Skip to main content

الفَصلُ الأوَّل "الإختِيارُ والنِّعمَة"

الصفحة 2 من 4

"يا للِغَرابَةِ أن يختارَ اللهُ اليَهُود."

الإصحاحُ التَّاسِع من رِسالَةِ رُومية هُوَ واحِدٌ من أصعَبِ إصحاحاتِ الكتابِ المُقدَّس على الفهمِ والتَّطبيق. يبدَأُ بُولُس هذا الإصحاح بالتَّعبيرِ عن محبَّتِهِ الصَّادِقَة والحَقيقيَّة لِشَعبِهِ إسرائيل وعن كَونِهِ مُثَقَّلاً تجاهَهُم. في كتاباتِهِ، كثيراً ما يُعَبِّرُ عن عن هدَفِ مُهِمَّتِهِ: "لليَهُودِيِّ أوَّلاً، ثُمَّ لِليُونانِيّ." (رُومية 1: 16؛ أعمال 20: 21) في رحلاتِهِ الإرسالِيَّة، بينما كانَ يدخُلُ مدينَةً بعدَ الأُخرى، كانَ نَمُوذَجُ خدمَتِهِ بأن يذهَبَ إلى المجمَعِ اليَهُودِيِّ أوَّلاً، ويُحاجِجَ معَ مُعَلِّمي النَّامُوس أو الرَّابِّيِّين مُقنِعاً إيَّاهُم بأنَّ "يسَوعَ هُوَ المسيح." (أعمال 13: 13؛ 18: 4، 5) في واحِدَةٍ من أعمَقِ تصريحاتِهِ عن ستراتيجيَّة خدمَتِهِ الإرسالِيَّة، كتبَ يَقُولُ أنَّ أهمَّ أولويَّاتِهِ هي أن يَكُونَ لِليَهُودِ يَهُودِيَّاً، لِيتمكَّنَ بطريقَةٍ أو بأُخرى، من رؤيَةِ يَهُودٍ يُقبِلُونَ إلى الإيمان ويختَبِرُونَ الخلاص(1كُورنثُوس 9: 19- 22).

كتبَ بُولُس يقُولُ أنَّهُ تقريباً كانَ يَوَدُّ لو بإمكانِهِ التَّضحِيَة بخلاصِهِ الأبديّ لأجلِ خلاصِ شعبِهِ المَحبُوب. الكثيرُ منَّا كمُؤمنين، خاصَّة الذين لديهم أولاد، قد إختَبَرُوا وجعَ القَلبِ الرَّهيب الذي ينتُجُ عن معرِفَةِ أنَّ واحِداً من أولادِنا يبتَعِدُ عنِ الإيمان ويقتَرِبُ من نوعِ حياةٍ سيُؤدِّي بهِ حتماً إلى الكارِثة. قد نَصِلُ إلى مرحَلَةٍ منَ محبَّةِ الضَّالِّينَ من أحبِّائِنا، قد نَكُونُ مُستَعِدِّينَ معها أن نُضَحِّيَ بِخلاصِنا الأبديّ من أجلِ خلاصِهم. ولكن هل يُوجَدُ بينَنا من هُوَ مُستَعِدٌّ ليُضَحِّيَ بخلاصِهِ الأبديّ من أجلِ خلاصِ النَّاسِ الضَّالِّين، حتَّى ولو لم يَكُونُوا من أحِبَّائِنا؟

بالحقيقة بُولُس لا يَقُولُ أنَّهُ كانَ سيفعَلُ هذا بالتأكِّيد، ولكنَّهُ يقُولُ أنَّهُ بالكاد سيفعَلُهُ: "أقُولُ الصِّدقَ في المسيح. لا أكذِبُ وضَمِيرِي شاهِدٌ لي بالرُّوحِ القدُس. إنَّ لي حُزناً عَظيماً ووَجَعاً في قَلبِي لا ينقَطِعُ. فإنِّي كُنتُ أوَدُّ لَو أكُونُ أنا نَفسي مَحرُوماً من المَسيح لأجلِ إخوَتي أنسِبائِي حسبَ الجَسَد. الذين هُم إسرائيليُّونَ ولَهُمُ التَّبَنِّي والمَجدُ والعُهُودُ والإشتِراعُ والعِبادَةُ والمَواعِيدُ. ولَهُمُ الآباءُ ومنهُمُ المسيحُ حسبَ الجَسد الكائِنُ على الكُلِّ إلهاً مُبارَكاً إلى الأبَدِ آمين." (رُومية 9: 1- 5)

منَ المُمكِن أن نَقُولَ لشَخصٍ واحِد، ومنَ المُمكِن أن نَقُولَ لمِئاتٍ أو لآلافٍ من على المِنبَر، وحتَّى للملايين منَ الرَّاديو أنَّهُم ذاهِبُونَ إلى جَهَنَّم إذا لم يُؤمِنُوا بيسُوع المسيح مُخَلِّصاً لهُم. يُمكِنُ أن يتِمَّ هذا بطريقَةٍ تُعطِي إنطباعاً أنَّنا مَسرُورُونَ بهذا الإحتِمال الرَّهيب. أو بإمكانِنا أن نَنقُلَ هذه الحقيقَة الرَّهيبَة المُريعة بدُمُوعٍ وبَقلبٍ مُنكَسِر. منَ الواضِح أنَّ الخيارَ الثَّانِي هُوَ الذي سيربَحُ المزيدَ منَ النَّاسِ للمسيح.

عندما كتبَ بُولُس هذه الكلمات التي تُعَبِّرُ عن ثِقلِهِ للشَّعبِ اليَهُودِيّ، خاصَّةً لأُولئكَ الذين هُم أمثال شاوُل الطَّرسُوسِيّ قبلَ أن يلتَقِيَ بالمسيح الحَيِّ المُقام على طريقِ دِمشق، كتبَ بِدُمُوعٍهِ وبِقَلبٍِ مُنكَسِر.

لقد أبرَزَ ثمانِيَةَ طُرُقٍ كانَ اليَهُودُ مُمَيَّزِينَ فيها رُوحيَّاً. أوَّلُ هذه الإمتِيازات الرُّوحِيَّة كانَ ما يُمكِنُ تسمِيَتُهُ "التَّبَنِّي." تَذَكَّرُوا أنَّهُ في تلكَ الحضارَة الرُّومانِيَّة، كانَ الوالِدُ يعتَبِرُ أبناءَهُ الصُّبيان أطفالاً إلى أن يبلُغُوا سنَّ الرَّابِعَة عشر. وعندما يبلُغُونَ هذا السِّنّ القانُونِي، كانَ يُنَظِّمُ جلسَةَ محكَمَةٍ رسمِيَّة، يُعلِنُ فيها شَرعِيَّاً تبنِّيهِم أبناءً لهُ وورثَةً شَرعِيِّين لمُمتَلكاتِهِ. بهذا الإطار الحضارِيّ إستَخدَمَ بُولُس كلمة "تبنِّي."

تُوجَدُ أربَعَةُ أسبابٍ اللهُ وحدَهُ يعرِفُها، أنَّهُ من بَينِ كُلِّ الشُّعُوب المذكُورَة في التَّاريخِ القديم، لماذا إختارَ اللهُ وتبنَّى ذُرِّيَّةَ إبراهيم ليَكُونُوا شعبَهُ المُختار المُمَيَّز. نَجِدُ أنَّهُ منَ الغرابَةِ أن يختارَ اللهُ اليَهُود، ولا يسَعُنا إلى أن نتساءَلَ مُتَعجِّبِينَ، "لِماذا؟"

في كُلِّ مَرَّةٍ نسأَلُ فيها، "لماذا فعلَ اللهُ كذا؟" بالتَّحليلِ النِّهائِي، يَكُونُ الجوابُ، "اللهُ وحدَهُ يعلَمُ!" بإمكانِنا القَول أنَّهُ إن كانَ اللهُ قدِ إختارَ عِرقاً مُعَيَّناً، أو لَوناً أو أصلاً وطنيَّاً، عندها هذا العِرقُ أو اللَّونُ أو الأُمَّةُ سيُؤمِنُ بِوُضُوحٍ بِتَفَوُّقِهِ الوطنيِّ والعِرقِيّ. فلِكَي يأتي إلى هذا العالم كإلهٍ إنسان، خلقَ اللهُ شَعباً خاصَّاً لهذا الهدَف. العهدُ القَديمُ بأكمَلِهِ يَقُولُ أنَّ اللهَ يختارُ أُولئكَ الذين يستَخدِمُهُم. ولكنَّ العهدَين القَديم والجَديد، بالإضافَةِ إلى التَّاريخِ العِبريّ القَديم والمُعاصِر، جميعُها تُصَرِّحُ بأنَّ أُولئكَ الذين إختارَهُم الله، يَظَلُّ بإمكانِهِم أن يختارُوا أن لا يَكُونُوا مُختارِين.

الإمتِيازُ الرُّوحِيُّ الثَّانِي لليهُود كانَ أنَّهُم أُعطُوا المَجد. هذه إشارَةٌ إلى الشَّكينَة، أو حُضُور الله الحقيقيّ، الذي كانَ يملأُ خيمَةَ العِبادَة وهيكَلَ سُليمان، عندما تمَّ بناءُ وتدشينُ هذينِ الصَّرحَين تِباعاً. فلقد شَكَّلَت السحابَةُ نهاراً وعمودُ النَّارِ لَيلاً، شكَّلَت ظواهِرَ لهذا المجد، وقادَتِ الشَّعبَ في مَسيرِهم في البَرِّيَّة، كما هُوَ مَوصُوفٌ في سِفرَي الخُروج والعدد.

ثُمَّ يَذكُرُ بُولُس العُهُودَ التي قَطَعَها معَ شَعبِهِ المُختار. علينا أن نتذكَّرَ أنَّ كلمة "عهد" كما إستُخدِمَت للإشارَةِ إلى العهدَين القَديم والجديد، تعني بالحقيقَةِ ليسَ الكِتابَين القديم والجديد، بل العهدَين المَقطُوعَين من اللهِ معَ شَعبِهِ في القَديمِ والجديد. بالإضافَةِ إلى هذينِ العهدَين الشامِلَين والعامَّين، قطعَ اللهُ عُهُوداً مع أشخاصٍ مثل نُوح، إبراهيم، وداوُد.

إنَّ مُعجِزَةَ نامُوسِ اللهِ الذي أُعطِيَ لإسرائيل من خلالِ مُوسى على جَبَلِ سيناء، هي الإمتِيازُ الرُّوحِيُّ التَّالِي الذي ذكرَهُ بُولُس. إنَّ محبَّةَ اليَهُودِ الأتقِياء للنَّامُوس، تمَّتِ الإشارَةُ إليها سابِقاً في تفسيرِنا للطَّريقَةِ التي يبدَأُ بها الإصحاحُ السَّابِع. فلقد رأينا أنَّ مُعظَمَ العَرضِ المُنَظَّم الذي تُقَدِّمُهُ هذه الرِّسالَة، يرتَبِطُ بِفهمٍ صحيحٍ لمقاصِدِ نامُوسِ اللهِ الذي أُعطِيَ لإسرائيل. لقد تألَّمَ بُولُس بِشِدَّة لكَونِ المقاصِد التي من أجلِها أُعطِيَ النَّامُوس لم تتحقَّقْ بتاتاً في حياةِ اليَهُود، الذين لأجلِهم كانَ بُولُس مُثَقَّلاً، فكتبَ لهُم هذه الرِّسالَة.

هُناكَ بُعدٌ هامٌّ جدَّاً مُتَعلِّقٌ بهذا النَّامُوس وبِخِدمَةِ مُوسى، كانَ يُشيرُ بُولُس إليهِ بأنَّهُ "خدمة الله." هذه إشارَةٌ إلى الخصائِص التَّفصيليَّة التي أعطاها اللهُ في سفرِ الخُرُوج، بِخُصُوص "خيمَةِ العِبادَة،" أو "خيمة الإجتِماع في البَرِّيَّة." الحقيقَةُ الهامَّةُ في كُلِّ هذه الخصائِص التَّفصيليَّة، وتعليمات سفر اللاوِيِّين التي تُظهِرُ كيفَ ينبَغي إستخدام خيمَة العِبادَة هذه، هي أنَّ اللهَ كانَ يُظهِرُ لهذا الشَّعبِ المُختار الممَيَّز كيفَ يعبُدُ اللهَ القُدُّوس.

ثُمَّ يُشيرُ بُولُس إلى المَواعِيد. ويُعتَبَرُ هذا مفهُوماً بالِغَ الأهَمِّيَّة في العلاقَةِ بينَ اللهِ وإسرائيل. فكُلُّ ما يعمَلُهُ اللهُ مُتَنَبَّأٌ عنهُ ومَسبُوقٌ بِوَعد. فهُناكَ أرضُ المَوعِد والوُعُودُ التي قطَعَها اللهُ لإبراهِيمَ بِخُصُوصِ ذُرِّيَّتِهِ. يُوصَفُ إسحَقُ بأنَّهُ إبنُ المَوعِد. والتَّحدِّي هُو أن نُؤمِنَ بمواعيدِ الله. لهذا يُعتَبَرُ أبُو هذا الشَّعب تعريفاً حَيَّاً للإيمان، لأنَّهُ آمنَ بمواعِيدِ الله.

ومنَ المُلائِمِ جدَّاً أنَّ الإمتِيازَ الرُّوحِيَّ التَّالِي هُوَ الآباء. إبراهيم، إسحَق، يعقُوب، مُوسَى، داوُد، وآخَرُونَ غَيرُهُم دَعاهُمُ اللهُ وقوَّاهُم وأهَّلَهُم ليكُونوا آباءَ، وليُسَمُّوا ويُحَوِّلُوا جمهُوراً كبيراً منَ النَّاسِ إلى أُمَّة، ثُمَّ ليَقُودُوا تلكَ الأُمَّة. يعتَبِرُ بُولُس هؤُلاء الآباء بأنَّهُم يُشَكِّلونَ إمتِيازاً رُوحيَّاً آخر من الإمتِيازات التي أعطاها اللهُ لشَعبِ إسرائيل.

الإمتِيازُ الرُّوحِيُّ الثَّامِن والأعظَم، الذي أعطاهُ اللهُ لإسرائيل كانَ أنَّهُ من خلالِهم سيأتي المُخَلِّص، الذي بهِ ستُعلَنُ محبَّةُ اللهِ وسيُعَبَّرُ عنها لهذا العالم. لقد أصبَحَ الخلاصُ مُمكِناً لليَهُودِ وللأُمَم من خلالِ هذا الشَّعبِ المُختار. فمن خلالِ إسرائيل، أصبحَ اللهُ جسداً، وعاشَ في هذا العالم لمُدَّةِ ثلاثٍ وثلاثِينَ سنَةً. وإذ يختُمُ لائِحَةَ هذه الإمتِيازاتِ الرُّوحيَّة المُعطاة لإسرائيل، بذكرِ حقيقَةِ كونِ المَسِيَّا قد جاءَ لهُم ومنهم، أعطانا بُولُس أيضاً أحدَ أوضَحِ أعدادِ الكتابِ المُقدَّس الذي يُعلِنُ شَيئاً لطالَما نادَى بهِ يسُوعُ في إنجيلِ يُوحَنَّا: أنَّهُ كانَ اللهَ: "المسيحُ جاءَ، وهُوَ فوقَ الكُلّ، إلهاً مُبارَكاً." (9: 5)

هَل فَشِلَ اللهُ؟
الصفحة
  • عدد الزيارات: 8556