Skip to main content

الفَصلُ الرَّابِع "أعظَم من مُنتَصِرين"

(رُومية 8: 14- 39)

بينما تقرأُونَ بَقِيَّةَ هذا الإصحاحِ الثَّامِن، لاحِظُوا إعلانَ بُولُس أنًَّ اللهَ ليسَ في كُلِّ إنسان. بَلِ اللهُ فقط في أُولئكَ الذينَ بالإيمانِ تَبَرَّرُوا، وبالإيمانِ وجَدُوا وُصُولاً إلى نعمَةِ الله. اللهُ ليسَ في كُلِّ إنسان. بل اللهُ فقط في أُولئكَ الذين يُطيعُونَهُ. وهُوَ ليسَ لِكُلِّ واحِد. بل هُوَ فقط لأُولئِكَ الذينَ يُحِبُّونَهُ والذين هُم مَدعُوُّونَ حَسَبَ قَصدِهِ. ولكنَّ بُولُس سيستَنتِجُ أنَّهُ إن كانَ اللهُ فينا، معنا، ولأجلِنا، فلا قُوَّةَ على الأرضِ، ولا تحتَ الأرض، ولا فوقَ الأرض، لا ماضِياً ولا حاضِراً ولا مُستَقبَلاً، ستَقدِرُ أن تَفصِلَنا عن محبَّةِ الله – وعمَّا يريدُ أن يعمَلَهُ فينا، معنا، ومن خلالِنا.

الأَعدادُ الخَمسَةُ والعِشرُون الأخيرة منَ الإصحاحِ الثَّامِن من رِسالَةِ رُومية تُعتَبَرُ واحِداً من أعظَمِ وأسمَى مقاطِعِ الكتابِ المُقدَّس بكامِلِه. هذا المقطَعُ من كَلِمَةِ اللهِ، بالمُقارَنَةِ معَ باقي الأسفار المُقدَّس، هو مثلُ أعلى قِمَّةِ جَبَلٍ في العالَم بالمُقارَنَةِ معَ باقي جبالِ العالم.

ما أسمَيتُهُ "المبادِئ الرُّوحِيَّة الأربَعة،" تمَّ تقديمُها الآنَ من خلالِ هذا الرَّسُول. ولكنَّ المَوضُوعَ الذي بدأَهُ في الإصحاحِ الخامِس، بِخُصوصِ كيفيَّةِ عيشِ الخُطاة الذي أُعلِنُوا أبراراً، بأنَّهُم أصبَحُوا يعيشُونَ بإستِقامَة، سوفَ يستَمِرُّ في هذه الأعدادِ الأخيرة من الإصحاحِ الثَّامِن، إلى أن يُعلِنَ لنا أنَّهُ بإمكانِنا أن نَكُونَ أعظَمَ من مُنتَصِرين بالمسيح. الحقيقَةُ التي سيُعلِنُها بُولُس هُنا، والتي تجعَلُ من هذا المقطَع مقطعاً مشهُوراً غيرَ إعتِيادِيٍّ في كلمَةِ الله، هي أنَّنا جميعاً نستَطيعُ أن نَكُونَ أعَظَم من مُنتَصِرين، لأنَّ اللهَ هُوَ المصدَر، وهُوَ الُقُّوَّة الكامِنَة والقَصدُ المُرتَجَى من إنتِصارَاتِنا وفُتُوحاتِنا الرُّوحيَّة.

تَذَكَّرُوا أنَّهُ بعدَ أن كتبَ بُولُس في العددِ الثَّانِي منَ الإصحاحِ الخامِس أنَّهُ قد صارَ لنا وُصُولٌ بالإيمانِ إلى النِّعمة، قدَّمَ بُولُس إستِعارَةَ الفاتِحينَ الأربَعة، التي أظهَرَت لنا كيفَ نملِكُ في الحياةِ من خلالِ النِّعمَةِ بالمسيح (5: 17). ولقد إستَمَرَّ مَوضُوعُ الإنتِصارِ على الخَطيَّة وعواقِبِها عبرَ الإصحاحات السَّادِس، السَّابِع، والأعداد الثَّلاثَة عشر الأُولى من الإصحاحِ الثَّامِن. ولقد أعلَنَ بُولُس بجرأَةٍ وفصاحَة وعُمقٍ الرِّسالَةَ نَفسَها التي أعلَنَها من خلالِ إستِعارَتِهِ عنِ الفاتِحينَ الأربَعة، بتقديمِ إستِعارَتِهِ المجازِيَّة عنِ المبادِئ الرُّوحيَّة الأربَعة.

ولكنَّ مَوضُوعاً عظيماً آخر يُقَدَّمُ لنا في أوجِ قِمَّةِ هذا العَرضِ المُوحَى لإنتِصارِ المُؤمن الرُّوحِيّ. هذا المَوضُوع هُوَ التَّدَخُّل الإلهيّ لإلهٍ منُتَصِرٍ سَيِّد، الذي سيربَحُ المعرَكَةَ فينا، من خلالِنا، معَنا ولأجلِنا. وقَبلَ أن يُقَدِّمَ ذلكَ المَوضُوع الرَّائِع، يتحدَّى الهُوِيَّةَ الرُّوحِيَّة للذينَ كتبَ لهُم: "وأمَّا أنتُم فَلَستُم في الجَسَد بَلْ في الرُّوح، إن كانَ رُوحُ اللهِ ساكِناً فيكُم. ولكن إن كانَ أحَدٌ لَيسَ لهُ رُوحُ المَسيح، فذلكَ ليسَ لهُ. وإن كانَ المسيحُ فيكُم فالجَسَدُ مَيتٌ بِسَبَبِ الخطيَّة وأمَّا الرُّوحُ فحياةٌ بِسَبَبِ البِرّ. وإن كانَ رُوحُ الذي أقامَ يسُوعَ منَ الأمواتِ ساكِناً فيكُم، فالذي أقمَ المسيحَ منَ الأمواتِ سيُحيِي أجسادَكُم المائِتَة أيضاً بِرُوحِهِ السَّاكِن فيكُم." (رُومية 8: 9- 11)

الأسئِلة التي يطرَحُها بُولُس هُنا حولَ الهُويَّة الرُّوحيَّة، هي أسئِلَةٌ كالتَّالِيَة: "هل أنتُم في الجَسَد أم في الرُّوح؟" فبالنِّسبَةِ لبُولُس هُناكَ إمكانِيَّتانِ فقَط. فإمَّا أن تَكُونَ شَخصاً رُوحيَّاً، بسببِ كونِ الرُّوحِ القُدُس يحيا فيكَ، وإمَّا أن تَكُونَ شَخصاً طَبيعيَّاً أو غَيرَ رُوحِيّ، لأنَّ الرُّوحَ القُدُس لا يحيا فيكَ. وإن كانَ الرُّوحُ لا يَحيا فيكَ، فأنتَ غير رُوحِيّ، وكُلُّ مايكتُبُهُ بُولُس لا ينطَبِقُ عليك. ولكن إن كانَ رُوحُ اللهِ يحيا فيكَ، فالذي أقامَ يسُوعَ منَ المَوتِ، سيُعطي الحَياةَ لجَسَدِكَ المائِت. هذا لا يعني في الحياةِ العتيدَة، لأنَّهُ أشارَ إلى جسدِنا كجسدٍ مائِتٍ أو قابِلٍ للمَوت. يعني مفهُومُ قابِليَّةِ المَوت أنَّنا مَوجُودُونَ في هذا العالم لِفَترَةٍ مُحَدَّدَةٍ منَ الزَّمَن. فعندما نذهَبُ لحُضُورِ جنازَةٍ، "نتواصلُ معَ طبيعَتنا المائِتَة" لأنَّنا نُدرِكُ أنَّنا سنَمُوتُ يوماً ما.

 يتبَعُ هذا السُّؤالَ عنِ الهُوِيَّةِ الرُّوحيَّة سُؤالٌ آخر عندما يَتساءَلُ بولُس، "هل أنتَ إبنٌ لله؟" فهُوَ يدمُجُ هاتَين ِالقَضِيَّتَين عنِ الهُوِيَّةِ الرُّوحِيَّة وكَونِ الإنسانِ إبناً، عندما يكتُبُ قائِلاً، "لأنَّ كُلَّ الذين ينقادُونَ بِرُوحِ اللهِ فأُولئِكَ هُم أبناءُ الله. إذ لم تأخُذُوا رُوحَ العُبُودِيَّةِ أيضاً لِلخَوف، بل أخَذتُم رُوحَ التَّبَنِّي الذي بهِ نصرُخُ يا أبا الآب. الرُّوحُ نفسُهُ يشهَدُ لأَرواحِنا أنَّنا أولادُ الله. فإنْ كُنَّا أولاداً فإنَّنا وَرَثَةٌ أيضاً، ورَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ معَ المسيح. إن كُنَّا نتألَّمُ معَهُ، لكَي نتمجَّدَ أيضاً معَهُ."

هُناكَ تعليمٌ ذائِعُ الصِّيت بأنَّ اللهَ هُوَ أبُ جميعِ الكائِناتِ البَشَرِيَّة، ولهذا فجميعُنا ككائِناتٍ بَشَريَّة، إخوَةٌ وأخوات. يُقدِّمُ إنجيلُ يُوحَنَّا التَّصريحَ الواضِحَ أنَّ أُولئكَ الذينَ يُؤمنُونَ بالمسيحِ ويقبَلُونَهُ، أُعطُوا سُلطاناً أن يَكُونُوا أولادَ الله. كَلِمَة سُطان أو قُوَّة في هذه الأعداد، تأتي باليُونانِيَّة بمعنَى سُلطة.

يُعَلِّمُ يُوحَنَّا أنَّهُ عندما جاءَ يسُوعُ إلى هذا العالم، عندما تجاوَبَ النَّاسُ معَهُ بطَرِيَقَةٍ صَحيحة، أو بإيمان، إختَبَرُوا الولادَةَ الجديدة وأخذُوا سُلطاناً بأن يعتَبِرُوا ويُسَمُّوا أنفُسَهُم أبناءَ الله (يُوحَنَّا 1: 12، 13). فإن كانَ كُلُّ أبناءِ الجنسِ البَشَرِي هُم أبناء لله، فإنَّ هذا كانَ سيجعلُ من حياةِ ومَوتِ يسُوع المسيح غيرَ ضَرُوريٍّ.

عندَما يستَخدِمُ الوَحيُ صِيغَةَ المُذَكَّرَ "أبناء"، هذا لا يعني الذُّكُور بإستِثناءِ الإناث. فالصَّيغَةُ تعني كُلَّ النَّاس، بِغَضِّ النَّظَرِ عن جِنسِهِم. هذا ما قصَدَهُ بُولُس عندما كتبَ أنَّهُ في المسيح لا يُوجَدُ ذَكَرٌ ولا أُنثَى (غلاطية 3: 28). فنحنُ جميعاً واحدٌ في المسيح.

يُظهِرُ بُولُس دَرَجاتٍ منَ العلاقَة، عندما يكتُبُ للفِيلبِّيِّين عن رَجُلٍ عَجُوزٍ أتاهُ بتقدماتِ محبَّةٍ من كَنيستِهِم، وجاءَ ليَزُورَ بُولُس في السِّجن (فيلبِّي 2: 25- 30). وهُوَ يَصِفُ هذا الرَّجُلَ الشَّيخ وكأنَّهُ أخوهُ، العامل معَهُ، رَفيقهُ في الجُندِيَّة، رَسُولُ كَنيسةِ فيلبِّي الذي خدَمَهُ ووقفَ لجانِبهِ ساعَةَ الحاجَة. ولقد قصدَ بُولُس أنَّ الأخَ كانَ ذلكَ المُؤمن الذي أُعطِيَ سُلطانَاً أن يُدعَى "إبناً لله." وقصدَ بِرَفِيقِ الجُندِيَّة أنَّهُ خاطَرَ بِحياتِهِ معَ بُولُس لأجلِ المسيحِ والإنجيل. الألقابُ الأُخرى لَدَيها معانٍ واضِحَة.

يذكُرُ بُولُس بِوُضُوحٍ وحزمٍ أنَّ الذين ينتَمُونَ للمسيح هُم وحدَهُم أُولئكَ الذين يحيا فيهم رُوحُ المسيح. ثُمَّ يَربِطُ تلكَ الهُوِيَّة الرُّوحِيَّة الشَّخصِيَّة، وكَون الإنسان "إبناً لله"، عندما يكتُبُ قائِلاً:"لأنَّ الذين ينقادُونَ لِرُوحِ المسيح، أُولئِكَ هُم أبناءُ الله." نحنُ نُصبِحُ خاصَّةَ المسيح عندَما يسكُنُ الرُّوحُ القُدُسُ فينا، وعندما نُقادُ بالرُّوحِ القُدُس نُصبِحُ أبناءَ الله، بحَسَبِ بُولُس.

يتبَعُ هذا تعليمٌ مُدهِشٌ، يُوازِي حقيقَةً مُشابِهةً كتبَها بُولُس لِلغَلاطِيِّين. فلقد كتبَ في هاتَينِ الرِّسالَتَين المُوحَى بهما، ما معناهُ أنَّهُ عندما يشهَدُ الرُّوحُ القُدُسُ في أرواحِنا أنَّنا أولاد الله، عندَها نصرُخُ "يا أبَّا الآب." (غلاطية 4: 6). إنَّ كَلِمَة "أبَّا" هي كلمة "والِد أو أب" باللُّغَةِ العَرَبِيَّة. وهذا يُشيرُ بِوُضُوحٍ إلى إختِبارٍ شَخصِيٍّ رُوحِيٍّ حَميم.

سألَتُ مرَّةً مُرشِداً كانَ يُدَرِّبُني عندما كُنتُ قَسِّيساً يافِعاً، "كيفَ تُقدِّمُ يقينَ الخلاص لمُؤمِنٍ جديدٍ يُعوِزُهُ هذا التَّأكيد؟" كانَ معي دفتَرٌ وقَلمٌ، وكُنتُ مُستَعِدَّاً لأبدَأَ بالكتابَة. فكانَ جوابُهُ: "لا يُمكِنُكَ أن تُعطي تأكيدَ الخلاصِ لأحَد. فهذه خِدمَةُ الرُّوحِ القُدُس." ولقد علَّقَ قائِلاً أنَّهُ بإمكانِنا أن نُشارِكَ بأعدادٍ كِتابِيَّة، وأن نبحَثَ عن بَراهِينَ مُؤَكِّدَة للإيمانِ والخَلاص. بإمكانِنا أيضاً أن نطرَحَ أسئِلَةً وأن نُقَدِّمَ أنواعَ مُتَعَدِّدَة منَ الدَّعمِ والتَّشجيع والتأكيد، عندما تتوفَّرُ هذه الدَّلائِلُ والبَراهين. ولكن، بالتَّحليلِ النِّهائِيّ، وحدَهُ الرُّوحُ القُدُسُ بإمكانِه أن يشهَدَ لأرواحِهِم وأن يمنَحَهُم التأكيد بأنَّهُم أبناء الله.

لِكَي نُتابِعَ الفِكرَةَ التَّالِيَة لبُولُس، منَ الضَّرُورِيّ أن نفهَمَ شَيئاً حولَ الحضارَةِ الرُّومانِيَّة في تلكَ الأيَّام. كانَتِ العادَةُ الرُّومانِيَّة بالنِّسبَةِ لأبٍ أن يعتَبِرَ أبناءَهُ أطفالاً، إلى أن يَبُلُغُوا الرَّابِعَةَ عشرَ من عُمرِهِم. وعندما كانُوا يَبلُغُونَ ذلكَ السِّنّ، كانَ يَقُومُ بتبنِّيهم في المحكَمة كَأَبناء شَرعِيِّين، وكانَ يُعلِنُهُم الوَرَثَة الشَّرعِيِّين لكُلِّ ما يُريدُهم أن يَرِثُوهُ منهُ.

هذه هي الإستِعارَةُ المَجازِيَّة التي يستَخدِمُها بُولُس هُنا، عندما يكتُبُ أنَّنا أولاد، لأنَّنا نُولَدُ أبناءً في عائِلَةِ اللهِ من خلالِ الولادَةِ الرُّوحيَّة. ولكن، من خلالِ وُصُولِنا إلى نعمَةِ اللهِ، نُصبِحُ أكثَرَ من ذلكَ: "الرُّوحُ نفسُهُ أيضاً يَشهَدُ لأَرواحِنا أنَّنا أولادُ الله. فإنْ كُنَّا أولاداً فإنَّنا وَرَثَةٌ أيضاً، ورَثَةُ اللهِ ووارِثُونَ معَ المسيح." (8: 16، 17) فنحنُ نَرِثُ معَ يسُوع المسيح، الذي هُوَ إبنُ اللهِ الحبيب، كُلَّ ما يَرِثُهُ من أبيهِ. هذا لديهِ ناحِيَة إيجابِيَّة كبيرَة جدَّاً، ولكن هُناكَ ثَمَنٌ يتوجَّبُ دَفعُهُ. تذَكَّرُوا أنَّنا نتَّحِدُ معَ المسيح بمَوتِهِ وقيامَتِه.

هُنا يبدَأُ ترنيمَتَهُ المُوحاة عنِ التَّسبيحِ والفتحِ والإنتِصار، عندما يربُطُ الإتِّحادَ معَ المسيح بالمَوتِ والقِيامَة، الذي علَّمَ عنهُ في الإصحاحِ السَّادِس، معَ آلامِنا من أجلِ المسيحِ في هذا العالم. ويُعلِنُ أنَّنا إذا تألَّمنا معَ المسيح، فسوفَ نتمجَّدُ أيضاً معَهُ في الحياةِ الآتِيَة: "إن كُنَّا نتألَّمُ معَهُ، لكَي نتمجَّدَ أيضاً معَهُ. فإنِّي أحسِبُ أنَّ آلامَ الزَّمانِ الحاضِر لا تُقاسُ بالمَجدِ العَتيدِ أن يُستَعلَنَ فينا. لأنَّ إنتِظارَ الخَليقَة يتوقَّعُ إستِعلانَ أبناءِ الله." (17- 19)

يقُومُ بُولُس الآن بعمَلِ شَيئَين في تقدِيمِهِ العَمِيق للإنتِصارِ الرُّوحِيّ على الخَطيَّة من قِبَلِ خاطِئٍ مُبَرَّر. أوَّلاً، يربِطُ بينَ الإنتِصار والنُّمُوّ الرُّوحِي وبينَ الألم. ثُمَّ يكتُبُ عن أكثَرِ تعاليمِهِ عُمقاً وجلالاً وإلهاماً، عندما ينقُلُ تعليمَهُ عنِ إنتِصاراتِ المُؤمن رُوحيَّاً إلى الحالَةِ الأبديَّة. قبلَ أن أُرَكِّزَ على ما كَتَبَهُ بُولُس عن النُّمُوّ الرُّوحِيّ النِّهائِيّ في المجالِ العتيد، منَ الأهمِّيَّةِ بمكانٍ أن تتأمَّلُوا معي بما كتبَهُ عن الطريقة التي يرتَبِطُ بها الألَمُ بنُمُوِّنا الرُّوحِي وبفتُوحاتِنا أو إنتِصاراتِنا في هذهِ الحَياة.

كَثيرُونَ يُعَلِّمُونَ خطأً أنَّ اللهَ لا يُريدُ أبداً أن يتألَّمَ شَعبُهُ، ولا أن يَكُونُوا مرضَى أو فُقراء، ولا حتَّى أن يُعانُوا أيَّةَ صُعُوبَةٍ في حياتِهِم. يُمكِننا القَول بِبَساطَةٍ أنْ ليسَ هذا ما يُعَلِّمُهُ الكتابُ المُقدَّسُ، ويُريدُنا بُولُس أن نفهَمَ هذه الحقيقَة. هل آمنتَ منذُ وقتٍ طَويلٍ يسمَحُ لكَ بأن تُدرِكَ أنَّ النُّمُوَّ الرُّوحِيّ والإنتِصار على الخَطيَّة يُمكِنُ أن يرتَبِطا بالألَم؟ بِحَسَبِ يسُوع، عندما نَكُونُ كغُصنٍ مُثمِرٍ بسببِ كَونِنا ثابِتينَ فيهِ كالكَرمَة، يُشَذِّبُنا الآبُ، أو يقطَعُ أجزاءً كبيرَةً من غُصنِنا، لكَي نأتِيَ بِثمَرٍ أكثَر (يُوحَنَّا 15: 2). في هذا الإطار، مُعظَمُ ألَمِنا يُمكِنُ النَّظَرُ إليهِ كتَشذيبٍ بدَلَ أن يكُونَ تراجُعاً أو عائِقاً في حياتِنا.

الرَّسُولُ بُولُس هُوَ مِثالٌ عَظيمٌ عن هذا النَّوع منَ الألَم. لقد منحَتْهُ الفتراتُ الطَّويلَة والمُتَعَدِّدَة التي قَضاها في السِّجن الوقتَ الكافي ليَكتُبَ خمسَةً من أكثَرِ رسائِلِهِ أهَمِِّيَّةً. وكانَ بإمكانِهِ أن يَكُونَ مُثمِراً خلالَ هذه الأشهُر الطَّويلَة، واعِظاً ومُعَلِّماً؛ رُغمَ ذلكَ رَغِبَ اللهُ بالمَزيدِ منَ الثِّمارِ، وقضى بُولُس ذلكَ الوقت في السِّجن. وبعدَ مُرُورِ ألفَي عام، لا  تزالُ رسائِلُهُ المُوحاة التي كتبَها في السِّجن، تُؤتي الخلاصَ والبَرَكَة لملايين النَّاس.

تأمَّلُوا بِهَذِا المَقطَع الذي كَتَبَهُ بُولُس، والذي يمنَحُنا بَصيرَةً لنفهمَ إختبارَهُ الشَّخصِيّ في الألَم. لقدِ إقتَبَستُ هذا المقطَع من ترجَمَةٍ تفسيريَّةٍ تُساعِدُنا على فهمِ الحقيقَةِ الصَّعبَة عن آلامِ بُولس الشَّخصيَّة:

"لقد عمِلتُ بكَدٍّ، ودخَلتُ السِّجنَ أكثَرَ من أيِّ شَخصٍ أعرِفُهُ. وجُلِدتُ مرَّاتٍ لا عَدَّ لها، وواجَهتُ المَوتَ مراراً وتكراراً. خمسَ مرَّاتٍ جَلدَني اليَهُودُ أربَعينَ جَلدَةً إلا واحِدَة. ثلاثَ مرَّاتٍ ضُرِبتُ بالعِصِيّ. (هذا النَّوع منَ الألَم كانَ عادَةً رُومانِيَّة، التي كانت تُشبِهُ مُمارَسَةً تُعرَفُ اليَوم في أماكِن مثل سنغافُورَة بالتَّعليب. لقد كانت هذه العِصِيّ أسوأَ من الجَلد، لأنَّها كانت تُمَزِّقُ خلايا العَضَلاتِ وكانَ بإمكانِها أن تكسِرَ العِظام.) وذاتَ مَرَّة، رُجِمتُ من قِبَلِ جُمهُورٍ هائِج، وتُرِكتُ مَيتاً (أعمال 14). ثلاث مرَّات غَرِقَت بي السَّفينة؛ مرَّةً كُنتُ في عُمقِ البَحر طِوالَ الليلِ وطوالَ النَّهارِ كذلكَ. (أعمال 27، 28). لقد عِشتُ في تَعَبٍ وألَمٍ ولَيالٍ بلا نَوم. غالِباً ما كُنتُ أجُوعُ وأعطَشُ وأجُولُ بِدُونِ طَعامٍ؛ لطالَما إرتَجَفتُ منَ البَردِ، بِدُونِ ما يكفي منَ الثِّيابِ لأدفَأَ." 2كُورنثُوس 11: 23- 27)

هل ترَى لماذا يَربِطُ بُولُس النُّمُوّ الرُّوحِيّ والإنتِصار بالألمَ؟ بما أنَّ الألم هُوَ واحِدٌ من عدَّةِ أدواتٍ يستَخدِمُها اللهُ خلالَ جَعلِنا خلائِقَهُ الجديدَة، هل إستَخدَمَ اللهُ أو هل تسمَحُ لهُ بأن يستخدِمَ الألَمَ الآنَ لكَي يجعَلَكَ تنمُو رُوحِيَّاً؟ وهل بإمكانِكَ أن تُدَوِّنَ إختِباراتِكَ لهذا المبدَأ في يوميَّاتكَ الرُّوحيَّة عنِ الإيمان؟ إيَّاكَ أن تُضَيِّعَ آلامَكَ سُدَىً.  

كتبَ بُولُس في إحدَى رسائِلِهِ الأُخرى أنَّنا جَميعاً عمَلُ الله. عندما كانَ يَقُومُ بَنَّاءٌ أعرِفُهُ بإنجازِ بناءِ منزِل، كانَ يأخُذُ أُولئكَ الذين يبحَثُونَ عن بناءٍ ليُرِيَهُم المنزِلَ الذي أنجَزَهُ. وكانَ يَقُولُ لأُولئكَ الذين يبحَثُونَ عن بنَّاءٍ لمنازِلِهِ، "بِنِعمَةِ الله، هذا هُوَ عمَلِي." بِحَسَبِ بُولُس، اللهُ يُريدُ أن يُشِيرَ إلى كُلِّ واحِدٍ منَّا ويَقُولُ، "هذا هُوَ عمَلِي!" (أفَسُس 2: 10).

بعدَ أن عَقدَ قَسِّيسٌ عقدَ الزَّواجِ بينَ إثنَينِ من أعضاءِ كنيستِهِ، فذهبا في شَهرِ العَسَل، ذهبَ القَسِّيسُ ووضَعَ على بابِ منزِلِهِما لافتَةً تَقُولُ، "إنتِباه: اللهُ يَقومُ بأَشغال!" لقد أرادَ أن يُذَكِّرَ هذين الزَّوجَين الجَديدَين أنَّهُما يحتاجانِ أن يكُونا طَويلا الأناةِ معَ بَعضِهِما البَعض، وأن يُدرِكا أنَّ اللهَ كانَ يقُومُ بِعَمَلِهِ في حياتِهِما. هذه اللافِتَة ينبَغي أن تُوضَعَ فوقَ حياةِ كُلِّ مُؤمنٍ تبرَّرَ بالإيمان.

ولا يَصِحُّ هذا فقط في هذه الحياة، بل بمعنىً ما لن ينتَهِيَ عملُ اللهِ ولن يكمُلَ إلى أن نُصبِحَ كامِلِينَ في الأبديَّة من خلالِ مَوتِنا وقيامَتِنا حَرفِيَّاً. (فيلبِّي 1: 6).

سَمِعتُ مرَّةً عن خادِمِ كنيسَةٍ في مدينَةِ نيُويُورك، كانَ قد أُصيبَ بالإكتِئاب. ولقد كانَ مُكتَئِباً لدَرَجَةِ أنَّهُ لم يَعُدْ قادِراً على كِتابَةِ عِظَتِهِ. فقرَّرَ أن يذهَبَ ليَتَمشَّى. وبينما كانَ يتمشَّى حولَ مدينَةِ نيُويُورك، مُكتَئِباً لِدَرَجَةِ أنَّهُ كانَ في حالَةٍ يكادُ يُغشَى عليهِ، مرَّ بجانِبِ ورشَةِ بناء. وكانَت ورشَةُ البِناءِ هذه تختَصُّ بِبناءِ كاتِدرائِيَّةٍ ضخمة وسطَ مدينَةِ نيُويُورك. كانت تجري تصليحاتٌ لتجديدِ بناءِ هذه الكاتِدرائِيَّة الضَّخَمة، للمُحافَظَةِ على جمالِها وإستمِرارِيَّتِها.

فوَقَفَ الرَّاعِي المُكتَئِب هُناكَ في حالَتِهِ المُزرِيَة، وأخذَ يتفرَّسُ بالعُمَّالِ وهُوَ تائِهَ التَّفكير. مرَّتْ بِضعُ دقائِق قَبلَ أن يُدرِكَ أنَّ كانَ يتفرَّجُ على عمَلِ نحتٍ بالحجارَةِ كانَ يجرِي على حجَرٍ كبيرٍ جدَّاً، وكان العُمَّالُ ينحتُونَ منهُ صَليباً كبيراً. بعدَ أن مرَّ بَعضُ الوقت، إنتَبَهَ نحَّاتُ الحَجَرِ لكَونِ راعي الكنيسة يَقفُ جانِباً ليَتَفَرَّسَ بهِ. وعندما إلتَقَت عيناهُما، سألَهُ راعي الكنيسَة، "ماذا تفعَلُ؟" فأشارَ نحَّاتُ الحَجَرِ إلى فتحَةٍ في بُرجِ الكاتِدرائِيَّة، التي كانت تقَعُ فوقَهُم مُبَاشَرَةً. وكانت الفَتحَةُ أيضاً بِشَكلِ صَليب. فقالَ النَّحَّاتُ لراعي الكنيسة، "هل تَرى تلكَ الفَتَحَةَ هناك؟" ثُمَّ بينما كانَ النَّحَّاتُ المَوهُوبُ يُشيرُ إلى الصَّليبِ الصَّخرِيِّ الضَّخم الذي كانَ ينحتُهُ على الأرض، قالَ لِراعي الكنيسة، "أنا أنحَتُهُ وأُشَكِّلُهُ هُنا في الأسفَل، لكي يُناسِبَ حجمُهُ عندما سيُوضَعُ في الأعلَى."

وبينما كانَ راعي الكنيسة يمشِي مُبتَعِداً عن ورشَةِ البناءِ هذه، قالَ مُصَلِّياً، "شُكراً يا رَبّ، لأنَّ هذا ما إحتجتُ أن أسمَعَهُ بالتَّمام!" لقد أدرَكَ أنَّ الكثيرَ من المشاكِل والضُّغُوطات، التي كانت قد أدَّتْ بهِ إلى هذا الإكتِئاب، كانت الطريقة التي بها يُشَكِّلُ اللهُ حياتَهُ هُنا على الأرضِ في الأسفَل، لكَي يُصبِحَ مُناسِباً ومُلائِماً للإستخدامِ في الأعلَى.

بينما يربِطُ بُولُس بينَ النُّمُوِّ الرُّوحِيِّ والإنتِصار على الخَطيّة في حياةِ المُؤمن، يُشيرُ إلى أنَّ اللهَ مُلتَزِمٌ ومُصِرٌّ على تَشكِيلِنا كأبناء وبناتٍ لهُ، ليجعَلَ منَّا رُسُلاً لهُ في هذا العالم. وهُوَ يُشَكِّلُنا ويُغَيَّرُنا للحالَةِ الأبديَّة، عندما سنَختَبِرُ فداءَنا وإنتِصارَنا الكامِل على الخَطيَّة. تأمَّلُوا بهذا التَّفسير لهذينِ العَدَدَينِ اللذَينِ يُشيرُ بُولُس فيهِما إلى نُمُوِّنا الرُّوحِيّ في الحاضِرِ والمُستَقبَل: "أعتَقِدُ أنَّكُم مَهمَا عانَيتُم منهُ في الزَّمانِ الحاضِر، هُوَ قَليلٌ جدَّاً بالمُقارَنَةِ معَ المُستَقبَلِ المُشرِق الذي أعدَّهُ اللهُ لنا. فالخَليقَةُ بأسرِها تتشوَّقُ لتَرى المَنظَرَ الرَّائِع عندما يَصلُ أبناءُ اللهِ إلى حالَتِهِم الأبديَّة." (رُومية 8: 18 و19).

  • عدد الزيارات: 2903