Skip to main content

الإبن الذي صار أخاً لنا بفضل أفعاله هذه

وبعد أن تكلم الكاتب عن "الخلاص" الذي شهد له الصحابة وأمة المسيحيين، ينتقل إلى الابن الزعيم والرئيس الذي علي يديه كمل هذا الإخلاص. ويبدأ من موضعه السابق في المقارنة بين الابن والملائكة، ثم يقتبس عن مزمور يشير إلى المصير الرفيع الذي أعدّه الله للإنسان. ولكنه يجد نفسه وجهاً لوجه أمام هذه المقارنة الصارخة بين هذا المصير الرفيع وبين الذلة المهينة والآلام التي عاناها الابن في حياته الأرضية. وهو الآن يكتب إلى المسيحيين الذين قد يُستهزأ بهم لإتباعهم رباً قضى كمجرم، ولذلك شعر من واجبه أن يعينهم على مواجهة حقيقة هذه المذلة، فيدركوا شيئاً من معناها

"فأنه ليس للملائكة" اللام في "الملائكة" للجنس. فيكون المعنى "فأنه ليس لجنس الكائنات التي لها طبيعة ملكية" وتكميل المعنى يستدل من القرينة وهو "بل كائنات لها طبيعة بشرية"

"أخضع المسكونة الآتية" وفي بعض الترجمات "العالم الآتي" وكانت هذه العبارة مألوفة لدى المسيحيين العبرانيين. وجرت على الألسن اليهودية لمعنى "ملك المسيا" أي نظام الأشياء المزمع إقامته على الأرض كتدبير الله النهائي وسلطان القداسة والعدل والفرح بسبب المسيا. وأما لدى المسيحي العبراني فمعناها نظام الأشياء الجديد الذي يتحقق فيه كاملاً ذلك "الخلاص" الذي تكلمت عنه الرسالة، والذي بدأت تنساب منه المؤثرات في حياة المسيحيين (آية 2 و3)

"التي نتكلم عنها" وصيغة الجمع هنا إنشائية، ويمكن ترجمة العبارة "التي أتكلم عنها في هذه الرسالة"

"لكن شهد أحدهم في موضع" والاقتباس مأخوذ عن الترجمة اليونانية للمزمور الثامن "ما هو الإنسان حتى تذكره وإبن الإنسان حتى تفتقده" ويقول حديث يهودي أن هذه الكلمات قالها الملائكة لله عزّ جلاله حينما صعد موسى إلى جبل سيناء لتناول الشريعة. ومنطوق العبارة حسب الحديث: "يا رب العالمين: أتعطي لحماً ودماً هذا الذخر الثمين الذي احتفظت به 974 جيلاً". وإلى هنا تشير العبارة إلى حالة الإنسان الساقطة. ولكنها تنتقل بعد ذلك إلى حالة أرقى وبعد أن يكون الإنسان "أقل من الملائكة" يصعد إلى إلى مرتبة السلطان التي لم يدانهِ فيها ملائكة السماء

"وضعته قليلاً" يجوز أن تكون لفظة "قليلاً" ظرف زمان فيكون المعنى "وضعته زمناً قليلاً". ويجوز أيضاً أن تكون نائب مفعول مطلق بمعنى "وضعته وضعاً قليلاً" " عن الملائكة" الذين كانوا واسطة إلهام الأنبياء والوحي إليهم، فكان يزعم أنه أرفع من البشر "بمجد وكرامة كللته" والكلمة في اليونانية تعني تاج الفوز والنصر "وسلطته على أعمال يديك" أن إيراد الكلام هنا بصيغة الماضي ليس دليلاً على وقوع الفعل بل على إرادة الله تعالى. فكأنه يقول "أردت يا الله أن تكلل الإنسان بمجد وكرامة وتسلته على أعمال يديك". ويتضح ذلك بالأكثر من الآية التالية "أخضعت كل شيء تحت قدميه" وهو تكميل الآية المقتبسة من العهد القديم "فبإخضاعه له الكل لم يترك شيئاً غير خاضع له" مما في السماء أو على الأرض وضمنها المسكونة الآتية أو العالم الآتي، وهو نظام العالم الجديد للبرّ، الذي كان يترقبه اليهود بمجيء المسيا

"على أننا الآن نرى الكل مخضعاً له" أي للإنسان "بعد" كما هو المأمول أن يكون يوماً ما. لأننا الآن نرى أن إطلاق الإنسان من القيود المادية والألم والخطية والموت غير كامل بعد فهل يحنث الله بمواعيده؟ حاشا وكلا! نعم أننا لا نرى الإنسان اليوم متفوقاً في الملك والملكوت ولكن ثمة شيئاً نراه. ذلك إنّا نرى واحداً تنطبق عليه صورة الإنسان المرسومة في المزمور المقتبس، واحداً جعل نفسه أخاً وممثلاً لكل بني الإنسان

"وأما مَن وُضع قليلاً عن الملائكة" وأن يكن يطبعه أسمى منهم بل أسمى من كل ما في الكائنات (أنظر فيلبي 6:2- 7) وهو "يسوع" وهنا أول موضع في رسالتنا دعي فيه الابن بلفظ "يسوع" وقد سمي قبلاً "الابن" و "الكلمة" و "الرب" و "بهاء الله" و "صورته" الخ.

ويستعمل الكاتب- وهو في صدد التكلم عن الذلة الاختيارية التي قبلها الابن على نفسه ليكون أخاً للإنسان، مثلنا "أقل من الملائكة" – الإسم البشري الذي أطلقته أم يسوع على ولدها وهو طفل، والذي كتبه أخيراً الوالي الروماني على عنوان الصليب. ويرى في يسوع هذا اكتمال ذلك المصير الأسمى الذي تنبأ به صاحب ألزبور عن الإنسان: ولذا يقول "فأننا ننظره مكللاً بالمجد والكرامة" وهذه الرؤية تمحو الأثر السيئ الناشئ عن رؤية الإنسان بالحالة السابقة أي بحالة العبودية. فإذا كان نائب البشر الذي هو إنسان تام قد أعطي تاج السلطة والظفر فذلك رمز صادق إلى ظفر الإنسان نفسه إتماماً للوعد الوارد في المزمور الثامن. والتكليل المشار إليه لم يعقب الموت فقط بل كان "بسبب ألم الموت" (راجع أيضاً فيلبي 6:2- 10) وهو يتفق كل الإتفاق مع ما جاء في الآيات التي نحن بصددها إذ يقول: "أطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسما فوق كل اسم. لكي تجثوا بإسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ونت تحت الأرض" لاحظ قوله "لذلك رفّعه الله" وهو نفس ما يقوله كاتب الرسالة إلى العبرانيين

هذه كانت خطة الله "أي لأن يذوق الموت عن كل واحد" وتحتوي هذه الألفاظ على ملخص مهمة المسيح التي جاء إلى الأرض من أجلها. والعبارة "يذوق الموت" غير مألوفة كثيراً في اللغة اليونانية، وقد أراد الكاتب بها أكثر من مجرد "الموت" لأنها تنطوي على "الموت في حالة الوعي والإدراك، واختبار الموت في أتم معنى". وقد قال أحدهم: "حين أفكر في يسوع وهو يذوق الموت، يخيل إليَّ أنه هو وحده الذي تذوق الموت حقاً" لأنه لم يتذوق موت الجسد فقط، ولكنه وهو بلا خطية قدَّم ذاته ليتذوق موت الأفصال الذي هو نتيجة الخطية، وقد فعل هذا لأجل القوم الخاطئين

فكل فرد من أفراد البشر له حق الإشتراك بالميزة التي جاء المسيح من أجلها وذلك بمحض اعترافه بالمسيح نائباً عنه بإيمان الحي. وقد تم ذلك "بنعمة الله" أي بإرادته المقدسة المشفوعة بالحب. وإذ رأى كاتب الرسالة يومئذ أن قرائه يستصعبون الإعتراف بتلك الحقيقة علق عليها جملة تعليلية وهي قوله "لأنه كان يليق" أي أنه لم يكن أمراً شائناً ولا حائطاً من مجد ذلك الإله "الذي له" أي لمجده "وبه" أي بإرادته وقدرته "كان كل شيء" في الخليقة من حكم وسلطة "وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد" الأمر الذي اقتدى إعلان صفاته إعلاناً تاماً وإكمال الوعد الذي قرأنا عنه في المزمور الثامن من المصير الرفيع الذي أعدَّه الله للإنسان "أن يجعل قائد خلاصهم" يسوع المسيح. وقد دعاه قائد خلاصهم لأن به تم خلاص البشر قاطبة

والكلمة المترجمة "قائد" مثل الكلمة "شيخ" في العربية تحمل معاني كثيرة. والظاهر أن الكاتب يستعملها بمعنى "مقدام أو ممهّد الطريق" للآخرين ليقفوا خطاه، كما يفعل المكتشف في إفريقيا الوسطى حين يشق الطريق في الغابات والحراج أو كما يفعل قائد الجند في حملة هجومية. ويؤثر عن جندي حكم عليه بالموت لأجل المسيح سنة 295 ب. م. أنه قال لقاضته ألفاظاً تعيد إلى الذهن معنى هذه العبارة: "هو الذي نخدمه نحن المسيحيين، والذي نتبعه، رئيس حياتنا، وقائد (أو ممهّد) خلاصنا" وقصد الكاتب هو أن قرائه أن الذي قام بمثل تلك المهمة العظيمة كان يليق به أن يُجعل "كاملاً بالآلام" ليس كاملاً بالاعتبار الأدبي بل باعتبار كفاءته للقيادة وهذه "الآلام" قد أعثرت الكثيرين إذ صعب عليهم إدراكها. فالعبرانيون الذين خاطبهم كاتب الرسالة كانوا دائماً يعترضون بقولهم "لماذا بلغ زعيمنا تلك الدرجة من الحقارة" وكان اليهود ولا يزالون يقولون "حاشا للملك المسيا أن يعامل بمثل تلك المعاملة، ولذلك لا يمكن أن يكون ذلك الناصري المسيا". وكثيرون يرتكبون اليوم نفس الخطأ بطريقة أخرى فيقولون "حاشا الله أن يموت أعظم الأنبياء موت العار. فالناصري الذي كان المسيا لم يمت بهذا الأسلوب" فكاتب الرسالة إلى العبرانيين قد أزال هذه الإشكالات جميعها باستعماله لفظة "قائد" لأن كل جندي يعلم أن القائد هو أول من يتعرض للأخطار في الحرب فيعاني ما يعانيه كل فرد من أفراد فرقته من ألم وخطر وعناء. وقد توسع كاتب الرسالة في هذه الحقيقة البسيطة السامية معاً فقال "لأن المقدِّس" بكسر الدال أي القائد المنوط به تقديس الأمة "والمقدَّسين" بفتح الدال أي البشر الذين جاء ليخلصهم ويقدسهم. والتقديس في عرف المسيحيين العبرانيين كان مقترناً بخيمة الإجتماع اليهودية أو بالهيكل في أورشليم. إذ كان لزاماً على البيت ذاته، وكل وعاء أو إناء فيه، وكل كاهن من خدامه، أن يأخذ حظّه الخاص من هذا التقديس. ليكون مفرزاً عن الإستعمال العادي أو العمل لخدمة الله- كان هذا المعنى الأول المقصود من التقديس في نظر كل من نشأ نشأة يهودية. ومن هذا المعنى تطور معنى آخر أعمق وأوسع، هو تقديس الروح، تقديس لا يفعله إلا الله ذاته (أنظر مثلاً حذقيال 12:20 "أنا الرب مقدسهم" أو صفنيا 7:1 "الرب قدس مدعوّيه" ولم يتردد الكاتب في أن يعزو إلى المسيح الإمتياز الإلهي لتقديس أنفس البشر

2: 11- 18

 

11لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً، 12قَائِلاً: «أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ». 13وَأَيْضاً: «أَنَا أَكُونُ مُتَوَكِّلاً عَلَيْهِ». وَأَيْضاً: «هَا أَنَا وَالأَوْلاَدُ الَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ اللهُ». 14فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، 15وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ. 16لأَنَّهُ حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ الْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ. 17مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلَّهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ. 18لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ.

لأن المقدس والمقدسين كلهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم أخوة قائلاً: «أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ». وَأَيْضاً: «أَنَا أَكُونُ مُتَوكِّلاً عَلَيْهِ». وَأَيْضاً: «هَا أَنَا وَالأَوْلاَدُ الَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ اللهُ». فإذا قد اشترك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً بمثل ذلك، فيها لكي يبطل الموت من كان له سلطان الموت أي الشيطان ويعتق كل الذين كانوا مدة حياتهم أسرى للعبودية خوفاً من الموت ولا شك أنه لا يحاول إنهاض ملائكة بل يحاول إنهاض نسل إبراهيم. فمن ثم كان ينبغي أن يصير شبيهاً بالأخوة في كل شيء ليكون رئيس كهنة رحيماً أميناً فيما لله حتى يكفر خطايا الشعب لأنه إذ قد ابتلى فيما تألم منه فهو يقدر أن يسعف المبتلين.

 "كلهم من واحد" إذ واضح أن المتأنس هو أحد الناس، فالجميع إذاً من أصل واحد أي الله. والابن هو من الله في صفته الأزلية والناس عم من الله بالخليقة "فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة" أي أنهم ليسوا أتباعاً فقط بل إخوة. فإن كانوا متحدين هكذا فهم يعانون جميع الآلام والأخطار معاً، وقد أوضح الكاتب هذا فيما يلي، إلا أنه عزز أولاً مقاله بخصوص وحدتهم باقتباسات من التوراة حيث يشهد "الابن" كلمة الله بفم النبي "قائلاً أخبر باسمك إخوتي" الذين أصبحت معهم واحداً "وفي وسط الكنيسة أسبحك" والإقتباس هو من المزمور 22:22 (الترجمة اليونانية السبعينية) وهو مزمور قد اتخذه المسيح لنفسه بنوع خاص، إذ اقتبس منه وهو معلق على الصليب. فلم يكن أحد من العبرانيين المسيحيين يقرأ المزمور إلا ويطبق كلماته على آلام ربّه الذي مات لأجله. والآية المقتبسة هنا مقتطفة من خاتمة المزمور التي تجيش بالرضى والأنتصار، وقد بدأ المزمور بنغمات أسيفة من الوحشة المريعة

"وأيضاً. أنا أكون متكلاً عليه" كأحد إخوتي والإقتباس من أشعياء 17:8 (يوناني) وهي تبين كيف أن زعامة قائدنا تصدر عن كونه قد خبر بنفسه ما في الثقة والإستسلام للإيمان من معانٍ وقوة. ففيه قد تجسمت كاملة كل معاني الثقة المطمئنة ومواقف الجنان الثابت الممكن، على حد قول بن يعقوب الصوصي عن إنسان "لا يشهد في العطاء إلاَّ يده، أي يد الله، ولا يرى في المنع إلا حكمته أي حكمة الله"

"وأيضاً هاءنذا والأولاد الذين اعطانيهم الله" آية مقتبسة من أشعياء 18:8 ومعنى الأولاد هنا الأتباع أو التلاميذ. وكثيراً ما يخاطب القواد الشرقيون رجالهم بلفظة "أولاد" أو "إخوة". وإذ قد تقررت وحدة المسيح ورجاله عقلاً ونقلاً ختم الكاتب ذلك بقوله "فإذ قد اشترك الأولاد" أي إخوته وأتباعه "في اللحم والدم" أي في جميع الطبائع البشرية وما يترتب عليها من آلام وموت "اشترك هو أيضاً بمثل ذلك" تماماً "فيها" أي في اللحم والدم راضياً بكل ما يترتب على ذلك الاشتراك. فهو لم يصر إنساناً فقط بل قبل كل ما يترتب على تأنسه من النتائج الصعبة. وكل ذلك "لكي يبطل بالموت" الذي هو أشر المصائب وأفدحها بل منتهى بلايا الإنسان "من كان له سلطان الموت أي الشيطان" الذي حارب المسيح وجهاً لوجه على الأرض "ويعتق" بنصرته التامة على ملك الموت "كل الذين كانوا مدة حياتهم أسرى للعبودية" بدلاً من أن يكون كل شيء خاضعاً لهم كما وُعد بذلك في المزمور الثامن

"خوفاً من الموت" وعلى الرغم من بسالة الأبطال الأفراد في معارك القتال، فأن الخوف من الموت كان سائداً في الإمبراطورية الرومانية التي أرسلت في ربوعها هذه الرسالة. وبعد زمن كتابة هذه الرسالة بسنوات قلال، أنبرى الفيلسوف سينكا رائد الإمبراطور نيرون وكتب في رسائله كثيراً من النصائح عن الخوف والموت. وقد سلم في أقواله أن هذا الخوف يستحكم في الحياة البشرية بشكل غريب (كما تقول رسالتنا "الذين كانوا مدة حياتهم أسرى للعبودية خوفاً من الموت")، واعترف الفيلسوف أنك لو أخذت أي إنسان، شاباً كان أم كهلاً أم شيخاً "لوجدتهم يخافون الموت جميعاً" (رسالة سينكا 14:22). وأقوى تعزية قدمها للناس أن "الموت هو آخر الشرور التي يلقاها الإنسان". هذا هو موقف فيلسوف وثني متنور، ولكن الذين أرسلت إليهم رسالتنا عرفوا أكثر منه، لأنهم نشأوا في أحضان الديانة اليهودية وتوقعوا دينونة بعد الموت، فكان خوف الموت أمراً مريعاً مرعباً في نظرهم. وذلك لأن أشد مخاوف الموت هو تبكيت الضمير. وهذا التبكيت هو ما جاء المسيح ليزيله ويقدس صاحب الضمير. وهنا فصل الخطاب. إلا أن الكاتب أردف كلامه بملحق ليبين أن الوحدة بين الإنسان والمتأنس لم تنشأ قط بين المتأنس والملائكة "ولا شك" الكلام تمهيد لبرهان آخر لا ينتظر الاعتراض عليه من قبل الذين خاطبهم "أنه لا يحاول إنهاض ملائكة" والعبارة اليونانية هي أنه "لا يمسك بالملائكة" والمقصود من الإمساك هو المساعدة والإنقاذ. ولما ل يكن في اللغة العربية كلمة تدل على المعنى المقصود اضطر المترجم أن يعبر عنها بقوله "يحاول إنهاض الملائكة" لأن كلمة "يمسك" وحدها لا تدل على المعنى المقصود. "بل يحاول إنهاض نسل إبرهيم" أي البشر دون الملائكة لأن جميع الناس قد يكونون أولاداً لإبرهيم بالإيمان (متى 9:3 ورومية 11:4 و12و16). والذي يحاول المسيح إنهاضهم لهم خاصية روحية (إيمان) إذ يرون سلفهم الروحي إنساناً قبل دعوة شخصية من الله ودعي "أبا المؤمنين" (حيث جعل إبرهيم أباً لجميع الناس أي المؤمنين)

هذا وأن تأنس الكلمة واتخاذه شكل بشر جعل البشر أسمى من الملائكة إمكانياً. وغرض كاتب الرسالة هو ذا: "إذا كان كلا الإنسان والمتأنس أفضل من الملائكة فلماذا تتمسكون بالنظام القديم الذي كان فيه للملائكة القدح المعلى بسبب ألقاهم الوصية على الأنبياء؟ أن دور الملائكة قد أنقضى وجاء الآن دور "الابن" فهو أولى بالأتباع والإعتماد" "فمن ثم" معيداً الكلام عن البرهان كله وليس عن الآية السابقة فقط "كان ينبغي أن يصير شبيهاً بالإخوة" أو الأولاد أو الأتباع، لأنه حاول إنهاضهم، والذي يحاول الإنهاض، حرّى به أن يعطف على من ينهضهم. والذي يعين في التجارب يجب أن يفهم شدتها وقوتها. لذلك "ينبغي" أن يكون المخلص شبيهاً بإخوته "في كل شيء" ما عدا الءخطية. (راجع ص 15:4) إلا أنه صار شبيهاً بهم في احتمال الآلام والأحزان والتجارب والاضطهادات من أجل البر والاستشهاد في سبيل الحق

"ليكون رئيس كهنة رحيماً أميناً فيما لله" وهذا تمهيد لتعاليم جديدة سيتوسع فيها الكاتب فيما بعد. فالقائد هو إمام. والإمام هو رئيس أحبار أي رئيس كهنة

  • عدد الزيارات: 1750