Skip to main content

الإنجيل والخطيئة الساكنة فينا

(الإصحاحات 5: 12 – 7: 25)

لابد أن نغطي هذا الجزء من القسم العقائدي العظيم في محاضرتين بسبب المجال الواسع الذي يشغله من الإصحاح 5: 12 حتى نهاية الإصحاح 8. لذلك سوف نلقي نظرة أولاً إلى القسم الذي ينتهي بالإصحاح 7. ففي القسم الأخير من الإصحاح 5 لدينا الرئيسين – آدم والمسيح. في الإصحاح 6 لدينا معلمين، الخطيئة المتجسدة والله كما أعلنه يسوع. في الإصحاح 7 لدينا زوجين – الناموس ويسوع المقام.

إن الخاطئ المتيقظ يهتم بأمر واحد: كيف يتحرر من الدينونة التي استوجبتها خطاياه عن حق. هذا الوجه من موضوع الخلاص قد تناولناه بالحديث وأوفيناه حقه في الجزء الذي انتهينا منه للتو. هذا الموضوع لن يُطرح من جديد بعد. وإذ نمضي في الجزء التالي من الرسالة نلاحظ أن مسألة الذنب لا تظهر. في اللحظة التي يؤمن الخاطئ فيها بالإنجيل تنتهي وإلى الأبد مسئوليته كابن لآدم تحت دينونة الله. وفي هذه اللحظة عينها تبدأ مسئوليته كابن لله، فلديه طبيعة جديدة تتوق إلى ما هو إلهي. ولكنه سرعان ما يكتشف أن طبيعته الجسدية الشهوانية لم تُزَل أو تتحسن باهتدائه إلى الله، ومن هذا الواقع تنشأ خبرات تجربة عديدة. فغالباً ما يُصدم بشدة عندما يدرك أنه لا يزال يملك طبيعة قابلة لكل أنواع الرداءة. إنه مصيب في خوفه وقد يتعرض لإغواء الشك بحقيقة تجدده وتبريره أمام الله. كيف يمكن لله القدوس أن يستمر مع شخص له هكذا طبيعة؟ إن حاول أن يحارب الخطيئة في الجسد فسوف يهزم على الأرجح، ويتعلم من الخبرة المريرة ما قاله فيليب ميلانكثون، صديق لوثر، بأن "آدم القديم أقوى بكثير من فيليب الجديد الفتي".

مغبوط هو المهتدي الفتي الذي يقع خلال أزمته هذه على التعليم الكتابي الصحيح بدلاً من الوقوع في يد الدجالين الروحيين الذين سيدفعونه للتفكير لتجاهل طبيعته الجسدية وإماتة الفكر الجسدي. لأنه إن أصغى إلى نصائحهم سيقع في مستنقع الشك ويقع فريسة الحيرة من جراء الأفكار الواهمة الخداعة بالكمال الممكن للجسد، وهذا سيضعه تحت وطأة الخيال الجامح وتعذيب الذات إلى أن يصل إلى الراحة والسلام المعدّ لشعب الله. لقد حاولتُ أن أنقل خبراتي الشخصية المبكرة في هذا الاتجاه من خلال كتاب صغير بعنوان "القداسة، الخطأ والصواب"، والذي أشكر الله عليه لأني علمت أنه قد كان بركة لعدة آلاف من النفوس. إن الحقيقة التي سنتناولها الآن بالحديث هي التي حررتني وخلصتني أخيراً من البؤس وخيبات الأمل التي عانيتها في تلك السنوات الباكرة.

وإذ نتناول هذه الإصحاحات فإني أرغب ألا أثير حفيظة أحد، بل أقصد ببساطة أن أرسم هنا، بدافع البنيان، صورة الحقيقة لأجل بركة النفس.

وبادئ ذي بدء سوف نتأمل في العائلتين العظيمتين والرئيسين المركزيين المتزعمين فيهما وذلك من خلال الإصحاح 5 الآيات 12 – 21.

في نفس اللحظة التي يتبرر فيها الإنسان بالإيمان فإنه يولد أيضاً من الله. وتبريره، كما رأينا، هو تبرئة رسمية له أمام عرش الله. وتجدده يعني دخوله إلى عائلة جديدة. فيصبح جزءاً من الخليقة الجديدة التي باكورتها المسيح الناهض من بين الأموات. كان آدم الأول رئيس النسل القديم. أما المسيح القائم، الإنسان الثاني وآدم الأخير، فهو رأس النسل الجديد. الخليقة القديمة سقطت بسقوط آدم، وكل نسله كان مشتركاً في الدمار الذي حصل له. أما الخليقة الجديدة فينهضون إلى الأبد بيقين في المسيح، وكل من تلقوا الحياة منه يشتركون في البركات والنعم المتأتية من صليبه، وتضمن حياته لهم الحياة الأبدية بما أنه جالس على يمين الله.

"ها إن الخليقة الجديدة تبتهج الآن

وتنعم في هدوء الراحة والسكينة،

وقد تباركت بخلاص يسوع الكامل،

وما عاد للحزن أو للعبودية مكان".

إن فهم هذه الحقيقة وإدراكها يسوي مسألة الضمان الأبدي للمؤمن ويشكل أساساً كتابياً لعقيدة الانعتاق من سلطان الخطية.

ولا ريب في أننا سنلاحظ أن الموضوع الذي بدأ في الآية 12 قد وصل إلى خاتمته في الآيات 18 – 21. وإن المقطع الاعتراضي (المؤلف من الآيات 13 - 17) ثانوي أو تفسيري. ولذلك فلعله من الأفضل أن ندرس المقطع الاعتراضي أولاً. لقد كانت الخطيئة في العالم مسيطرة على الإنسان منذ سقوط آدم وحتى من قبل إعطاء الناموس بموسى؛ ولكن لم تكن الخطيئة قد أخذت بعد صفة التعدي إلى أن أعطيت شريعة ناموسية للإنسان قد انتهكها عن عمد. ومن هنا، ولولا الناموس، لما كانت الخطيئة لتعتبر تهمة ملصقة. ولكن رغم ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنها كانت هناك بشكل واضح وجلي، ذلك لأنه "بالخطيئة دخل الموت" وساد الموت كملك مستبد على جميع الناس من آدم حتى موسى، ولم يدّخر أحداً إلا عندما تدخل الله في حالة أنوش، الذي فُسِّر بأنه لن يَرَ الموت. وحتى عندما لم تكن هناك خطيئة مقصودة، كما في حالة الأطفال والأشخاص القادرين على تحمل المسئولية، كان الموت مخيماً، وهذا إثبات على أنهم كانوا جزءاً من النسل الساقط مركزياً والمشاركون في خطيئة آدم ويمتلكون فعلياً طبيعة آدم الساقطة. فذلك الذي خُلِقَ أصلاً على صورة الله ومثاله قد شوّه تلك الصورة بارتكابه للخطيئة وخسر بذلك الشبه الإلهي، ونقرأ في الكتاب: "َوَلَدَ  آدَمُ وَلَداً عَلَى شَبَهِهِ كَصُورَتِهِ" (تك 5 :3). وهذه صفة مميزة للنسل الذي هو رأسه. "ففي آدم يموت الجميع".

يتجادل اللاهوتيون حول المعنى الدقيق لكل هذا وقد يرفض العقلانيون أن يتقبلوا الفكرة كلياً، ولكن الحقيقة تبقى، "لقد تعين للناس أن يموتوا مرة"، ولولا التدخل الإلهي لكان الجميع سيرددون قول الشاعر:

"لدي موعد مع الموت،

وسوف لن أفوت موعدي".

لابد أنكم سمعتم بالنقش الذي كتب على ضريح بهذا المعنى، ذاك النقش الذي حفر على ضريح مكان رقاد جثمان أربعة أطفال في مدفن كنيسة القديس أندراوس في سكوتلاندا:

"أيها الإلحاد الوقح، فلتستحلْ شاحباً وتَمُتْ.

فتحت هذه الصخرة يرقدُ جثمان أربعة أطفال:

قل لي: هل هم ملعونون أم مخلَّصون؟

إن كانت الخطيئة تستوجب الموت، فقد خطئوا لأنهم هنا.

وإن كانت الجنة تُكتَسَب بالأعمال، فلن يتراءوا في السماء.

أما أنت أيها العقل، فيالك من فاسد.

امضِ إلى صفحة الكتاب المقدس، فتجد حل العقدة:

لقد قضوا لأن آدم أخطأ،

ويعيشون لأن يسوع مات".

ليس من تفسير آخر لمسألة الطفولة التي تعاني سوى سقوط نسل آدم.

ولكن آدم كان شخصاً، رمزاً، منه كان سيأتي، وقد أتى فعلاً، ذاك الذي جاء وحمل على عاتقه مسئولية إزالة آثار السقوط عن جميع الذين، بالإيمان به، يتلقون حياته القيامية؛ وبهذا يرتبط برٌّ كامل أبدي في ديمومته وإلهي في أصله. وشتان ما بين الخطيئة والهبة، فخطيئة آدم الوحيدة أشركت نسله في عواقب سقوطه. أما المسيح، وقد أرضى العدالة الإلهية، فإنه يقدم هبة الحياة بالنعمة لكل الذين سيؤمنون وهكذا تزداد للكثيرين. ونلاحظ في الآية 15 الأمر الثالث "الأكثر".

إن انتشار النعمة ليس على غرار انتشار الخطيئة – لأن خطيئة الواحد قد جلبت الدينونة العامة، جاعلة جميع النسل تحت الدينونة. أما تلقي نعمة الحياة والبر بالإيمان فتضع المتلقي في حالة التبرير من كل الأشياء بصرف النظر عن عدد الخطايا أو التعديات. لقد ساد الموت من جراء خطيئة واحدة. ولكن يخبرنا الكتاب "أكثر بكثير" أن أولئك الذين يتلقون هذه الوفرة في النعمة وعطية البر المجانية هذه الآن ينالون الغلبة على الموت بحياة يسوع المسيح، الذي غلب الموت والذي يقول: "لأني أحيا فستحيا أنت أيضاً".

هذا هو فحوى المقطع الاعتراضي. ولكن لنضع كل هذا في أذهاننا ونعود إلى الآية 12 ونربط بينها وبين الآيات 18 – 21. لقد دخلت الخطيئة العالم برجل واحد ومع الخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس لأن الجميع أخطأوا، إذ خرجوا جميعاً من حقوي آدم عندما سقط فوقعت كل تبعات خطيئة آدم على جميع نسله.

والآن لننظر إلى الآية 18: "كما أنه بخطيئة واحد" قد أتت الدينونة العامة على العالم بأسره، فكذلك بعمل بر واحد منجز على الصليب جاءت الكفارة عن الجميع – مجانية عن جميع الذين اشتركوا في نتائج خطيئة آدم، والتي هي الحياة الأبدية المتجلية في ابن الله الذي رقد في الموت تحت وطأة حكم الدينونة، ولكنه نهض منتصراً يمنح حياته القيامية ذاتها – هذه الحياة الخالية من أية شوائب للخطية. فهذه خليقة جديدة، يكتب عنها بولس بشكل كامل في (2 كو 5) وفي (1 كو 15): "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة". وهو في خليقة جديدة "كلها من الله"؛ "فالأشياء القديمة قد ولت وتجددت كل الأشياء". وهكذا نحصل على كامل قوة الموعد "لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ". إنه ليس خلاصاً كونياً عاماً، وليس الأمر هو أنه سيقيم كل الأموات وحسب، بل إن النسلين، الخليقتين، الرئاستين، هما على طرفي نقيض. المسيح هو البداية، هو الأصل، هو الرئيس البدء لخليقة الله (رؤيا 3: 14). وبما أنه الإنسان القائم الجالس عن يمين الله، وقد اجتاز الموت، فإنه الآن نبع الحياة، الحياة النقية المقدسة التي لا دنس فيها، لكل الذين يؤمنون به. وبذلك فنحن الآن أمام الله في تبرير الحياة.

بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة. "والأكثر من ذلك"، فبعمل طاعة مجيد واحد حتى الموت الذي قام ذاك الذي صار الآن بداءتنا، يُجعل الكثيرون أبراراً.

إن إدخال الناموس زاد من وطأة الخطيئة. فهذا أعطى الخطيئة صفة التعدي. ولكن حيث كثرت الخطيئة (ووصلت إلى ذروتها، إذا صح القول) ازدادت النعمة "أكثر فأكثر"، وبمعنى آخر، فإن النعمة هي الأكثر انتشاراً. وإذ سادت الخطيئة كطاغية مستبد عبر قرون طويلة قبل الصليب، وآلت إلى موت كل الخاضعين لحكم ذلك المستبد، فالآن النعمة هي التي تتربع على العرش وتسود من خلال البر المنجز إلى حياة أبدية بيسوع المسيح ربنا.

يا لها من بشارة! يا له من مخطط! إنه كامل: إنه مخطط إلهي كامل كمثل الله نفسه. يا لروعة هذه الأمور الخمس "الأكثر بكثير" التي تأتي بأعاجيب النعمة.

على ضوء كل ما ذكر، هل من عجب في أن الرسول، وهو يدرك النزعة المتأصلة في القلب البشري لأن تحيل نعمة الله إلى فسق، يضع على فم القارئ هذا السؤال: "هل سنستمر في الخطيئة لكي تكثر النعمة؟" ويجيب الإصحاح 6 على هذا الفكر التافه (وهو هكذا فعلاً) بطريقة تدل على براعة.

""حَاشَا!"، يهتف بلهجة ساخطة، " نَحْنُ الَّذِينَ مُتْنَا عَنِ الْخَطِيَّةِ كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟" فلماذا متنا عن الخطيئة إذاً؟ إن كنا متنا عن الخطيئة حقاً فلا ينبغي أن نهتم بالسؤال أو بجوابه. إن ما يحيرنا هو حقيقة أنه بينما نحن نكره الخطيئة فإننا نجد في أنفسنا نزعة للاستسلام لها. ولكن يقال لنا أننا متنا عنها. كيف وأين؟ الآيات التالية تقدم الإجابة.

إن نفس الحقيقة التي تشير إلى أن ارتباطنا بآدم كرأس لنسلنا يقطعه اشتراكنا مع المسيح في موته تدل على أن لنا الحق بأن نعتبر أنفسنا قد متنا، بموته هو نفسه، لسلطان الخطيئة كسيد علينا. لقد أُعْتِقَ الإسرائيليون من الدينونة بدم الحمل. وهذا يشكل جواباً على أول جانب في موضوع الخلاص. فبعبورهم البحر الأحمر ماتوا لفرعون وأعوانه. هذا يوضح الجانب الذي سنتناوله الآن. فالخطيئة لم يعد لها سلطان علينا، بينما كنا خداماً لها في الماضي. ولكن الموت غير كل ذلك. وانتهت حالة العبودية التي كنا فيها. ونحن الآن مرتبطون بالمسيح القائم وهكذا جُعلنا لله.

وهذا ما يتحدث عنه أول طقس في المسيحية ""أتَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِـ (في) يَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِـ (في) مَوْتِه؟" إن شعب إسرائيل كانوا "َجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ". فاجتازوا عبر الموت رمزياً أو مجازياً، وكان موسى قائدهم الجديد. وانتهى سلطان فرعون عند ذلك في نظرهم (1 كو 10). ولذلك فإننا نحن المخلَّصين قد اعتمدنا لموت المسيح أو في موت المسيح. لقد قبلنا موته على أنه موتنا، عالمين أنه مات بدلاً عنا. وإننا نعتمد له كقائد جديد لنا.

هل هذه معمودية الروح؟ لا أعتقد ذلك. فالروح لا تعتمد للموت، بل للجسد الجديد الواحد. إنه توطّد في المسيح السري. معموديتنا بالماء هي معمودية لموت المسيح.

ويتابع الرسول حديثه في هذا الموضوع. "فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ" (الآية 4). ففي معموديتي أقرّ بأنني قد مت عن الحياة القديمة كإنسان في آدم تحت سطوة الخطيئة. وقد انتهيت من كل ذلك. والآن دعوني أبرهن حقيقة ذلك بأن أحيا حياة إنسان قيامي– إنسان مرتبط بالمسيح من الجانب الآخر من الموت- إذ أسلك في جدة الحياة. ومن هنا فإن كل فكرة بالعيش في الخطيئة مرفوضة، وكل ما هو ضد الناموس مفنّدة. إن حياتي الجديدة هي أن أتجاوب مع الاعتراف الذي قمت به من خلال معموديتي.

عليّ أن أدرك عملياً توحدي واندماجي مع المسيح. لقد دُفِنْتُ معه بشبه موته – أي في المعمودية – وسأكون (واحداً معه) أيضاً في شبه قيامته. فلست أعيش تحت سطوة الخطيئة. فأنا أحيا لله، وهو أيضاً كذلك، ذاك الذي هو رئيسي الجديد.

ويتابع الرسول حديثه بشكل منطقي فيقول: "عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ (أو، ليصير ضعيفاً) كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ. لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَحرّر (أو، تَبَرَّأَ) مِنَ الْخَطِيَّةِ."(الآيات 6، 7).

إن إنساني العتيق ليس طبيعتي القديمة وحسب، بل إنه كل ما كُنْتُه كإنسان في الجسد، "الإنسان العتيق"، الإنسان غير المخلَّص بكل عاداته ورغباته. ذلك الإنسان قد صُلِبَ مع المسيح. عندما مات يسوع متُّ أنا أيضاً (كإنسان بحسب الجسد) لقد رآني الله على الصليب مع ابنه الحبيب المغبوط.

كم من الناس صُلبوا على الجلجثة؟ كان هناك اللصين، وكان هناك المسيح نفسه – إذاً ثلاثة. ولكن هل هؤلاء فقط الذين صُلبوا؟ يقول بولس في (غلاطية 2: 20): "مع المسيح صُلِبتُ". إذاً فقد كان هناك أيضاً؛ وهذا يجعل المصلوبين أربعاً. ويمكن لكل مؤمن أن يقول: "إن إنساننا العتيق صُلب معه (مع المسيح)".

ملايين لا تحصى من الناس رآهم الله معلقين على الصليب مع المسيح. وهذا لم يكن يعني فقط أن خطايانا قد تمت تسويتها، بل إننا نحن أيضاً كخطأة، كأولاد من نسل آدم الساقط، قد أُقصينا عن نظر الله الغاضب وانتهى موقفنا القديم إلى الأبد.

ولكننا نحن الذين صُلبنا معه نحيا الآن معه. ولذلك يتابع الرسول كلامه في (غلاطية 2: 20) قائلاً: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي." وهكذا هو الحال هنا. إن جسد الخطيئة يبطل، مثله مثل جسد فرعون، فكل سلطة مصر قد انمحقت بالنسبة لإسرائيل. لم يعد للخطيئة سيادة عليّ الآن. وفي المسيح أحيا لله. ما عدت عبداً للخطيئة. لقد أُعْتِقْتُ (تبررت) من سلطان الخطيئة.

ويُظهر الرسول هنا التأثير العملي لكل هذه الحقيقة الثمينة. لقد متنا مع المسيح. ولنا إيمان بأننا سنحيا أيضاً معه. وعندئذ – في السماء – سوف لن يكون للخطيئة سيادة علينا. ولن نخضع لسلطانها هنا باستسلامنا لها. إننا نعلم أن المسيح الناهض من بين الأموات سوف لن يموت ثانية. فقد أُبْطِل سلطان الموت إلى الأبد (حيث الخطيئة تستوجب الموت). "لأَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً"، قد ماته عن الخطيئة كسيد قديم كان يسود علينا (وليس عليه – فهو لم يكن أبداً تحت نير الخطيئة بل كان دائماً خلواً منها)، والآن في القيامة يعيش لله فقط. ونحن متحدون معه، ولذلك فعلينا من الآن فصاعداً أن نحيا لله وحده. وهذا يعني تحريراً عملياً من سيادة أو سلطان الخطيئة.

بالتأكيد لم يكن في فكر الله أبداً أن يترك شعبه المفتدى بالدم تحت سلطان الطبيعة الجسدية الشهوانية، عاجزاً عن أن يسلك في حرية الناس الأحرار في المسيح. ولكن التحرر العملي لا يتم الوصول إليه بمحاربة السيد القديم، الخطيئة بالجسد، بل بالإدراك اليومي للحقيقة التي أمعنا النظر فيها الآن لتونا.

ولذلك يُطلب إلينا أن نؤمن حقاً بما يعتبره الله حقيقة وذلك في أننا قد متنا مع المسيح عن كل ادعاءات خطيئة فرعون، وأننا نسلك الآن كأحرار في جدة الحياة متحدين مع المسيح القائم. "كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ الْخَطِيَّةِ وَلَكِنْ أَحْيَاءً لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (الآية 11). هذه الكلمة "احسبوا" هي إحدى مفاتيح الكلمات الرئيسية في الإصحاح. إنها تعني حرفياً: "اعتبروا الأمر حقيقة." يقول الله أني أعيش له وإني أعتبر أن هذا الأمر حقيقة. بما أن الإيمان يقوم على كل هذه الافتراضات الحقيقية فإني أجد أن الادعاءات بالخطيئة باطلة. ليس من طريقة أخرى للتحرر والانعتاق سوى تلك التي تبدأ بهذه الاعتبارات. قد يقول المنطق: "ولكنك لا تشعر أنك ميت"، فما علاقة المشاعر بهذا؟ إنها حقيقة تتعلق بقضاء الله. موت المسيح هو موتي. لذلك أعتبر أو أحسب نفسي قد متّ لسلطان الخطيئة.

وتأتي الآية التالية على نفس التتابع المنطقي. "إِذاً لاَ تَمْلِكَنَّ الْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ الْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ". أشعر بنزوة تتصاعد في داخلي تطالبني بالاستسلام لرغبة آثمة ما. ولكن عند تنبهي لذلك أقول في الحال: "لا، فقد مت عن ذلك. وليس لها من بعد أن تسيطر على إرادتي. فأنا للمسيح. وسأحيا له". وإن حافظت على الإيمان بذلك فإن قوة وسطوة الشهوة سوف تتحطم.

الأمر يتطلب انتباهاً ويقظة وتمييزاً مطرداً لاتحادي مع المسيح. كنت في الأيام الخوالي معتاداً على الاستسلام إلى أعضائي الجسدية كأدوات للإثم، وخاضعاً للخطيئة، أما الآن فأنا أسلم ذاتي بدون ريبة وبدون تحفظ لله لأني حييت عبر ذلك الموت الذي عبرته مع المسيح، ومن النتائج الطبيعية لذلك هو أن كل أعضائي الجسدية قد باتت له وله أن يستخدمها كأدوات لعمل البر لمجد الله الذي خلصتني نعمته. إن الكلمة المترجمة بـ "آلات" تعني حقاً "أسلحة" أو "درع" كما يرد في (الإصحاح 13: 2) وفي (2كو 6: 7، 10: 4). إن مواهبي، وأعضائي الجسدية، وكل طاقاتي يجب أن أستخدمها الآن في الصراع كأسلحة بيد الله. فأنا جندي له تحت تصرفه دون تحفظ أو تردد.

لأنه ما من مبدأ قانوني خلصني بل النعمة المجانية وحدها، فإنه ليس للخطيئة بعد أن تسيطر على حياتي. إن المسيح القائم هو ربان خلاصي، أوامره يجب أن تضبطني وتوجهني في كل الأمور.

قد تحاول الطبيعة أن تجادلني محاولة إقناعي بالاتجاه المعاكس وتقول لي أنه طالما كنت تحت النعمة وليس الناموس فإن سلوكي ليس بذي أهمية كبيرة، وإني لذلك حر بأن ارتكب الخطيئة لأن أعمالي ليس لها علاقة بخلاصي. ولكن كإنسان متجدد مولود من جديد لا أريد أن أكون حراً لارتكاب الخطيئة. بل أريد اكتساب القوة لأحقق القداسة. إن اعتدت على الاستسلام للخطيئة، أطيع أوامرها تلقائياً فإني إنما أُظهِرُ أني لا زلتُ عبداً للخطيئة، وستكون نهاية خدمتي للخطيئة الموت. ولكن كإنسان متجدد، أرغب في إطاعة ذاك المتحد معي الآن والذي أخدمه. ولذلك يقول بولس: "فَشُكْراً لِلَّهِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيداً لِلْخَطِيَّةِ وَلَكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا. وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ (أي من خلال صليب المسيح) صِرْتُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ." (الآيات 17، 18).

إنه يتحدث بطريقة رمزية مجازية موضحاً فكرته بتجسيد الخطيئة والبر لعل فكرنا الإنساني الضعيف يستطيع فهمهما، ويكرر تحذيره، أو بالحري ما قاله على شكل عقائد، يكرره الآن كأمر: "لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ لِلإِثْمِ (أي في الحياة القديمة قبل التوحد مع المسيح) هَكَذَا الآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً (رقيقاً) لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ" (الآية 19).

عندما كنا عبيداً للخطيئة، لم يكن البر سيدنا الأميز، وما كنا لنستطيع سوى أن ننكس رؤوسنا في خزي ونحن نفكر بثمار العلاقة الشريرة، التي ستودي بنا إلى التهلكة، جسدياً وأبدياً معاً.

أما الآن وقد تحررنا بحكم قضائي من سيادة الخطيئة وأصبحنا عبيداً لله، فإن حياتنا ستكون وافرة الثمار للقداسة وستكون النهاية حياة أبدية. إن لنا حياة أبدية الآن في متناول يدنا في الوقت الحاضر، ولكن ها هنا الآن الغاية التي في منظورنا حيث أننا في ديارنا في المشهد الذي غادرنا فيه المسيح الذي هو حياتنا.

ويختم هذا القسم بقوله المهيب والثمين: " أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا". الخطيئة بشكل ما سيد مخلص. وإن يوم حسابها أكيد. وأجرتها الموت. لاحظ أن ما لدينا الآن ليس الدينونة الإلهية بل أجرة الخطيئة. فالموت هو عاقبة الخطيئة، ولكن "بعد ذلك تأتي الدينونة". ولابد من تلقي العقاب في قفص الاتهام أمام الله. وإذ أخطأ كثيرون في رؤية هذا الأمر فإن الكثيرين اعتقدوا خطأً أن الموت الجسدي يعني انقطاع الكينونة وأنه بآن معاً أجرة وعقوبة. أما الكتاب المقدس فيخبرنا بوضوح عن الدينونة الإلهية التي تأتي بعد دفع أجرة الخطيئة.

من جهة أخرى، إن الحياة الأبدية هبة مجانية، هي هبة من الله. لا أحد يمكنه أن يكتسبها. إنها تُعطى لجميع الذين يؤمنون بالمسيح مخلصاً للخطأة. إنها لنا الآن نحن الذين نؤمن بالإنجيل وسننعم بها بتمامها في "النهاية".

يغطي الإصحاح السابع جانباً آخر من الأمور التي يصعب عملياً على المؤمن اليهودي أن يستوعبها. إنه يطرح السؤال التالي ويجيب عليه: "ما هو قانون الحياة للمؤمن المذعن؟" سيقول اليهودي بشكل طبيعي أنه "الناموس الذي أعطي في سيناء". أما جواب الرسول فهو "المسيح الناهض من بين الأموات". يا للأسف، كم من المؤمنين الأمميين قد فاتتهم هذه الحقيقة وأيضاً أولئك المنحدرين من اليهودية.

يبدو من حديث بولس أنه يضع نصبَ عينيه أخاه المسيحي من أصل يهودي، وهذا يظهر من الآية الافتتاحية في الإصحاح: "أَمْ تَجْهَلُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ - لأَنِّي أُكَلِّمُ الْعَارِفِينَ بِالنَّامُوسِ - أَنَّ النَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى الإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيّاً". ومن غير الوارد الآن إذاً أن يستخدم التعبير "الناموس" بأي معنى آخر عن ذاك الذي كان في ذهنه عندما استخدمه مراراً وتكراراً في الإصحاحات السابقة. إن الناموس، هنا، يعني ناموس موسى ولا شيء آخر. المقصود به هو ذاك الذي كان في أساس ناموس موسى، الوصايا العشر التي أعطيت على جبل سيناء. وهو يدافع هنا عن فكرة أن الناموس له سلطة على البشر إلى أن ينهي الموت سلطته أو ينهي علاقتهم به. ولكنه ما برح يبين لنا بطريقة هي أوضح ما تكون بأننا قد متنا مع المسيح؛ هل يعني هذا أن نبقى بلا ناموس؟ كلا على الإطلاق: فنحن الآن، كما يظهر في مكان آخر أيضاً (1كو 9: 21) "تحت ناموس المسيح" أو "تحت الناموس"، بمعنى أننا "خاضعون بالقانون" للمسيح رئيسنا الجديد. إنه زوج ورئيس أيضاً، تماماً كما تدل عليه الآية في (أفسس 5) بوضوح كبير.

هذه الحقيقة يوضحها الرسول بولس بشكل مقنع جداً في الآيات 2 و 3، وتطبيقها يشرحه في الآية 4. فالمرأة المتزوجة من رجل تكون مرتبطة به شرعياً في تلك العلاقة حتى يحل الموت هذا الرباط. فإن تزوجت من رجل آخر بينما زوجها على قيد الحياة تصبح زانية. ولكن عندما يموت زوجها الأول تصبح حرة للزواج من آخر دون أن تقع عليها اللائمة من جراء قيامها بذلك.

وعلى نفس المنوال، فإن الموت قد أنهى علاقة المؤمن بالناموس. ليس موت الناموس بل موتنا نحن مع المسيح, الذي أنهى النظام القديم. والآن أصبحنا أحراراً ويمكننا الزواج من آخر، حتى من المسيح القائم لكي نثمر لله.

انبثق عن المثل الإيضاحي الذي أورده بولس مفهومٌ عجيبٌ ومذهلٌ إلى حد ما بأن الزوج الأول ليس الناموس على الإطلاق وإنما "إنساننا القديم". وهذا المفهوم غير منطقي كلياً وليس له ما يبرره، فكما رأينا، إن الإنسان القديم هو ذاتي كإنسان في الجسد. فأنا لم أتزوج من نفسي. وهكذا اقتراح هو قمة اللامعقول والعبثية. المؤمن اليهودي كان يوماً مرتبطاً بعهد الناموس. لقد كان هذا مقترحاً كوسيلة للإثمار لله. وما كان من هذا إلا أن أثار كل الشرور في القلب. وحلّ الموتُ العلاقة السابقة، والمرءُ الذي كان ينظر إلى الناموس للثمار صار ينظر إلى المسيح القائم، فيما القلب مشغول به، فهذا يثمر في الحياة التي تسرّ الله.

يقول بولس الرسول: "لَمَّا كُنَّا فِي الْجَسَدِ (أي: في الحالة الطبيعية كأناس غير مخلّصين) كَانَتْ أَهْوَاءُ الْخَطَايَا الَّتِي بِالنَّامُوسِ تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ". وهذا يوضح بشكل كبير الحالة التي سبق ذكرها، الناموس كان الزوج، العامل الفعال الذي به كنا نرجو أن نثمر لله. ولكن بدلاً من ذلك، فقد أثمرنا للموت، فآل كلُّ كدّنا ومعاناتنا على أمل إثمار البر إلى الخيبة، وهكذا ولد الجنين ميتاً.

"وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ النَّامُوسِ إِذْ مَاتَ الَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ (العلاقة) حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ الرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ الْحَرْفِ" (الآية 6). في المثال التوضيحي يموت الزوج الأول وتصبح المرأة حرة للاقتران من آخر. وفي التطبيق لا يقول أن الناموس قد مات، بل يطرح فكرة أن الموت (الذي هو موت المسيح بالنسبة لنا) قد أنهى العلاقة التي كنا فيها. ومن هنا فليس هناك تضاد حقيقي في نهاية الأمر. ففي كلتا الحالتين انتهى الوضع السابق بالموت. كما رأينا، فإن الناموس كان موجهاً للإنسان في الجسد، وكانت هذه حالتنا السابقة، أما الآن فكل شيء قد تبدل. فما عدنا في الجسد، بل في الروح (كما سنرى في الإصحاح التالي)، وبهذا نكون في حالة جديدة لا ينطبق عليها الناموس. ومن جديد يعود السؤال القديم للبروز ثانية: إن كان كل هذا صحيح فهل نترك أنفسنا تخطئ؟ لا. هذا محال. يجب أن ندرك ببساطة أن الناموس له وظيفة معينة ولكنه ليس شريعة الحياة الجديدة. إنه يتتبع الخطيئة ويكشفها. ولربما أمكن لبولس أن يقول: "لم أعرف الخطيئة لولا الناموس". بمعنى أنه ما كان ليكتشف الطبيعة الشريرة داخله – رغم سلوكه القويم خارجياً – لو لم يقل له الناموس: "لا تشتهِ". إن طبيعة الخطيئة تمردت على هذا وأنشأت فيه كل أشكال اشتهاء مال الغير أو الرغبة التي لا يمكن إرضاؤها. لاحظوا بانتباه كيف يبرهن هذا بشكل مقنع أن الوصايا العشرة كانت على الدوام نصب عينيه أينما كان. إن القول بأننا متنا لناموس الشعائر منافٍ للمنطق على ضوء هذا التصريح. فأين الكلمة أو الوصية التي تمنع الشهوة؟ إنها في الوصايا العشر. ولذلك فإن "الناموس" يعني الأوامر الإلهية المنقوشة على ألواح الحجارة.

لولا الناموس لكانت الخطيئة ميتة، بمعنى أنها كانت خاملة وغير مدركة. لقد كانت الخطايا لم تظهر بشكل جلي إلى أن أثار الناموس هذا الموضوع.

يقول: "أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ النَّامُوسِ عَائِشاً قَبْلاً. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ فَمُتُّ أَنَا فَوُجِدَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ. لأَنَّ الْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ خَدَعَتْنِي بِهَا وَقَتَلَتْنِي" (الآيات 9 - 11). بمعنى آخر كأنه يقول: "لقد كنتُ وبمنتهى السعادة جاهلاً بحالتي الأخلاقية الحقيقية أمام الله كخاطئ إلى أن أتتني الوصية التي تمنع الشهوة تردعني بقوة. لم أكن أدرك أن الرغبة الشريرة كانت آثمة في حد ذاتها حتى ولو لم أحققها بالفعل. ولكن الناموس جعل هذا واضحاً. لقد صارعتُ لأكبح كل الرغبات المحرمة؛ ولكن الخطيئة – كمبدأ الشر في داخلي – كانت قوية عليّ لأقمعها. لقد تغلّبَتْ عليّ بالحيلة، وخدعَتْني، وهكذا فبتعدي الوصية جعلتني بشكل مدرك تحت حكم الموت". كان هذا هو الغاية المقصودة من الناموس، كما يظهر في رسالته إلى أهل غلاطية إضافة إلى رسالته هذه. "النَّامُوسُ زِيدَ بِسَبَبِ (أو نظراً لـ ) التَّعَدِّيَاتِ". والمعنى أن الناموس ساهم في إعطاء الخطيئة صفة التعدي تحديداً، وهكذا عمّق الشعور بالذنب وعدم الاستحقاق.

ولذلك يصل إلى القول مستنتجاً: "النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ". فالخطأ ليس في الناموس بل فيّ أنا.

وهنا يصل إلى السؤال: ((هل هذا الناموس المقدس هو الذي جلب لي الموت؟)) لا. أبداً، بل إن ما فعله هو أنه كشف في داخله ذاك الذي يؤدي إلى الموت – ويقصد بذلك الخطيئة، التي سلط الناموس الضوء عليها بغية إظهار بشاعتها وشناعتها، وهكذا "أعمال الموت" فيه بواسطة ما كان لديه والذي يراه صالحاً بحد ذاته. وهكذا الخطيئة، قد أُظهرت أثيمة بشكل مفرط على ضوء التشريع القانوني.

اعتبر الكثيرون أن الآيات 14 – 25 تشير إلى الخبرة المنطقية التي يمر بها المسيحي طوال حياته. وآخرون لا يعتقدون أنها تعكس الصراع الذي يعانيه المسيحي الحقيقي على الإطلاق، ولكن من الواضح أن بولس كان يصف الصراع بين الرغبات العليا والدنيا عند الإنسان الطبيعي، وخاصة لليهودي غير المهتدي والواقع تحت الناموس. ولكن كلا الرأيين يتناقضان بشكل واضح مع النظرية المطروحة في هذا الجزء من الرسالة.

بالنسبة للتفسير الأخير، يجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا الجزء من الرسالة بأكمله يطرح سؤالاً عن تحرير المؤمن من سيادة الخطيئة، وليس تحرير غير المؤمن من خطاياه. علاوة على ذلك ليس من إنسان غير مخلّص يستطيع أن يقول بصدق: "إني ابتهج بناموس الله بحسب الإنسان الداخلي". فقط هؤلاء الذين يمتلكون الطبيعة الجديدة يستطيعون الحديث على هذا النحو. وإذ أعتبرُ أن هذه هي الخبرة العادية لشخص نال الخلاص للتو فإني سأحاولُ أن أظهر خلال متابعتنا لدراسة الإصحاحات 7 و 8 أن هناك تعاقب متسلسل للأفكار ينتقل من الانذهال والارتباك في الإصحاح 7 وصولاً لإلى التفكير الذكي والسلوك بالروح في الإصحاح 8. ولا ريب أن كل المسيحيين يعرفون شيئاً عن الحالة التي نجد وصفها في الآيات 14 – 25 من هذا الإصحاح السابع، ولكن ما أن نصبح خارجها فلن يحتاج أحد للمرور فيها من جديد على الإطلاق. إنها ليست الصراع بين الطبيعتين وحسب. لو كانت هكذا فعلاً، لكان من الممكن للمرء أن يعود إلى نفس الخبرة غير السارة مراراً وتكراراً. إنها تبين لنا الممارسات لنفس نشطة متسرعة تحت الناموس لم تتعلم بعد طريق التحرر والانعتاق. عندما يتعلم المرء ذلك، فإنه يتحرر من الناموس إلى الأبد. سبق أن قلتُ قبلاً في البداية أن لدينا هنا أصلاً يهودي مؤمن يجاهد لينال القداسة باللجوء إلى الناموس كقاعدة لحياته ويحاول بعزم موطد أن يُجبر طبيعته القديمة لأن تكون خاضعة للناموس. في العالم المسيحي اليوم، إن المؤمن الأممي العادي يمر بنفس الخبرة؛ ذلك لأن الالتزام بالقوانين تعليم شائع منتشر في كل مكان تقريباً.

ولذلك فعندما يأتي شخص إلى الإيمان فإنه من الطبيعي أن يعتقد أن ولادة المرء من الله هي مجرد مسألة تصميم ومحاولة مستمرة لإخضاع الذات للناموس، وهكذا يصل المرء إلى حياة القداسة. والله نفسه يسمح بالتجربة كي يتعلم شعبه بالخبرة العملية أن الجسد في المؤمن ليس أفضل من الجسد في غير المؤمن. وعندما يتوقف المرء عن محاولته الشخصية يجد أن التحرر عن طريق الروح هو بالامتلاء بالمسيح القائم.

يكتب بولس بصيغة المفرد المتكلم، ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه الخبرة التي يصفها مطولاً هنا هي خبرته الشخصية بالذات (رغم أنه قد يكون مرّ بها)، ولكن غايته هي أن يجعل القارئ الذي قد يدخل فيها يتعامل مع الأمر بتعاطف وتفهم لذاته.

إن الناموس روحي، أي أنه من الله، وهو مقدس وفائق الطبيعة. ولكنّ جسدي شهوانيٌّ رغم أني مؤمن؛ فالجسد يسيّرني بشكل أو بآخر. في (1كو 2، 3) ميّزنا الإنسان الطبيعي فينا، أي الإنسان غير المخلَّص؛ فالإنسان الجسداني، هو ابن غير مخلَّص لله؛ والإنسان الروحي، هو المسيحي الذي يحيا ويسلك بالروح.

إن الإنسان الجسدي هنا هو عبد للخطيئة، أي أنه خاضع لسلطان الطبيعة الشريرة التي مات لها في المسيح، وهذه حقيقة مباركة بالفعل، ولكنه إنسان لم يدركه الإيمان بعد. وبالتالي فإنه يجد نفسه ينساق في الاتجاه المعاكس لأعمق الرغبات الكائنة في طبيعته الجديدة المغروسة بالقداسة. فيمارس أشياء لا يريدها. ويخفق في تحقيق نواياه الصالحة. يبغض الخطايا التي يرتكبها. والخير الذي يحبه لا يجد لديه قوة لإنجازه. ولكن هذا يثبت له أن هناك شيئاً ما في داخله عدا ذاته الحقيقية كابن لله. فلا تزال لديه الطبيعة الجسدانية رغم أنه وُلِدَ لله. إنه يعلم أن الناموس صالح. ويريد أن يحفظ الناموس، ويصل شيئاً فشيئاً إلى الإدراك أن من يخفق ليس ذاته المتحدة مع المسيح. إنها الخطيئة، الساكنة فيه، هي التي تمارس السيطرة عليه (الآيات 14 - 17).

وهكذا يدرك ضعف وعقم الجسد. "فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ". إنه يريد أن يفعل الصلاح ولكن تعوزه القوة لإنجازه على نحو صحيح. ويتخلى مع الوقت عن محاولة إجبار الجسد على أن يتأدب وأن يخضع للناموس.

ولكن الصلاح الذي عليه أن يفعل، لا يفعله، والشر الذي لا يريده، فذاك يفعله. وهذا إنما يؤكد له الاستنتاج الذي وصل إليه لتوه: "فَالآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ". والناموس، أو مبدأ السلوك، عندئذ يكون قد اكتشفه. إنه يريد أن يفعل الصلاح ولكنه يفعل الشر. بحسب الإنسان الداخلي، فإنه يبتهج بناموس الله، ولكن هذا لا يقوده إلى القداسة التي يرجوها. عليه أن يتعلم أن يبتهج بالمسيح القائم ليحقق هدف رغباته. وهذا يبلغه لاحقاً، ولكن في هذه الأثناء يكون مشغولاً باكتشاف الطبيعتين مع اختلاف رغباتهما ونشاطاتهما. ويكتشف "ناموساً آخر"، مبدأ، في أعضائه (أي أعضاء الجسد الذي يعمل فيه الفكر الجسداني) الذي يثور على ناموس فكره المتجدد ويأسره إلى مبدأ الخطيئة الذي لا يمكن فصله عن أعضائه الجسدية طالما هو يعيش في هذه الحياة. هذا الناموس يسميه "ناموس الخطيئة والموت". ولولا هذا المبدأ أو القوة الكابحة لما كان هناك خطر منع أو إساءة استخدام أي رغبة أو نزعة إنسانية. وإذ هو على قناعة تامة تقريباً بأن الصراع يجب أن يستمر طوال وجوده الجسدي على الأرض فإنه يصرخ في كرب قائلاً: "وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟" إنه كمثل إنسان مربوط بالسلاسل إلى جثة دنسة، لأنه فاسد، وعاجز عن أن يكسر السلاسل. فهو لا يستطيع أن يجعل الجثة نظيفة وفاضلة، مهما حاول. إن صرخته هذه هي صرخة إنسان يائس يحاول جهده دون جدوى. لقد استنفذ كل الوسائل البشرية. وفي لحظة يرى رؤيا بالإيمان بالمسيح القائم. إنه وحده الذي يعتقنا من سطوة الخطية، وهو المخلص الذي دفع عقوبة الإثم عنا. ويقول: "أشكر الله بيسوع المسيح ربنا". ولقد وجد المنفذ. ليس الناموس بل المسيح في المجد هو قاعدة الحياة للمسيحيين.

ولكن الدخول الفعلي إلى هذا الموضوع يبقيه بولس للجزء التالي. وخلال ذلك يقرّ قائلاً: "إِذاً أَنَا نَفْسِي (أي الانسان الحقيقي كما يراه الله) بِذِهْنِي (أي الذهن المتجدد) أَخْدِمُ نَامُوسَ اللهِ وَلَكِنْ بِالْجَسَدِ نَامُوسَ الْخَطِيَّةِ". مثل هذه الخبرة لا يمكن أن تكون لمسيحي مثالي. الإصحاح التالي الذي سندرسه بشكل منفصل يظهر المنفذ من هذه الحالة المربكة وغير المرضية.

إن كان أحد منكم مؤمناً يعاني من الآلام المبرحة المضنية لهذا الصراع الرهيب ساعياً لإخضاع الجسد للناموس الإلهي المقدس، فدعوني أحثكم إلى قبول حكم الله على الجسد والاعتراف باستحالة جعله يسلك سلوكاً حسناً. لا تتصارعوا معه، فسوف يتغلب عليكم كل مرة. تنحوا عنه؛ توقفوا عن ذلك كلياً. وغضوا الطرف عن الذات والناموس وانظروا إلى المسيح القائم.

لقد أراد الشعب العهد القديم أن يجد طريقاً مختصرة عبر أدوم، وهذا سلوك يدفعنا إليه الجسد، ولكن أبناء عيسو خرجوا مسلحين يقطعون الطريق عليهم. كانت وصية الله أن يغيروا اتجاههم و"يدوروا حول أرض أدوم". وهكذا الحال معنا؛ فعندما نتنحى عن الانشغال بالذات نجد الانعتاق والنصر في المسيح بالروح القدس.

  • عدد الزيارات: 6584