Skip to main content

إيمان إبراهيم وهذان النظامان (3: 6- 14)

وهاك برهاناً آخر من تاريخ الأمة اليهودية وهو أنكم آمنتم "كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ" عندما وعده تعالى بإكثار نسله حتى يصبح كعدد رمال البحر فلم يتمسك إبراهيم بفرائض طقسية خارجية استجلاباً لرضاه تعالى بل آمن "فَحُسِبَ لَهُ" أي إيمانه "بِرّاً" أي تبريراً أمام محكمة الضمير والله. والاقتباس هو من سفر التكوين 15: 6 وحادثة إبراهيم هذه وقعت عند بزوغ فجر التاريخ الإسرائيلي "اعْلَمُوا إِذاً" من هذه الحقيقة الأساسية أن الإيمان يرجع في الأصل إلى إبراهيم و"أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ" الحقيقيون فإن شرط البنوة الروحية هو مساواة المبدأ بين الأب والأبناء في الأمور الأدبية الحيوية فالنسل الذي وعد الله إبراهيم به (تكوين 15: 5) يجب أن يمتاز بالإيمان بمواعيد الله "وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى" وهو تعبير مجازي جعل به الكتاب بمثابة نبي "أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ" جميعها وليس أمة واحدة متسلسلة بالجسد من إبراهيم. وذلك بالإيمان الذي أظهره إبراهيم "سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ" بطريقة الوعد لا بطريقة الفرائض "أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ" راجع تكوين 12: 3 لأن هذا الوعد متعلق بإيمان إبراهيم بصفة كونه مؤمناً "إِذاً الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ" وحدهم "يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِ" لأن الوعد بالبركة يتعلق بالإيمان لا غير.

هذا من الوجهة الإيجابية. أما من الوجهة السلبية فقد أظهر بولس فساد اعتماد الإنسان على الناموس (الشريعة) لنيل الخلاص "لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ" لا أمل لهم في شيء سوى إطاعة ذلك الناموس "هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ" لا تحت بركة! لماذا؟ "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" وهذه الآية مقتبسة من قول موسى (انظر تثنية 27: 26) فالناموس لا يستطيع أن يعلل إتباعه بأمل كبير إذ من يستطيع أن يدعي أنه قادر على الثبات في جميع هذه الأمور بلا انحراف به ومن البراهين أيضاً على صحة هذا القول- سلباً وإيجاباً- ما يأتي وهو قوله "وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ" كما تبرر إبراهيم "بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ" أي بالطاعة العمياء لحرفيته "فَظَاهِرٌ" من الكتب المقدسة نفسها إذ أنها تقول "لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا»" (حبقوق 2: 4) فهي تعتبر الحياة الروحية متعلقة على مبدأ الإيمان فقط "وَلَكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ" لأنه من مبدأ آخر يختلف عنه كل الاختلاف ألا وهو القيام بأعمال معينة "بَلِ «الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»" الآية من لاويين 18: 5 والمراد أن الحياة الأبدية بحسب هذا القول إنما هي للذين يطيعون طاعة خالية من كل شائبة- وهو شرط مستحيل واللعنة تابعة للفشل في ذلك. أما الإنجيل فإنه يزيل أولاً اللعنة التابعة لعدم الطاعة ويمنح أهل الإيمان البركات المشار إليها آنفاً- أي الحياة والتبرير وما يصحبها. "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ" أي اللعنة التابعة للفشل في حفظ الناموس. "إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا" بوضعه نفسه موضع العنة على رغم كونه بريئاً من موجبات تلك اللعنة. فأصبح إذ ذاك معروضاً على أنظار العالم على صليب اللعنة "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»" الآية من تثنية 21: 23 فالمسيح بوضعه نفسه موضع اللعنة حول لعنة الناموس وحرر الآخرين من نيرها وفتح لهم طريقاً جديداً هو طريق المواعيد والبركات "لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ" المذكورين في قول الله لإبراهيم أن "بك تبارك جميع الأمم" "فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" الفادي من اللعنة المغدق البركة "لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ" الذي هو أسمى مظاهر تلك البركة. والشرط الوحيد للحصول عليها هو أن يكون لنا إيمان كإيمان إبراهيم الحي- ذلك الإيمان الحي الذي به كان الغلاطيون قد نالوا الروح فعلاً كما ذكر آنفاً.

إن مؤدي تعليم بولس هنا هو أن التقوى يجب أن تبتدئ وتستمر وتنتهي بالإيمان أي بالاعتماد الصرف على عمل الله من أجل النفس وفي النفس. وإن هذا العمل هو مجمل في المسيح في حياته وأعماله وموته وقيامته لأنه في هذه الأمور تمَّم الله بنعمته نهائياً لأجل الجميع. فالنفس بقبولها المسيح بواسطة الإيمان تنال نعمة الله الواهبة الحياة. أما اعتقاد بولس أن البشارة لابد أن تفضي إلى هذه النتائج فلم يكن عن محض نظرية لأنه كان قد اختبر تلك النتائج في نفسه ورأى المئات يختبرونها مثله فإن انبثاق الحياة الروحية والأدبية الجديدة في أولئك الناس كان أسطع برهاناً على صدق البشارة بل إن الغلاطيين أنفسهم كانوا قد بدأوا يشعرون بذلك الاختبار. والذي لم يستطع بولس تعليله فيهم أنهم بعد أن نجحوا نجاحاً باهراً في اختبار البشارة حاولوا الرجوع عن مبدأهم ليختموا حياتهم الروحية باختبار آخر فإذا كانت أعجوبة تجديدهم الروحي لم تتم بالختان ولا بإقامة طقوس الناموس فلماذا صاروا يعتقدون أنه لابد لهم من تلك الطقوس تغذية للحياة الروحية الجديدة التي كانت قد بدأت فيهم! إنهم بدأوا حياتهم بالروحيات فكيف يختمونها بالجسديات؟

كان يجب أن يعلموا أن نعمة الله في المسيح تكفيهم أولاً وآخراً وأن إيمانهم اليومي بالنعمة اليومية يفضي إلى زيادة معرفتهم كل يوم بالله وبالنفس وزيادة سلطتهم على الخطية وزيادة تقدمهم في القداسة بجميع أنواعها وزيادة تأهلهم للمجد وماذا عساهم أن يطلبوا أكثر من ذلك!

(تطبيق)

جميع هذا يأتي برسالة حية إلينا نحن الذين في مصر اليوم لأنه إذا صدق أن تلك البشارة أو الرسالة كانت حقيقة يومئذ فهي حقيقة دائماً وإذا صدق أن المسيح ولد وعاش ومات وقام من الموت فلا شك أن مغزى حوادث سيرته هذه هو كما كان قبلاً لأن يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد.

أما كون تلك الحوادث قد وقعت فعلاً فهو ما ندعو القراء إلى أن يعتقدوه- مسلمين كانوا أم مسيحيين. فالرسالة إلى الغلاطيين كتبت في أوائل الحلقة السادسة للميلاد أي بعد موت المسيح بأقل من عشرين سنة. وقد ذكر بولس أنه كان يكرز بتلك البشارة عينها مدة تزيد عن الأربعة عشر عاماً (2: 1) أي بعد موت المسيح بأقل من ست سنوات إلى زمن كتابة الرسالة التي نحن بصددها. وكان الآباء المسيحيون الآخرون واقفين على أعماله تماماً. ومع أن حقل كرازتهم كان غير حقل كرازته إلا أن الكرازة نفسها كانت واحدة فإنهم أعطوه يمين الشركة (2: 9) أي وافقوا على شهادته لحياة يسوع المسيح وموته وقيامته ومغزى هذه الحوادث بإزاء الخلاص. فههنا إجماع مطلق- إجماع الصحابة المسيحية على أهم ركن من أركان دينهم. أفليس هذا إذاً أسطع برهان على أن الكرازة المسيحية لم تكن يومئذ مختلفة عما هي عليه اليوم- منذ الساعة التي ارتفع فيها المسيح إلى السماء حتى يومنا هذا؟ فإذا أنكرنا هذه الحقيقة فليس أمامنا إلا فرض آخر وهو أن الله خدع جماعته المؤمنين به وهو أمر ممكن نظرياً مستحيل أدبياً بل غير قابل للتصور مطلقاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فحياتك أيها القارئ رهن يسوع المسيح سواء في بدئها (أي ميلادها) أو نموها (أي تغذيتها) أو ختامها (أي نيلها المجد السماوي).

  • عدد الزيارات: 1916