Skip to main content

إصحاح 4، آية 1

1-"ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة عيناك حمامتان من تحت نقابك. شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد".

يتحدث الملك في هذا الإصحاح إلى عروسه _ بأسلوب بديع _ عن جمالها، وعن أفكار قلبه من نحوها، فهل لنا الأذان والقلوب المختونة لتصغي وتستوعب كلمات الحبيب _ كلمات النعمة المنسكبة على شفتيه التي قالها للتعبير به عن إعجابه بعروسه وعن تقديره لجمالها الذي لا مثيل له في عينيه؟ "ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة" _ تلك الكلمات التي إذا وصلت بقوتها إلى قلوبنا بعمل الروح القدس فأنها تقودنا إلى الأتضاع وإنكار النفس وإلى تعظيم النعمة، وتجعلنا أكثر قربا إلى نفسه وقلبه. أنها تملأ نفوسنا بغبطة السلام الهادئة وتربطنا بقلبه رباطا وثيقا وتجعلنا مشابهين صورته كثيرا.

* * *

وبعد ان أكد لقلبها في عبارات شاملة أنها "جميلة" في عينيه أخذ يتغنى بسبع صفات من صفاتها التي يتجلى فيها جمالها، والتي كان يتأملها واحدة فواحدة بعين الإعجاب، فقد تغنى بجمالها في العينين والشعر والأسنان والشفتين * والخد والعنق والثديين، ولان كل واحدة من هذه الصفات كانت جميلة، كما ان العدد 7 يشير إلى الكمال. فقد وجد العريس في عروسه كمال الجمال "كلك جميلة يا حبيبتي ليس فيك عيبة" وهو له المجد يسر بالتحدث إلى العروس عن جمالها الذي هو من مجرد النعمة الغنية. أنه يلذ له بان يؤكد لقلبها بان لها جمالا فائقا في عينه. وغنى عن البيان أنه لا دخل للطبيعة في ذلك، فان أفضل ما في الطبيعة البشرية من صفات جذابة ولطيفة مرفوض عنده ولا شان ولا دخل له في جمال العروس، إذ ان جمالها هو هبة إلهية خلعتها علينا نعمته "نعمة (أي جمال Beauty ) الرب إلهنا علينا"(مز90: 17)وواضح ان الرب في حديثه هذا إلى عروسه لم يكن أمامه شيء مما كنا عليه بحسب الجسد بل ما صرنا إليه الآن بنعمة الله، والجمال الذي يتحدث عنه الرب هنا ليس هو جمالا وهميا أو خياليا بل هو جمال حقيقي ودائم، إذ ليس ممكنا ان يتكلم الرب الصادق عن شيء ليس حقيقيا، ولكن عينيه تستقران بارتياح تام على كل صفة من صفات الجمال التي زينت نعمته بها عروسه، إذ متى أدركت النعمة نفسا فان تلك النفس لن تبقى بدون ثمر بل بالحري تحدث النعمة فيها تغييرا روحيا وأدبيا. أنها ننشئ في النفوس التي تحتضنها سجايا وصفات طاهرة وتجمّلها بالأخلاق المقدسة التي ترى في عيني المسيح في جمال باهر. لقد استطاع الرسول بولس ان يقول "بنعمة الله أنا ما أنا" أي ان ما صرت إليه الآن هو بنعمة الله، وحتى من جهة جهاده وتعبه في خدمة الرب يقول "ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي"(1كو15: 10) فكل من امتلكته النعمة تزينه بصفات حلوة وجميلة. ان ما قيل عن شاول الطرسوسي "هوذا يصلي" يبين ان هناك تغييرا عجيبا حدث له وليس تغييرا فقط بل خضوعا وتسليما للرب واعتمادا عليه بدلا من الإرادة الذاتية العنيدة والمليئة بالعداوة للرب وشعبه. لقد صار حلوا وجميلا في عيني الرب، ان نعمة الله تعلمنا لا ان ننكر الفجور والشهوات العالمية فقط بل ان نعيش أيضا بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر (تي2: 12) هذه صفات روحية وأدبية جذابة وجميلة في عيني ربنا المبارك. عندما آمن كثيرون من الأمم في إنطاكية ورجعوا إلى الرب أرسل إليهم برنابا الذي أتى ورأى نعمة الله. لقد رأى النعمة في ثمارها الشهية الظاهرة في أولئك المتجددين حديثا ففرح (أع11: 23) والروح القدس في إصحاحنا هذا يرسم أمامنا في كلمات شعرية الجمال المقدس الذي أنشأته النعمة في عروس النشيد، وان غرض روح الله هو ان يوجهنا إلى السجايا الروحية والأدبية المحببة إلى قلب المسيح حتى يكون هدفنا بمعونته هو التجمل والتحلى بهذه الصفات القدسية التي هي صفاته هو فنتغير إلى تلك الصورة عينها.

* * *

"عيناك حمامتان من تحت نقابك" أو "لك عينا حمامة". هذه أول صفة من صفات الجمال التي تغنى بها الحبيب عن عروسه، والعين تشير دائما _في كلمة الله_ إلى النور والفطنة الروحية "سراج الجسد هو العين فان كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا"(مت6: 22). أنها _ أي العين _ تشير إلى القدرة على التميز الروحي، ثم ان عيني العروس هما حمامتان من تحت نقابها، فهي صفة جميلة لا يعرفها العالم، ولا يدركها لأنها خفية عن نظرهم "تحت نقابك" ولكنها جميلة في عيني المسيح، فكم كانوا مكرّمين وأعزاء لقلب الرب، في أيام جسده، أولئك الذين إذ تبعوه في زمان رفضه اثبتوا على ان لهم الفطنة والقدرة على التمييز الروحي أو بالحري البصيرة الروحية المقدسة _ أولئك الذين استطاع الرب له المجد ان يقول لهم "طوبى لعونكم لأنها تبصر"(مت13: 16).

ولا يمكن ان تكون هناك قدرة على الأبصار أو الإدراك الروحي بدون الولادة الجديدة، لان الرب قد نبّر على ذلك بقوله "ان كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر ان يرى ملكوت الله (يو3: 3) فعمل الله في الولادة الثانية وسكنى الروح القدس لازمان لتكون للنفس عينا حمامة "وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء"(1يو2: 20) "وأما الروحي فيحكم (أو يميز) في كل شيء"(1كو2: 15) هذه الأعداد يرسمها الروح القدس أمامنا ويذكرنا بها عند التأمل في عيني العروس _ عيني الحمامة. عندما سأل الرب تلاميذه "من يقولون أني أنا؟" قصد بذلك ان يعطيهم فرصة لإظهار ما لديهم من إدراك أو بالحري بصيرة روحية، وإذ أجاب بطرس "أنت المسيح ابن الله الحي" قال له الرب "طوبى لك" فقد كانت له "عيننا حمامة" وكان له ولكلماته جمال فائق في عيني الرب.

وحين جدا ان نذكر أنه ما كان ممكنا ان تكون لنا _ بالمعنى الروحي _ عيون للنظر لولا ان الرب هو الذي وهبنا البصر "الرب يفتح أعين العمي"(مز146: 8) ومكتوب بكل وضوح بان المسيا في يومه سيفتح عيون العمي (أش29: 18، 35: 5، 42: 7) وقد صدق معلمو اليهود القدماء في قولهم بان فتح عيون العمي هو معجزة أحتفظ بها للمسيا دون سواه، فان الرب له المجد لم يعط حتى تلاميذه القدرة على فتح أعين العميان، أما إرسالية بولس لكي "يفتح عيونهم" فقد قصد بها أنه يكشف لهم حقيقتهم حتى يرجعوا "من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله"(أع26: 18) وأما ربنا المبارك فأنه في أيام جسده قد فتح أعين كثيرين من العميان، والأناجيل الأربعة تذكر بكيفية مفصلة سبعة أشخاص منحهم الرب نعمة البصر، وهذا يرينا كيف ان النعمة الإلهية _ نعمة ربنا يسوع المسيح هي التي تهب النور والبصيرة الروحية.

* * *

هل نراعي دائما ان بصيرتنا الروحية التي منحت لنا هي لمسرة ربنا المبارك وان مداركنا الروحية لم توهب لنا لإظهار ذواتنا بين الناس أو لكي نجتذب التفاتهم إلينا وأنه يجب ان تكون هبته هذه كل حين متوارية وراء الحجاب "تحت نقابك"؟ أنه خليق بنا ان نحسب ان كل ما وصل إلينا من نور، وان كل تقدم في معرفة المسيح، وكل نمو في معرفة الله _ الكل قد وهب لنا لنكون لبهجة ومسرة قلب المسيح أكثر فأكثر. وكثيرا ما لا يريد الرب منا ان نتحدث مع الآخرين عما منحه لنا، إذ ربما يكلمنا في بعض الأحايين بنفس الكلمات التي قالها للأعميين "أنظر لا يعلم أحد"(مت9: 27-30).

ان العينين تحت النقاب تشيران إلى جمال روحي سري غير مدرك من جميع الناس بل هو للمسيح ولمسرته هو دون سواه، وهو له المجد يحتفظ به ليستخدمه في الوقت المناسب حسب قصده وحكمته، فقد أعطى لبولس رؤى سماوية "مناظر الرب وإعلاناته" عندما اختطف إلى الفردوس، ولكنه احتفظ بها "تحت النقاب" ولم يشر إليها لمدة أربع عشرة سنة (2كو12)، فان التحدث بمثل هذه الأمور قد يعطى شيئا من المجد أو الفخر لخادم الرب ولكن إخفاءها تحت النقاب إلى الوقت المعين يؤول إلى مجد المسيح. ليتنا ننمو في المعرفة وفي كل فهم روحي فتقوى بصيرتنا الروحية، على ان يكون غرضنا الوحيد في هذا كله مسرة وفرح قلب سيدنا، ولا شك ان كل محب للمسيح يرغب في ان تكون له العين البسيطة والبصر الروحي المقدس لفرح وسرور قلب لرب له المجد.

* * *

"شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد" هذه هي الصفة الثانية التي فيها نرى العروس جميلة في عيني عريسها، وشعرها يشير بلا ريب إلى مجد المرأة "وأما المرأة ان كانت ترخي شعرها فهو مجد لها"(1كو11: 15) والطبيعة نفسها تعلمنا ان مجد المرأة هو في ان ترخي شعرها وان تغطي رأسها اعترافا منها بأنها في مكان الخضوع للرجل الذي هو رأسها، وفي هذا إشارة واضحة إلى المجد الحقيقي الذي للمؤمنين الحقيقيين. ان مجد الكنيسة وشرفها هما في خضوعها للمسيح كرأسها، وخضوعها هذا ليس لشعورها بأنه مجرد واجب تقوم به بل بالحري هو خضوع المحبة والتعبد له، فالكنيسة لا تشعر فقط بأنه التزام عليها ان تخضع للمسيح بل هي تحب ذلك لأنها تعرف جيدا ان هذا هو الشيء الوحيد اللائق بها، وان في هذا مجدها وفخرها، هذه صفة جوهرية من الصفات التي بها يراها العريس جميلة في عينيه.

* * *

والشعر في شريعة النذير يرسم أمامنا صورة للتكريس "إلى كمال الأيام التي انتذر (أي تكرس) فيها للرب يكون مقدسا ويربي خصل شعر رأسه. . . شعر رأس انتذاره (أي تكريسه) (عدد6: 5و18) وكم هي جميلة في عيني المسيح هذه الصورة، فكمن تحصرنا محبة المسيح لا نعيش فيما بعد لأنفسنا بل له هو "ان عشنا فللرب نعيش . . . للرب نحن"(رو14: 8) وهذا بيقين هو ثمر عمل النعمة، وشعر النذير هو سر قوته، فقد كانت قوة شمشون العظيمة كامنة في "سبع خصل رأسه" وطالما كانت تلك الخصل غير محلوقة لم يكن في متناول العدو ان ينتصر عليه، وواضح ان كل مسيحي حقيقي هو نذير للرب، وعليه ان يبدي صفات النذير عمليا، فليتنا في سهر وصلاة مستمرين نعيش ونسلك في الانفصال عن العالم، وفي الشركة مع المسيح بقوة الروح القدس. ليتنا نبذل كل الجهد في ان لا نسمح لأية شهوة جسدية أو ميل عالمي بان ينتزع منا خصل شعرنا أو بالحري يعيق عمل روح الله _ روح القوة فينا، فلا تتوقف أو تعطل شركتنا مع إلهنا.

* * *

وكون شعر العروس هو "كقطيع معز" يرسم أمامنا صورة جميلة لوحدة المؤمنين وارتباطهم معا، فخضوع المؤمنين الفردي للرب وتكريس حياتهم له يؤول بلا ريب اتحادهم وارتباطهم معا، فان كلمة "قطيع" تصور القديسين لا كأفراد يتمتع كل منهم بعناية الراعي فحسب بل كقطيع "رعية واحدة" تسير تحت قيادة ورعاية "راع واحد".

* * *

وهذه صورة لها جمالها في عيني المسيح، فكما ان المؤمنين لهم جمالهم ولهم مجدهم في خضوعهم للمسيح رأسهم _ هذا الخضوع المرموز إليه بالشعر، فان المسيح يراهم أيضا في جمال فائق كقطيع متحد وسائر تحت قيادته وينعم برعايته.

* * *

ان خضوعنا للراعي العظيم، وسيرنا وراءه بنفس واحدة، وثقتنا فيه وفي محبته تؤدي بنا إلى أطيب المراعي وأكثر دسما "على جبل جلعاد" هذا الجبل الذي تميز بخصوبة ودسم مراعيه "وأرد إسرائيل إلى مسكنه فيرعى كرمل وباشان وفي جبل أفرايم وجلعاد تشبع نفسه"(أر50: 19) "ارع بعصاك شعبك غنم ميراثك. .لترع في باشان وجلعاد كأيام القدم"(مي7: 14) فهل نحن متمتعون عمليا بهذه المراعي الغنية؟ وهل نحن سائرون معا بقلب واحد وفكر واحد بهداية وقيادة الراعي الكريم؟ وهل نحن في حالة التكريس والخضوع لعريسنا المبارك؟ ان في ذلك مجدنا وعزنا، وفيه نرى في جمال عملي في عيني عريسنا المبارك.

* * *


* ع3 في كل الترجمات هو "شفتاك كسلكة من القرمز وكلامك حلو" أو كلام شفتيك حلو.

  • عدد الزيارات: 3344