Skip to main content

انتصار النعمة

الجزء 2

الإصحاح 8

لقد كان يثير شفقتي على الدوام، عند تحرير كتبنا المقدسة وتقسيم النص إلى إصحاحات وآيات، ذاك الانقطاع أو الفصل الذي يسمحون به والذي يقع بين الإصحاحين السابع والثامن. إن لدي قناعة بأن نفوساً كثيرة قد أخفقت في رؤية الترابط بسبب هذا الانقطاع. إننا معتادون على القراءة إصحاحاً إصحاحاً، بدل أن نقرأ بحسب المواضيع. والأصح أن الآيات الأربع الأولى من الإصحاح 8 يجب أن تُضَم إلى نهاية الإصحاح 7، ذلك لأنها تتناول موضوع الرجاء: "أشكر الله بيسوع المسيح ربنا".

هذه الآيات الافتتاحية تشكل خلاصة لكل الحقيقة التي تم كشفها قبل قليل في هذا الجزء من الرسالة ابتداءً من الإصحاح 5: 12. وبالطبع ليس هناك حاجة كبيرة لأن أشير وأؤكد على ما صار معروفاً ومألوفاً لكل تلميذ مجتهد على دراسة النص الأصلي: فالجزء الأخير من الآية الأولى هو استكمال (ينتمي في الواقع إلى الآية 4)، يُبهتُ الحقيقة العظيمة المعلنة في الكلمات الافتتاحية: "إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". هذه العبارة المهيبة الجليلة لا تتطلب وجود جملة وصفية. إنها لا تعتمد على سيرنا. إنه حقيقي بالنسبة لكل من هم في المسيح، وأن تكون فيه يعني أن تكون من الخليقة الجديدة. إن نظرة إلى الطبعة المنقحة أو أي ترجمة نقدية سوف تُظهر أن ما أُشيرُ إليه يؤيده جميع المحررين. إن المقت المتأصل عند الإنسان للنعمة الجليلة، وأنا متأكد من ذلك، هو ما أتى بهذه الكلمات الوصفية إلى النص في الطبعة الشائعة. لقد بدا أن الأمر أصعب من التصديق في أن التحرر من الدينونة كان يعتمد على كوننا في المسيح يسوع وليس على أننا نسلك بحسب الروح. ولذلك سهل عليهم نقل الكلمات من الآية الرابعة إلى الآية الأولى. ولكن في الآية الرابعة نجد السؤال المطروح هو عن الموقف.

يا له من ارتياح لا يوصف للنفس المرتبكة المضطربة التي خمدها الإحساس بتفاهتها وعدم استحقاقها، والمحزونة بسبب الإخفاقات المتكررة للارتقاء إلى قامته ذاتها التي تحل العزيمة، يا له من ارتياح يصيب نفس ذلك الإنسان عندما يتعلم أن الله يراه في المسيح يسوع، ومن هنا فإنه يكون حراً من كل دينونة. فقد يهتف قائلاً: "ولكني أشعر أني مُدان جداً". ولكن ليست هذه المسألة. إنها ليست ما أشعر به بل ما يقوله الله. إنه يراني في المسيح القائم، بعيداً عن متناول الدينونة.

السجين أمام هيئة المحكمة، يصعب عليه أن يسمع، وتكون الرؤية باهتة أمامه، ولذلك فقد يتخيل إعلان قرار إدانته في نفس اللحظة الذي يعلن فيها القاضي الحكم ببراءته التامة. ولا يُعزى ذلك للعمى أو للصمم. فحتى وإن كنا بطيئي السمع، ورؤيانا الروحية فيها خلل على الأغلب، فإن الحقيقة المباركة تبقى، وهي أن الله أعلن المؤمن حراً من الدينونة سواء ارتفع كلياً إلى مستوى الحقيقة المجيدة أم لا.

أيها المرتاب، أشح بنظرك إذاً كلياً عن ذاتك وحالتك، وإلى الأبد إلى ما وراء الصليب حيث وضعَتْه خطاياك مرة، وانظر إلى ذاتك فيه، ممجداً هناك على يمين الله. ما كان ليكون هناك لو لم تتم تسوية مسألة الخطيئة بالشكل الذي يرضي الله. إن حقيقة أنه هناك وأن الله يراك فيه هي أكمل شهادة ممكنة على تحررك من الدينونة.

"هاهو السلام يتدفق للأبد

من أفكار الله حول ابنه.

هاهو السلام قد أتى مع المعرفة

بأن كل شيء قد تم على الصليب.

السلام مع الله هو المسيح في المجد،

الله نور والله محبة،

مات يسوع ليخبر قصة

عودة الخصوم إلى الله في الأعالي".

لقد جُلِبنا إلى الله "بيسوع المسيح" ولذلك فإن مسألة الدينونة برمتها قد حُلّت وسوِّيت. وسوف لن تُطرح من جديد.

وهذا يضع النفس في حالة من الحرية تمكنها من أن تمتلئ بمرضاة الله، ليس كوسيلة للهرب من غضب الله، بل بدافع المحبة له هو الذي أتى بنا إليه في سلام. وما عجز الناموس عن إنجازه، بكل تحذيراته وتهديداته الصارمة والمهيبة (أي تحقيق حياة من القداسة، بسبب الضعف واللاموثوقية في الجسد)، يتحقق الآن في قبول الحياة الجديدة بالروح. يمكن قراءة الآية الثانية بشكل أوضح ربما على النحو التالي: "ناموس الروح (الذي هو حياة في المسيح يسوع) قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت". بمعنى أن ناموس الروح في الحياة بالمسيح يسوع الذي تلقيناه عند الولادة الجديدة وُضِعَ على طرف نقيض من ناموس الخطيئة والموت الذي يصارع المؤمن ضده دون جدوى، طالما ظل يصارع مستخدماً قوته الشخصية. إن النصر يأتي من خلال التحول من الذات نحو المسيح القائم. إن ناموس الروح يؤتي بالبركة لأنه يعطي القوة لمن لم يكن لديه من قبل. إنه مبدأ جديد كلياً: حياة (ليست فينا أو من ذاتنا، بل) في المسيح يسوع. هذه الحياة الجديدة تُمنح للمؤمن. وبقوة هذه الحياة الجديدة يُدعى للسير. "الله هو الذي يعمل فينا من ناحية الإرادة والفعل لأجل مسرته". كان الناموس يتطلب براً من الإنسان الذي كانت طبيعته فاسدة تماماً ومنحرفة والتي ما كانت لتؤتي إلا ثماراً فاسدة. لقد أوجد الروح القدس طبيعة جديدة في الإنسان بالمسيح، ومع هذه الحياة الجديدة ارتبطت مشاعر وعواطف ورغبات جديدة لكي يستجيب بسرور إلى إرادة الرب المتبدية في كلمته. لذلك فإن بر الناموس، والصلاح في الممارسة التي يتطلبها الناموس، ينشأ بالفعل في الإنسان الذي يسير لا بحسب الجسد، ولا تحت سلطان الطبيعة القديمة، بل بحسب الروح، أو في خضوع للروح الذي جاء ليتملكنا للمسيح.

في الآيات (5 - 27) يستأنف بولس كشف مجال واسع من الحقائق المعززة للنفس فيما يتعلق بسكنى الروح القدس الذي هو النائب الوحيد للمسيح على الأرض. في بادئ الأمر يذكرنا بأن هناك مبدآن متعاكسان تماماً يجب أخذهما بعين الاعتبار، أو بالأحرى مقياسين للحياة متضادين تماماً. فهؤلاء الذين يعيشون بحسب الجسد، أي غير المخلَّصين، تسيطر عليهم الطبيعة الجسدانية – إنهم "يهتمون بأمور الجسد". في هذه الكلمات الجامعة الموجزة تتلخص كل حياة الإنسان الطبيعي. ومقابل ذلك فإن المباركين هم أولئك الذين يعيشون بحسب الروح على نحو مميز. ويشرح بجملة معترضة أن "اهتمام الجسد هو موت"، فهذه هي النتيجة المنطقية بالتأكيد؛ ولكن "اهتمام الروح هو حياة وسلام". فمن يقتادون بالروح يُرفعون إلى مستوى ليس للموت فيه موضع ولا يُعرف فيه صراع.

هذا لا يعني أن الجسد قد تحسن أو سيتحسن أبداً. فالجسد في المسيحي الأقدم والأكثر قداسة هو شرير بشكل لا يمكن تغييره مثله مثل الجسد في أكثر الخطأة خسة وفساداً. "اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ". (الآية 7). وإن كل المحاولات لإصلاح أو تطهير الجسد لا جدوى منها. إن الناموس يُظهر وحسب الشر الذي لا برء منه. وهذا يفسر كون الإنسان الطبيعي لا فائدة منه. "فأولئك الذين في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله". بالطبع من المستبعد أن يكون هكذا إنسان غير قادر على التمييز بين الخطأ والصواب، أو أنه قادر على التمييز بين الخطأ والصواب، أو أنه قادر على هذا التمييز ولكن لا حول له ولا قوة إزاء فعل الصواب. هكذا قول سيكون بمثابة تصريح بأن هذا الإنسان هو مخلوق غير مسئول، بل حتى أنه ضحية لقدرية وحشية قاسية. ولكن معرفة الشر واستحسان الخير تُظهر أن الإنسان الطبيعي ينزع إلى ارتكاب الخطأ ويخفق في فعل الصواب، ذلك لأن الخطيئة تسيّره بالجسد ولها يسلم أعضاءه كأدوات للفجور كما سبق ورأينا في الإصحاح السادس. وبما أنه عاجز عن تغيير طبيعته فإنه لهذا السبب لا يستطيع أن يرضي الله في الواقع.

ولكن الأمر بعكس ذلك عند المؤمن. فما عاد في الجسد لأنه وُلِد من الله. إنه الآن في الروح، وروح الله تسكن فيه. "إن كان" لا تتضمن المعنى بأن هناك مسيحيين لا يسكنهم الروح، وليس لهم القوة "بسبب" ذلك. فالحقيقة أنك ما عدت في الجسد "بسبب" سكنى روح الله فيك، وذلك لأنك من عائلة الإنسان الأول وتحت سطوة الطبيعة القديمة. إن كان أحد خلواً من روح المسيح، سواء اعترف بأنه مؤمن أم لا، فإنه ليس منه، أو "ليس له". ليس المقصود بذلك هو مجرد توزيع للمسيح بل إن روح المسيح هو الروح القدس الذي أرسله المسيح إلى العالم والذي يسكن جميع الذين افتداهم في هذا التدبير الإلهي للنعمة. وبالطبع فإن هذا يخلق شبهاً بالمسيح في ذاك الذي تسكنه الروح على هذا النحو.

ولكن إن كان المسيح (بالروح) ساكناً فينا هكذا فهو وحده مصدر قوتنا للقداسة. سوف لن يقدم الجسد لنا أي عون. "الجسد مائت بسبب الخطيئة". فهكذا الإتيان بثمار لله. وكل شيء يجب أن يكون من الروح. "الروح حياة بسبب البر".

لا نقصد بذلك أن نتجاهل أو نستخف بقَدْرِ الجسد. فهو أيضاً اشْتُرِي بدم المسيح، ولدينا الوعد بأنه "إِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ" (الآية 11). من غير المجدي القول، مثل البعض، بأن هذا تسريع للحاضر، في حين أفادت الآية السابقة بالعكس تماماً. "الجسد ميت بسبب الخطيئة" – وبالطبع ليس ذلك بالفعل بل من الناحية القضائية. ولذلك علينا ألا نتوقع أي شيء منه. إن الجسد القوي لا يعني بالضرورة قديساً قوياً, ولا الجسد الواهن يعني مؤمناً ضعيفاً. بل إن القوة الطبيعية قد تبدو معيقاً للنمو الروحي إذا كانت الحقيقة, التي ما برحنا نتمعن فيها, غير معروفة, في حين أن ضعف قوة الطبيعة قد يكون مدخلاً سهلاً لممارسة القداسة. ومن هنا كان الرهبان والنساك على اختلاف أنواعهم ينشدون أن ينموا في النعمة بمعاقبة الجسد وتجويعه. ولكن نعلم من (كولوسي 20) أن كل هذا عقيم وعديم الجدوى فمن العبث كبح الرغبات الجسدية على هذا النحو.

ولكن الجسد للرب, والروح القدس نفسه الذي أقام يسوع من بين الأموات سوف يقيمنا نحن أيضاً في نهاية الأمر, بمنح حياة قيامية لهذه الأجساد الفانية. إن الحديث يدور حول جسد المؤمن الحي الذي يتمتع بالحياة الجديدة الآن في جسدٍ عرضةٍ للموت. فهو سيتخذ صفة الخلود لدى عودة الرب. وإذ عيننا الله لهذه فإننا لا ندين بشيء للجسد. فلسنا مدينين له لنقوم بخدمته. فإن فعلنا ذلك فهذا يعني الموت (وهذه حقيقة هامة جداً يلفت بولس انتباهنا إليها وذلك أن "الخطيئة عندما تحبل فإنها تلد موتاً"). ولكن إن أمتنا عمل الجسد بواسطة قوة الروح الساكنة فينا فإننا سنحيا حقاً. إن الجسم يُنظر إليه كأداة يتصرف من خلالها الجسد. إنه يثير الغريزة الطبيعية للانغماس في الرذيلة. إن الإنسان الذي تقوده الروح يجب أن يكون منتبهاً إلى ذلك. عليه أن يميت هذه الرغبات المحرمة. ونقرأ في (كولوسي 3: 5): "فَأَمِيتُوا أعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ". فبما أننا صُلبنا مع المسيح فإن لنا إيمان الآن حتى نميت من خلال دينونة الذات أعمال الجسد. "فنحن الذين نحيا قد تحررنا للموت من أجل المسيح".

أن نسلك في الجسد يعني أن نسلك ضد كل مبدأ المسيحية, "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ". فبهذه الحياة في قوة الروح نميت أعمال الجسد ونظهر حياتنا وعلاقتنا الجديدتين. فهو ليس روح عبودية, أو إلزام, يملؤنا بالخوف والفزع, بل روح التبني والنبوة, التي بها نرفع قلوبنا غريزياً إلى الله في صرخة الطفل الواعي "يا أبا، الآب". إن التبني يختلف عن الولادة الجديدة. فنحن أولاد بالولادة ولكننا أبناء بالتبني. وبالمعنى الكامل نحن لم نتَلَقَّ التبني. فهذا كله سيتحقق, كما تظهر الآية 23, لدى عودة الرب. عندما كان الأب الروماني يعترف علانية في الساحة العامة بولده كابن ووريث بحسب القانون, كانت هذه الممارسة الطقسية تدعى "التبني". فكل المولودين في عائلته كانوا أبناء. وهكذا فإننا قد ولدنا ثانية بكلمة الله, ومن هنا فإننا أولاد, كمثل كل المؤمنين منذ هابيل حتى الآن. ولكن بما أن الروح يسكن فينا فإننا متبنون كأبناء, وهذا سيتجلى بشكل كامل أمام الجميع عندما نتحول إلى صورة مخلصنا عند مجيئه الثاني.

إن نداء الطفل "يا أبا, الآب" موحية للغاية. فالكلمة الأولى الواردة هنا عبرية, والثانية يونانية. فالنسبة لأولئك الذين في المسيح, زال الحائط المتوسط. والجميع واحد فيه. ومعاً نصرخ إليه "يا أبا, الآب". لقد اعتاد ربنا نفسه استخدام التعبير المضاعف الكلمات هذا في بستان جثسيماني (انظر مرقس 14: 36). اقترح أحدهم وكان اقتراحاً ملائماً أن "أبا" كلمة مناسبة لشفاه الطفل الرضيع, في حين أن الكلمة اليونانية التي تعني "الآب" كلمة تناسب شخصاً أكثر نضوجاً. ولكن الصغار والكبار يشتركون معاً هنا لمخاطبة الآب بالروح.

وهو نفسه يشهد مع روحنا الإنسانية بأننا أولاد الله. وأخذنا شهادته لنا المعطاة في كلمته (عبرانيين 10: 15). ولذلك فإن لنا الشهادة في داخلنا, وهو الكلمة المخبأة في قلوبنا (1 يوحنا 5: 10). والآن يتخذ الروح نفسه مسكناً في داخلنا ويقودنا إلى فرح السماويات. وفي النص نرى أنه "الروح نفسه". تتطلب اللغة اليونانية هذا التأكيد لأن الكلمة "روح" هي اسم محير. وبالنسبة إلى اللغة الإنكليزية فإن هذا الترتيب يصح فيه استخدام الضمير الشخصي. إنه يتحادث بود مع أرواحنا, فينيرنا, ويرشدنا, ويوجهنا من خلال الكلمة.

"من شعر بروح العلي,

لا يخزى, ولا يرتاب أو ينكره,

بل ينادي بصوته قائلاً: أيها العالم الجاحد

تنحوا جانباً لأن هذا مكاني".

إن "شركة الروح" أمر حقيقي رائع يعرفه ويفرح به أولئك الذين يسلكون فيه.

إن كنا أولاد الله فمن الطبيعي أن نكون أيضاً ورثة له، وهكذا نكون وارثين مع المسيح. فنشترك في كل أمجاده المكتسبة, وهكذا سوف "نتمجد معاً" في نهاية المطاف.

في الآيات 18 – 27 يغاير الرسول بين موقفنا الحالي مع المجد العتيد. رغم أننا مسكن للروح إلا أننا مدعوين للمرور عبر الألم والمعاناة ونحن نتبع خطواته وهو الذي كان, خلال وجوده على الأرض, رجل أوجاع. ولكن كل ما يمكن أن نعاني منه هنا لا يقاس بالمجد الذي سيستعلن قريباً.

إن الخليقة كلها تنتظر مترقبة الاستعلان الكامل للوضع الحقيقي لأبناء الله, عندما تشترك هي أيضاً في تلك الحرية المجيدة. لقد جعلت عرضة للفناء, ليس بإرادتها بل بسبب إخفاق رأسها, ومع ذلك فإن هذا الوضع ليس للأبد, بل على رجاء التجديد النهائي, وفي ذلك اليوم ستعتق من "عبودية الفساد" وتُعد لتشارك في "حرية مجد أولاد الله".

لا تشترك الخليقة في حرية النعمة. سيكون لها دور في حرية المجد, في عهد الملكوت في البركة الألفية. حتى ذلك الوقت ستبقى النغمات الصغيرة مسموعة في كل أصوات الخليقة؛ أنين وتمخض آلام الولادة في الوقت الحالي, في انتظار التجديد, ونحن أنفسنا, رغم أننا قد نلنا خلاص نفوسنا ولدينا باكورة ثمار الروح (نستمتع الآن بالتذوق المبدئي لما سنكون فيه أنفسنا بكامل امتلائه قريباً), فنئن في انسجام مع الخليقة المتأوهة ونحن ننتظر بترقب التبني المعترف به عندما سنتلقى افتداء أجسادنا ونكون مثله بشكل كامل.

على هذا الرجاء قد خلصنا وبقوته نحيا. نسير بالإيمان, ليس بالمعاينة. فلو أننا رأينا لتلاشى الرجاء, لكن بهذا الرجاء ننتظر الرب بصبر.

خلال هذه الأثناء غالباً ما نتعرض للتجربة والامتحان إلى أقصى حد, ولا نعرف حتى ما سنصلي لأجله كما ينبغي, لكن الروح الساكن فينا, العارف بما في فكر الله بشكل كامل يشفع فينا بحسب مشيئة الله, ليس بكلمات مسموعة بل بأنات لا ينطق بها "لقد كنا نئن في العبودية أما الآن فنئن في النعمة", كما قال أحدهم وأحسن القول. وهذا الأنين بحد ذاته هو شهادة للأوضاع المتغيرة التي نتجت عن اتحادنا بالمسيح. إن أنات الروح متساوقة مع تنهداتنا ودموعنا, وإن فاحص القلوب العظيم يصغي ويستجيب في حكمة لا متناهية ومحبة لا تبدل فيها.

وهكذا نحفظ في سلام وسط الضيقة, ولنا ثقة في قلوبنا, "أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (الآية 28). وهنا ندخل إلى الجزء الختامي للإصحاح والقسم العقائدي العظيم في الرسالة, ونجد تلخيصاً لكل ما مررنا عليه, وخاتمة بارعة للموضوع الذي بدأ بالعنوان "بر الله كما تبدى في الإنجيل". وهذا ينقسم إلى قسمين فرعيين:

في الآيات 28 – 34 لدينا: "الله معنا".

وفي الآيات 35 – 39 لدينا: "ما من فاصل".

هناك سلسة مجيدة من خمس ارتباطات في الآيات 29, 30 تصل من الأزل في الماضي إلى الأبدية في المستقبل- المعروفة مسبقاً, المقدرة مسبقاً, المدعوة, المبررة, الممجدة. كل ارتباط كان مسبوكاً في السماء ولا يمكن لأي ارتباط أن يتحطم أو ينكسر. هذا الجزء المبارك من الرسالة ليس للاهوتيين ليتجادلوا حوله بل هو للقديسين ليبتهجوا به. فما كان معروفاً مسبقاً من قبل أن نطأ هذه الأرض قد سبق وعيننا له لنصبح مشابهين تماماً لربنا المبارك – "مشابهين صورة ابن الله", من أجل أن يكون, ذاك الذي كان "الابن الوحيد" من الأزل, "بكراً بين إخوة كثيرين". ولذلك فقد دعينا بالنعمة الإلهية وتبررنا بالإيمان على أساس الافتداء المنجز. وتمجّدنا أكيدٌ بناء على معرفة الله المسبقة.

ماذا سنقول إزاء كل هذا؟ إن كان الله قد استعلن إلى هذا الحد لأجلنا – وليس ضدنا كما جعلتنا قلوبنا المضطربة وضمائرنا المثقلة نعتقد – فأي قوة يمكن أن تكون علينا؟ من يستطيع أن يقارع الإرادة الإلهية وينجح؟

بإعطائنا المسيح, أظهر لنا الله (كما قال أحد الإخوة المحبوبين) "أنه أحبنا أكثر مما أحببنا نحن خطايانا", وأنه لم يدخر "ابْنهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، فكَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟"

أعتقد أن الآتيين التاليين يجب قراءتهما على صيغة سؤال, كما في عدة ترجمات نقدية: "مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ! مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ الْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً الَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ اللهِ الَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!"

ليس من جواب ممكن. كل صوت يصمت. كل اتهام يبطل. وقوفنا في المسيح كامل وتبريرنا لا يتغير أبداً.

وهذا ما نجده في الآيات الختامية 35 – 39, حيث يتحدى الرسول بلهجة انتصار أي ظرف ممكن وأي كائن في هذه الحياة أو الحياة الآتية أن يحاول فصل المؤمن عن محبة الله التي في المسيح يسوع. وما من خبرة مهما كانت قاسية أو صعبة يمكن أن تفعل ذلك. حتى ولو كنا مكشوفين كشاة إلى الذبح إلا أن الموت إنما يدخلنا إلى حضرة الرب. في كل الظروف لسنا نغلب فقط بل إننا ننتصر في المسيح.

وهكذا, وإذ بدأ هذا القسم بالقول "ما من دينونة". ينهيه بالقول "ما من فاصل": "فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا".

يا له من تحقيق مبارك وعجيب لهذا الموضوع المذهل الذي لم يسبق أن أعطي مثله لإنسان ليعرف الآخرين به! علّ نفوسنا تدخل إليه بعمق أكبر وتجد سعادة متزايدة وقوة روحية بينما نحن نتأمل به.

"ما من دينونة. تبارك الكلمة.

ما من فاصل, فنحن مع الرب إلى الأبد.

بدمه اشترانا, ومحا كل عارنا,

فنمجده بابتهاج الآن,

ذاك الحمل الذي ذبح عن الخطاة".

ج. دينهام سميث.

  • عدد الزيارات: 3289