Skip to main content

الخطأ الأول: إخضاع المسيحيين للشريعة اليهودية

ص 3: 4- 14

يقابل الرسول بين تعليم البر بالأعمال وتعليم البر بالنعمة، بين حياته الماضية وحياته الحاضرة، وأن تعليم البر بالنعمة يؤدي إلى النمو في الكمال 4:2-14

"مع أن لي أن أتكل على الجسد أيضاً" لو أردت "أن ظن احد أن له أن يتكل على الجسد" أي على الامتيازات والاستحقاقات الشخصية "فأنا أجدر بذلك" للأسباب الآتية.

وهي أنني "فمن جهة الختان مختون في اليوم الثامن" حسب الناموس "من آل إسرائيل" الشعب المصطفى "من عشيرة بنيامين" أي من نسب معروف "عبراني من العبرانيين" أي يهودي الآباء والأجداد "باعتبار الشريعة فريسي" أي من أشد شيع اليهود تعصباً وطنياً "باعتبار البر الذي حسب الناموس أصبحت بلا لوم" لأن الفريسيين كانوا يباهون بمحافظتهم على حرف الناموس في الأمور التافهة "على أن الأشياء" مثل هذه "التي كانت ربحاً لي" والتي كانت رأس مال لي سواء كان باعتبار الروحيات أو الأدبيات أو الماديات إذ كنت أزعم أنها تستطيع أن تخلصني وتكسبني احترام العالم فضلاً عن أن مستقبلي كان متوقفاً عليها. ومع ذلك فان جميع تلك الأمور "قد حسبتها من أجل المسيح خسارة" لأني حالما آمنت به لم يعد لتلك الأمور قيمة على الإطلاق فكأنني أضعتها وأضعت حياتي معها.

وقد قال المسيح له المجد أن من خسر حياته من أجله يكسبها فكلام بولس إذاً تأييد له.

قال: "بل أنا احسب كل شيء خسارة" أي ليس الأشياء المشار إليها فقط. وحسبانها خسارة هو إذا كان الإنسان يباهي بها. ذلك "بسبب أفضلية معرفة ربي يسوع المسيح" لان المسيح وحده هو الذي يخلص فبمعرفته تغني عن كل شيء ولأن جميع أفراح العالم هي كلا شي بإزاء الفرح الناتج عن معرفة المسيح.

"الذي من أجله حرمت كل الأشياء" لأن اليهود تنكروا مني عند ما نبذت الامتيازات اليهودية. "وأنا أحسبها نفاية" بلا قيمة على الإطلاق "لكي أربح المسيح" الذي هو وحده ذو قيمة حقيقية "وأكون فيه"- وهنا يتكلم بولس كمسيحي متصوف معبراً عن رغبته في الاندماج بالمسيح اندماجاً روحياً عالماً إن ذلك يكسبه براً أسمى وأتم من البر الذي يكسبه إياه التدقيق في حفظ شريعة موسى. لذلك قال "ليس لي البر الذي حسب الشريعة" أي الذي ينظر فيه المرء إلى اجتهاده ويرتاح إلى نتيجة ذلك الاجتهاد "بل الذي بالإيمان بالمسيح" لأن الأيمان الحي فيه يفضي إلى الاتحاد الحي معه ويؤدي إلى غفران الخطايا من أجل الموت الذي ماته المسيح. بل إن الإيمان الحي يجعل المرء يعيش عيشة القداسة التي عاشها المسيح فهذا البر الجديد الذي يتناول البر القديم ويمتد إلى أبعد من مداه هو "البر الذي من اللَّه" لأنه متعلق على اللَّه الذي أعلن نفسه بالجسد أو على كلمة اللَّه الأزلية التي أرسلت لإنقاذ البشر "بالإيمان" لأن المطلوب من الإنسان هو القبول والتسليم وكلاهما في استطاعة كل امرئ وليس للامتيازات الجنسية هنا تأثير. فالمسيحي بهذا الاعتبار- أي باعتبار التسليم- هو ((المسلم)) الحقيقي.

وقد ذكر بولس ما يكسبه المؤمن من ((تسليمه)) بعد خسارته لجميع الأشياء وما تتضمنه كلمة الخلاص فقال

"لأعرفه" أي لأعرف المسيح شخصياً وأذوقه وأختبره وأتمتع بصحبته وهي أمور تفوق كل ما في العالم "وقوة قيامته" معطوف على الضمير في أعرفه. وقيامة المسيح شرط واجب من شروط تلك المعرفة إذ لا يستطيع أحد أن ((يعرف ميتاً)) بهذا المعنى. فنحن نستطيع أن نعرف المسيح لكونه غلب الموت وقام من القبر وهو يحيا إلى الأبد حياة مجيدة فمعرفة قوة قيامته (أفسس 18:1-20) تعني خبر حياته في النفس وغلبته على الخطية والتجربة والمصائب. وهو يمنحنا قوة للصلاة والشهادة ونشر الإنجيل بين الناس. وقد أدرك بولس هذه القوة وحسب خسارة كل شيء بإزائها كلا شيء.

إلا أن هنالك أمراً آخر وهو أن إدراك تلك القوة لا يتم إلا مع "شركة آلامه" لأن المسيح إنما سار نحو قيامته في طريق الآلام وكان في جميع أيامه على الأرض رجل أحزان. وبناء عليه فمن كان المسيح قد تملكه وجب عليه أن يتوقع الآلام التي عاناها المسيح فيتحمل أحزان هذا العالم والأحزان الناشئة عن الإضطهادات (كما اضطهد العالم المسيح وقاومه) والأحزان التي تصيب أولئك الذين يسعون لخلاص الأنفس ويتوجعون لكل فشل يحل بمساعيهم.

هذه هي الأمور التي أراد بولس أن يعرفها ويشترك فيها كما يريد أن يعرف قوة قيامة المسيح. وقد قال لأهل كورنثوس مرة:- ((فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرور افتخروا بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليَّ قوة المسيح. لذلك اسر بالضعفات والشتائم والضرورات والإضطهادات والضيقات لإجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي)) (2كورنثوس9:12و10))

ترى كيف نستطيع تفسير هذا الأمر الغريب أي الرغبة في مشاطرة آلام الآخرين؟ نفسرها بطريقتين:

  • أن هذه المشاطرة تقوي ربط المحبة وتمكنها بأسلوب خاص. فبولس الرسول كان

يشعر بوثوق ربط المحبة التي بينه وبين المسيح بسبب آلامه ولذلك كان يرحب بتلك الآلام (2) أن النجاح في سبيل الإنجيل لا يتأتى إلا عن طريق معاناة الآلام (2كو9:12) وكذلك المجد فأنه لا ينال إلا بهذه الطريقة. ولا بد دون الشهد من إبر النحل. وقد قال في موضع آخر: ((لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته)) (رومية5:6) وفي هذه العبارة مفتاح للآية التالية من الرسالة التي نحن بصددها وهي قوله "متشبهاً به في موته" فان كل من نظر إلى سيرة بولس تذكر بسببها موت المسيح. وأحسن تفسير لهذه الآية هو قول الرسول نفسه في2 كورنثوس:- ((مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين. حاملين في الجسد كل حين أمانة الرب يسوع لكي تظهر حيوة يسوع أيضاً في جسدنا. لأننا نحن الأحياء نسلم دائماً للموت من أجل يسوع لكي تظهر حيوة يسوع أيضاً في جسدنا المائت)) (2كورنثوس8:4-11)

وقد قال الرسول بهذا المعنى أيضاً في موضع آخر انه يموت يومياً (1كورنثوس31:15)

وقد تم تشبه بولس بسيده في موته فانه استشهد في رومية بعد ذلك بأربع سنين فتمت له بذلك رغبته في أن يعرف شركة الأم سيدة متشبهاً به في موته وسعيه ليعرف قوة قيامته بل ليعرفه ذاته معرفة فائقة الوصف في العالم العاوي

على أن ساعته لم تكن قد جاءت بعد فكان لا بد له من مواظبة السير بدون تذبذب تحقيقاً للأمنية التي أعرب عنها بقوله "لعلي أبلغ القيامة من بين الأموات" أي قيامة الأخيار. وأحسن تفسير لهذا هو قوله في2كورنثوس:- ((لأننا نعلم أنه قد نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من اللَّه بيت غير مصنوع بيد ابدي.فإننا في هذه أيضاً نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء. فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكي يبتلع المائت من الحيوة)) (2كورنثوس 1:5و2و4)

قابل بهذا ما جاء في1يوحنا وهو قوله:- ((أيها الأحباء الآن نحن أولاد اللَّه ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا اظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو)) (1يوحنا2:3)

فترى أن أولئك القديسين أنفسهم اعتبروا أن أفضل الأشياء لا يزال أمامهم ولذلك يقول الرسول "ليس إني الآن قد نلت أو الآن بلغت" كما أخطأ هيمينايس وفيليتس (2تيموثاوس 16:8-18) اللذان ادعيا أن القيامة المجيدة تتم حالما تتجدد النفس. ولو كان الأمر كذلك ما كان ثمت لزوم للسعي "وإنما أنا ساع إلى الأمام" عالماً شيئاً أفضل ينتظرني. وقد جاء في الرسالة أهل رومية قوله:- ((فأني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيدان يستعلن فينا. لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء اللًّه. وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن من أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا. لأننا بالرجاء خلصنا. ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً. ولكن أن كنا نرجو ما لسنا ننظره فأننا نتوقعه بالبصر)) (رومية 18:8و19و23و24و25)

هذا هو الرجاء الذي حمل بولس على السعي فقال "لعلي أدرك ما لأجله أدركني يسوع المسيح" أي المجد والخلاص فيه. لاحظ أنه يقول أولاً أن المسيح طلبه وأدركه وعلى النفس أن تقابل ذلك بمثله فتدرك ما أدركت هي من أجله.وفي هذا الأمر فكران. أولهما يفضي إلى الثقة وثانيهما إلى السعي والنشاط. وكلاهما يظهر على أجلاه في الآية التالية وهي "أيها الأخوة لا أدعي أني أدركت" هذا الكمال النهائي.

"وإنما أفعل أمراً واحدا وهو أني وأنا متناس ما هو وراء" صارفاً نظري وفكري عنه- عن ظفري وعن فشلي- والأول من فضل المسيح والثاني يكفِّر المسيح عنه- "وجاد إلى الأمام" بعينين شاخصتين إلى ما هو قدام كما يفعل الراكض في السباق "أواصل السير نحو الهدف" حيث ينتهي السباق وهو الموضع الذي يشخص إليه المسابق ويوجه إليه كل قوته "لنيل جزاء دعوة اللَّه العليا في يسوع المسيح" أي دعوة اللَّه إياه ليكون مبشراً ورسولاً. هذا كان السباق الذي عين له اللَّه مكافأة لمن يسبق ولا يحجم. وقد كتب بولس الرسول بعد ذلك بأربع سنوات فقال:- ((قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان. وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً)) (1تيموثاوس 7:4و8)

والعبارة الأخيرة من هذه الآية مفتاح للآية الآتي شرحها فقد أوضح الرسول للفيلبيين أن عليهم هم أيضاً أن يجروا شوطهم في هذا السباق وينالوا الإكليل المعد لهم فلا يجدر بهم أن يحجموا.

  • عدد الزيارات: 1650