Skip to main content

إختبارات الإيمان كنماذج للدين الحق

ثم يشرح الكاتب في إيراد أمثلة ثلاثة للإيمان من العالم القديم قبل الطوفان. مبيناً أن هذا الإيمان هو الذي خلع ثوب الأهمية على تلك القصص المختصرة، التي لولا ذلك لبدت مدوّنات جافة قاتمة من وقائع التاريخ القديم. وهو يعالج هنا قصص هابيل وأخنوح ونوح. فهابيل عرف الالتزامات الطبيعية المفروضة على الإنسان نحو الله وأكملها حتى الموت، والتي بها يحيا الآن لأنه "بالإيمان قدَّم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين" أنظر سفر التكوين فصل4 آية 1-8 وكان اليهود يميزون التقدمة المرضية وغير المرضية من نوع الطعام المقدم. ولكن الكاتب يرى هنا أن المسألة كانت روحية (كما تشهد بذلك أيضاً قصة سورة المائدة في القرآن 30:5) وأن هابيل نال قبولاً بالإيمان. ولعله قد عبّر عن إيمانه بكرم تقدمته إذ قيل أنه قدّم من الباكورات، أي من الثمار الأولى ومن المسمنات أيضاً

"فبه شهد له أنه بار إذ شهد الله لقربانه" ولا يبين لنا سفر التكوين كيف شهد الله لموقف هابيل الصائب في تقدمته وقبوله إياها ورضائه عنها. ولقد ورث إخواننا المسلمون حديثاً قديماً يقول أن النار نزلت وأكلت المحرقة، كما حدث في قصة إيلياء فوق جبل الكرمل. على أن شيئاً واحداً يبدو لنا واضحاً في قصة السفر المقدس، إلا وهو أن ثمة علاقة شخصية قوامها الإيمان أحكمت بين هابيل وربّه قبل أن توجد العهود والمواثيق والشرائع والنواميس

"وربه وأن مات يتكلم بعد" والكلمة المترجمة (يتكلم) لم تستعمل قد في صدد الكلام مع الله، ولذا لا بد أن يكون معناها كلام هابيل لنا نحن البشر، شهادة ناطقة حية لكل العصور والأجيال عن حقيقة صلته بالله

كذلك رأى كاتبنا في قصة أخنوخ أن الشيء الجوهري فيها أن أخنوخ هذا عاش وهو مدرك للأشياء غير المنظورة، أي عاش بالإيمان، حتى توّجت صلته الأرضية بصلة خالدة. ولذا يقول "بالإيمان نقل أخنوخ لكي لا يرى الموت، ولم يوجد لأن الله نقله. إذ قبل نقله شُهد له بأنه قد أرضى الله"- أنظر سفر التوين فصل 5 آية 24- والفعل المترجم "أرضى" يستعمل في اليونانية للدلالة على إرضاء العبيد لمواليهم

"ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود" وهذه عبارة ذات أهمية إذ وجد بين جماعة العبرانيين المسيحيين (وهو الأرجح) نفر ممن كانوا من الأمم في الأصل، لأن الأمم في ذلك العصر ارتابوا في وجود إله حي عامل متسامٍ فوق الكل

"وأنه يجازي الذين يطلبونه" وهذه أيضاً عبارة ذات أهمية للمسيحيين العبرانيين لأن الرسالة تبين لنا أنهم كانوا متراخين متهاملين في عمل الخير، ذلك لأن الإضطادات كانت حادة، وكانت المجازاة غير منظورة

أما المثال الثالث في الإيمان فهو نوح الذي أظهر إيمانه في إطاعة أوامر الله ولو أنها قد ساقته إلى معاناة الألم "بالإيمان نوح لما أوحي عليه عن أمور لم تُرَ بعد" وأعني بذلك الدينونة المتوقعة للعالم في عصره بواسطة الطوفان (أنظر تكوين 13:6 و14) وكانت تلك الدينونة عند ما بنى نوح الفلك غير منظورة، ومسألة إيمان، مثلها مثل دينونة الأبرار النهائية في نظر العبرانيين المسيحيين أو في نظرنا نحن. ومع ذلك فأن نوح "خاف" والكلمة اليونانية في الأصل لا تنطوي على الخوف المرعب المرجف، بل الحرص والمثابرة بوقار على إتمام أمر إلهي "فبنى فلكاً لخلاص بيته" وقد كانت تقدمة هابيل وفلك نوح، كلاهما مظهراً منظوراً لإيمانهما ولقد ألمح كتّاب الدين منذ أقدم العصور إلى أن القوم العالميين الذين لم يعبأوا شيئاً بأوامر الله (أنظر متى 38:24 و39) لا بدّ سخروا من نوح الذي ابتنى سفينة وهو بعيد عن شاطئ البحر. وأنه لحقُّ أن يقال عن نوح أمام هذا الهزء أن "به دان العالم" أي أن الله حكم على سخريتهم حكماً قاسياً، وحسب انغماسهم في العالمية إثماً فظيعاً. وصار نوح بسبب هذا البناء- كما قيل عنه في 2 بطرس فصل 2 آية 5- "كارزاً للبرّ" وجاز لكاتب رسالتنا أن يقول عنه بسبب مسلكه هذه أنه "صار وارثاً للبرّ الذي حسب الإيمان" وقد لاحظ كاتبنا في هذا المقام أن نوح كان أول من أعطي له لقب "بار" في العهد القديم (تكوين فصل 6 آية 9) فبأي معنى يستطيع الإنسان أن يرث البرّ؟ أن الميراث هو من حقوق الابناء، وقد وقف نوح من الآب السماوي هذا الموقف، موقف الابن بالإيمان والمحبة والطاعة ولو كانت هذه كلها باهظة الكلفة

ومن ثمَّ يعطينا نوح مثال الإيمان في الطاعة، ويعطينا هابيل مثال الإيمان في الذبيحة والتضحية، والآن يجيء بنا الكاتب إلى قصة إبرهيم الخصيبة المليئة حيث ترى المثالين مجتمعين فيه

وفي هذه الرسالة يبدو لنا إيمان الطاعة الصابرة في حياة إبرهيم أولاً في استسلامه لدعوة الله إياه ليهجر حضارة أور الكلدانيين- وقد أثبت المنقبون مؤخراً أنها كانت حضارة رفيعة خصيبة- إلى وطن مجهول لا يعرف من أمره شيئاً:

11: 11- 20

11بِالإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ السِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ الَّذِي وَعَدَ صَادِقاً. 12لِذَلِكَ وُلِدَ أَيْضاً مِنْ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِنْ مُمَاتٍ، مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ، وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يُعَدُّ. 13فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ. 14فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَناً. 15فَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ. 16وَلَكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَناً أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيّاً. لِذَلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلَهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً. 17بِالإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ - قَدَّمَ الَّذِي قَبِلَ الْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ 18الَّذِي قِيلَ لَهُ: «إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ». 19إِذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإِقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ أَيْضاً، الَّذِينَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ أَيْضاً فِي مِثَالٍ. 20بِالإِيمَانِ إِسْحَاقُ بَارَكَ يَعْقُوبَ وَعِيسُو مِنْ جِهَةِ أُمُورٍ عَتِيدَةٍ

"بالإيمان إبراهيم لما دُعي أطاع" وتدل العبارة في اليونانية عل أن الطاعة كانت فوراً وبلا توقف، وكأني به قد أطاع الدعوة وهي ما برحت ترنُّ في أذنيه (أنظر سفر التكوين ص 12) وكانت تجربة إيمانه أشد وقوى لأنه لم يستطع أن يقدم لجيرانه وأصحابه تعليلاً معقولاً لهذا الهجران ولم يقدر أن يعين الموطن الذي يسعى إليه (وهنا كان إبرهيم موضع السخرية من الناس كما كان نوح)، وذلك لأن دعوته كانت "أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيداً أن يأخذه ميراثاً فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي" لأن هذه الرؤيا لم تظهر له إلاّ عقب مغادرته حاران (تكوين فصل 12 آية 7 وأنظر أيضاً أعمال فصل7 آية 2) وكان عليه أن يبقى طويلاً في حالة الإستسلام والإتكال على الله، جاهلاً الغرض من دعوة الله

وأما المظهر الثاني للإيمان في الطاعة الصابرة فكان عند بلوغه الأرض الموعود بها واضطراره إلى الجواب في مرتفعاتها ومنخفضاتها كغريب لا مستقر له "بالإيمان تغرب فيه أرض الموعد كأنها غريبة ساكناً في خيام" وقد كان هذا بلا شك تجربة لإيمانه، وهو الذي هجر حياة الحضر المتحضرة ليعيش حياة البادية ويرى ولده بل أحفاده لأجيال ثلاثة يستوطنون الخيام، وتلك الأجيال الثلاثة قد صابرت وانتظرت. فأن الرواية تقول أنه سكن الخيام "مع اسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه" والذي أعان إبرهيم على احتمال شظف الحياة الجديدة بعيداً عن أسباب الراحة والملذات التي ألفها في المدينة الأرضية، إنما إيمانه المتجه إلى مدينة أخرى، فأن ترويضه في حياة الاغتراب والاتكال على إرشاد الله وهدايته قد أنجب فيه قوى ورغبات لا تشبعها إلاّ مدينة الله الحي دون أية مدينة أرضية أخرى "لأنه كان ينتظر" والكلمة اليونانية تعني الانتظار اليقظ برأس منتصبة "المدينة التي لها الأساسات" لأن الشيء الذي يعوز "بيت الشعر" هو الأساسات، ولذلك كانت المدينة ذات الأساسات الحلم الذي يستمرئه الإنسان الضارب في خيام وبيوت من الشعر. ولكن الكاتب يقول بعد ذلك أن المدينة التي صبا إليها قلب إبرهيم كانت أمتن أساساً من صهيون ذاتها التي قيل عنها: "أساسها في الجبال المقدسة" (مزمور 1:87) لأن المدينة السماوية قائمة على أساس البرّ الخالد ومحبة الله، وأضع أساساتها "التي صانعها وبارئها الله"

وكان وعد الله لإبرهيم منطوياً على ملكيتين، إحداهما أرضية والأخرى سماوية. لذلك يجوز الآن أبو المؤمنين محنة أخرى لاختبار إيمانه ولتحقيق ما وُعد به. ولم يكن الابن الذي وُعدت به البركة قد ولد في الموعد الطبيعي الذي ينتظر فيه الإنسان نسلاً حسب التقدير البشري (أنظر تكوين 15:17-21) وهنا لم يكن إيمان إبرهيم كافياً وحده، لذلك يشير الكاتب إلى سارة فيقول "بالإيمان سارة نفسها أيضاً" على الرغم من إحساسها بحالتها الجسمانية "أخذت قدرة على إنشاء نسل وبعد وقت السن ولدت" وكما حدث مع نوح رأت سارة تحقيق الوعد في حياتها الأرضية، بينما لم يتحقق الوعد عند أغلب أبطال الإيمان هؤلاء إلاَّ في مدينة الله هذه. وهنا نستذكر كلمات إليصابات إلى مريم (حينما وثقت كلتاهما في صدق مواعد الله عن ولادة خارجية عن نطاق المألوف في الحياة البشرية الجسمانية "طوبى للتي آمنت أن يتمَّ ما قيل لها من قبل الرب" (لوقا فصل 1 آية 45) ومثل هذه البركة يعزوها كاتب الرسالة إلى سارة حينما يقول أن ميلاد اسحق العجيب تمّ "إذ حسبت الذي وعد صادقاً" وكان الأمر قائماً على إيمان الاثنين معاً، إيمان الأبوين إيماناً تعاونياً، لأن إبرهيم كان أيضاً شيخاً في الأيام "لذلك" أي بإيمان الاثنين اللذين كانا "جسداً واحداً" "ولد أيضاً من واحد وذلك من ممات مثل نجوم السماء في الكثرة وكالرمل على شاطئ البحر الذي لا يُعد"

وصف الكاتب إيمان إبرهيم في الطاعة الصابرة، وقبل أن ينتقل إلى إيمانه في التضحية، يقول بعض الشيء عن حياة الإيمان التي عاشها الآباء الأولون بصفة عامة، وكان أساس تلك الحياة الانتظار، يعضده الثقة في غير المنظور

"في الإيمان مات هؤلاء أجمعون" إي في الإيمان (آية 1) الذي هو الثقة بما يُجرى، لأنهم لم يروا تحقيق الوعد في امتلاك أرض كنعان التي استوطنها بنو إبرهيم، وماتوا "وهم لم ينالوا المواعيد" ولم يحفظوا إلاَّ برؤيا من بعيد عن موعد مرتقب، ولكن تلك الرؤيا قد ولَّدت فيهم عقيدة فرحة، لذلك لم تثقل نفوسهم لأنهم لم يروا اكتمال الوعد في حياتهم على الأرض "بل من بعيد نظروها وصدّقوها وحيّوها" والكلمة الأخيرة تعني أنهم حيوا هذا الأمل المرتقب فارحين، كما كان يفعل الحجاج في العصور القديمة عند ما تسحُّ عيونهم بالدموع وترتفع أصواتهم بالنشيد حين تلوح لأعينهم أول بادرة من أورشليم وهم مقبلون إليها "وأقروا بأنهم غرباء" والفعل في اليونانية منطو على الأعتراف بشيء فيه شعور بالخجل، لأن في عرف القدماء كان من العار ألاَّ يستوطن الإنسان مدينته التي نبت فيها. ولقد اعترف أولئك الآباء الأولون أنهم غرباء "ونزلاء على الأرض" لأن الأشياء المنظورة لم تكن موطنهم الحقيقي، وهم نازلون فيها إلى حين. ومثل هذا الاعتراف من خواص الإيمان الحق، في كل جيل، وفي كثيرين ممن انتقلوا منذ عصر الآباء الأولين. والكلمة اليونانية المترجمة "نزلاء" وجدت مكتوبة على بعض أوراق البردي المكتشفة في مصر في العصور المتأخرة، ومعناها هنا الغرباء الذين استوطنوا مدينة مثل الإسكندرية

وفي هذا الاعتراف دلالة على أن أولئك الغرباء والحجاج ليسوا قانعين بالبقاء هنا، بل هم جادون في المسير لبلوغ قصد آخر "فأن الذين يقولون مثل هذا يظهرون أنهم يطلبون وطناً" والوطن الذي يطلبونه، لا ينالونه بحق الغزو والفتح، بل بحق المولد، لأنه وطن الآباء والأجداد- ليسو الآباء الأرضيين الذين نزحوا من أرض الجزيرة المتحضرة بين دجلة والفرات، لأن الطريق إلى ذلك الموطن الأرضي القديم كانت مفتوحة دائماً أمامهم "فلو ذكروا ذلك الذي خرجوا منه، لكن لهم فرصة للرجوع، ولكن الآن يبتغون وطناً أفضل أي سموياً" لاحظ اللفظة "أفضل" التي تمتاز بها هذه الرسالة (أنظر 19:7 و22:7 و6:8 و23:9 و34:10) ونرى في هذا الفصل معاني ثلاثة تخطر ببال الكاتب وهو يفكّر في حقيقة العالم غير المنظور وقيمته. والآن يصورهم لنا أنهم لا يتطلعون من بعيد إلى قباب وأبراج مدينة تبدوا لهم سراباً في الأفق الممتد في الصحراء، ولكن الله نفسه يعدُّ لهم مدينة. أجل، لم يخجل ذلكم القوم أن يعترفوا في سبيل الله أنهم "بلا وطن" لذلك (وفقاً لما قال سيدنا وربنا في بشارة متى فصل 10 آية 32) "لا يستحي بهم الله أن يدعى إليهم" كما عرف عنه حتى اليوم "إله إبرهيم واسحق ويعقوب" "لأنه أعدَّ لهم مدينة" وكونه دُعي إليهم، كما يشير إلى ذلك سيدنا وربنا، ضمن لهم الحياة في التمتع بالجزاء الخالد الذي ينعم به أهل الإيمان "لأن الله ليس إله الأموات بل الأحياء"

  • عدد الزيارات: 1652