Skip to main content

سرّ كلام الله للبشر في إبنه

محتويات الرسالة:

1- سرّ كلام الله للبشر في ابنه "1: 1- 2: 8".

2- الابن الذي صار أخانا بفضل هذا الصنيع"2: 9- 3: 18".

3- عمله لنا بالمقارنة بما عمله ملكي صادق للعبرانيين قديماً. وقد توضح بالأسلوب الذي عهدناه في الكاتب، بالعبارات المكررة، قائلاً أن الابن "كاهن حسب رتبة ملكي صادق" – "2: 31 – 7: 28".

4- الميثاق الجديد الذي يهيئ المقدس والذبيحة والشفاعة "كما فعل الميثاق القديم مع العبرانيين" ولكن هذا الميثاق الجديد أقوى فعلاً من القديم وأعمق أثراً. وفيه يتذوق المؤمنون صلة يعرفوها من قبل "8: 1– 1: 18".

5- أهل الميثاق الجديد ينبغي أن يمتثلوا بالرجاء على الرغم من كل الظروف القاسية "10: 19- 39".

6- شريعة الإيمان، وحياة الإيمان واختباراته تستعرض كنماذج للدين الحق، الذي يبلغ ذروته في المسيح، ويظهر في تاريخ كل أتباعه الحقيقيين "11: 1- 46".

7- تأويل هذا كله في الاختبارات الأليمة التي يجوزها المسيحيون العبرانيون. وتعليل هذه كوسائل تأديب، وهي العلامة المميزة في الأبوة الإلهية حين تعالج أبناء غير ناضجين "12: 1- 17".

8- وأخيراً تبلغ الرسالة ذروة كمالها في رسم صورة رائعة لشركة الجماعة السمائية التي تألف منها المؤمنون، ثم تختّم بالتشديد على الالتزامات الروحية الأدبية المفروضة على من ستمتعون هذه الشركة السمائية "12: 18- 13: 25".

سر كلام الله للبشر في ابنه "1: 1- 2: 8"

الترجمة الحالية

الترجمة المشروحة

1: 1- 14

 

1اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، 2كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. 3الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، 4صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ. 5لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: «أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ»؟ وَأَيْضاً: «أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً»؟ 6وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إلى الْعَالَمِ يَقُولُ: «وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ». 7وَعَنِ الْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: «الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ». 8وَأَمَّا عَنْ الابن: «كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. 9أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِزَيْتِ الاِبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ». 10وَ«أَنْتَ يَا رَبُّ فِي الْبَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. 11هِيَ تَبِيدُ وَلَكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، 12وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيَّرُ. وَلَكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى». 13ثُمَّ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: «اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟" 14أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ!

إن الله الذي في أزمنة كثيرة وبطرق عديدة كلم الآباء بأنبياء قديماً. قد كلمنا نحن في آخر هذه الأيام بابن جعله وارث الكل وبه كان قد صنع العالمين. ذلك الذي وهو فيض مجده وصورة جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته قام بتطهير خطايانا ثم جلس عن يمين العظمة في الأعالي صائراً أفضل من الملائكة. بمقدار ما ورث اسماً أكثر امتيازاً منهم. لأنه لمن من الملائكة قال قط: "أنت ابني أن اليوم ولدتك" وأيضاً "أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً". وأيضاً حين يكون قد أدخل البكر إلى المسكونة يقول: «وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ». أما عن الملائكة فيقول: «الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ». وأما عن الابن فيقول: "إن عرشك يا الله إلى دهر الدهور". وصولجان استقامة صولجان ملكك. قد أحببت البر وأبغضت التعدي. لذلك مسحك الله إلهم بدهن الابتهاج أكثر من شركائك. وَ«أَنْتَ يَا رَبُّ فِي الْبَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ صنع يَدَيْكَ. هي ستزول وأنت تبقى. وكرداء تطويها فتتغير. ولكن أنت أنت. وسنوك لن تفنى». وعمن من الملائكة قال قط «اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟». أليسوا جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل المزمعين أن يرثوا الخلاص؟

 

تنفق الأديان الثلاثة- اليهودية والمسيحية والإسلام- في الفكرة الأساسية القائلة أن الإنسان لم يكتشف الله بتحليقه في السموات، ولم يصطنعه بعقله وتفكيره. وتتفق أيضاً في أن الله هو الذي بدأ بالعمل وخطا الخطوة التي لم يقدر الإنسان الصغير الحقير على تخطيها. ذلك أن الله قد كلَّم الإنسان.

"أن الله" الذي هو مصدر كل وحي وإعلان "الذي في أزمنة كثيرة" أي في أوقات متقطعة متتابعة وبأقوال متجزئة متلاحقة. ويبين كاتب الرسالة في هذه الأقوال أنه قد تشبع بما يصح أن نسميه فلسفة التاريخ، وذلك أن التاريخ لم يكن في عرفه سلسلة من الحوادث المتفرقة أشبه بمسبحة تتألف من حبات منفصلة، يربطها معاً خيط الزمن. وعنده أن للتاريخ مبدءاً حياً موحداً في إعلان الله عندما كلم بني الإنسان من عصر إلى عصر وفي عصور مختلفة "وبطرق عديدة" سواء أكان ذلك برسائل مباشرة ألهمت إلى القلب، أو أحلام ورؤى طافت أمام العين الداخلية، أو علامات ورموز خارجية مثل عليقة موسى وذبائح خيمة الاجتماع، أو بلسان الحال والمثائل المستمدة من اختبار الأمة، أو ما هو أقرب من ذلك مثائل الاختبار الشخصي المباشر العميق "كما حدث عند وفاة زوجة حزقيال أو خيانة زوجة هوشع، وكلاهما رأى في حاله تعاليم الله".

"كلَّم الآباء" والكاتب إذ يخاطب جماعة من المسيحيين العبرانيين يستعمل المصطلحات المألوفة لذى الأمة اليهودية التي تلقى آباؤها الأولون رسائل الله في الماضي. ولكن حتى المسيحيين الأولين أنفسهم الذين لم يكونوا يهوداً في الأصل، قد اعترفوا، كما نعترف نحن، برجال الله في التوارة آباء لهم روحيين. وعلى رأس أولئك الآباء إبراهيم الذي دعي "أبا المؤمنين".

"بالأنبياء قديماً" خلال تاريخ الأنبياء الطويل في القديم دوَّن في 39 سفراً من أسفار العهد القديم. والإشارة إلى قدمية الزمان هنا هي للمطابقة بين الإعلان القديم والإعلان الحديث الذي يشير إليه الكاتب إذ يقول "قد كلمنا نحن" وهو ينتقل من المخاطب إلى المتكلم لأنه يعلم أن الذين يكتب إليهم قد سمعوا هم أيضاً صوت الله.

"في آخر هذه الأيام" وقد أتفق أحبار اليهود وهم يتوقعون مُلك الملك المسيا أن انتقالهم من حالتهم الراهنة إلى عصر مجيد يقع خلال "أيام أخيرة" يسودها الحزن والسجن وأوجاع الولادة الجديدة. وقد اعتاد المسيحيون الأولون، إذ أحسّوا بالأزمة الروحية التي يمرون بها، ورأوا في المسيح الملك المسيا الذي سيملك "في العالم الآني"، أن يتكلموا عن أنفسهم كأنهم يعيشون "في الأيام الأخيرة" (انظر أعمال 2: 17 ويعقوب 5: 3 و2تيموثاوس 3: 1 و1يوحنا 2: 18 و1 بطرس 1: 20). ومن ثم نرى الكاتب يستعرض أمام قارئيه فكرة مألوفة حينما يتكلم عن إعلان الله في المسيح المعطى "في آخر هذه الأيام" ولكن هذه العبارة تعنى أيضاً أن هذا الإعلان هو متابعة لكلام الله أو وحيه في الأزمنة الكثيرة السابقة. على أن إعلانه هذا هو خاتمة إعلاناته العديدة وخلاصة إلهاماته المتجزئة. فهو اذاً الحلقة الأخيرة الختامية لسلسلة وحيه الأقدس. أما طريقة كلامه لنا في آخر هذه الأيام فهي "بابن" لا بني كما كان يفعل سابقاً.

ولم تكن طريقة كلامه مقتصرة فقط على كلمات ابنه، بل كانت بطبيعته وحياته وموته وقيامته. كل هذا كان إعلاناً لقصد الله المفتدي. ولم يحمل الابن رسالة الله فقط، بل كان هو نفسه رسالة.

وقد شبَّه المسيح الأنبياء بعبيد وجعل نفسه ابناً أسمى منهم "مرقس 12: 2- 6" فكائنه يقول: "أن الله قد كلمنا في الختام بوساطة كائن هو أعظم من سائر الأنبياء والمرسلين لأن أولئك الأنبياء هم عبيد وأما الابن فهو من نفس جوهر الخالق. وليس للابن علاقة بالتوالد الزمني بل أن صفة البنوة فيه تدل على العبد بين المسيح والأنبياء كما يؤخذ من العبارات النعتية الآتية:

وهي نعت للابن الذي "جعله وارث الكل".

ألمحنا فيما سبق إلى مثل يسوع عن الابن والعبيد ويمكن مقارنة هذه العبارة بما جاء في مرقس 12: 7- وليس هناك ما يحدد زمن التعيين الإلهي المستفاد من الفعل "جعل" لأنه لا يقترن بزمن معين بل هو جزء من النظام الأزلي.

والذي نستخلصه من هذه العبارة بصفة عامة أن هذا الكائن الذي به نزل الوحي بصورته الختامية هو ملك الشعوب كلها إذ "به قد صنع العالمين" أي بوساطة ثمَّ خلق الكائنات بأسرها لأن كلمة الله كانت "كن فكان" وقد كان الكلمة لازماً للذات ولكن غير زايد عليها لئلا يحصل التعدد في ذات الله وإذ يستمر الكاتب في وصفه لكلمة الله يقول "ذلك الذي وهو فيض مجده" والنور الذي ينبعث من جلاله معلناً الذات وغير منقص منها "وصورة جوهره" تعالى. واللفظة في الأصل اليوناني تعني الختم أو "البصمة بكلام العامة" أي الأثر الذي يكون طبق الأصل. على أن هنالك فرقاً بين "البصمة" وبين صورة الذات المُشار إليه في الآية لأن الله و"الصورة" هما واحد في الذات ولا يقبلان الانفصال فهما كوجهي المحدب والمقعر للقوس الواحدة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. وعزا إلى الكلمة صفة أخرى وهي أنه "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" .

والكلمة اليونانية المترجمة "حامل" لا تعني حمل شيء ثقيل مائت، كما تحمل السفينة وسقها مثلاً، بل بالأحرى السير بكل الأشياء صعداً نحو هدف معين، والذي جبل الأشياء بكلمته، يفعل هذا أيضاً بكلمة قدرته. وتبين لنا هذه العبارة قوة الله المسندة الممسكة بطريقة منسجمة غريبة لكل الخليقة بحركاتها وتطوراتها. وبعد أن يفكر الكاتب في العلاقة بين الكلمة الإلهية أو الابن وبين نظام الكون الهائل، يعود إلى التفكير في العلاقة بين ذلك الكلمة وبين الإنسان الحقير الخاطئ، ويعلن في عباراته التالية أحد الموضوعات الجوهرية في رسالته حين يقول أن هذا الذي هو قوام الكائنات هو بنفسه الذي "قام بتطهير خطايانا" وتصف هذه الرسالة بأوضح عبارة طبيعية ذلك التطهير الذي قام به من كان طاهراً والذي قدَّم به، بإتمامه فوق مرسح هذا العالم الخاطئ المتألم، مرضاة كاملة كافية، فجاز مرة أخرى إلى السلطان الإلهي حتى قيل "ثم جلس عن يمين العظمة في الأعالي" .

والكلام هنا على سبيل المجاز مثل الكلمة القرآنية "واستوى على العرش" أو "يد الله" وقد سلم العلماء بمثل هذه الأقوال بلا سؤال أو استفهام. ولا يخفى أن صعود المسيح وجلوسه من الحقائق الإلهية المعبر عنها بتعابير بشرية تدل على الزمان والمكان اللذين لا يمكننا أن ندرك تلك الحقائق بدونهما، اذ لا غنى في الاصطلاحات البشرية عن الصورة الظرفية والخلاصة أن الأعالي التي يسكنها الله ليست أعالي روحية.

2: 1- 10

 

1لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَتَنَبَّهَ أَكْثَرَ إلى مَا سَمِعْنَا لِئَلاَّ نَفُوتَهُ، 2لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً، وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً، 3فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هَذَا مِقْدَارُهُ، قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا، 4شَاهِداً اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَّوِعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ؟ 5فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ «الْعَالَمَ الْعَتِيدَ» الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ. 6لَكِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعٍ قَائِلاً: «مَا هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟ 7وَضَعْتَهُ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ. بِمَجْدٍ وَكَرَامَةٍ كَلَّلْتَهُ، وَأَقَمْتَهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. 8أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». لأَنَّهُ إِذْ أَخْضَعَ الْكُلَّ لَهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً غَيْرَ خَاضِعٍ لَهُ - عَلَى أَنَّنَا الآنَ لَسْنَا نَرَى الْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعاً لَهُ - 9وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ. 10لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إلى الْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ.

لذلك يجب أن ننتبه بالأكثر إلى ما سمعناه لئلا نسقط عنه. لأنه إن كانت الكلمة التي نطق بها على ألسنة ملائكة قد ثبتت وكل تعد ومعصية قد نالا جزاء عادلاً فكيف ننجو نحن إذا أهملنا خلاصاً عظيماً كهذا- خلاصاً بدأ الرب بالتكلم به ثم قرره لنا الذين سمعوه وقد شهد له الله بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومنح الروح القدس حسب مشيئته فإنه ليس للملائكة أخضع المسكونة الآتية التي نتكلم عنها. لكن شهد أحدهم في موضع قائلاً: «مَا هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟ وَضَعْتَهُ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ. بِمَجْدٍ وَكَرَامَةٍ كَلَّلْتَهُ، وَأَقَمْتَهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». فبإخضاعه له الكل لم يترك شيئاً غير خاضع له. على أننا الآن لسنا نرى الكل مخضعاً له بعد. وأما من وضع قليلاً عن الملائكة يسوع فإننا ننظره مكللاً بالمجد والكرامة بسبب ألم الموت أي لأن يذوق الموت عن كل واحد بنعمة الله لأنه كان يليق بالذي له وبه كان كل شيء وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يجعل قائد خلاصهم كاملاً بالآلام

"صائراً أفضل من الملائكة" وفي ذلك دليل على تفوق المسيح وسموه على أفضل خلائق الله كما أوضحنا سالفاً. ولما كان الكلمة "قد صار جسداً" واتَّضع في الظاهر، كان لابد له من الصعود لكي يسترجع مجده ومقامه.

وعلينا أن نلحظ الآن الطريقة التي يلجأ بها الكاتب إلى الاستعانة بالأسفار المقدسة، وهي الترجمة اليونانية للعهد القديم. وقد كان عقله مشرباً بها فكانت الآيات تأتيه مطواعة وتجرى بها يراعته سريعاً. وعلينا أن نلحظ بالأخص طريقة استعانته بالنبوءات وتأويله إياها. وهو إذ فكّر في كثير من ألفاظ المزامير أو التاريخ أو النبوءات رآها تحمل معنيين، يتعلق أحدهما بالعصر الذي قيل فيه اللفظ ويكتمل في التاريخ المنصرم للأمة اليهودية. ويشير المعنى الآخر بطريقة سرية إلى المسيح، ولم يتم تحقيقه في العصر القديم بل يكتمل في ذلك الذي علَّم تلاميذه بعد قيامته مبتدئاً "من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" "لوقا 24: 27". وفي تلك المدرسة، مدرسة التفسير، تعِّلم كاتب الرسالة بالهام الروح القدس. ومن ثمَّ نراه في سياق رسالته يقتبس لفظاً من العهد القديم ويبين كيف اكتمل معناه في المسيح. وبعد أن استهل رسالته بقوله أن "الابن" متسامٍ فوق "العبيد" أي الأنبياء، يقول بعدئذ أنه متسامٍ أيضاً فوق العبيد الآخرين الذين يعيشون بالروح في العالم السمائي.

"لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك" وهذا الاقتباس منقول عن مزامير 2: 7 وقوله "اليوم" يدل على أن الزمان كله في عين الله كطرفة عين وأنه ينظر إلى الأزل كأنه قد ابتدأ اليوم. وقد شبهت في الآية بولادة روحية أزلية لا تزال مستمرة حتى "اليوم" ولا يخفى أن موضوع الكلام هنا حقائق روحية. ولما كانت علاقة المحبة بين اقنومي الله والكلمة أشبه بالعلاقة بين "الآب" و "الابن" أمكن التعبير عنها بلفظة "الولادة" بشرط أن نتذكر أن هذا التعبير هو مجاز يشير إلى حقيقة أزلية. هذا هو معنى الآية العام. على أن لها مغزى خاصاً باعتبار الإنجيل اذ اتفق مرتين أنه لما اعتمد الكلمة المتجسد وقبل موته بقليل رن في الفضاء ذلك الصوت القائل "أنت ابني" فدل على أهلية المسيح لإتمام نبوءة المزمور يوم حيَّاه الله بمثل ذلك الكلام "وأيضاً أن أكون له أباً وهو يكون لي ابناً" والاقتباس هنا منقول عن الترجمة اليونانية لسفر صموئيل الثاني 7: 14 وهو موعد قطع في الأصل لداود الملك. وإذ يرى كاتب الرسالة في قصة داود مجرد اكتمال عرضي لهذه العبارة، يطبقها الآن "على مألوف عادته في تأويل الكتاب المقدس" من وجهة اكتمالها الأبدي ويصفها علاقة أبدية أزلية كما سبق ورأينا.

"وأيضاً حين يكون قد أدخل البكر" الكلمة المترجمة عنها لفظة "البكر" معناها الأصلي البكر بين المولودين، ولأن للبكر مزايا خاصة حملت هذه اللفظة في الفكر اليهودي معنى "السمو والرفعة" دون أي تلميح إلى وظيفة الولادة. ولذلك نرى الفيلسوف فيلو "الذي عرف كاتب الرسالة مؤلفاته كما ألحنا من قبل" يستعمل الكلمة الأصلية المترجمة عنها "البكر" للدلالة على العقل الإلهي أو "LOGOS" وبيَّن أنه يوردها بغير المعنى المقصود منها في الولادة، فانه لم يخطر على بال يهودي أن العقل الإلهي يولد. فمعنى "البكر" في الفكر اليهودي الفلسفي إنما هو الاتصال بالله اتصالاً يستلزم سمواً على كل من سواه. هذا هو الكائن الذي ادخله الله "إلى المسكونة" أو إلى عالم البشر حينما "كلمنا بابنه".

"يقول" كلمة الله هذه ترينا لمحة من عمل لم يتم في المسكونة، بل في عالم الغيب عندما قال الله "لتسجد له جميع ملائكة الله" وكان طبيعياً أن يسجد عالم الملائكة لمن قيل عنه "البكر" أي الرفيع المتعالي في أمجاد السمائيات. ولكنه حين أدخل إلى المسكونة قد أخلى نقسه آخذاً صورة عبد (كما قال الرسول بولس في رسالته إلى فيلبي 2: 7) "صائراً في شبه الناس" ومن ثمَّ يكون للبشرية بمثابة آدم الثاني.

"صار آدم الإنسان الأول نفساً حية والآخر روحاً محيية" و "والإنسان الأول من الأرض ترابي، الإنسان الثاني الرب من السماء " (1 كور 15: 47).

لذلك صدر الأمر الإلهي أن ينال ذلك الذي اتخذ صورة الاتضاع هذه وعرَّض نفسه حتى الموت على أيدي الخطاة، خضوع العالم غير المنظور (ولتسجد له جميع ملائكة الله) وهذه الكلمات مقتبسة عن الترجمة اليونانية لسفر التثنية (32: 43). وهنا تحضرنا سبع آيات غامضة في القرآن (سورة 2 آية 34، 15: 30، 17: 63، 18: 48، 7: 10- 18 و20: 115، 38: 71- 79) وكذلك عدة من الأحاديث اليهودية، ذكر فيها أن الملائكة الله أمرت لأن تخر ساجدة لآدم. ولعلنا نرى هنا في هذه الرسالة تأويلاً لذلك المعنى الدفين في هذه الآيات الغامضة.

"أما عن الملائكة فيقول" كما قال في مزمور 104: 4 "الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار" والآية هي بيت شعر من المزمور المذكور ومعناها أن الملائكة متحدة مع القوات الطبيعية ومسخرة مثلها لأمر الابن. ومن ثمَّ تنفذ أمر الله سبحانه وتعالى، عاملة مع القوى الطبيعية في الكون. وقد حفلت الكتب اليهودية القديمة بالأفكار عن تعدد الملائكة وتنوعها. وقد ذهب بعضها إلى حد القول أنها "تتجدد كل صباح، وبعد أن تسبح الله تعود إلى مجاري النيران التي وفدت منها". أما الابن فسلطانه أدبي خالد كما نرى في الاقتباس التالي الذي يصف عمله، وقد اختير من مزمور صيغ ثناء على ملك عبري. ولكن اليهود لم يجدوا ملكاً من ملوكهم يستكمل فيه كلما حواه ذلك المزمور فاستخلصوا من هذا أن ساعرهم الضي كتب كان نبياً يومي إلى الملك المسيا الذي هو أعظم من كل ملك أرضي.

ومن ثمَّ يرى ذلك الكاتب العبري المسيحي أقوال المزمور القديم تستكمل في المسيح فيقول:

"وأما عن الابن فيقول أن عرشك يا الله" والنداء يشمل الابن أيضاً لأنه أحد أقانيم الذات. قارن هذا بما قاله التلميذ توما حين رأى سيده المقام وصرخ قائلاً: ربي وإلهي- (يوحنا 20: 28).

"إلى دهر الدهور" أما الملائكة فلا هي أزلية ولا عرش لها. أما أزلية عرش الابن فقائمة على شيء هو أسمى وأبقى من كل قوى الطبيعة، على ذلك البرّ الذي هو عنصر من طبيعة الله ذاته، كما يشرح الكاتب حين يتابع كلامه فيقول:

"وصولجان الاستقامة صولجان ملكك. وقد أحببت البر وأبغضت التعدي. لذلك مسحك الله الهك بدهن الابتهاج" وليست الإشارة هنا إلى مسح ملك لإفرازه لوظيفة الملوكية كما جاء في قصة داود وسليمان، بل إلى مسح بالزيت المعطر علامة الابتهاج والمجد في عيد من الأعياد (انظر أشعياء 61: 3).

"أكثر من شركائك" إذن هناك شركاء يشاطرون الملك المسيا في مسحة زيت الابتهاج هذه. فمن هم؟ يبين لنا تاريخ البشر الروحي أن أولئك هم الذين يشاطرون المسح في "محبته البرّ وبغضة الإثم". فإن تلك الأنفس تتألم كثيراً كما تألم المسيح ذاته، ولكنها تبلغ أيضاً ذرى الفرح الطاهر الذي يجهله الآخرون، ويمسحون مع ربّهم بزيت الابتهاج. وقد يكون ممكناً أيضاً أن كاتب الرسالة الذي يوازن بين الابن والملائكة فكَّر في الملائكة كشركاء في هذا الفرح النفسي الهائم، ورأى أن الابن الذي أقام ملكوته على محبة البرّ بآلامه على الصليب، قد جاز بسبب ذلك فرحاً أعمق جداً (انظر فصل 12 آية 2 من هذه الرسالة) مما خبره أولئك الخدام السماويون.

(و) أداة العطف هذه في إثرها اقتباساً من الشعر الذي يتلوه الشعب العبراني في عبادته. وقد ورد (في مزمور 102: 26 و27) وهو أنشودة يلوذ بها إسرائيلي في منفاه، إلى ربه ومولاه، الذي قطع عهداً مع شعبه. وقد رأى الإسرائيلي المتأخر الذي كتب رسالتنا هذه أن في المسيح، وأن لم تكن موجهة إليه مباشرة. والملك الذي تقوم مملكته الروحية على برّ الله ذاته لا يكلل فقط بالابتهاج، بل تبقى ملكوته خالدة بعد كل المخلوقات.

"أنت يا رب في البدء أسست الأرض. والسموات هي صنع يديك" لأن الابن أو "الكلمة" المتجسد هو خالق لا مخلوق لأنه "في البدء كان الكلمة... كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العهد الجديد.

"وهي ستزول وأنت تبقى. وكلها كثوب ستبلى. وكرداء تطويها فتتغير. ولكن أنت أنت. وسنوك لن تفنى" وذلك لأن حياة البر الإلهي تفضل كثيراً وجود الكون الطبيعي، بل تعلو فوق حياة الملائكة ذاتها كما يقول كاتبنا فيما يلي:

"وعمن من الملائكة قال قط" كما قال في مزمور 110: 1 وهو مزمور تأمله الكاتب ملياً، يشير إليه المرة تلو الأخرى في سياق رسالته.

"اجلس عن يميني" كناية عن سمو المنزلة في السماء "حتى أضع أعدائك موطئ قدميك" فيكون "الابن" اذ ذاك ملك ملكوت الله المنتصر. أما الملائكة فيقول عنهم"أليسوا جميعهم أرواحاً خادمة" وههنا وجه الفرق بين الابن والملائكة على أتمه. فإن الابن هو المخدوم والملائكة هم أرواح خادمة.

"مرسلة للخدمة لأجل المزمعين أن يرثوا الخلاص" بوساطة الابن المخلص. ومن مأثور الأحاديث اليهودية أن الله، حين استنفد بني إسرائيل من مظالم فرعون وعبروا البحر الأحمر، ورأوا "جيوشاً تلي جيوشاً من الملائكة الخادمة". ومن ثمَّ تعلن لنا الرسالة عالم الملائكة عالماً يحفل بخدام الله السمائيين يخدمون المؤمنون لله وفي الله. وليس في هذه الرسالة ما يبرر تخرصات الكتّاب اليهود المتأخرين الذين قفا أثرهم كثيرون من المسيحيين فيما بعد، فوضعوا الملائكة في مكانة الشفعاء عن الناس والوسطاء في أدعيتهم. ولقد استأثرت هذه الفكرة بعقول بعض المسيحيين، حتى لنرى فريقاً منهم في عصر النبي محمد، ممن استوطنوا تخوم جزيرة العرب، قد ذهبوا إلى حدّ بعيد فكانوا يرفعون أدعيتهم عن طريق الملائكة، مما كاد يكون شبيهاً بالصلاة للملائكة أنفسهم. وليس في المسيحية الحقة شيء من هذا. ويرى كاتب رسالتنا هذه أن العلاقة بين الله والناس يصلها المسيح الذي لا وسيط سواه، وأن تكن السماء حافلة بربوات من الملائكة. وما هؤلاء إلا خدام، ومهما سمت وتقدست طبائعهم، فإنهم خدام المؤمنون في خلاص الله، وان يكن أولئك المؤمنون ضعفاء مجاهدين.

"لذلك" أي بسبب ما تبين لنا في الشطر الأول من الرسالة عن سلطان ذلك الذي جاء إلينا برسالة الله، بل من هو نفسه رسالة الله ووحيه "يجب أن ننتبه" والضمير في الفعل قوي النبرات في الأصل اليوناني، كأنه يقول "يجب أن ننتبه نحن المسيحيين، أنا الذي اكتب لكم وأنتم الذين تقرأون" "بالأكثر" إلى أبعد حدود الانتباه "إلى ما سمعناه" وهذا تعبير عام يقصد به الكاتب الرسالة التي كلمنا بها الله في ابنه (ص 1: 1). ويتبين لنا من الآيات التالية أنها تشتمل على الرسالة المعلنة في حياة يسوع على الأرض وأقواله، وكذا إيصال هذه الرسالة عن طريق رسل إلهية إلى الكاتب وقرائه.

"لئلا نسقط عنه" وكلمة "نسقط" في الأصيل اليوناني هي من قبيل الاستعارة ومعناها الحرفي اندفاع القارب أو ابتعاده بسبب تقاذف الأمواج أو بسبب دفع التيار.

ومن ثمَّ قد يحمل المسيحيون (في ذلك أو هذا العصر) بتيارات العالم الجارفة ويبتعدون عن مرساة الخلاص الممكنة في المسيح. ومن هذا المعنى الأصلي تطور معنى الفعل في القرن الأول فصار "يخطئ" أو "يسقط" (وهي ترجمة تتفق تماماً مع النص السرياني). وقد استعمله أوريجانوس لينعت به المسيحيين الذي نبذوا أو حادوا عن ممارستهم الدينية بفعل مؤثرات العالم في نفوسهم (وهو لا شك يفكر هنا في مواطني الإسكندرية الوثنيين أو أشباه الوثنيين، الأغنياء المتهاملين).

"لأنه إن كانت الكلمة التي نطق بها على ألسنة الملائكة" أي بواسطة الأنبياء الذين كان ينزل عليهم الوحي بطريق الملائكة. وفوق كل شيء فان القراء العبرانيين يفكرون دوماً في هبة الله, في الشريعة المعطاة لهم فوق جبل سيناء. وبالتأمل في تثنية 2:33 ومزامير 17:68 أدرك أحبار اليهود وجود الجند السمائي فوق الجبل المقدس المشتعل بالنار واستنتجوا من هذا أن لذلك الجند يداً في نزول الشريعة (انظر غلاطية 19:3 وأعمال 53:38) ومن ثم نرى أولئك العبرانيين المسيحيين قد عرفوا منذ الطفولة أن منحة الشريعة المقدسة المعطاة من الله كانت دائماً موضع اهتمام القوى المقدسة غير المنظورة في العالم السمائي. فلا عجب إذاً أن يقال عن هذه الشريعة "قد ثبتت" ودليل ثباتها وصلاحيتها وصدقها مستمد من تاريخ الأمة التي انزل الله عليها هذه الشريعة, وذلك لان كل زيغان عن تلك الشريعة لم ينجم عنه إلاَّ البلايا والمصائب تحقيق بالأمة, كما يقول الكاتب فيما يلي:

"وكل تعدّ ومعصية قد نالا جزاء عادلاً" والكلمة المترجمة عنها "جزاء" لم ترد في العهد الجديد, إلا في الرسالة إلى العبرانيين. وهي تبرز فكرة المجازاة الدقيقة للخير أو الشر, لا فكرة الجزاء أو العقوبة كوفاء عادل لا مناص منه, كما هو الحال مثلاً مع الجشع النهم حين يتألم ويشكو جزاء نهمه وجشعه, وغيره الكابح لجماحه المسيطر على إرادته حين ينعم بالصحة والعافية جزاء اعتداله وضبطه لنفسه. ولنا في ترويض بني إسرائيل في البرية (انظر خصوصاً سفري الخروج والعدد) المثال النموذجي لهذا النوع من الجزاء، ولكن تاريخ العهد القديم كله يهيئ لنا وفرة من هذه النماذج, ويبين لنا بالحوادث التاريخية أن الشريعة المعطاة فوق جبل سيناء"قد ثبتت" وان الذين عاشوا في القديم لم يفلتوا من الجزاء العادل نظير إهمالهم إياها.

فإذا كانت "الكلمة التي نطق بها على ألسنة ملائكة" هي شريعة موسى, فان "الكلمة التي نطق بها في الابن" لم تكن توعه من الشريعة بل خلاصاً عظيماً. وعظمة ذلك الخلاص بنسبة عظمة ذلك المخلص.

فالشريعة تفرض على الإنسان الطاعة والخنوع, ولكن تقدمة الخلاص المسيح تطمع في الثقة والامتنان والولاء من أناس يحسون أن طاعتهم لم تكن كاملة. ومما هو جدير بالمراعاة أن كاتب الرسالة لم يرَ ضرورة أن يشرح لقرائه المعنى المسيحي الخاص المقصود من كلمة "الخلاص" التي لم يكن لها معنى في اليونانية أكثر من مجرد "الأمان" كإنسان ينجو من سفينة مرتطمة ويبلغ شاطئ السلامة. ومن ثمَّ نرى كاتب الرسالة في ذلك التاريخ المتقدم يفترض جدلاً أن قراءه يعرفون قصده حين يقول"خلاصاً عظيماً كهذا"، وذلك لان المعنى المسيحي للخلاص جزء من اختبار أعضاء الجماعة المسيحية. وهو ما يزال منطو على الفكرة القديمة الدائرة حول السلامة (الروحية) ولكنه يحمل معه أيضاً فكرة أكمل وأخصب عن غفران الهي, لا من الخطايا فقط, بل غفران للشخص الخاطئ, الذي يتصل بعد هذا الغفران مع ربّه بعلاقة مطهرة محيية, فيصير سليماً في الروح، أو كما يقول علماء النفس الحديثون "تنسجم شخصيته"

"خلاصاً بدا الرب بالتكلم به" لأن "الكلمة المتجسدة" كان يكلم الناس رأساً بكلماته وآياته, ثم بآلامه وموته وقيامته, في أثناء بعثته الأرضية

"ثم قرره" وإذا كانت شريعة سيناء قد تثبتت، فأن رسالة الخلاص بالابن قد تثبتت أيضاً، من الناس الذين سمعوا يسوع فعلاً واختبروا هذا الخلاص بوساطته، ومن الله الذي أيدهم وألهمهم في رسالتهم. وفي مكنة الكاتب أن يلجأ للاستعانة باختباره واختبار قرائه لهذه الحقائق فيقول بصيغة المتكلم:

"لنا الذين سمعوه" نحن الذين لم نشاهد المسيح بالعين الجسدية بل سمعنا عنه من شهود العين. وهذه الآية من الأهمية بمكان لأنها توضح لنا صريحاً أن الرسالة كتبت في زمن الرسل وهم "الصحابة" في المسيحية. وربما كان الكاتب معاصراً للمسيح إلا أنه لم يشاهده. ولعله اهتدى على يد الرسل الذين شاهدوا السيد عياناً "وقد شهد له الله" مهيمناً على صحة شهادة الحواريين "بآيات وعجائب وقوات متنوعة" التي أجراها الله على أيديهم. وتلك الآيات الخارجية التي لم تحدث بفضل قوتهم كما أثبتوا ذلك صراحة (أع 12:3) قد اقترنت بقوة داخلية موفورة الخير جاء وصفها في الآية التالية، فكانت أعمالهم الخارجية قاهرة عظيمة لا نفوسهم الداخلية جاشت بقوى عظيمة:

"ومنح الروح القدس" التي كانت تسبغ على الكنيسة بكثرة في ذلك الزمن. راجع سفر الأعمال كله و1كورنثوس 12 "حسب مشيئته" فثبت بذلك أن الله كان مهيمناً على كرازة الرسل وأقوالهم. وملخصها أن المسيح ولد وعاش ومات وقام وصعد ليخلصنا من خطايانا إلى الأبد ويجعلنا شعبه الخاص

  • عدد الزيارات: 2151