Skip to main content

الأصحاح الثلاثون

القسم الرابع : 30: كلام أجور ابن متقية مسا

نتناول الآن بالدرس كلام أجور؟ ذلك الرجل الحكيم الذي لمس جهله؟ كما هي الحال مع كل شخص مستنير حقاً. والعدد الأول يطالعنا بكل ما يلزمنا معرفته عن أصله:

1. كلام أجور ابن متقية مسا. وحي هذا الرجل إلى إيثيئيل. إلى إيثيئيل وأُكّال.

بعض المترجمين يأخذون الاسمين الأولين "أجور؟ متقية" على أنهما لفظان وليسا علمين. أعني أنهم يضعون الشق الأول هكذا: "كلام جامعه ابن المتقية". وهذا الوضع يفترض أن إنساناً ما؟ جمع محتويات هذا الأصحاح من مصادر مختلفة محفوظة لتعليمنا. لكن واضح أنه لا يوجد بين مترجمينا من فهم العدد بهذه الصورة. بل وأن الترجمتين الكلدانية والسريانية تحتفظان بهذين اللفظين؟ بوصفهما علمين؟ كما هي الحال في الترجمة التي بين أيدينا.

وفريق من الشراح زعموا أن أجور علم يُكنى به عن سليمان؟ وأن كلمة "متقية"؟ يكنى بها عن داود. غير أن أكثر الشراح يوافقون على أن أجور كان رجلاً ملهماً؟ لا نعرف عنه شيئاً في غير هذا الموضع من الكتاب المقدس؟ بينما لا يدلنا اسم أبيه على حقيقة أسرته؟ أو سبطه في إسرائيل. وواضح أن "إيثيئيل" الذي يترجم "الله معي" و"أُكال" الذي يترجم "القادر"؟ هما رفيقان لأجور. أو من الجائز أنهما رجلان كانا يتلقيان العلم على يديه.

وهو يبدأ وحيه؟ أو نبوته؟ بإعلان جهله؟ إذا لم تصله الاستنارة الإلهية؟ أي تلك الرؤيا التي قرأنا عنها في ص29:  18 والتي لا غنى عنها لتأهيل الإنسان في تعلم الأمور الإلهية.

2. إني أبلد من كل إنسان وليس لي فهم إنسان. 3. ولم أتعلم الحكمة ولم أعرف معرفة القدوس.

إن أجور لا يستعمل هذا الأسلوب متكلفاً؟ ولكن إحساسه الدقيق بعجزه ونقصه عن إدراك المشاكل التي سيتناولها؟ هو منشأ أسلوبه المخلص المتواضع. يشبهه في ذلك عاموس الذي لم يكن نبياً ولا ابن نبي؟ لكن الرب أخذه من مهنته العادية؟ ومنحه الموهبة التي مكنته أن يوبخ ملوكاً. لقد كان أجور إنساناً بسيطاً؟ محدود الكفاية الطبيعية؟ بحيث قد يكون دون المستوى العادي للفهم. ومع ذلك؟ فإن الرب قد مسح ذهنه وإدراكه؟ وأعلن له أموراً عظيمة وثمينة؟ ومنحه الحكمة لإبلاغ تلك العظائم؟ ليس فقط لإيثيئيل وأُكال؟ بل أبلغها كذلك لربوات من الناس الذين طالما وجدوا فيها فوائد جمّة. فقد كان واحداً من أناس الله القديسين؟ كما يقول بطرس؟ الذين تكلموا مسوقين من الروح القدس. فالوحي معناه أن يأخذ الله آلة بشرية فقيرة؟ ضعيفة؟ ويتحكم؟ أو يسيطر على فكره ولسانه وقلمه؟ لينطق أو يعلن ذات أقوال الله الأزلي.

4. من صعد إلى السموات ونـزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرّ المياه في ثوب؟ من ثبّت جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه؟ وما اسم ابنه إن عرفت؟

ما أعظم جهل الإنسان حتى الإنسان الأوفر علماً؟ حينما تتحدّاه هذه الأسئلة! ولا ننسى في هذه المناسبة ذلك التحدّي المشهور؟ يوم تحدّى الرب أيوب في الأصحاحين 38و39 من سفره العجيب. إن المعرفة البشرية في أعلى درجاتها؟ ضيقة محدودة؟ وبدون الإعلان الإلهي لن يستطيع كائن ما أن يجيب على هذه الأسئلة. خذ أولها مثلاً: هل كان له جواب قبل كلمات سيدنا عن شخصه المحبوب في قوله «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نـزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو3: 13)؟ وهو أيضاً الذي نـزل؟ كما هو مكتوب «وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نـزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نـزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف4: 9؟10).

وما أعظم وأغنى ما للمؤمن في هذا الحق العظيم الخاص بنـزول الرب وصعوده. فإنه بسبب خطايانا مات على الصليب؟ حاملاً دينونة الله العادلة. وهناك شرب كأس الغضب؟ حتى آخر نقطة فيها؟ الكأس التي ما كنا لنأتي على محتوياتها كلها طوال الأبدية. أما هو؟ فبسبب قيمة شخصه غير المحدودة؟ قد استطاع أن يشرب الكأس ويستنفد الغضب؟ غير تارك شيئاً؟ سوى البركة لجميع الواثقين فيه. لقد مات ودُفِن؟ لكن الله أقامه من الأموات؟ فصعد إلى المجد غالباً منصوراً. لقد نُقل أخنوخ لكي لا يرى الموت. واختُطف إيليا في مركبة من نار حملته إلى السماء. بيد أن واحداً منهما لم يصعد بقوته الذاتية. أما يسوع؟ وقد أتم عمله؟ وأكمل خدمته على الأرض؟ فقد صعد باختياره ومشيئته؟ واجتاز طبقات الهواء العليا؟ بنفس السهولة التي مشى بها على الأرض وعلى الماء.

إن حقيقة صعوده وارتفاعه بواسطة الشكينة (سحابة المجد والجلال الإلهي) تشهد لكمال عمله في نـزع خطايا المؤمن إلى الأبد. فلما كان على الصليب «الرب وضع عليه إثم جميعنا» (إش53: 6). ولو أن خطية واحدة بقيت عليه لما استطاع أن يوجَد الآن في يمين الله. لكن كل شيء تسوى بالعدل إلى الأبد؟ كل خطايانا انتهى أمرها ولن تعود؟ ومن أجل هذا مضى إلى السماء في قوة دمه الكريم؟ إذ أكمل الفداء الأبدي. لذلك يقول «إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً وأعطى الناس عطايا» (أف4: 8). «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس... ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية» (عب2: 14؟15).

والروح القدس يقود الخاطئ المنـزعج القلق؟ ليس إلى الكنيسة أو الفرائض الناموسية؟ ولا إلى الحاسيات؟ بل إلى المسيح المقام الصاعد والجالس في أسمى جلال ومجد! «وأما البر الذي بالإيمان فيقول هكذا:  لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء (أى ليحدر المسيح) أو مَنْ يهبط إلى الهاوية (أى ليصعد المسيح من الأموات). لكن ماذا يقول؟ الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك أي كلمة الإيمان التي نكرز بها لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خَلُصت. لأن القلب يؤمَن به للبر والفم يُعترَف به للخلاص» (رو10: 6-10). إن المسيح حمل خطايانا على الصليب ومات من أجلها ثم أقيم من الأموات؟ برهاناً على شبع الله الكامل بعمله. وصعد إلى السماء. ومكانه الآن على عرش الله كإنسان في المجد؟ دليل إيجابي على أن خطايانا قد انتهت إلى الأبد. هذا هو الذي يمنح سلاماً عميقاً دائماً.

وإذ يتحقق المؤمن أن كل شيء قد تم بطريقة توافق الله؟ وأن الذي أكمل العمل هو واحد مع الآب؟ وأن الإنسان بوصفه كائناً ساقطاً لم يكن له أي دخل في هذا العمل إلا أن يعترف بتلك الخطايا التي من أجلها مات المخلص. عندئذ فقط يشرق في نفسه جلال عمل الصليب.

«ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت؟»: إن جواب هذا السؤال كامن في إعلان العهد الجديد؟ إعلان الآب في الابن.

5. كل كلمة من الله نقية ترس هو للمحتمين به. 6. لاتزد على كلماته لئلا يوبخك فتُكَذَّب.

هذان العددان يحتويان على حقيقتين ساميتين؟ هما: كمال؟ وكفاية أقوال الله. والكتاب المقدس في مجموعه يسمى "كلمة الله"؟ كما أن أي جزء من أجزاء الكتاب يسمى كذلك "كلمة الله". وحيث أن «كل الكتاب هو موحى به من الله» (2تي3: 16)؟ كذلك كل جزء منه؟ كل نقطة؟ وكل حرف؟ موحى به من الله؟ فهو لذلك نقي وكامل في ذاته. وجميع الذين يقبلونه يجدون في الله؟ مؤلفه العظيم؟ ترساً وملجأ لنفوسهم ضد هجمات العدو. هو الحامي لكل الواثقين فيه. على أنه ما من شخص يحتمي فيه حقاً؟ ويرتاب؟ أو ينتقد أقواله الكاملة.

إن محاولة الزيادة على ما شاء الله أن يُكتب لنا؟ معناها نكران كفاية الكتاب على مواجهة ظروف الحياة؟ وحجب الضوء عن ما هو متعلق بالإيمان «المسلَّم مرة للقديسين». لم يخل عصر من العصور من أولئك الدجالين المزيفين؟ الذين حاولوا أن يضيفوا إلى الكتاب إعلانات وإضافات مدعين السلطة الإلهية لإنتاجهم المزيف. على أن الكتب المقدسة؟ بالقياس إلى تلك المحاولات الفقيرة التعسة؟ تلمع كدُرّة من درر الجمال؟ بين شظايا من الزجاج وذرات من الطين. الكتاب وحده هو الحق. وما تصنيفات البشر المصنعة سوى أكاذيب تخدع وتضلل من يعتمد عليها ويتبعها.

شاعت مؤلفات عقائدية وفلسفية كثيرة في العصر المسيحي خلال القرنين الأخيرين؟ والتي تدّعي بانها إلهية الأصل؟ لكنها لا تؤيدها أي شهادة؟ لا من الناموس أو المزامير أو النبوات أو العهد الجديد. ففي هذه المجموعة الإلهية الضخمة أعلن الله مشيئته وأفكاره ومقاصده وطرقه؟ إلى يوم يدخل القديسون المجد؟ وإلى يوم دينونة أولئك الذين يرفضون شهادته الصادقة؟ ويدوسونها بأقدامهم أو يزيدون عليها شيئاً من أفكارهم البائسة الساقطة؟ أفكار الإنسان الخاطئ. قارن تثنية 4: 2؟ 12: 32؟ كولوسي1: 25؟ رؤيا22: 18 الخ.

7. اثنتين سألت منك فلا تمنعهما عني قبل أن أموت. 8. ابعد عني الباطل والكذب. لا تعطني فقرأ ولا غنى أطعمني خبز فريضتي. 9. لئلا اشبع وأكفر وأقول من هو الرب؟ أو لئلا أفتقر وأسرق وأتخذ اسم إلهي باطلا.

إن صلاة أجور هذه تجد ترحيباً وصدى في قلب القديس في كل تدبير. ومثل صلاة يعبيص المؤثرة المذكورة في 1أخبار4: 10 والتي تشبهها إلى حد كبير؟ هي صلاة تليق بأي واحد من أولاد الله؟ حتى ولو تعلم من النعمة أن يقول «قد تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه... قد تدربت أن أشبع وأن أجوع وأن أستفضل وأن أنقص» (في4: 11؟12). فإنه حينما يكون القلب مشغولاً بالمسيح؟ حينئذ فقط ينتصر القديس على كل الظروف. وكل من يعرف نفسه يدرك جيداً لماذا صلى أجور طالباً ظروفاً معتدلة؟ إذا كان ذلك بحسب مشيئة الله. فهو لم يخامره سوء ظن بكفاية القوة الإلهية لحفظه في أي حالة؟ بل كان يسئ الظن بنفسه.

وأولى هاتين الطلبتين اللتين طلبهما من الرب هي أن يُحفظ من الإثم. كان يرجو من الرب أن يبعد عنه «الباطل والكذب»؟ ذلك أن إنسان الله يخشى الخطية ويبغضها. ويستحيل على الطبيعة الجديدة التي فيه أن تجعله سعيداً وهو سائر في طريق شرير. لأن القداسة هي هناؤه ومسرته. ومن هنا؟ فهو يئن طالباً الخلاص من الجسد؟ ذلك المبدأ الأثيم الذي بين جنبيه؟ والذي هو ضد الطبيعة الجديدة. فالشخص الذي يعترف بأنه مسيحي؟ وهو من الناحية الأخرى يجد لذة في الباطل والكذب؟ إنما يكشف حقيقته أنه لا يزال غريباً عن الولادة الجديدة. إن كراهية الإثم والحنين إلى الخلاص منه؟ ليس فقط من قوة الروح القدس؟ بل من ذات وجوده؟ وهو أحد الأدلة على أن عمل الله قد تم في النفس؟ حتى لو قلّ إدراكها لحقائق الإنجيل الكريمة التي تمنح سلاماً. فيستطيع القديس الشاب؟ كما والقديس المتقدم في الأيام؟ أن يتمثل بأجور في طلبته «ابعد عني الباطل والكذب».

والطلبة الأخرى ذات صلة بالأمور الوقتية؟ وجديرة بالملاحظة. إنما نستطيع أن نفهم جيداً أن إنساناً يطلب من الله أن يعفيه من الفقر؟ لكنه غير مألوف أن نرى واحداً يتهيّب الثراء ويطلب حفظه من الغنى. لقد كان أجور يخشى الفقر المدقع لئلا يكون فرصة لحركات الجسد في حالة الضعف؟ فيقوده إلى عدم الأمانة؟ ويجلب عاراً على اسم إلهه. لكن الغنى أيضاً كان شيئاً يخافه. فمن المعروف أن الناس يزدادون استقلالاً عن الله كلما ازدادت خيراتهم الزمنية. «سمن يشورون ورفس» (تث32: 15). والأغنياء معرضون لكثير من الشراك التي يعرف القليل عنها أولئك الذين هم في ظروف معتدلة. وهذا قد لاحظه أجور. من أجل ذلك لم يكن يرغب أن يمرح في الرفاهية. وإنما أراد أن يشبع بالطعام الذي يلائم مكانته في الحياة؟ وكان يتمنى؟ إذا شاءت مشيئة الله؟ أن يشغل مركزاً وسطاً بين هذين المتناقضين: الفقر العميق والثراء العريض. وعلى قدر ما نـزداد في الحكمة والتقوى يزداد تقديرنا وتمسكنا بطلبتي أجور.

10. لا تشك عبداً إلى سيده لئلا يلعنك فتأثم.

إن ظروف العبد؟ في أحسن حالاته؟ قاسية. فالشخص الذي يشكو عبداً من هذا الصنف لسيده؟ سواء بحق أو بغير حق؟ عرضة لأن يبغضه هذا العبد. وإذا ثبت بطلان شكواه؟ فإن هذا العبد المحتقر المكانة يخجله.

وعند تطبيق هذا المبدأ على المسيحيين؟ ما أحوجنا أن نتذكر حالة الإهمال ونقص الاهتمام التي تجعل قديساً يحكم على خدمة شريكه في عمل الرب «من أنت الذي تدين عبد غيرك؟ هو لمولاه يثبت أو يسقط… فلا نحاكم أيضاً بعضنا بعضاً بل بالحري أحكموا بهذا أن لا يوضع للأخ صدمة أو معثرة» (رو14: 4؟13).

11. جيل يلعن أباه ولا يبارك أمه. 12. جيل طاهر في عيني نفسه وهو لم يغتسل من قذره. 13. جيل ما أرفع عينيه وحواجبه مرتفعة. 14. جيل أسنانه سيوف وأضراسه سكاكين لأكل المساكين عن الأرض والفقراء من بين الناس.

تستعمل كلمة "جيل" هنا؟ كما في مواضع كثيرة من الكتاب؟ لوصف طبقة معينة من الناس يتصفون بمميزات معينة؟ كما يوم تحدث ربنا العزيز عن اليهود باعتبارهم «جيل شرير وفاسق». وأعلن أن ذلك الجيل لا يمضي قبل رجوعه من السماء. فإذا كنا نفترض أن سيدنا له المجد يعني بكلمة "جيل"؟ قدراً من السنوات ثلاثين أو أربعين سنة مثلاً؟ فمعنى ذلك أننا نلقى بنبوة سيدنا في مجاهل الغموض.

وأجور يرسم في هذه الأعداد مخططاً لجيل بني الكبرياء؟ لكي نتعلم ونكون على حذر. وإذ هم أنانيون؟ فإنهم لا يعترفون بمديونية للوالدين؟ بل يلعنون الأب ولا يباركون الأم. وإذ تدنسوا بأقذار خطاياهم؟ فإنهم برغم ذلك؟ طاهرون في أعين أنفسهم؟ وكل منهم ينادي بصلاحه (راجع ص20:  6).

يرفعون أعينهم ويتعالون بحواجبهم؟ وبذلك يظهرون وقاحتهم وسلاطتهم المتعجرفة؟ بينما لو حاولت أن توبخهم؟ أو تشعرهم بحقيقة حالهم في نظر الله؟ فإنهم يتحولون عليك ساخطين كأنهم وحوش ضارية؟ على استعداد لتمزيقك بأسنانها؟ التي هي كسيوف وسكاكين. وحتى حيث لا إثارة ولا استفزاز؟ فإنهم قساة وغدارون؟ يلتهمون الفقراء والمساكين. راجع ص6:  17؟ 21:  4.

هذا هو الجيل الذي تركز في طبقة الفريسيين؟ الباردين المتكبرين؟ الذين من خارج أنقياء ولا عيب فيهم؟ بينما هم سراً يلتهمون بيوت الأرامل؟ ولا يعبأون بصراخ الفقراء. هذا هو الإنسان في برّه الذاتي. وهذه هي صفات الجميع لولا نعمة الله الغنية التي جعلت بعضاً يخالفون هذه المجموعة الضالة.

15. للعلوقة بنتان:  هات هات. ثلاثة لا تشبع أربعة لا تقول كفا. 16. الهاوية والرحم العقيم وأرض لا تشبع ماء والنار لا تقول كفا.

مع أن قلب الإنسان متكبر؟ يعتمد على ذاته؟ فإنه لا يشبع مطلقاً. يأكل ولا يشبع؟ مثل العلوقة؟ هذه الدودة الشرهة التي لا تشبع. وربما كانت بنتاها مجرد أسلوب مجازي للتدليل على مميزات وخواص مصّاصة الدماء هذه. أما هذه التسمية التي تطلق على البنتين. فهي من باب الإفصاح عن عاداتهما الرهيبة.

وأحب أن يلاحظ القارئ دلالة استخدام الرقمين "ثلاثة وأربعة" بهذا الأسلوب الفريد البديع. فهنالك ثلاثة لا تشبع: الهاوية وهي العالم غير المنظور الذي تذهب إليه باستمرار وبغير انقطاع أرواح الأموات. ثم الرحم العقيم. ثم الأرض التي يهطل عليها المطر بلا انقطاع؟ عبثاً. لكن أربعة لا تقول كفا. وهنا يضيف الحكيم "النار" على الثلاثة الأولى. فالنار تظل تلتهم؟ وتلتهم؟ حتى يفرغ كل ما يمكن أن يصل إليها. وعندئذ تكف النار عن الاشتعال مرغمة؟ لأنه لو بقى شيء من مواد الاشتعال؟ فإن النار تظل؟ وتظل تتلف كل ما يصل إليها.

هذه جميعاً ليست إلا صوراً تعبّر عن التشوّق القلق؟ والحنين الذي لا يستقرّ؟ ذلك الشيء المغروس في الإنسان بالسقوط. فإن العالم بكل ما يحتويه؟ لا يكفي لإشباعه. قال القديس أغسطينوس:  "لقد صنعتنا يا رب لذاتك؟ وقلوبنا لن تجد لها مقراً حتى تستريح فيك". ولكن ما أبطأ الإنسان في تعلم الدرس!

17. العين المستهزئة بأبيها والمحتقرة إطاعة أمها تقورها غربان الوادي وتأكلها فراخ النسر.

راجع ع11. هي حقيقة مشهورة أن الغربان والنسور؟ وكثير غيرها من الجوارح تبدأ هجومها على فرائسها؟ جثة كانت أم طائراً أو شخصاً حياً؟ بقلع عينيها. وكأنها قد تعلمت بالغريزة أن الفريسة تصبح عاجزة إذا زالت قوة إبصارها. فالمتمرد الساخر المستهزئ؟ يصيبه السوء بطريقة مماثلة لهذا الوصف. فإنه على حين غرة؟ يحرم من قوة الإبصار ويعثر في الظلام؟ ويحاول عبثاً أن يطارد الأعداء التي بددت هناءه؟ بل وأنه ليتمنى أن تنتهي حياته. وهذه هي شريعة الجزاء التي لا مهرب منها. وكم من الآباء الذين تنكسر قلوبهم بسبب ضلال ابن عاق أو ابنة عاقة؟ يذكرون في حسرة وندم كيف أنهم أظهروا مثل هذا التمرد على آبائهم وأمهاتهم (مع أنهم رحلوا من العالم) الذين كانوا يكتئبون بسبب عدم خضوع أولادهم لسلطانهم. إن هذه الأمور تطغى على الذاكرة بقوة ساحقة كاسرة.

18. ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة لا أعرفها. 19. طريق نسر في السموات وطريق حية على صخر وطريق سفينة في قلب البحر وطريق رجل بفتاة. 20. كذلك طريق المرأة الزانية. أكلت ومسحت فمها وقالت ما عملت إثماً.

مرة أخرى نأتي إلى الثلاثة والأربعة التي يتميز طريق كل منها عن الآخر. إن كل كفاية الإنسان تعجز عن تعليل موضوع العجب في هذه الأربعة. غير أن ثلاثة منها هي التي يستحيل عليه إدراكها. فمن المستحيل عليه أن يتعقب آثار طرق النسر المتنوعة في الهواء؟ أو طريق حيّة على صخر؟ أو طريق سفينة في قلب البحر؟ أما طريق رجل بفتاة؟ يسيطر سيطرة كاملة على فكرها وإرادتها؟ فمع أن أحداً لا يستطيع أن يفسرها؟ لكن هناك حوادث وأمثلة كثيرة عليها.

كذلك طريق المرأة الزانية؟ فضميرها قد تقسّى؟ وتعيش في خطيتها؟ ولكنها مثل من يأكل ويمسح فمه؟ ويمحو آثار الطعام وعملية الأكل؟ تخفي إثمها وتقول في جرأة عجيبة: «ما عملت إثماً».

مكتوب «لكي لا يقسى أحد منكم بغرور الخطية» (عب3:  13). وهي أقوال يجب أن نحفظها جيداً في أذهاننا فالإنسان طالما يعتذر عن الخطية؟ أو يتساهل معها؟ كما لو لم يكن مسئولاً عنها أدبياً؟ وقد يعتبرها بعض الناس مرضاً عقلياً أو جسمانياً؟ وليس إثماً سيعطي عنه فاعله حساباً. غير أن الله أعلن بكامل الوضوح أنه «يحضر كل عمل إلى الدينونة؟ على كل خفي إن كان خيراً أو شراً» (جا12:  14).

21. تحت ثلاثة تضطرب الأرض وأربعة لا تستطيع احتمالها 22. تحت عبد إذا ملك وأحمق إذا شبع خبزاً. 23. تحت شنيعة إذا تزوجت وأمة إذا ورثت سيدتها.

الثلاثة الأولى البغيضة مقلقة جداً؟ أما الرابعة فتقلب نظام البيت رأساً على عقب.

فالعبد الذي يملك يشبه العاصفة الكاسحة والمطر الجارف (ص28:  3). لم يكن شيئاً غير مألوف في الشرق أن يرتفع عبد أو خادم إلى مركز السلطان فجأة بسبب أحداث غامرة كالخيانة مثلاً كما في حالة زمري (1مل16:  1-20)؟ أو المحسوبية؟ كما في أمر هامان الوضيع. والملاحظ أن الأشخاص ذوي المولد الوضيع؟ إذا ما تسلموا ذرى السلطان؟ يكون حكمهم على المواطنين أقسى من ذوي المكانات الرفيعة. وقد قال أحدهم: "إن العبد إذا ملك يصبح أقسى الأسياد وأكثرهم وتعسفاً". ويعادله في الضجة والإزعاج؟ الأحمق (أو الفظ) الذي يشبع بالطعام؟ أي يتوفر لديه كل ما يرغب أو يشتهيه القلب؟ فإذ هو يتقلب في الوفرة يحتقر المعوز ويزعم أن مقتنياته تؤهله للاحترام والاعتبار؟ مع أنه مجرد من كل فضيلة؟ كما كان نابال زوج أبيجايل الذي سبقت الإشارة إليه.

وتكملة هذا الثالوث التعس "الشنيعة إذا تزوجت". فإذ هي غير محبوبة؟ وذات مزاج حقود محب للانتقام. فإنها تقوّض سلام وهناء زوجها ومن يلوذ بها.

على أن الأمثولة الرابعة هي الأكثر رعباً وإزعاجاً فيما يتعلق بأمر التدخل في نظام البيت. الترجمة السبعينية تضع هذه الفقرة هكذا: "وأمة إذا أخذت مكان سيدتها"؟ فإذا عرض لأحدهم أن استخدم أمة كجارية؟ استطاعت أن تستميل عواطف الزوج؟ وتقصي زوجته وأولاده؟ فإن هذا الرجل البائس يكون قد أدخل الخراب الكاسح في داره. ومن أسف أن الأمثلة على هذه الظاهرة ليست قليلة. وكم ذا حطمت آلافاً من الأسر. فكم هو شيء هام أن نكون على حذر ضد أول طلائع الود النجس الذي يلد مثل هذه الآثار القاتلة!

24. أربعة هي الأصغر في الأرض ولكنها حكيمة جداً. 25. النمل طائفة غير قوية ولكنه يعد طعامه في الصيف. 26. الوبار طائفة ضعيفة ولكنها تضع بيوتها في الصخر. 27. الجراد ليس له ملك ولكنه يخرج كله فرقاً فرقاً. 28. العنكبوت تمسك بيديها وهي في قصور الملوك.

هذه الأربعة الحكيمة صورة إنجيلية بديعة.

1- لقد تأملنا من قبل في عادات النمل في فلسطين (ص6: 6-8). فنحن إذاً مهيئون لإدراك هذه الحقيقة؟ وهي أن حكمة النمل هي الاستعداد للمستقبل؟ لذلك تحرص أن تخزن ما سوف يكون طعاماً لها بعد ما تمضي أيام الصيف البهيجة؟ وتأتي أيام الشتاء البارد؟ حيث يصعب عليه السعي للحصول على الطعام. والإنسان يظهر هذه الحكمة عينها في الأمور المادية. فهو يعمل حساباً للأيام القادمة؟ يوم تعوقه الصحة المتهدمة والشيخوخة الهارمة عن الكد الدائب. ولكن أليس هو أمراً يدعو للدهشة أن الناس الذين يُظْهرون هذا الاهتمام العجيب فيما يتصل بأمور هذه الحياة؟ يغفلون عن إظهار مثل هذا الاستعداد إزاء أبدية لا تنتهي؟! أبدية تنبئ كل لحظة تمضي؟ إنها أقرب مما يظنون؟! وإذ ينسون العصور التي تعقب هذه الحياة القصيرة يضيعون الفرص الذهبية التي لن تعود؟ ويندفعون متجاهلين حاجة نفوسهم وحقيقة الخطر المرعب الذي بعد الموت؟ ومكتوب «كما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة هكذا المسيح أيضاً بعد ما قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» (عب27: 9؟28). هنا نقرأ عن خطر داهم قادم؟ كما نقرأ عن واحد يستطيع هو وحده أن يخلّص منه. لكن غالبية الناس لا يعنون إلا بهذا الحاضر العابر ويغفلون المستقبل الأبدي.

ولمثل هؤلاء تنادي النملة الصغيرة نداءً صارخاً في آذان من يصغي؟ «اهربوا من الغضب الآتي». «استعدوا للقاء إلهكم» النملة كارز عملي أيضاً لأنها تعلِّم بالعمل. فإذ تأبى على نفسها أن تفلت من يديها ساعات الصيف الذهبية؟ كما يفعل العابثون من الناس الذين يضيعون شبابهم دون أن يتهيأوا للأبدية. فإنها بكل أمانة تستغل الحاضر للمستقبل.

هي حكيمة حقاً؟ تصور ما يجب على الناس أن يتعلموه. فإذا كان القارئ لم يخلص بعد؟ إذا لم يكن قد أتى بعد إلى المسيح لتصفية أموره الأبدية؟ فليسمع صيحة رئيس النوتية في آذان النبي الهارب «مالك نائماً؟ قم اصرخ إلى إلهك» (يون1:  6). فإذا لم تسارع باليقظة فإنك ستستيقظ وقد فاتتك الفرصة يوم تعلم أن أيام الاستعداد قد انتهت. والأبدية قد بدأت وأنت بعد لم تخلص وتبقى بدون المسيح إلى الأبد!

2- أما الشخص الذي تتوق نفسه للنجاة من الدينونة القادمة؟ فله أيضاً رسالة من الوبار تحدثه عن الملجأ الأمين الوحيد. والوبار حيوان صغير يشبه كثيراً الأرنب الصغير حجماً وشكلاً ولوناً. وبسبب رجليه المستديرتين؟ ذات العنصر اللين اللدن؟ لا يقدر أن يحفر؟ ولذلك لا تلائمه الإقامة في الأوجرة مثل الأرانب بل في شقوق الصخور يقيم. ويسمى في الأصل العبري "شافان". وهو وارد في قائمة الحيوانات غير الطاهرة في لاويين11:  5؟ 14:  7 ذلك مع كونه يجتر لكنه لا يشق ظلفاً. وفي سفر المزامير إشارة إلى نفس الحقيقة التي يتحدث عنها سفر الأمثال «الجبال العالية للوعول والصخور ملجأ للوبار» (مز 104: 18). فإذ يرى نفسه ضعيفاً لا يقوى على صد أعدائه؟ ويعجز عن إقامة بيت يقيه؟ فإنه يجد في شقوق الصخور ملجأً مناسباً يأمن فيه قوة القاتل ويقيه غضبة عناصر الطبيعة. حقاً هي صورة واضحة؟ فحين كان يكتب الرسول عن الصخرة التي تفجرت منها المياه في البرية؟ قال «والصخرة كانت المسيح» (1كو10:  4). وهنا أيضاً نسمع الصخرة تتحدث عنه كمن هو وحده ملجأ الخاطئ. فكما أن الوبار الضئيل؟ النجس الضعيف؟ يهرب إلى الصخور؟ وهناك يأمن؟ هكذا يفعل الخاطئ النجس؟ الذي لا عون له؟ حينما يوقظه الإحساس بحاجته القصوى؟ وتنذره العاصفة التي توشك أن تهب على رؤوس الذين يهملون خلاص الله؟ فإنه يهرب لاجئاً إلى الرب يسوع المسيح ويجد فيه ملجأً أميناً؟ مباركاً لا يقربه عدو؟ ولا تدنو منه دينونة.

في شقوق الصخور إذاً يختبئ الوبار. وفي المخلص المجروح من أجل خطايانا؟ والذي سحقته دينونة القدوس؟ تجد النفس المؤمنة مخبأً ساتراً. فهل وجدت يا عزيزي القارئ ملجأً في المسيح؟ أرجوك يا صديقي؟ إذا كنت لا تزال عرضة لغضب الله؟ أن تكف عن مساعيك لخلاص نفسك؟ الأمر الذي لا ينتهي إلا بالخيبة المريرة؟ واهرب إلى الرب يسوع؟ وهو لا يزال يرسل دعوة السلام «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت11:  28).

3- والجراد هو الطائفة الثالثة. فمع أنه ليس لها رئيس منظور أو قائد؟ لكنه يخرج فرقاً فرقاً؟ كالجنود في كتائبهم المعينة وهو على درجة من التنظيم؟ بحيث يبدو كأنه يأتمر بتعليمات محددة وفي تنسيق دقيق. ولأولئك الذين وجدوا ملجأ في المسيح يقدم الجراد قدوة في الخضوع الواحد للآخر؟ ثم خضوع الكل لرأسنا غير المنظور الموجود في السماء. وإنها لقدوة تخجلنا ونحن نتأمل في حالة شعب الله المحطمة المشتتة؟ وفي نصيبنا في هذا الخراب المريع..

إن جسد المسيح يبدو في نظر العالم؟ ونظر الكنيسة الاسمية؟ فريقاً غير متجانس؟ تشكيلة من الناس؟ لا قائد لهم ولا رابطة توحدهم؟ لكن يسوع نفسه الذي مات من أجل خطايا شعبه هو جالس الآن في أعلى مجد؟ وقد جعله الله رأساً لكل الذين افتدوا بدمه الكريم. والروح القدس الذي أُرسل من السماء بعد صعوده هناك كإنسان؟ ساكن الآن في كل مؤمن؟ وهكذا يربطهم معاً في جماعة كبيرة واحدة «أعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر» (رو12:  5).

هذا شيء مبارك حقاً؟ فمتى أدركته النفس؟ يقودها إلى الحكم على كل ما يناقض حقيقة الكنيسة كما هي معلنة في الكتاب. فإذا كان هناك «جسد واحد» وكلمة الله لا تعرف سواه؟ فعليّ أن أعترف بعضويتي في هذا الجسد وحده. وبالطاعة للحق؟ أسلك كما يحق للدعوة التي دعيت بها.

إن الجراد يعمل معاً؟ وهذا هو مظهر حكمته. وهكذا ينبغي أن تكون الحال مع جسد المسيح. وأما الانقسامات والبدع؟ فهي خاطئة ومن أعمال الجسد؟ «لأنكم بعد جسديون فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر؟» (1كو3: 3).

والرسول يحرض القديسين أن يسلكوا معاً بالمحبة والشركة «مجاهدين بنفس واحدة لإيمان الإنجيل» والرسالة إلى أهل فيلبي؟ طولاً وعرضاً؟ تشدد على هذه الوحدة الكريمة؟ وكذلك رسالة كورنثوس الأولى التي يقول الرسول فيها «ولكني أطلب إليكم أيها الاخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تقولوا جميعكم قولاً واحداً ولا يكون بينكم انشقاقات بل كونوا كاملين في فكر واحد ورأي واحد» (1كو1:  10). هذا هو درس الجراد. فليت لنا نعمة حتى نتعلمه في حضرة الله.

4- والآن نأتي إلى العنكبوت. إن الكلمة العبرية (شيمامث) تشير إلى حشرة تعيش في المنازل ويكثر في أرض فلسطين. ولها مزاج غريب لصنع الستائر الدقيقة. وهي تستخدم قدميها الأماميتين بكثرة كما لو كانت "يدين" تمسكان طعامها الذي هو غالباً من الذباب؟ تقبض عليه وهي تلتهمه التهاماً. وتحت كل واحد من أصابع قدميها؟ كيس كالإسفنج يحتوي على سائل لزج فحينما تجري على حائط رخامي أو سقف ناعم؟ فإن هذه المادة تنضح وتعينها على أن "تمسك بيديها" الأسطح الناعمة المنـزلقة؟ التي لا يمكن إخراجها منها بسهولة.

يحدثنا هذا عن قوة الإيمان. اليد التي يستطيع المؤمن أن يمسك بها حق الله الثمين. ويدخل في البركة التي يريد الله أن يمتع بها كل خاصته. وهذا هو الذي يوجدنا في قصر الملك ويكفل لنا منـزلاً أبدياً في بيت الآب.

عجيبة هي النعمة التي تهب كل من يؤمن بالرب يسوع المسيح مكاناً في السماويات الآن. بيد أن هذا هو نصيبنا السعيد لأن «الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح. بالنعمة أنتم مخلصون. وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع. ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع» (أف2:  4-7). ونحن الآن فيه. لقد صعد إلى الأعالي كممثلنا. وقريباً سنكون معه؟ لكي نتمتع بالوجود معه إلى الأبد. وطوبى لمن يتعلم رسالة هذه الأربعة الحكيمة.

29. ثلاثة هي حسنة التخطي وأربعة مشيها مستحسن. 30. الأسد جبار الوحوش ولا يرجع من قدام أحد. 31. ضامر الشاكلة والتيس والملك الذي لا يقاوم.

الكلام صحيح عن الثلاثة المخلوقات الأولى من أنها جميلة الخطى؟ الأمر الذي من العسير تطبيقه على الملك. ولأنه جليل ومجيد؟ فإن مشيه ظريف. ومن هنا يدخل في الجدول الثاني.

1- يتصف الأسد بالجرأة وعدم التراجع. ويحدثنا عن الشجاعة المقدسة التي ينبغي أن تميز الجندي المسيحي وهو يجاهد من أجل «الإيمان المسلّم مرة للقديسين» (يه3)؟ وهو مطالب أن يقدم في إيمانه «فضيلة» (2بط1:  5)؟ أي شجاعة صادقة لكي يقاوم في اليوم الشرير ولا يتراجع أمام أحد. وإذ يقول الرسول بولس «حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كو12:  10)؟ لا يقصد مجرد الجراءة الطبيعية؟ أو الإصرار العنيد؟ وإنما يشير إلى قوة الضعف التي لا تُقاوم؟ قوة الضعف التي ترتكز على الله.

2- والثاني في هذه المجموعة؟ هو «ضامر الشاكلة». وتأخذه ترجمات كثيرة على صور متباينة. فواحدة تقول أنه الكلب السلوقي؟ أو حيوان الزراف؟ أو الديك. غير أن أصل الكلمة يعني «متمنطق الحقوين». وهذ ينطبق على كل مخلوق يتصف بالرشاقة والخفة. وبغضّ النظر عن اختلاف الترجمة؟ فإن الدرس واضح وضوحاً كافياً. فكما أن الحيوان المتمنطق الحقوين لا يهدأ حتى يصل إلى غرضه؟ أو الهدف الذي يسعى إليه. هكذا على القديس أن يسعى خفيفاً مسرعاً؟ لا تحوله زخارف العالم وأباطيله الخداعة. هو إذاً ذاك العدّاء الراكض في السباق. «أيها الاخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئاً واحداً إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع» (في3:  13؟14). هكذا يجب أن يكون اتجاه المسيحي. فإذ ليس له هنا مدينة باقية؟ فلا ينبغي أن يتوقف لكي يعبث بتوافه الأرض؟ بل ممنطقاً حقويه ومثبتاً عينيه على المسيح؟ يسرع في ركضه لكي ينال الجعالة «لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا. ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي فجلس في يمين عرش الله» (عب12:  1؟2). أجل؟ فقد كان سيدنا المثل الأعلى للنـزيل السائح "الممنطق الحقوين" أبداً؟ الذي اجتاز هذا العالم غريباً؟ ولم يلقَ هنا سوى التعب والحزن؟ ولكن الآن قد كمل فرحه في المجد.

3- أما التيس فهو "المتسلق"؟ وإذ هو يرفض الوديان المنخفضة؟ غير الصحية غالباً؟ تراه يصعد عالياً عالياً إلى التلال الصخرية وقمم الجبال «الجبال العالية للوعول» (مز104:  18)؟ وإذ يتنسم الهواء البهيج في "الجبال العالية" فإنه يجد متعة وأمناً في عزلته. والدرس هنا بسيط وواضح. فالمسيحي؟ هو نظير حبقوق؟ يمشي على المرتفعات؟ ولذلك يستطيع أن يفرح في يوم الضيق ويبتهج بإله خلاصه؟ ولو تجرد من كل أمور الأرض (حب3:  17-19). أجل؟ ومن ذات نفس القديس المتسلق تصدر نغمة لرئيس المغنين على ذوات الأوتار.

إن التفكير السماوي يرفع النفس فوق ضباب هذا العالم الشرير البائس؟ ويمكّن القديس أن ينظر الأمور من زاوية الله «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله » (كو3:  1-3). هذا هو الدرس الذي نتلقاه من "التيس". فليت كل مؤمن يدخل فيه.

4- وآخر القائمة: الملك خارجاً في قوته؟ ولا مقاومة في وجهه. هذا هو الغالب؟ رجل الإيمان؟ الذي جعله الله ملكاً؟ والذي تزداد كرامته بالأكثر حينما يسلك بالتواضع والوداعة فيوسط هذا المشهد؟ مستمداً كل موارده من فوق؟ وليس من تحت. وعظيمة هي الكرامة التي أضفيت على جميع المفديين. فإذ هم ليسوا بعد «أبناء ليل»؟ بل «أبناء نهار»؟ فإنهم مدعوون لأن يغلبوا العالم في قوة الحق؟ الذي خصصته النفس لذاتها بالإيمان وقد كان إبراهيم ملكاً من هذا الطراز يوم خرج من حضرة "ملكي صادق" لكي يواجه ملك سدوم؟ الذي هزمه بطريقة تختلف عن الطريقة التي هزم بها المؤامرة التي تزعمها "كدرلعومر" (تك14). وإلهنا الكريم يريد لكل مؤمن أن يكون هكذا. على أننا إذا شئنا أن ندخل في هذا؟ فيجب أن نأخذ مكاننا بجانبه؟ حاسبين أغنى كنوز الأرض نفاية «هذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا» (1يو5:  4). وإذ يتشدد إنسان الله بالإيمان؟ فإنه يستطيع أن يزن الحاضر في نور المستقبل. ومع أنه قد يحسب كغنم للذبح لكنه يستطيع أن يهتف قائلاً «لكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو8:  37).

32. إن حمقت بالترفع وإن تآمرت فضع يدك على فمك. 33. لأن عصر اللبن يخرج جبناً وعصر الأنف يخرج دماً وعصر الغضب يخرج خصاماً.

بعد ما رسم أجور في أمثاله؟ كرامة القديس؟ والمسلك الجدير به؟ فإن كلمته الأخيرة تحريض على الحكم على الذات؟ حتى لا ينسى القديسون دعوتهم المقدسة؟ فلا يرفعون أنفسهم بحماقة؟ ولا يتكلمون أو يتصرفون بنية شريرة. فإذا لم تكن الأفكار نقية؟ فإن الكلام يكون خطراً جداً. وخير أن أضع يدي على فمي من أن أقاوم ما هو ظالم.

من اليسير أن أعمل على إثارة الغضب؟ أي أن أثير آخر فيغضب. ولكن مثل هذه الحركة تنبئ عن نفس مقطوعة الشركة مع الله؟ وعن روح غير خاضعة لكلمته. فكما أن عصر اللبن يخرج جبناً. وعصر الأنف يخرج دماً؟ هكذا الخصام يتخلف عن الإثارات غير الضرورية. «وعبد الرب لا يجب أن يخاصم »؟ بل هو مطالب أن يظهر الوداعة واللطف الذي تميز به كل ما قاله الرب يسوع وكل ما عمله. أما الكلمات القاسية والمعاملات العنيفة؟ فلا تليق بإنسان شملته الرحمة الإلهية؟ ويُنتظر منه أن يُظْهر أحشاء المسيح حتى من نحو أعدائه.

بهذه الرسالة تنتهي خدمة أجور لنا. فمع أنه غير معروف؟ إلا من خلال هذه المجموعة من الأقوال الحكيمة التي حفظت لبنياننا في هذا الأصحاح؟ لكن ما أعظم الخسارة التي كنا نخسرها لو أن روح الله لم يدخل خدمته هذه؟ في نطاق السفر كله.

  • عدد الزيارات: 3883