Skip to main content

وأما الإيمان فهو الثقة بما يجرى

هذه العبارة هي الشرط الأول من شذرة مأثورة في وصف الإيمان، جديرة بالبحث الدقيق. والكلمة التي تسترعي أكثر الإنتباه هي المترجمة عنها لفظة "الثقة". فالكلمة اليونانية في الأصل من الألفاظ المشهورة في الفلسفة واللاهوت، ولها كسائر الألفاظ التي من هذا القبيل ظلال كثيرة من المعاني، وقد يكون لها- كما لغيرها من الكلمات التي على شاكلتها- معنى معين في الحديث العادي، ومعنى آخر في اللاهوت. فمثلاً عند ما نقرأ في "علم الكلام" عن "أوصاف الذات" نجد للكلمة "ذات" معنى غير معناها في الحديث السائر حين نقول "تضحية الذات" أو "ذات المحل". كذلك نرى الكلمة اليونانية في هذه العبارة hypostasis تترجم "الثقة" وقد وردت في الرسالة عينها مرتين قبل هذه، مرة في فصل1 آية 3 حيث ترجمت "جوهر" في قول الكاتب "وصورة جوهره" وأخرى في فصل 3آية 14حيث ترجمت "الثقة" كما في هذه العبارة أيضاً. وقبل أن نحكم على المترجم، لا معدى عن البحث في تاريخ هذه الكلمة وظلال معناها:

أن المعنى الحرفي للكلمة "hypostasis" هو: ما يقف تحت الشيء. ولأول مرة نراها في اليونانية القديمة (حوالي القرن الخامس قبل الميلاد) وتستعمل للدلالة على الرواسب تحت السائل مثل "قُفْل" القهوة

وبعد هذا التاريخ حين ترجم العهد القديم إلى اليونانية في مدينة الإسكندرية استعمل المترجمون هذه الكلمة للدلالة على "مسند الشيء" أي دعامته أو أساس

ثم تجوز الكلمة إلى ميدان الفلسفة، وكغيرها من الألفاظ سواء في اليونانية أو العربية أو أية لغة أخرى، تحمل معنى في الحديث الفلسفي غير معناها في الحديث العادي المألوف. وقد جرى معناها في الفلسفة "ما يهيئ للشيء كيانه ووجوده" وبمعنى آخر "جوهره". ومن ثمَّ نراها تترجم في مستهل رسالتنا. "صورة جوهره" حاملة هذا المعنى الفلسفي. وقد حظيت الكلمة في معناها الفلسفي هذا بتاريخ حافل (ذات ظلال عدة من المعاني) في بحوث الفلاسفة وعلماء اللاهوت من المسيحيين. ولما كانت هذه البحوث قد جرت في تاريخ متأخر عن رسالتنا، فلا حاجة بنا إلى التبسط فيها الآن

والقارئ الذي يكلف نفسه مئونة درس البيان المتقدم يرى لهذه الكلمة معنيين في الرسالة إلى العبرانيين (3:1 و14:3) ولكنه لن يرى في أي موضع آخر الآية التي نحن بصددها الآن (1:11) ذلك لأن جمرة الشرّاح قد عزوا إلى الكلمة في هذه الآية ثلاثة من المعاني المتقدمة. وفي كل معنى نكتشف شيئاً من الحق. وها نحن أولاء نذكرها للقارئ:-

1- ذهبت طائفة كبيرة من أولئك الشراح وبينهم كثيرون من كتاب اليونان قديماً أن الكلمة "hypostasis" تعني هنا "الذي يهيئ للشيء كيانه ووجوده" ولذلك يترجمونها "أما الإيمان فهو جوهر ما يُجرى" قائلين بالإيمان تكون الأشياء الموجودة والمأمول فيها حاضرة الآن في روح المؤمن. فالمستقبل وغير المنظور يصيران حقيقة للناس بالإيمان. ويبين سياق الكلام في الرسالة كلها أن الكاتب لم يقصد القول أن غير المنظور يصير حقيقة بالإيمان، أو أن هذا هو فعل الإيمان. فأن العالم الروحي في نظره أوكد الحقائق وأوثقها، ولكنه حقيقة لا يدركها الناس أجمعون. وصارت كذلك بالإيمان في حياة المسيحيين الذين كتبت لهم الرسالة

2- وذهبت طائفة أخرى من الشراح أن الكلمة "hypostasis" في هذه الآية تعني الثقة الكاملة المكينة، واليقين الثابت المركّز، والاعتقاد الواثق الذي لا يتزعزع. وبهذا المعنى يصح ترجمة الآية "أما الإيمان فهو اليقين بما لا يُرى"

3- ومنذ اكتشاف بعض الرسائل والبيانات والشذرات التي يرجع عهدها إلى العصر المسيحي الأول- في أوراق البردي التي عُثر عليها المنقبون في صحارى مصر- ألفت المفسرون أنظارنا إلى أن كاتب الرسالة، في استعماله هذه اللفظة، ربما كان مفكراً في قرائه العبرانيين وهم الذين ألفوا التجارة والكسب في عالم العمل، فأراد أن يذكّرهم بالمعنى العملي المقصود من اللفظة، وهو معنى يتكرر كثيراً في قصاصات البردي التي عُثر عليها. أما هذا المعنى فهو العقود. فالإنسان مستطيع أن يثبت ملكيته لضيعة في مكان بعيد لم يره ولا ذهب إليه من قبل، متى كانت معه عقود الملكية. والإيمان أشبه بهذه العقود التي تؤكد للإنسان أنه مالك لضيعة لم يرَها من قبل

"والإيقان بأمور لا ترى" كما يتبين في هذا الفصل من آية 30-40، وهو بمثابة عرض صور لأشخاص سيقوا بوازع داخلي ليعملوا كمن يؤمنون أن العالم غير المنظور والإله غير المنظور أكثر حقيقة من مشاهد الحياة العادية وأصواتها ومشاغلها. وقد دعي أولئك المسيحيون العبرانيون إلى حياة كهذه يحيونها في صلة وثيقة بحقيقة لا يراها أغلب الناس ولا يدركونها. ولكن الكاتب يذكرهم أنهم ليسوا أول من سلك هذه الحياة الغريبة

"فأنه في هذا" أي قي طريق حياة الإيمان التي تنظر إلى غير المنظور وإلى المستقبل "شُهد للقدماء" أي الآباء (في فصل 1آية 1) والحق أن قصة العهد القديم كله تشهد أن أكَبر مزية في الآباء العبرانيين وأبطال القديم كانت إيمانهم في الله غير المنظور. ولذلك يعود الكاتب إلى ذكر أولئك الأبطال. ويفكر في بداية سفر التكوين وقصة خلق العالم المنظور من غير المنظور، ثم يدرك أن الإيمان الجوهري الساذج في قوة الله المبدعة نموذج للإيمان الذي كان يتحدث عنه، لأن أحداً لم يرَ بعينه الجسديتين تلك الخليقة، لذلك يكتب "بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت" والكلمة في اليونانية تعني الكثرة واتحاد كل الخليقة التي أبدعت "بكلمة الله" الإلهية القائلة "كن". وقبل هذا الأمر الإلهي الذي أوجد الأشياء كانت كلها كائنة في "فكر" المتكلم الإلهي، وكان لها كيان غير منظور سابقاً لكيانها المنظور. لذلك يقول "حتى لم يتكوّن ما يُرى مما هو ظاهر"

  • عدد الزيارات: 1875