهِ – في رحلتِهِ التَّبشيريَّة الثَّالِثة، بينما كانَ يقُومُ بِزيارَةٍ سريعة لكُورنثُوس، بعدَ أن قضى ثلاثَ سنواتٍ في الخدمَةِ في أفسُس. ولقد كُتِبَت هذه الرِّسالَة في مرحَلَةٍ مُتأخِّرَة من خِدمَةِ بُولُس الرَّسُول، عندما كانَ قد أصبَحَ ناضِجاً وعميقَ الخُبرَة. وقد تَكُونُ وُضِعَت في مُقدِّمَةِ رَسائِلِ بُولُس، لأنَّها أروعُ رسالةٍ بينَ رسائِلهِ. ويعتَقِدُ بعضُ المُفَسِّرينَ أنَّ هذه الرِّسالَة هي أروَعُ سفرٍ من أسفارِ العهدِ الجديد.
مُعظَمُ رسائِل بُولُس تتعلَّقُ مُباشَرةً وتحديداً بالأشخاصِ التي كانت تُوجَّهُ إليهِم. فهِيَ غالِباً تُعالِجُ وتُواجِهُ مشاكِلَ مَحَلِّيَّة كانت تُعاني منها الكنائِسُ والمُدُن التي عاشَ فيها قُرَّاءُ بُولُس. ولكنَّ مُحتَوى هذه الرِّسالَة هُوَ تصريحٌ عميقٌ، مُوجَزٌ، واضحٌ، وشامِلٌ عن لاهُوتِ الخلاص. فهذه الرِّسالَة ليسَت مُجَرَّدَ نبذَةٍ عنِ الإنجيل، بل هي أُطرُوحَةٌ لاهُوتِيَّةٌ شامِلَة تُشَكِّلُ تصريحاً شامِلاً ومُعَمَّقاً للاهُوتِ العهدِ الجديد.
هذه الرِّسالة مُنَظَّمَة بِشَكلٍ جميلٍ وواضِحٍ، لدرَجَةِ أنَّ الكثيرَ منَ المُفسِّرين يعتَقِدُونَ أنَّها كانت على قَلبِ الرَّسول بُولُس لوقتٍ طَويل. فلَرُبَّما تعلَّمَ بُولُس جوهَرَ مُحتواها من المسيحِ المُقام مُباشَرَةً في صحراءِ العَربِيَّة (أُنظُرْ غلاطية 1 – 2: 14). ولكن، لَرُبَّما يَكُونُ قد تأمَّلَ بمحُتواها خلالَ فترَةٍ طَويلة، كتلكَ السنَتَينِ اللتين قضاهما في السِّجن في قَيصَرِيَّةِ فِلسطِين، بينما كانت الدَّولَةُ الرُّومانِيَّة تُبَدِّلُ حُكَّامَها (أعمال 24: 27).
ولَرُبَّما قَرَّرَ أن يُوَجِّهَها إلى أهلِ رُومية بسَبَبِ مُحتَواها الكَونِيّ، وبسببِ كَونِها ستُتَداوَلُ بشكلٍ واسِعٍ في عاصِمَةِ العالَمِ الرُّومانِي في تلكَ الأيَّام.
فمِنَ الإصحاحِ الأوَّل وحتَّى الأخير، يُوجَدُ مَوضُوعٌ أو حُجَّةٌ رَئيسيَّةٌ في الرِّسالة. ولا أقصُدُ بِكَلمة حُجَّة مُقارَعة. فالقَضِيَّةُ القانُونيَّة التي كانَت تُقدَّمُ من قِبَلِ مُحامٍ، يُشارُ إليها بكونِها حُجَّتَهُ. فالرِّسالَةُ بِكامِلِها تبدُو وكأنَّها الحُجَّة القانُونيَّة لمُحامٍ يُقدِّمُ قانُونيَّاً ومنهَجِيَّاً حُججاً قَويَّةً تُقنِعُ المحكمَةَ بِصِحِّةِ البُرهان الذي يُقدِّمُهُ لها. فينبَغي أن نقرأَ هذه الرِّسالَة في جلسَةٍ واحِدة، وبتركيزٍ كَبيرٍ لإتِّباعِ حُجَّةِ بُولُس عبرَ الرِّسالَةِ من الأوَّلِ للآخِر.
وكما أشَرتُ سابِقاً، تلكَ الكلمة الوحيدة "مُتَبَرِّرِينَ" تُلَخِّصُ وتُوجِزُ مَوضُوعَ هذه الرِّسالة الرَّائِعة بكامِلها. لقد أخبَرنا يسُوعُ في مثَلِهِ عنِ الفَرِّيسيِّ والعَشَّار (لُوقا 18)، أنَّ كُلَّ إنسانٍ يُصَلِّي الصَّلاة القائِلة: "أللَّهُمَّ إرحَمْني أنا الخاطِئ"، سيذهبُ إلى بيتِهِ "مُبَرَّراً."
هذه الكلمة، التي إستَخدَمها يسُوعُ ليَصِفَ حالَةَ النِّعمة لخاطِئ مغفُورٍ لهُ، يُمكِنُ تفسيرُها كالتَّالي: "وكأنِّي لم أُخطِءْ البَتَّة." تعني كلمة "مُبَرَّر" أنَّهُ بسببِ المسيح، عندما يعترِفُ الخاطِئُ بأنَّهُ خاطِئٌ، ويطلُبُ رحمَةَ الله، فهُوَ لا يحصَلُ فقط على الغُفرانِ والمُسامحة. بل سيُصبِحُ في نظَرِ اللهِ وكأنَّهُ لم يُخطِئ أصلاً. بالإضافَةِ إلى هذه الأخبارِ السَّارَّة، يُعلِنُ اللهُ أنَّ الخاطئَ أصبحَ بارَّاً، أو ما نُسمِّيهِ "في حالَةِ النِّعمة."
وبهدَفِ المَزيدِ منَ التَّوضِيح للتَّبرير، تصوَّرُوا سَجينين في حَبسٍ مَنيعِ أمين. وكلاهُما قد حُكِمَ عليهِما بجرائِمَ، وقُضِيَ عليهِما بأن يقضِيا باقِي عُمرهما في السِّجن. وعندما أنهَيا عشرينَ سنةً من عُقوبَتِهما، مُنِحَ العَفُو رَسمِيَّاً لأحدِهِما، وأُطلِقَ سراحُهُ منَ السِّجن. فأصبحَ رَجُلاً حُرَّاً، ولكنَّهُ رُغمَ ذلكَ سَوفَ يحمِلُ دائماً صبغَةَ ماضِيهِ الإجرامِيّ. وسوفَ يُنظَرُ إليهِ بأنَّهُ كَرَجُلٍ قضى عشرينَ سنَةً من عُمرِهِ في السِّجن. هذه الصَّبغة قد تَحُدُّ رَسمِيَّاً من حياتِهِ ومكانَتِهِ في المُجتَمَع. وقد يَجِدُ صُعُوبَةً في إيجادِ عمَلٍ وفي قُبُولِ الآخرينَ لهُ في الحياة.
وحدَثَ شَيءٌ مُختَلِفٌ تماماً للسَّجينِ الآخر. إذِ إعتَرَفَ إنسانٌ وهُوَ على سَريرِ المَوت بمَسؤوليَّتِهِ عن الجريمة التي أُدينَ بها ظُلماً ذلكَ السَّجينُ الآخر الذي يقبَعُ منذُ عشرينَ عاماً في السِّجن. فعندما يتبيَّنُ بُرهانُ براءَتِهِ، هل ستعفُو عنهُ الدَّولَةُ التي وضعَتْهُ في السِّجن؟ وكيفَ يُمكِنُ أن يغفِرُوا لهُ خطأً لم يرتَكِبْهُ؟ على العَكس، ينبَغي أن يُعلَنَ هذا السَّجينُ بأنَّهُ بارٌّ بَريء، أو بِكَلماتٍ أُخرى، بإمكانِهِ الإلحاح قائلاً، "أُريدُ أن أتَبَرَّرَ، أي أن أُحسَبَ بأنَّني لم أَقتَرِفْ تلكَ الجريمة بتاتاً." فهُوَ بالحقيقة لم يقتَرِفْ تلكَ الجريمة التي من أجلِها قضَى عشرينَ سنَةً في السِّجنِ، مُعانِياً من أحوالِ حياةِ السُّجُون.
في رسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية، يُخبِرُنا بُولُس الرَّسُول بأمرٍ مُشابِهٍ تماماً، مع فَرقٍ واحِدٍ أساسيّ. يُخبِرُنا بُولُس كيفَ يَستطيعُ اللهُ أن يُعلِنَ إنساناً مُبَرَّراً تماماً، رُغمَ أنَّهُ كانَ مُذنِباً. أمَّا أنظِمَتُنا القضائِيَّة فلا تستطيعُ أن تفعَلَ ذلكَ. اللهُ وحدهُ يستَطيعُ أن يعمَلَ مثلَ هذا الأمر، واللهُ وحدهُ يستطيعُ ذلكَ بسببِ ما عَمِلَهُ يسُوعُ المسيحُ من أجلِنا عندما ماتَ على الصَّليب. تُخبِرنا رسالَةُ بُولس الرَّسُول هذه إلى أهلِ رُومية كيفَ يستطيعُ اللهُ أن يُعلِنَ هكذا إنسانٍ بأنَّهُ بَريءٌ بارٌّ، وكأنَّهُ لم يقتَرِفْ أيَّةَ خَطِيَّةٍ في حياتِهِ، رُغمَ كونِهِ خاطئِاً.
في مَثَلِهِ، أخبرَنا يسُوعُ بالأخبارِ السَّارَّة أنَّ مُعجِزَةَ التَّبرير يُمكِنُ أن يختَبِرَها كُلُّ إنسانٍ يُصَلِّي صلاةَ الخاطِي التَّائِب. (فعندما يتكلَّمُ خاطِئٌ معَ الله، ويعتَرِفُ بأنَّهُ خاطِئٌ وبأنَّهُ يحتاجُ للخلاص، ويضَع ثِقَتَهُ الكامِلَة بعملِ المسيحِ المُتَمَّم على الصَّليب، ويُؤمِنُ بقيامَةِ إبنِ اللهِ الوحيد منَ الموت لإتمامِ غُفرانِ خطايانا، نُسَمِّي هذا بِصلاة الخاطِئ.) في رِسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية، يُخبِرُنا بُولُس كيفَ يفعَلُ اللهُ ذلكَ. فكيفَ يُمكِنُ لإلهٍ عادِلٍ وقُدُّوس أن يجعَلَ من خُطاةٍ نظيرِكَ ونظِيري أبراراً تماماً؟ إنَّ رِسالَةَ بُولُس إلى المُؤمنين في روما هي أكثَرُ جوابٍ مُوحَى، مُعَمَّق، مَنطِقِيّ، مُنظَّم وشامِل على هذا السُّؤال في الكتابِ المُقدَّس. فجَوهَرُ رسالَة هذه التُّحفَة الرُّوحيَّة لبُولُس هُوَ بمثابَةِ أُطرُوحَةٍ لاهُوتيَّةٍ شامِلَة تُخبِرُنا بِدِقَّة كيفَ وماذا يعمَلُ اللهُ ليُعلِنَ خُطاةً مُذنِبينَ بأنَّهُم أبرارٌ أبرياء، وماذا علينا أن نفعَلَ لنُطَبِّقَ هذا الإعلان على خطايانا.
المَلِكُ داوُد هُوَ مِثالٌ لما تعنيهِ كلمة "مُبَرَّر." فسفر صَمُوئيل الثَّاني التَّاريخيّ في العهدِ القَديم، يُخَصِّصُ أكثَر من عشرة إصحاحاتٍ ليُخبِرَنا بكُلِّ تفاصِيلِ خَطيئَةِ داوُد الدَّنيئة (2صَمُوئيل 11- 18). ولكن عندما نقرَأُ سِفرَي أخبارِ الأيَّام في العهدِ القَديم، حيثُ نَجِدُ سرداً لتلكَ الحقبَة التَّارِيخيَّة من وُجهَةِ نَظَرِ الله، لا يُؤتَى على ذكرِ خَطيَّةِ داوُد بتاتاً.
يذكُرُ المَزمُور الحادِي والخَمسون إعتِرافَ داوُد الجَميل بِخَطِيَّتِهِ الشَّنيعَة. ويُسَجِّلُ المَزمُور 32 البَركات التي إختَبَرها داوُد بسببِ إعتِرافِهِ بِخَطِيَّتِهِ. فعندما نظَرَ اللهُ إلى خَطِيَّةِ داوُد المُعتَرَف بها، بِدُونِ إنكارِ الحقيقَة المُريعَة لتلكَ الخطيَّة، وعندما نُقارِنُ سِفرَي صَمُوئيل التَّاريخيَّين بِسِفرَي أخبار الأيَّام وبِالمزامير، نُدرِكُ أنَّهُ من وُجهَةِ نَظَرِ الله، خَطيَّةُ داوُد وكأنَّها لم تحدُثْ أصلاً. هذا إيضاحٌ جَميلٌ منَ العهدِ القديم عنِ التَّبرير الذي خصَّصَ لهُ بُولُس مُعظَمَ رِسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية.
رِسالَةُ رُومية والأسفارُ المَعنِيَّةُ منَ العهدِ القَديم، التي تُوضِحُ رسالَةَ هذا السِّفر، يُمكِنُ أن تُفهَمَ بِشَكلٍ أَوضَح إذا نظَرْنا إلى حياتِنا وكأنَّهَا شَريطُ تسجِيل. تَصَوَّرْ أنَّ حَياتَكَ بِجُملَتِها مُسَجَّلَةٌ على شَريطِ تسجيل. وعندما تُخطِئُ، تُسَجَّلُ خَطيئَتُكَ على شَريطِ وقائِع حياتِك. وعندما يَجدُ اللهُ خَطيَّةً على شَريطِ وقائِع حياتِك، بِسَبَبِ إيمانِكَ بِما فعلَهُ يسُوعُ من أجلِكَ على الصَّليب، يقطَعُ ذلكَ الجُزءَ منَ الشَّريط الذي يُسَجِّلُ خطيَّتَكَ. وهُوَ يقطَعُ الشَّريط من حيثُ تبدَأُ الخطيَّة وإلى أن تنتَهي، ويرمي هذه القطعة منَ الشَّريط بعيداً. ثُمَّ يُلصِقُ الشَّريطَ مُجدَّداً، حتَّى أنَّهُ عندما يُديرُ اللهُ شريطَ وقائِعِ حياتِكَ يومَ الدَّينُونَة، إن كُنتَ قد آمنتَ بيسُوع لخلاصِكَ، وأصبَحَت تلميذاً تابِعاً لهُ، لن تَكُونَ هُناكَ أيُّةُ خَطيَّةٍ على شَريطِ حياتِكَ. فلن تُغفَرُ خطيَّتُكَ وتُسامَح فقط، بل لن تُذكَرَ الخطيَّةُ في حياتِكَ البَتَّة. فبالنِّسبَةِ لله، وكأنَّ خَطِيَّتَكَ لم تحدُثْ أصلاً. هذا ما يعنيهِ التَّبرير.
- عدد الزيارات: 16916