Skip to main content

مقدمة

"كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح"(2تي3: 16و17) وسفر النشيد هو بكل يقين أحد أجزاء هذا الكتاب الموحى بها من الله والنافعة للتعليم[1]، وكل مسيحي حقيقي هو في حاجة مستمرة إلى التعليم والاستفادة منه كما من بقية أسفار الكتاب المقدس.

إلا ان هذا لا يتعارض مع الحقيقة الواضحة وهي ان سفر النشيد هو كغيره من أسفار العهد القديم "نبوي" وواضح ان أسفار العهد القديم النبوية تدور بكيفية مباشرة حول معاملات الله مع شعبه الأرضي _إسرائيل أو الأمم التي لها ارتباط بإسرائيل، وليست لها علاقة مباشرة بالعهد الجديد أو بالحري الكنيسة التي هي جسد المسيح وعروسه السماوية[2] لان الكنيسة كانت بالنسبة للعهد القديم كنـزا مخفى في حقل وجده إنسان فأخفاه (مت13: 44). لقد كان ذلك الكنـز مخفى والإنسان (أي يسوع) الذي وجده أخفاه ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له _فقد "أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب". (في2: 7و8). نعم لقد كان ذلك الكنـز غير معروف من قبل، أو بالحري كانت الكنيسة "سرا مكتوبا منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح"(أف3: 9) "الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه (أنبياء العهد الجديد) بالروح"(أف3: 5).

هذه الحقيقة فاتت كثيرين حتى من المسيحيين الحقيقيين فظنوا ان هذا السفر يصور بكيفية مباشرة محبة المسيح الطاهرة للكنيسة والوحدة السرية الكائنة بينهما حتى ان إحدى الترجمات الإنكليزية للكتاب المقدس (A.V.)قد أثبت هذا الفكرة في العنوانات التي وضعتها لإصحاحات هذا السفر، ووضعت أمامها شواهد من العهد الجديد عن وحدة المسيح والكنيسة كأنها مفسرة لهذا السفر.

ولكن آراء كهذه سببت ضررا وسوء فهم لأقوال العهد القديم، وذلك لتطبيق كل بركة مذكورة فيه على الكنيسة، فالرب قد بارك وسيبارك آخرين ليسوا من الكنيسة ولا سيما شعبه القديم (أنظر رو11) وهو تبارك اسمه يستعمل اصطلاحات إعزاز ومحبة خاصة بشعبه الأرضي فيقول لتلك الأمة "واخطبك لنفسي إلى الأبد واخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. اخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب"(هو2: 19و20) "من أجل صهيون لا أسكت ومن أجل أورشليم لا اهدأ حتى يخرج برها كضياء وخلاصها كمصباح يتقد.. وتكونين إكليل جمال بيد الرب وتاج ملكيا بكف إلهك. وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك"(أش 62: 1-5) "في ذلك اليوم يقال لأورشليم لا تخافي يا صهيون لا ترتخ يداك. الرب إلهك في وسطك جبار. يخلص. يبتهج بك فرحا. يسكت في محبته. يبتهج بك بترنم"(صف3: 16و17) "جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير... فيشتهي الملك حسنك"(مز45: 9-11). هذا القول يتفق مع يوم قادم عندما تدعو تلك الأمة الرب يهوه "رجلي" أي زوجي وليس "بعلي" أي سيدي (هو2: 16) هذا _ بلا شك _ هو مفتاح سفر النشيد، وهذه هي الوحدة التي يتكلم عنها هذا السفر، وكلمات العواطف الحبية المتبادلة هي بين المسيح كالمسيا الذي هو يهوه والبقية من شعب الرب الأرضي التي سيؤتي بها للبركة، ويجب ان لا تفوتنا هذه الحقيقة الهامة وهي ان المقصود بكلمتي "عريس وعروس" هو تصوير روحي ومعنوي لعلاقة المحبة المقدسة المتبادلة بين الرب وخاصته فقد تنازل تبارك اسمه ليقرب خاصته إليه وليلصقهم بنفسه كعروس له وهو العريس.

ان للرب يسوع المسيح "ابن الله الحي" عروسا سماوية وهي الكنيسة "العروس امرأة الخروف" المعبر عنها بأورشليم السماوية (رؤ19: 7-9، 21: 9-21) كما ان له باعتباره المسيا _ "الملك" عروسا أرضية وهي عروس سفر النشيد1، المعبر عنها بأورشليم الأرضية (أش62: 1و3-5، هو2: 19و20، مز45) أليس للرب سيدنا _له المجد قلب كبير مليء بالمحبة فيستطيع ان يضم إليه عروسيه: السماوية والأرضية؟

مما تقدم يرى بوضوح ان عروس سفر النشيد ليست الكنيسة كما أنها ليست مجرد شخص ولكنها صورة رمزية للبقية التقية المعبَّر عنها بأورشليم الأرضية أو (صهيون) التي كتبت أسماؤها منذ تأسيس العالم وفي صحبتها الأمناء والأتقياء في إسرائيل مستقبلا المعبر عنهم "ببنات أورشليم" وهذا يتفق مع لغة هذا السفر في أماكن عديدة. مثال ذلك: "اجذبني" (بالمفرد)-"فنجري" (بالجمع)..... -"أدخلني الملك" (بالمفرد) -"نبتهج ونفرح" (بالجمع).. (ص1: 4).

وإذا صار هذا كله مفهوما فالمسيحي يمكنه ان يستعمل بعض عبارات هذا السفر من نحو الرب الذي سيظهر كعريس الكنيسة، لأنه إذا كانت محبة العريس لعروسه الأرضية "قوية كالموت" فكم بالأحرى تكون محبته لعروسه السماوية التي هي جسده وهو تبارك اسمه رأسها الممجد؟ ومع ذلك فلا بد من مراعاة هذا الفارق الكبير والمهم وهو أنه في النشيد يوجد انتظار أو تطلع للتمتع بالشركة مستقبلا، أما المسيحي الحقيقي فإنه في علاقة وشركة في الوقت الحاضر أو بعبارة أخرى: سفر النشيد يبين ان هناك أشواقا وتعطشا لا اكتفاء وشبعا.

صحيح ان هذا السفر هو أحد أسفار العهد القديم القليلة جدا التي لم يقتبس منها اقتباسات (بنصوصها الكاملة) في العهد الجديد، إلا ان هذا لا يقلل من أهميته أو يؤثر على حقيقة كونه موحى به من الله، ومن المحقق ان هذا السفر كان فكر الروح القدس عند كتابة أسفار العهد الجديد، فان أول أسفاره (إنجيل متى) أشار إلى الفكر الرئيسي في سفر النشيد أي "العريس والعرس" كرمز أو إشارة إلى محبة المسيح لشعبه، فمع ان لنا نحن المؤمنين في العهد الجديد مركز أو مقام البنين المحبوبين من الآب، ومع ان لنا الرب مصورا كالراعي في عنايته بخرافه فان لنا علاقة به كالعريس _هذه العلاقة التي يستعملها الروح القدس في العهد الجديد كرمز أو صورة جذابة للقرب والإعزاز والمحبة التي في قلب الرب نحونا.

وأول مرة في العهد الجديد نقرأ فيها عن "العريس والعرس" هي في إنجيل متى (ص9) فإنه إذ اعترض على التلاميذ بأنهم لا يصمون انبرى الرب له المجد للدفاع عنهم، فقال لتلاميذ يوحنا "هل يستطيع بنو العرس ان ينوحوا ما دام العريس معهم؟" وهذه بلا شك عبارة واضحة وصريحة، لم يكن تلاميذ يوحنا ولا تلاميذ الرب نفسه في حاجة إلى توضيح معناها أو المقصود منها. أنها كانت تعبيرا معروفا جيدا لديهم، ولكن من أين اقتبس الرب هذا اللقب "العريس"؟ بلا شك من هذا السفر _نشيد سليمان، وعندي ان هذا وان لم يكن اقتباسا حرفيا منه إلا أنه أقوى من الاقتباس. نعم لقد كان هذا الحق العظيم معروفا وراسخا في أذهان اليهود ويكفي ان ابن الله المبارك قد وضع طابعه الإلهي عليه بكلماته التي قالها لتلاميذ يوحنا، فلم تكن هذه كلماتهم له بل هي أقوال هو التي نطقت بها شفتاه الطاهرتان "هل يستطيع بنو العرس ان ينوحوا ما دام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصمون".

ومما يستلفت النظر ان الرب لا يتكلم هنا عن "العروس" وأنما يشير إلى بني العرس، فأنه له المجد كان يعلم جيدا بأنه على وشك ان يأتي بعروس أخرى لتملأ مكان العروس الأولى التي كان قد أتى لأجلها، لذا لا يشير الرب بأية إشارة إلى العروس، لأنه جاء لخاصته إسرائيل، وكان الأمر معلقا على قبولهم له، فهل كان شعبه القديم هذا مزمعا ومستعدا ان يقبله؟ لو أنهم قبلوه لكان هو عريسهم ولصاروا هم عروسه، نعم أنه أمر "واضح" ان هذا الموضوع لم يكن غامضا على مسامعهم بل بالحري كان معروفا ومألوفا عندهم لأنه مؤسس على كلمة الله. فمن أين عرفوه وفهموه؟ لا ريب في أنه من هذا السفر "نشيد الأنشاد".

ثم إذا تقدمنا إلى فصل آخر من نفس هذا الإنجيل (مت25) فأننا نجد ان ملكوت السموات مشبه بعشر عذارى، وهؤلاء طبعا ليسوا "العروس" بل عذارى خرجن بمصابيحهن لملاقاة العريس1، ومما لا ريب فيه ان العريس هو الرب يسوع ولكن أين العروس؟ أليس عجيبا أنه كما صمت الرب كلامه مع تلاميذ يوحنا ولم يشر إلى العروس هكذا لم يشر إليها في هذا المثل؟ لقد فعل الرب ذلك بحكمة فائقة فأنه له المجد عرف يقينا ان العروس التي قرأوا عنها كثيرا في العهد القديم، لم يأت الوقت بعد لتشغل مركز عروس _عرف أنها ستخونه ولا تكون أمينة له، وان هذه العروس مزمعة ان ترفض العريس وقتئذ، لذا لا يشير الرب إليها في كلامه في كل مرة من المرتين سالفتي الذكر، وهذا يتفق تماما مع غرض الروح القدس في إنجيل متى لان من أهم الأغراض في هذا الإنجيل لا ان يصور فقط ان الرب يسوع هو المسيا الإلهي عمانوئيل بالأحرى ان عمانوئيل الحقيقي_ المسيا سيرفض من إسرائيل، لذا لا يشير الرب في كلامه هنا إلى إسرائيل كعروسه، ومثل العذارى العشر لا علاقة له بإسرائيل ولا بالبقية اليهودية كما يتوهم البعض، فالعذارى العشر إشارة إلى جميع المعترفين بالمسيح، أما اليهود فسيبقون حاليا كما هم، وسيتباركون من الله في الوقت المعين لبركتهم حيث هم. أنهم لن يخرجوا لملاقاة العريس، ولكن العريس سيأتي إليهم حين يرجع قلبهم إليه وعندئذ يرفع البرقع (2كو3). ان الرب في هذا المثل يتكلم عن حكيمات وجاهلات، ولكن عندما ترجع البقية التقية إلى الرب سوف لا يكون هناك جاهلات.

هذا وأننا نجد في شهادة يوحنا المعمدان الصريحة (يو3: 29) عن المسيح كالعريس وعن العروس الأرضية * دليلا قويا على ان سفر النشيد كان معروفا ومألوفا تماما عنده وعند اليهود الذين كانوا يسمعون "من له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس. إذا فرحي هذا قد كمل" أليست كلمات المعمدان الصريحة هذه هي روح سفر النشيد وأنها أقوى من أي اقتباس؟

على أننا نكرر القول بأنه وان كان هذا السفر يصور لنا محبة المسيح للبقية التقية المرموز لها بأورشليم _ أو صهيون عندما تمحص بنار التأديب الشديد "ضيق يعقوب" (أر30: 7) فكم بالأحرى تكون محبة المسيح لعروسه السماوية _ الكنيسة التي هي جسد "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها... لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه"(أف5: 25-30) وبالتالي يجد المسيحي الحقيقي طعاما دسما وشبعا روحيا لنفسه إذ يتأمل بروح الصلاة في محبة وصفات وكمالات العريس المبارك المعلنة في هذا السفر.

هذا وأنه مما يساعد كثيرا، ان نعرف من هو المتكلم في كل أجزاء السفر، ومن السهل معرفة ما إذا كان المتكلم هو العريس أو العروس لأنه في اللغة العبرانية (كما في العربية) يمكن معرفة جنس المتكلم ان كان مذكرا أو مؤنثا.

وقد قسم البعض هذا السفر إلى ستة أقسام يبدأ كل منها هكذا:( 1)ص1: 1(2) 2: 8 (3) 3: 6 (4) 5: 2 (5) 6: 13 (6) 8: 5 .

ليعط الرب الكاتب والقارئ معا ان يطيلا المكوث في حضرة العريس المبارك والجلوس عند قدميه والتأمل في كمالاته فتنطبع صورته المباركة في حياتنا.

م.ب.


[1] -هذا السفر فريد في نوعه، وقد فسر تفاسير مختلفة، ويظن بعض اللاهوتيين العصريين أنه قصة حبيبة محضة، أي ان سليمان كاتبه أراد ان يأخذ فتاة من خطيبها الذي كان راعياً ولكنها أحبت خطيبها ولبثت أمينة له. هذا الفكر لا يمكن ان يخطر ببال المسيحي الحقيقي الذي يؤمن بوحي الكتاب المقدس، إذ كيف يمكن ان سفراً كهذا ليس له فكر أسمى من هذا الفكر يجد له مكاناً في كتاب الله_الكتاب المقدس؟ هذا وان اليهود الذين أستؤمنوا على أقوال الله (رو3:1و2) كانوا ولا يزالون يقدّرون هذا السفر حق التقدير ويؤمنون كما يؤمن المسيحيون أيضا بأنه موحى به من الله.

[2] - ولو أنه توجد في العهد القديم صور رمزية كثيرة للكنيسة إلا أنه لا توجد إعلانات أو أقوال نبوية تدور حولها بكيفية مباشرة.

1 - ان الكنيسة العروس السماوية مؤسسة على الاعتراف "أنت هو المسيح ابن الله الحي"(مت16: 16-18) أما العروس الأرضية فمؤسسة على الاعتراف الإسرائيلي الذي لا غش فيه "أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل"(يو1: 49).

1 - لاشك ان العروس تتكون من الخمس العذارى الحكيمات فقط ولكن العروس ليس موضوع هذا المثل.

* - ان كلام المعمدان عن العروس يدور حول العروس الأرضية لان الكنيسة _ العروس السماوية لم تكن قد أعلنت بعد عندما تكلم يوحنا المعمدان بهذه الكلمات (وليم كلي)

  • عدد الزيارات: 5924