Skip to main content

تمهيد لشرح الرسالة إلى العبرانيين

متى كُتِبَت الرسالة؟

هذه نقطة هامة في درس كل سفر. وإنه ليصعب تعيين تاريخ الكتابة في بعض الأسفار القديمة. ولكن من محاسن الصدف أن أجمع العلماء والشراح على رأي واحد في هذا الأمر.

ونستخلص من الرسالة نفسها أنها كُتبت بعد موت المسيح "وكان حوالي سنة 33 ب.م" وبعد أن انقضى زمن جاز فيه المسيحيون الأولون دوراً من العناء والاضطهاد، وعرفوا شيئاً من اختبار الحياة المسيحية.

وعلى ذلك تكون الرسالة كُتِبَتْ بعد سنة 33 ب.م. ولكن في أية سنة؟ أجمع العلماء على أن زمن كتابتها لم يعد سنة 85 ب.م. وذلك أن لدينا رسالة مشهورة تُعرف برسالة أكليمندس الأولى أُرسلت من رومية إلى كورنثوس في الربع الأخير من القرن الأول. ومن يقرأ هذه الرسالة يدرك لأول وهلة أن كابتها عرف جيداً الرسالة إلى العبرانيين إذ يردد صدى أفكارها وأقوالها في مواضع مختلفة.

إذن تكون الرسالة إلى العبرانيين كُتبت بعد سنة 33 ب.م. وقبل سنة 85 ب.م. على وجه التقريب. ويظن بعض العلماء أن في ذكرها للذبائح اليهودية القائمة، دلالة على أن هيكل أورشليم كان باقياً، وهذا لم يكن له أثر بعد سنة 70 ب.م. وليس من شك أن الرسالة كُتبت في غضون نصف قرن من عصر المسيح، ومما هو جدير بالمراعاة أن إثبات صلب المسيح وقيامته وصعوده كانت أساساً لإيمان المسيحيين في تلك العصور الأولى، عليها قام رجاؤهم للخلاص في هذا العالم والعالم الآخر، ولن يكون للرسالة معنى بدون هذه العقيدة.

وكأننا سنقرأ، نحن أبناء القرن العشرين، كتاباً وُضع في النصف الثاني من القرن الأول، ومن غريب الأمر أن يبقى هذا الكتاب جديداً حياً اليوم كما كان في زمن كتابته.

من هو المؤلف؟

عنوان الرسالة في بعض ترجمات الكتاب المقدس، لا في كلها، "رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين" على أن عنوانها في أقدم النسخ الخطية اليونانية أو القبطية "الرسالة إلى العبرانيين" دون ذكر اسم المؤلف.

ولا يغرب عن الذهن أن عناوين أسفار العهد الجديد ليست عنصراً أصلياً من الكتب الموحاة، بل هي أسماء أطلقتها الكنيسة عند قراءة تلك الرسائل.

انظر في العهد الجديد إلى مستهل رسائل بولس، وهي تبدأ باسمه وتحياته لمن يوجه إليهم رسالته قائلاً: "بولس رسول يسوع المسيح...".

وجاءت الرسالة إلى العبرانيين غفلة عن هذا الاستهلال، وليس في الرسالة ما نستدل منه على اسم كاتبها، ولو أننا نستطيع نستخلص الشيء الكثير عن أفكاره وآرائه.

وبعد أن تداولت الرسالة من جماعة إلى أخرى في الكنيسة الأولى، أحس الذين قرأوها واستعانوا بوحيها، أنها لابد صدرت عن زعيم كبير من زعماء المسيحية. وذهب أهالي إفريقيا الشمالية، وربما رومية أيضاً، إلى أن كاتبها هو برنابا صديق الرسول بولس.

وقال أهل الإسكندرية أن كاتبها هو بولس نفسه الذي عهدوه أبرع كتّاب الرسائل في العصر الأول، ومع ذلك قال أوريجانوس الكاتب الإسكندري والمعلم الشهير أنها ليست من أسلوب بولس.

ولدى إعمال الفكرة في المكان الذي وضعت فيه الرسالة إلى العبرانيين بين أسفار العهد الجديد يتبين لنا أن رسائل بولس المطولة جمعت كلها بعد أعمال الرسل في صعيد واحد، وجاء بعدها رسائله الصغرى، ثم عقب ذلك رسائل الرسل الآخرين غير بولس.

أما الرسالة إلى العبرانيين، وهي رسالة مطولة، فلم توضع بين رسائل بولس الطويلة بل وضعت بين رسائله الصغرى وبين رسائل الكتاب الآخرين. ونستدل من هذا أن واضعي الأسفار على ترتيبها الحالي لم يكونوا على يقين من فئة الرسائل التي يضعون العبرانيين بينها.

وزعم البعض أن بولس "الذي نقرأ عنه في سفر الأعمال ص 20: 24- 28" هو كاتب الرسالة إلى العبرانيين، ويؤيدون ما يذهبون إليه بقولهم أن أبولس كان من أهالي الإسكندرية ومن المقتدرين في الكتب المقدسة. وكاتب هذه الرسالة، كما يؤخذ من أسلوبها وعبارتها، قدير في الأسفار المقدسة ومشبع العقل بالتعاليم الفلسفية التي ازدهرت في مدارس الإسكندرية يومئذ. وبعد هذا لابد لنا من القول أن هذه كلها ليست إلا افتراضات وتخمينات يعوزها الدليل الحاسم الذي يقطع بالخبر اليقين.

وتدلنا هذه التخمينات على أن المسيحيين الذين قرأوا الرسالة أحسُّوا من قوتها الروحية أنها تنتسب إلى أحد زعماء العصر الأول فساقهم هذا الإحساس البشري إلى قرن الأقوال التي أعانتهم في حياتهم الروحية بأسماء القادة الذين عرفوهم وأحبوهم. وهذا الإحساس نراه بادياً في الأحاديث الإسلامية التي يسلسلها رواتها إلى شخصيات قديمة.

والذي يذهب إليه علماء هذا العصر أن الرسالة غفلة من اسم كاتبها، وهو رأي ذهب إليه القديس أغسطينوس العظيم في القديم. ومما قاله أحد العلماء أن "الكاتب ليس إلا صوتاً". ولئن كان مجرد صوت يتكلم في ما لله، فأنّا نعرف من صوته الشيء الكثير عن فكره وقلبه.

قلنا أن الكاتب كان ممن تشبعت أفكارهم بالترجمة اليونانية للأسفار العبرية التي وضعت في مدينة الإسكندرية. وليس في هذا دليل على أنه هو نفسه كان اسكندرياً.

لأن الترجمة اليونانية كانت ذائعة في كل العالم اليهودية الناطق باليونانية في ذلك العصر.

ولكن للمؤلف علاقة أخرى بالإسكندرية، تلك هي أفكاره الفلسفية. وقد كانت الإسكندرية في تلك الأيام المدنية التي أخرجت للعالم تعاليم الفيلسوف اليهودي الكبير "فيلو" وهو من معاصري المسيح. وكان فيلو هذا يهوداً تضمنت تعاليمه مزيجاً من آراء العهد الجديد، وأفلاطون، والفلاسفة الرواقيين.

وعن العهد القديم أخذ فيلو العقيدة الشائعة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين على السواء، وهي الخالق الواحد والإله المتسلط، العامل في الكون الذي أبدعه وسواه، الواضع النواهي والواجبات على خلائقه من بني الإنسان.

وعن الرواقيين أخذ عقيدة الكلمة logos، العقل الإلهي الحال في الكون وفي كل الأشياء بحيث أن الكون كله، أو كل جزء فيه، يستمد معناه من هذا العقل الساكن فيه وعن أفلاطون أخذ فيلو عقيدة الآراء ideas الخالدة السمائية، التي اشتملت على أبرز الميزات في الفلسفة الأفلاطونية. ومؤداها أن ما نراه هنا على الأرض ليس إلا نسخة وصورة لما هو خالد، صورة حقيقية ولكنها أقل من الحقيقة. ففي العالم الخالد نمازج خالدة كاملة طاهرة ليست مادية، ولكنها نمازج من الفكر لكل ما نشاهد هنا على الأرض.

كل هذه الأفكار حفل بها عقل كاتب الرسالة إلى العبرانيين، ولكنه خضع دائماً لعقيدته الثابتة في نشاط الواحد الذي تحدَّث عنه العهد القديم بقوله "الإله الحي" القدوس البار المحب القادر على كل شيء، المعلن مجده في العالم القديم. وليس الكاتب فيلسوفاً وحسب بل هو إنسان امتلأ متقد في الله، وهو يلجأ إلى الأفكار الفلسفية ليشرح للآخرين الحقائق التي بدلت حياته. وكأن الشمس في نظره قد أشرقت على العالم ببهاء جديد بحيث يرى الكتاب المقدس والفلسفة والتاريخ والحية اليومية على نور جديد، وهو راض بالاصطبار حتى تولي الظلال الباقية.

لمن كتبت الرسالة؟

عرف هذا السفر من أول عهود الكنيسة "بالرسالة إلى العبرانيين" ولا شك البتة في مطابقة هذا العنوان للرسالة. لأن من يقرؤها لا يخامره ريبة في أنها كتبت لمن ترعرعوا في أحضان اليهودية، الذين كان كتابهم الأسفار اليهودية.

ولكنه من الجلي الواضح أيضاً أن أولئك العبرانيين لم يكونوا يهوداً ديانة في زمن كتابة الرسالة إليهم، بل كانوا أعضاء في الكنيسة المسيحية ردحاً من الزمن. وتشير الرسالة إلى أنهم تألموا أولا بسبب إيمانهم في الأيام الأولى. وحسبنا أن نقتبس الآيات التالية لإيضاح ما نقول:

"مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاءُ الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ" "عب 3: 1".

"وَلَكِنْ تَذَكَّرُوا الأَيَّامَ السَّالِفَةَ الَّتِي فِيهَا بَعْدَ مَا أُنِرْتُمْ صَبِرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ. مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ" "عب 10: 32 و33".

على أن أولئك المسيحيين العبرانيين لم يكونوا أعضاء في الكنيسة المسيحية بفلسطين، ذلك لأن المسيحيين العبرانيين في فلسطين الذين تكلموا الآرامية في بيوتهم، قد تعلموا أن يقرأوا أسفارهم المقدسة في العبرانية الأصلية مع ترجمة أرامية لمن لم يستطيعوا فهم العربية بسهولة. ومثلهم مثل المسحيين الأقباط في مصر اليوم الذين يقرأون الإنجيل بالقبطية في عبادتهم ومعه ترجمة عربية لمن لا يقدر أن يتتبع القبطية.

أما المسيحيون العبرانيون الذين كتبت إليهم الرسالة، فظاهر أنهم يقرأون الأسفار اليهودية في الترجمة اليونانية التي قام بها يهود الإسكندرية وهي المسماة بالترجمة السبعينية. والاقتباسات الكثيرة في هذه الرسالة مأخوذة عن تلك الترجمة. وليس من المحتمل أن يكون أولئك المسيحيون العبرانيون الناطقون باليونانية ممن عاشوا على مقربة من أورشليم. لأن كاتب الرسالة في كل مقارنته بين الكهنوت والذبائح اليهودية والمسيحية لم يذكر شيئاً عن ذبائح وكهنوت هيكل أورشليم، مما عرفه المسيحيون العبرانيون في فلسطين. والرسالة حافلة بتفاصيل العبادة اليهودية، ولكنها منقولة كلها عن التوراة. كما أنها تصف خيمة الاجتماع التي أقيمت في عهد أقيمت في عهد موسى قبل بناء هيكل أورشليم. ويتضح جلياً أن أولئك المسيحيين العبرانيين الذين كتبت إليهم الرسالة لم يكونوا من اليهود الذين اعتبروا هيكل أورشليم وذبائحه جزءاً من اختبارهم الديني المألوف. ومع أن كاتب الرسالة، والعبرانيين المسيحيين المرسلة إليهم، قد أحبوا الأمكنة المقدسة اليهودية والذبائح، فإن حبهم اياها كان عن طريق القراءة والسمع. كما نرى اليوم مسلماً من أتقياء المسلمين تحول العوائق بينه وبين أداء فريضة الحج، ولكنه يحب مكة والمدينة ويعرف جيداً فرائض الحج ومناسكه، ويشعر أن له نصيباً فيها. وكان أولئك العبرانيون المسيحيون حقاً "شعب الكتاب" الذي هو الترجمة السبعينية للأسفار اليهودية "العهد القديم".

كانوا اذن جماعة من يهود "الشتات" الذين تبعثروا جماعات صغيرة في كل المدائن الكبرى في الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية. وكما هو اليوم، كذلك في القرن الأول، عاشت الأمة اليهودية خارج تخوم فلسطين.

وهل في وسعنا أن نعين المكان الذي عاش فيه أولئك العبرانيون المسيحيون؟

لا يمكن ذلك على وجه التحقيق. ولكن في الرسالة إشارة أو إشارتين لا يفوت مغزاهما على القارئ الحصيف:

ونحن ننظر إلى غرب أورشليم، لا إلى شرقها، لتعيين الوطن الذي استوطنه أولئك المسيحيون العبرانيون الذين كتبت إليهم الرسالة، وذلك لأن سكان شرقي أورشليم كانوا من الجماعات الآرامية التي قرأت أسفارها المقدسة بالعبرية وترجمتها الآرامية. أما يهود الشتات الذين قرأوا أسفارهم باليونانية، فهؤلاء استوطنوا في الأغلب مدائن الإمبراطورية الرومانية.

ولم تكتب الرسالة إلى كل العبرانيين المسيحيين الناطقين باليونانية، ولكن إلى جماعة صغيرة يعرفها الكاتب شخصياً. ويبدو هذا جلياً من معرفته التاريخ الروحي لتلك الجماعة، ولو كانت رسالته موجهة إلى ألوف اليهود الذين في الشتات لاستحال عليه طبعاً أن يكتب بهذا التفصيل الوافي. وقد اقتبسنا من قبل الآية التي يتبين منها أنه يعرف كيف تألم، بعد اهتدائهم، أولئك الذين كتب اليهم رسالته. وإلى القارئ مقتبسات أخرى من الرسالة:

"...قد صرتم متباطئي المسمع. لأنكم اذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان، تحتاجون أن يعلمكم أحد..."عب 5: 11 و12"

"لأنكم رثيتم لقيودي أيضاً وقبلتم سلب أموالكم بفرح" "عب 12، 4"

ولا يستساغ القول أن هذه الكلمات كتبت للعبرانيين المسيحيين، بصفة عامة، المبعثرين في كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية. ونحن نعلم بساطة نظم الكنيسة في المدن الكبرى بتلك العصور الأولى، فلم تكن يومئذ أبنية خاصة، بل كانت الجماعات الصغرى تجتمع في بيوت الأخوة التي كان بها ردهات فسيحة تسع عدداً كافياً، والتي كانت بعيدة عن أنظار الرقباء بقدر الامكان. ونرى تلميحات إلى هذا في الرسائل المسيحية المبكرة: "إلى الكنيسة التي في بيتك" أو "في بيت فلان...". والكلمة اليونانية "ecclesia" التي نقلت عنها لفظ "الكنيسة" في العربية معناها في الأصل مجتمع من الشعب، ولم ينصرف معناها إلى البناء الا مؤخراً. "وفي الإسلام تاريخ مماثل لهذا في استعمال كلمة "جامع" للدلالة على مكان اجتماع جماعة المسلمين". وكان يرأس كل جماعة شيخ أو أكثر من شيوخها. واذا كانت المدينة كبيرة وبها عدة جماعات مسيحية، كان يقام فيها عدد من الشيوخ. ونرى في سفر الأعمال مشهداً مؤثراً بين الرسول بولس وبين شيوخ مدينة أفسس "سفر الأعمال 20: 17- 38"

وفي الرسالة إلى العبرانيين، ولو أنها كتبت كما رأينا إلى جماعة صغيرة يعرفها الكاتب بالذات، إلا أن بها تلميحاً إلى شيوخ الكنيسة مما يحمل إلى الذهن أنهم كانوا كثيرين: "سلّموا على جميع مرشديكم وجميع القديسين" "عب 13: 24" ومن هذه التلميحات يستخلص العلماء أن الرسالة كتبت لتقرأ أمام جماعة من المسيحيين العبرانيين في مدينة بها كثير من هذه الجماعات المسيحية. ولذلك طلب إلى الجماعة التي أرسلت اليها الرسالة خصيصاً أن تسلم لا على مرشديها وشيوخها فقط، بل على كل الشيوخ "جميع مرشديكم"" وكل الزملاء المسيحيين في المدينة "جميع القديسين".

وهنا نذكر أيضاً إشارتين قد نرى فيهما سبيلاً إلى تعيين المكان الذي عاش فيه أولئك المسيحيون: الأولى في العبارة القائلة: "اعلموا أنه قد أطلق الأخ تيموثاوس" "عب 13: 23" ونحن لا نعرف الا تيموثاوس واحداً، وكان زعيماً في صدر المسيحية، واهتدى في أيام شبابه على يد بولس الرسول. ويستدل من رسائل بولس المتأخرة أن تيموثاوس كان معه خلال سجنه في رومية الذي انتهى بموت الرسول. وطبيعي أن يكون تيموثاوس معروفاً للمسيحيين في ايطاليا. وليس المعنى المقصود من هذه العبارة واضحاً تماماً، لأن الفعل في اليونانية الأصلية يحتمل معنيين: إما أن يكون تيموثاوس قد أطلق من السجن، واما أن يكون انطلق في رحلة. لكن العبارة على الأقل تدلنا على أن أولئك المسيحيين العبرانيين عاشوا في مدينة كان تيموثاوس معروفاً فيها جيداً. ويذهب كثيرون من العلماء إلى موطنهم كان في ايطاليا.

ثم عبارة أخرى لا بد من البحث فيها: تلك هي التحية الختامية حيث يقول الكاتب: "يسلم عليكم الذين من ايطاليا".

ولسنا ندري على وجه التحقيق ما معنى هذه العبارة، ولو أنها كانت طبعاً مفهومة جيداً للذين قرأوها أولاً. وبعد مرور هذه الحقبة من الزمن يتعذر علينا الجزم بالقول الفصل، أكان الكاتب مقيماً في ايطاليا وهو يبعث برسالته إلى جماعة من المسيحيين العبرانيين في بلد آخر وينبئهم أن مسيحيي ايطاليا يقرئونهم السلام، أم كان الكاتب في بلد آخر غير ايطاليا "مثل الإسكندرية مثلاً" وبعث برسالته إلى جماعة من المسيحيين في ايطاليا وأخبرهم أن المسيحيين المهاجرين من ايطاليا والمستوطنين في مدينته يقرئونهم السلام. أن العبارة تحتمل المعنيين في اللغة اليونانية الأصلية. على أن العلماء في هذا العصر يميلون إلى الأخذ الأخير.

ما أغراض الرسالة؟

كان الغرض من الرسالة، شأن كل الرسائل المسيحية الأولى التي انتهت الينا، أن يقرأها جماعة المسيحيين عند اجتماعهم "في اليوم الأول من الأسبوع" للعبادة. وتستغرق قراءة هذه الرسالة بصوت عال ساعة من الزمن. ولدينا بيان مفصل للعبادة المسيحية كتب بعد تاريخ الرسالة إلى العبرانيين بنصف قرن، بعد انتقال الرسل والدعاة الأولين إلى جنة الخلد، يؤخذ منه أن قراءة كتابات الرسل كانت قد صارت عنصراً نظامياً في العبادة المسيحية.

والى القارئ عبارة من هذا البيان:- "وفي اليوم المدعو يوم الأحد يجتمع الساكنون في الحضر وفي الريف إلى مكان واحد لتقرأ على مسامعهم مذكرات الرسل أو كتابات الأنبياء حسبما يسمح الوقت....."

وقد نجد عوناً لفهم هذه الرسالة، لو استطعنا أن نرسم صورة لبعض ما كان يدور بأفكار القوم وعقولهم، الذين أرسلت لهم الرسالة و نقتضى النواحي الخاصة التي أراد الكاتب علاجها وإنارة السبيل أمامهم فيها.

وبعض الرسائل التي انتهت الينا تذكر بقول حاسم غرض الكاتب، أما في الرسالة إلى العبرانيين فعلينا أن نستخلص هذا الغرض من بين ثنايا السطور، وليس في الأمر صعوبة لو عرفنا أولاً مكانة العبرانيين المسيحيين في تلك الأيام، ثم استقصينا الغرض الذي كتبت من أجله.

ولنبحث الآن في ايجاز نوع الصعوبات الروحية التي افتقر فيها العبرانيون المسيحيون إلى المعونة والاسناد، بعد صلب المسيح وقيامته بخمسين من السنين:

نشأ العبرانيون المسيحيون وقد تملكتهم أفكار تغاير آراء المسيحيين الرومانيين أو اليونانيين أو المصريين في القرن الأول. فأن أمتهم مسترشدة بوحي أنبيائها كانت تترقب مجيء قائد روحي الهي، ومنقذ أطلقوا عليه المسيا "أو المسوح". وقد حفلت كتبهم ومؤلفاتهم بهذا القدم وما سيكون عليه من عظمة, ودارت أفكار الإسرائيليين الأمناء حول هذا المسيا. وفي الإنجيل الكريم نقرأ عنه مولود يسوع عن سمعان الكاهن العبراني الشيخ في أورشليم الذي "كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل" أي مجيء المسيا الملك "لوقا 2: 25" وعن حنّة المرأة العجوز التي شهدت الطفل يسوع في الهيكل "وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم" أي الذين ترقبوا مجيء الفادي المسيا "لوقا 2: 30".

كذلك قال أبو يوحنا المعمدان حين تلقّى رسالة الله التي انبأته أن ولد سيعدّ طريق المسيا:

"مبارك الرب اله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه.

"وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه.

"كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر.

"خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا" "لوقا 1: 67 و68"

وتفصح هذه الكلمات عن ايمان يهودي صالح يترقب مجيء المسيا. وكان من الطبيعي أن تجيش هذه الآمال والمواعيد التي أوحى بها الله عن طريق أنبيائه، في نفوس الشعب الذي حلم بها وتحدث عنها ليل نهار وسط المتاعب السياسية التي عاناها في ذلك العصر.

وكان يهود القرن الأول خاضعين للنير الروماني الوثني، وكانوا يرون وهم الذين أبغضوا التماثيل، تمثال الإمبراطور الذي أقامه بيلاطس في مكانهم المقدس، ومات كثيرون منهم مغبوطين في سبيل الذود عن مقادس الهيكل وازالة هذا الرجس منه. وهم قد دفعوا الضرائب للاتفاق منها على الجيوش الرومانية التي احتلت بلادهم "وتشير بشائر الإنجيل وسفر الأعمال في صراحة إلى وجود الجنود الرومانية في فلسطين" وعلى ولاة الرومان الذين تربعوا في قصورهم، وعلى تعبيد الطرق لتتبخر عليها هوادج زوجات اولئك الولاة، وتجري عليها السعاة حاملين الرسائل من رومية، وتنهب أديمها الجحافل الرومانية المنظمة. وحوالي الزمن الذي كتبت فيه هذه الرسالة، قام اليهود بثورتهم الأخيرة اليائسة ضد الرومان، فكان ختامها تلك المأساة التاريخية الدامية: الاستيلاء على أورشليم وخراب المدينة المحبوبة وهدم الهيكل ذاته.

فليس غريباً اذاً، أن يؤمن اليهود في عصر المسيح بأن موعد الله لهم بإقامة ملك يحكم بالبر، معناه قبل كل شيء مجيء ملك ينقذهم من الرومان ويقيم مملكة يهودية في أورشليم تحفها القوة والمهابة والعظمة، وتسحق الأعداء الغرباء تحت مواطىء الأقدام.

وحين آمن المسيحيون الأولون أن يسوع هو مسيا الله المنتظر، اعتصموا بطبيعة الحال بأمل عظيم في أن يجيء هذا الملك بالقوة والمجد لينقذ الأمة من عدائها. فحتى وهو في طريقه إلى أورشليم ليلقى الموت سأله اثنان من أخصائه أن يأذن لأحدهما بالجلوس عن يمينه وللآخر عن يساره

وبعد أن غلب الموت وظهر لهم بعد قيامته سألوه قائلين: "يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك لإسرائيل؟".

وعلى الرغم من إجابته قائلاً "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه" وعلى الرغم من أن تعاليمه كلها قد أبانت أن مملكته "ليست من ها العالم" "يوحنا 18: 36" بل مملكة روحية جامعة، فإن أولئك المسيحيين العبرانيين الأولين عاشوا آملين أن يعود ذاك، الذي ثبت لهم من قيامته أن في يديه كل قوات ملكوت السموات، ليبهر جميع الأعين بقوته ويقيم مملكة من البر مركزها الأرضي المنظور في أورشليم ولكنه لم يأت كما كانوا ينتظرون، فهو بم يرغم الناس قط عبى الإيمان به، إنما لجأ إلى القلوب ليغزوها، فتكاثرت مملكته يوماً بعد آخر من هذه القلوب المستسلمة الخاضعة.

وكان على كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن يعالج خيبة الأمل هذه. ويقنع إخوانه المسيحيين العبرانيين للاكتفاء بما يعمل ربهم، إذ يرون الآن ما هو أعظم من ملك الأراضي في أورشليم.

ولم تكن خيبة أمل المسيحيين العبرانيين مقتصرة على عدم رجوع المسيح ليملك ملكاً منظوراً على الأرض- بل كان هناك شأن آخر لابد من تسويته معهم. فإن كان عليهم أن يعيشوا خداماً للمسيح سيدهم غير المنظور، في هذا العالم الذي عرفوه، فماذا عسى أن تكون علاقتهم بالدين اليهودي القديم، الذين درجوا عليه في طفولتهم، وطقوسه وذبائحه وكهنوته ومقادسه؟

صوّر لنفسك هذا الموقف، أيها القارئ الكريم: كانوا كلهم عبرانيين، وكان سيدهم وربّهم عبرانياً أيضاً، كذلك كان الرسل والدعاة الذين كشفوا لهم حقيقته. وكان كتاب الله الذي قرأوه، السفر المقدس الذي اعتز به الشعب العبراني.

والواقع أن كل المسيحيين العبرانيين الأولين اشتركوا بطبيعة الحال وفي هدوء في العبادة اليهودية. ألم يعبد المسيح نفسه في المجمع وفي الهيكل؟ وبعد صعوده "كان الرسل كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة" "أعمال2: 46".

ولم يكن الهيكل مقدس آبائهم وحسب، بل كان لهم فيه ذكريات لسيّدهم الذي علَّم هناك كثيراً. وكثيرون من يهود الشتات عرفوا المسيح لأول مرة في المجمع، لأن دعاة المسيحية الأولين أذاعوا رسالتهم بين شعبهم في عبادة المجمع في يوم السبت. وقد أحب هؤلاء المسيحيون العبرانيون أمتهم، وصلواتها، ومزاميرها، وكهنتها، وشرائعها المقدسة، وذبائحها، ومقادسها. وأجمع الشعور الديني والشعور القومي على الاعتزاز بكل هذا.

وكان للمسألة ناحية أخرى: فإن الخمر الجديدة لابد أن تفلق جلود الخمر العتيقة، كذلك انساب إلى حياة أولئك المسيحيين الأولين حياة جديدة وقوة جديدة، ورأوا في هذه الحياة لأول وهلة مخارج جديدة. ففضلاً عن العبادة في الهيكل أو المجمع، كان من عادة المسيحيين الأولين أن يجتمعوا معاً في حفل ديني خصوصاً لإحياء وليمة كسر الخبز لذكرى وبهم باسمه الكريم "أع 2: 46" وكانت تعقد المجتمعات في هذا البيت أو ذاك لرفع الدعاء عند حدوث ملمة خاصة، وكانت مجتمعات لسماع رسالة يسوع أو أنباء الذين يعلمون في ملكوته. وكان اليوم الأول في الأسبوع هو اليوم الذي حفظوه أحياء لذكرى قيامة سيدهم من الأموات، وأطلقوا عليه "يوم الرب" حتى وهم يعبدونه في اليوم الأخير من الأسبوع مع اخوانه في المجمع، فالجديد والقديم سارا معاً جنب إلى جنب "وكانوا لا يزالون كل يوم في الهيكل وفي البيوت معلمين ومبشرين بيسوع المسيح" "أع 5: 42" كان كل هذا حادثاً بعض الوقت، ولكن أيستمر الحال على هذا المنوال إلى الدهر؟

لم يكن مستطاعاً حصر الحياة الجديدة التي عرفها أولئك المسيحيون الأولون في الأوضاع اليهودية القديمة – وتحققت قولة تفوّه بها المسيح "يطردونكم من مجامعهم" وقد كان، فان الذين عاشوا بقوة يسوع رباً وسيداً ومسياً، ما كانوا ليرحّب بهم في زمرة الذين رفضوه رباً وسيداً ومسياً

تصوّر أحاسيس مسيحي عبراني يقطع من عبادة قومه وأهله. وتصور كيف ينجذب قلبه إلى أنظمة دينه وشعبه تلك الأعياد والمواسم والذبائح، تلك الأماكن المقدسة واجراآت الكهنوت التي أحس في دخيلة نفسه أنه آخذ منها بنصيب ولو أنه يعيش بعيداً عن أورشليم. ما أقرب هذه كلها إلى قلبه!

ثم بم استعاضها؟ بذلك الاجتماع الصغير الذي يكاد يكون سرياً، حيث كان يجتمع الأخوة لكسر الخبز والشكر والدعاء باسم يسوع، ثم قراءة الأسفار المقدسة ورسائل الرسل، وتشجيع بعضهم بعضاً بالأفكار التي يوحيها إليهم.

كانت هذه بلا شك صغيرة وضيعة في نظره. ومع ذلك فإن العبرانيين المسيحيين الذين أرسلت اليهم الرسالة ظلوا أمناء، لأنهم وجدوا في هذه الممارسات البسيطة حياة من الله وقوة. ولم يستطيعوا إنكار ذلك الرب وتلك الحياة. إنما حنّت قلوبهم إلى العبادة القومية التاريخية القديمة، وإلى جبل صهيون برئيس كهنته ومذبحه، واحسوا أحياناً بشيء من الخيبة وخوار العزم. إلى قوم كهؤلاء تفاعلت في نفوسهم الأشواق الملهبة، أرسلت الرسالة الشيقة التي نحن مقبلون الآن على دراستها، وفيها يعيد الكاتب إلى ذلكم القوم ما أضاعوه لأجل المسيح مصوراً لهم الأشياء في معان جديدة أعمق وأفضل مما ألفوا، فيقول بنغمة الفوز "لنا رئيس الكهنة" و "لنا مذبح" و "وأتينا إلى جبل صهيون".

ومن ثم نرى هذه الرسالة، التي كتبت في العصر الذي كانت فيه عبادة الهيكل على وشك بلوغ نهايتها المحزنة على يد الجحافل الرومانية الوثنية تعلّم المسيحيين أمثولة مفادها أن دينهم لم يقم على ازدهار أورشليم ولا على بقاء أية مدينة أو أمة على الأرض، أنما قام على حقائق خالدة روحية لا تهزها المحن ولا تعبث بها النائبات "انظر بنوع خاص الفصل الثاني 25: 29".

وكأنما يجيء هذا السفر برسالة جديدة لكل الذين يعيشون في عالم مضطرب، والذين يخشى على إيمانهم وقوة عزيمتهم من جرَّاء اتخاذ المعايير الأرضية مقاييس للنجاح أو الفشل، والذين يستمسكون بالأساليب القديمة الآراء القديمة عوضاً عن التقدم إلى الأمام ليتلقوا من الله دروساً جديدة أفضل، والذين يتقاعسون وينكمشون أمام الجهاد ضد الخطية. وقصارى القول أن في هذه الرسالة القديمة، دروساً لنا نحن في هذا العصر، مسلمين كنا أو مسيحيين، متعلمين أو بسطاء، رجالاً أو نساء، شيباً أو شباباً.

أن الله هو هو، ودعوته لبني البشر هي هي، وكلامه لا يتغير أبداً.

  • عدد الزيارات: 4514