الفَصلُ الثَّانِي عشَر الشرِكَة معَ الآب
لقد كانَ يسُوعُ في إتَّحادٍ دائِمٍ معَ الآب. وغالِباً ما كانَ يستَيقِظُ باكِراً ليقضِيَ وقتاً على إنفِرادٍ في الصلاةِ إلى الآب. وكَثيراً ما تكلَّمَ عن كَونِهِ يعمَلُ فقط ما قالَ لهُ الآبُ أن يعمَلَ. لقد كانَ إتِّحادُهُ معَ الآبَ مُستَمِرَّاً وحَمِيماً. فكانت أصعَبُ مرحَلَةٍ وصلَ إليها في آلامِهِ على الصَّليب، عندما إنكَسَرَ إتِّحادُهُ معَ الآب، لكونِهِ أصبَحَ حرفِيَّاً خَطِيَّةً لأجلِنا، ويبدو أنَّ الآبَ لم يعُدْ قادِراً آنذاك على الإستِمرارِ في الشَّرِكَةِ معَهُ (مرقُس 15: 34؛ 2كُورنثُوس 5: 21؛ إشعياء 53: 5، 6).
في صَلاةِ يسُوع الأخيرة في بُستانِ جُثسَيمانِي، نقرَأُ أنَّ القصدَ من مَجيئِهِ إلى الأرض ومن موتِهِ لأجلِ خطايانا، كانَ منذُ البِدايَةِ أن تكُونَ لنا نحنُ أيضاً شَرِكَةٌ معَ الآب: "وهذه هي الحَياةُ الأبديَّةُ، أن يعرِفُوكَ أنتَ الإلهَ الحقيقيَّ وحدَكَ ويسُوعَ المَسيحَ الذي أرسَلتَهُ." (يُوحنَّا 17: 3)
وبهدَفِ تحديدِ قيمةِ هذه الشَّرِكة معَ الآب، أخبَرَ يسُوعُ في مرحَلَةٍ مُعيَّنَةٍ من خدمتِهِ بمَثَلٍ فقال: "إنسانٌ صنعَ عشاءً عظيماً ودَعا كَثيرين. وأرسَلَ عبدَهُ في ساعَةِ العَشاء لِيَقُولَ لِلمَدعُوِّينَ تَعَالَوا لأنًَّ كُلَّ شَيءٍ قد أُعِدَّ. فابتَدأَ الجميعُ بِرَأيٍ واحِدٍ يستَعفُون. قالَ لهُ الأوَّلُ إنَّي اشتَريتُ حقلاً وأنا مُضطرٌّ أن أخرُجَ وأَنظُرَهُ. أَسألُكَ أن تُعفِيَني. وقالَ آخَرُ إنِّي إشتَرَيتُ خَمسَةَ أزواج بَقَرٍ وأنا ماضٍ لأمتَحِنَها. أسألُكَ أن تُعفِيَني. وقالَ آخَرُ إنِّي تَزَوَّجتُ بإمرأَةٍ فَلِذَلِكَ لا أقدِرُ أن أجيءَ.
"فأتَى ذلكَ العَبدُ وأخبَرَ سيِّدَهُ بِذلكَ. حِينئذٍ غَضِبَ رَبُّ البَيتِ وقالَ لِعَبدِهِ اخرُجْ عاجِلاً إلى شَوارِعِ المَدينَة وأَزِقَّتِها وأَدخِلْ إلى هُنا المَساكِين والجُدع والعرج والعُمِي. فقالَ العبدُ يا سَيِّدُ قد صارَ كما أمرتَ ويُوجدُ أيضاً مكان. فقالَ السيِّدُ لِلعَبدِ أخرُجْ إلى الطُّرُقات والسِّياجات وأَلزِمْهُم بالدُّخول حتَّى يمتَلِئَ بيتي. لأنِّي أقُولُ لكَ إنَّهُ ليسَ واحِدٌ من أولئكَ الرِّجالِ المَدعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائي." (لُوقا 14: 16- 24)
في تِلكَ الأيَّام، وفي تِلكَ الحضارة، كانَ تناوُلُ الطعامِ معاً يُشيرُ إلى الشركة. ولم تكُنْ هُناكَ شَرِكَةٌ أعظَم من الشَّرِكة التي يتِمُّ إختِبارُها عندما تُدعَونَ لتَكسُرُوا خُبزاً في مَنزِلِ صَديقٍ أو قَريبٍ أو أيِّ شخصٍ كانَ قد دعاكُم إلى مائدَتِه. في الإستِعارَة الجميلة في آخِرِ سِفرٍ من أسفارِ الكتابِ المقدَّس، يُخبِرُنا يسُوعُ بأنَّهُ واقِفٌ على بابِ حياتِنا، يقرَعُ بِصبرٍ، لأنَّهُ يُريدُنا أن نفتَحَ لهُ البَاب، وأن يدعُوَنا لنتعشَّى معَهُ (رُؤيا 3: 20).
يُشيرُ هذا المَثَلُ إلى القيمة التي أعطاها يسُوعُ للشَّرِكَةِ معَ الله. ويُخبِرُ بِقِصَّةِ رَبِّ البَيتِ، الذي أرادَ أن يفتَحَ أبوابَ منزِلِهِ على مِصراعَيها حيثُ أعدَّ مائدَةً عظيمة. لقد رُفِضَت دعَواتُهُ جَميعاً من قِبَلِ أُولئكَ الذين دَعاهُم إلى حفلَةِ العشاء. وكانت أعذارُهُم أنَّهُم إشتَرُوا مُلكاً وينبَغي أن يذهَبُوا ليَرَوهُ. (يبدُو من الغَريبِ أنَّ هؤُلاء إشتَرُوا مُلكاً دُونَ أن يرَوهُ. قد يعني هذا أنَّهُم رُغمَ كونِهم قد سبَقُوا ورَأَوا هذا المُلك، ولكنَّهُم أرادُوا أن يرَوهُ الآن بعدَ أنِ إمتَلَكُوهُ. إنَّ جوهَرَ هذا العُذر مُمكِن أن يعنِيَ أنَّ أُمُورَ ومُمتَلَكات هذا العالم كانت أكثَرَ أهمِّيَّةً بالنسبَةِ لهؤُلاء من الشركة معَ الله؟
عُذرٌ آخَرُ هو أنَّهُم إشتَرُوا خمسةَ أزواج بقَر وأرادُوا تجريبَها. إنَّ خمسةَ أزواجِ بقَر تكفي للعَمَلِ على مزرعَةٍ شاسِعَةٍ مُترامِيَةِ الأطراف. وبما أنَّ ثيرانَ الفِلاحة ترمُزُ إلى العَمَل، فإنَّ هذا العُذر يُعبِّرُ عن إستخدام الإنشِغال بالعَمَل كحُجَّةٍ لعدَمِ المجيء إلى عشاءِ الرَّب.
عُذرٌ ثالِثٌ هُوَ أنَّنِي تزَوَّجتُ مُؤخَّراً، ولا أستطيعُ أن أجِيءَ. ثُمَّ تُضيفُ إحدَى التَّرجمَات بالقَول، "لقد تزوَّجتُ مُؤخَّراً، وأنا أكيدٌ أنَّكَ ستَتَفهَّمُ عدم قُدرَتي على المَجيء" (لُوقا 14: 20). جَواباً على رفضِ كُلِّ الدعوات إلى العَشاء، غَضِبَ رَبُّ البَيتِ كثيراً وقالَ لخادِمِهِ أن يخرُجَ إلى المَدينَة ويدعُوَ كُلَّ المرضَى والمنبُوذِين ليَنضَمُّوا إليهِ ويُشارِكُوه العشاء – أي أشخاص لن يقدِرُوا أبداً على رَدِّ دَينِ هذه الدعوة، وكانَ مُستَحيلاً أن يُدعَوا إلى أيَّةِ مأدُبَةِ عشاءٍ كهذه.
ولِكَي يُوجِّهَ اللهُ هكذا دعوة إلى مائدَتِهِ، إحتاجَ أن يُرسِلَ إبنَهُ الوحيد إلى العالم ليَمُوتَ عن خطايانا. لقد كانت خيمَةُ العِبادَة وهيكَلُ سُليمان يُشيرانِ إلى التعاليم المُوحى بها التي أعطاهَا اللهُ لمُوسى، ليُظهِرَ لهُ كيفَ ينبَغي على الخُطاة أن يقتَرِبُوامن اللهِ القُدُّوس. لقد مكَثَ حُضُورُ اللهِ في غُرفَةٍ داخِليَّة، وكان ترتيبُ ليتُورجيا العبادَةِ هُناك يتكلَّمُ بمُجمَلِهِ عن الإقتِراب من محضَرِ الله. كانَ هُناكَ حجابٌ غَليظ يحجُبُ الدُّخولَ عن هذا المكانِ المقدَّس الذي مكَثَ فيهِ اللهُ. فالخُطاةُ لم يقتَرِبُوا حتَّى من المَكانِ المُقدَّس. مرَّةً في السَّنَة، وبينما كانَت كُلُّ الجماعَةِ تتحلَّقُ حولَ خيمَةِ العبادَة، كانَ رَئيسُ الكَهَنة يدخُلُ إلى محضَرِ اللهِ، بالنّيابَةِ عن شعبِ الله.
كانَ هيكَلُ سُليمان مَبنِيَّاً على هذا النَّمُوذَج عينِهِ للإقتِرابِ من الله. في ذلكَ الهَيكَل، كانَ الحِجابُ يُشبِهُ ستارَ المسرَح. وعندما ماتَ يسُوعُ على الصَّليب، إنشَقَّ هذا الحِجابُ من فَوقُ إلى أسفَل، مُشيراً بذلكَ إلى المُعجِزة العظيمة أنَّهُ لم يعُدْ مُتوجِّباً على شعبِ الله أن يقتَرِبُوا منهُ بالطريقَةِ التي بها طَلبَ اللهُ أن يقتَرِبَ شعبُهُ منهُ في العهدِ القديم. وقد تظُنُّ أنَّهُ في هذه الحال، سوفَ يتراكَضُ الناسُ جَميعاً للدُّخُول إلى حضرَةِ الله، بعدَ أن أُعلِنَت هذه الأخبارُ السارَّة. ولكنَّ مَثَلَ يسُوع هذا يُرينا أنَّهُ لم تكُن الحالُ هكذا.
إن هذه الأعذار هي طريقَةٌ ساخِرَة لإيضاحِ غيابِ التركيز على الأولويَّات في حياةِ شعبِ الله. فعندما يقُولُ هؤُلاء أنَّهُم لا يستطيعُونَ المجيء، فإنَّ أعذارَهُم لا تُعبِّرُ عن إستِحالَةِ المَجيء. بل تعني أعذارُهُم الواهِيَة والضعيفة أنَّهُم إختارُوا أن لا يأتُوا لأنَّهُم يُولُونَ قيمَةً أكبَر لأُمُورِ هذا العالم، ولِعَمَلِهم، وعلاقاتِهم الإنسانِيَّة، ممَّا يُولُونَهُ لعلاقتِهم معَ الله.
هل تُقدِّرُ القيمةَ الكَبِيرَة للشركة معَ الله؟ وهل تُقدِّرُ الكلفة التي ترتَّبَت على الله لكَي يفتَحَ لكَ الطريق للشَّرِكَة معَهُ؟ وهل تُقدِّرُ مِقدارَ كلفَةِ قول يسُوع المسيح للعالَم أجمَع، "أنا هُوَ الطريق... ليسَ أحدٌ يأتي إلى الآب إلا بي؟" وهل ستعتَرِفُ (تقُولُ الشيءَ نفسَهُ) معَ يسُوع، بقيمَةِ الشركةِ معَ الله؟
إنَّ ما نُؤمِنُ بهِ بالفِعل، نعمَلُهُ. وكُلُّ ما عدا ذلكَ فهُوَ مُجرَّدُ كلام. بِناءً على طريقَةِ صرفِكَ لوقتِكَ، ولِمالِكَ، ولعواطِفِكَ، هل تعتَرِفُ بالقيمةِ التي قصدَها يسُوعُ عندما علَّمَ بهذا المثل العميق؟
- عدد الزيارات: 2845