Skip to main content

علاقة الله المستقبلة مع إسرائيل في تحقيق الكتابات النبوية

الإصحاح 11

هذا الإصحاح الحادي عشر هو الأكثر تنويراً فيما يتعلق بمخطط الله التدبيري, لقد رأينا كيف أن علاقة الله الماضية مع إسرائيل أثبتت بره في تعامله مع الأمميين كما يفعل الآن, رغم أن العهد قد جُعِل للشعب الأرضي. ثم في الإصحاح 10 رأينا أنه رغم أن الشعب قد ألقاه الله جانباً, إلا أن هذا لا يعني حرمان الأفراد الإسرائيليين من الاهتداء إلى الله وإيجاد نفس الخلاص الذي, بجلاله, يعلنه بخدامه إلى الأمميين. في الجزء الأول من الإصحاح الحالي الذي ندرسه هنا، أي الآيات 1- 6, نجد متابعة للموضوع المطروح في الإصحاح 10 ويأتي إلى نهايته. السؤال المطروح هو: "ألعل الله رفض شعبه؟" هذا محال. إن خبرات بولس الشخصية تثبت أن الحالة لم تكن هكذا, لأنه كان إسرائيلياً, من نسل إبراهيم, ومن سبط بنيامين. ومع ذلك فقد أبقاه روح الله وأتى به إلى معرفة الخلاص بالرب يسوع المسيح. وما كان صحيحاً بالنسبة له يمكن أن يكون صحيحاً لكل واحد. ما حدث هو ببساطة تحقيق كلمات النبي إيليا بمعنى أوسع منه عندما تحدث في أيام أهاب. لقد نبذ الشعب كل شهادة أرسلت إليه. فهم شعبٌ قتل الأنبياء ودنّس مذبح الله. ولكن كما في أيام إيليا, أبقى الله سبعة آلاف لنفسه، الذين لم يحنوا رقبتهم لبعل, "فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ أَيْضاً قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ اخْتِيَارِ النِّعْمَةِ". إن الله يرفض الشعب, ولكن النعمة تخرج إلى الأفراد.

الأمر العظيم الذي على إسرائيل أن يفهمه, إذا ما خلص, هو أنهم يخلصون تماماً مثل الأمميين, وذلك بالنعمة. والنعمة, كما رأينا, هي منّة لا تُكتسب اكتساباً. نعم, يمكننا القول: إنها منّة بعكس الاستحقاق. وهذا يبطل كل فكرة بالعمل وتجعلها مستحيلة. فلو كانت المنة بالاستحقاق فإن النعمة ليست بعد نعمة. من جهة أخرى, إن كان الخلاص بالعمل فهذا لا يترك مجالاً للنعمة, لأنه سيأخذ من العمل ميزة الاستحقاقية فيه. إن مبدأي الخلاص بالنعمة والخلاص بالأعمال – متناقضين تماماً كلاهما للآخر, لا يمكن أن يكون هناك امتزاج بين الناموس والنعمة, إنهما مبدآن ينفي كل منهما الآخر.

بدءاً من الآية 7, نجد الرسول ينبري لإظهار هدف الله الخفي فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل في المستقبل. ما كان الشعب يطلبه لم يَنَلْه, ولكن النخبة (أي أولئك المقتنعين بالخلاص بالنعمة) ينالونه. وبالنسبة للبقية فقد أعمى الله بصائرهم. ومن جديد يستشهد بولس من العهد القديم ليظهر أن هذا يتفق بشكل كامل مع الكلمة النبوية. وكما كتب إشعياء: "أَعْطَاهُمُ اللهُ رُوحَ سُبَاتٍ وَعُيُوناً حَتَّى لاَ يُبْصِرُوا وَآذَاناً حَتَّى لاَ يَسْمَعُوا". ويظهر أن هذا حقيقي إلى هذا اليوم. داود أيضاً كتب: "«لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ فَخّاً وَقَنَصاً وَعَثْرَةً وَمُجَازَاةً لَهُمْ. لِتُظْلِمْ أَعْيُنُهُمْ كَيْ لاَ يُبْصِرُوا وَلْتَحْنِ ظُهُورَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ»". هذه اللعنات الرهيبة تحققت عندما قام ممثلو الشعب عن عمد برفض المسيح وجلبوا دينونة على رأس ذريتهم عندما صرخوا في قاعة المحكمة عند بيلاطس: "دمه علينا وعلى أولادنا". فبرفْضِهِم المسيا, رفَضهُم الله. وأخذ الكثير من المسيحيين كأمر مسلم به أنه تخلى عنهم كشعب إلى الأبد. ولكن بولس يظهر هنا أن هذا ليس صحيحاً. فيسأل: "ألعلهم عثروا لكي يسقطوا؟" ويقصد بذلك, السقوط الكامل, السقوط بدون أمل أو إمكانية للشفاء من جديد. فيأتي جوابه "حاشا". لقد أدان الله ارتدادهم ليظهر غنى نعمته نحو الأمميين, وهذه بدورها سوف تستخدم في النهاية لتثير غيرة إسرائيل ولإعادتهم إلى آبائهم وللمسيح الذي رفضوه. هذا الشفاء سيكون وسيلة لبركة لا توصف ستحل على ذلك الجزء من العالم الذي لم يأتِ بعد إلى المعرفة الخلاصية في الإنجيل. ويصرخ بولس بحماسة مقدسة: "فَإِنْ كَانَتْ زَلَّتُهُمْ غِنىً لِلْعَالَمِ وَنُقْصَانُهُمْ غِنىً لِلأُمَمِ فَكَمْ بِالْحَرِيِّ مِلْؤُهُمْ؟". حسن أن نلاحظ استخدامه لهذه الكلمة "ملء" ونحن نأتي إلى بقية الإصحاح. إن ملء إسرائيل سيكون في هداية إسرائيل – وفي هذا تحقيق لهدف الله فيما يتعلق بهم.

لقد كان بولس رسول الأمم, ولأنه هكذا, فقد عظّم رسالته. ولكنه لن يجعل الأمميين يفكرون للحظة بأنه قد فقد اهتمامه بإسرائيل: بل سوف يرى أنهم سيتحرضون للمنافسة, وأن كثيرين سيخلصون منهم لأنهم رأوا نعمة الله تخرج إلى الأمميين. ومن جهة أخرى سوف لن يجعل الأممي يتفاخر على اليهودي بسبب من أن الأخير قد نُحّي جانباً بينما السابق يستمتع بالبركات التي كانت لليهود لو أنه كان مستعداً لتلقيها. ويتابع بولس نظريته فيستخدم مثلاً, يُظهر من خلاله, بشكل أكثر ما يكون وضوحاً وحيوية, المخطط الإلهي فيقول: "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ الْعَالَمِ فَمَاذَا يَكُونُ اقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ الأَمْوَاتِ". أي إن كانوا قد تاهوا من بين جميع الأمم, فإن شعباً خائباً وقلقاً, تحت لعنة إله آبائهم, تخرج رسالة النعمة إلى الأمميين, ونخبة منهم يتلقون الرسالة, ما الذي سيعنيه للعالم ككل عندما يعود إسرائيل كشعب إلى الله ويصبح شعباً مقدساً للغاية, وشاهداً له إلى كل الأمم؟

" وَإِنْ كَانَتِ الْبَاكُورَةُ مُقَدَّسَةً فَكَذَلِكَ الْعَجِينُ! وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ مُقَدَّساً فَكَذَلِكَ الأَغْصَانُ!". إن كانت البقية الباقية من إسرائيل شعباً معزولاً عن الله, فإنهم في النهاية سيكونون شعب الله المنتمي إلى جذوره. وإذا كان جذر شجرة زيتون العهد مقدساً (أي إبراهيم الذي آمن بالله وحُسب له هذا الإيمان براً), فإن الحال سيكون هكذا مع جميع أولئك المتصلين حقاً بالإيمان. لقد كانوا أغصان طبيعية في شجرة الزيتون – الإسرائيليون بالولادة، ولكن ليس بالنعمة, هم الذين قُطِعُوا. ولئلا تخفق وعود الله لإبراهيم بقوله له: "تتبارك بنسلك جميع أمم الله", فإن أغصان شجرة الزيتون البرية – الأمميين – طُعِّموا مع البقية الباقية من إسرائيل, وهكذا فإن اليهودي والأممي المؤمنين يتشاركان معاً في جذر ودسم شجرة الزيتون. ولكن الخطر المميت الآن هو أن يكتفي الأمميون بالامتيازات الخارجية وحسب, وفي حين أنهم مرتبطون بأبناء الموعد, سيخفقون في تقدير إنجيل الله لأنفسهم, وهكذا يكونون غير صادقين وإيمانهم غير حقيقي. في هذه الحالة سيتعامل الله مع الأمميين كما تعامل مع اليهود. ومن هنا نجد التحذير الرزين: "فَلاَ تَفْتَخِرْ عَلَى الأَغْصَانِ. وَإِنِ افْتَخَرْتَ فَأَنْتَ لَسْتَ تَحْمِلُ الأَصْلَ بَلِ الأَصْلُ إِيَّاكَ يَحْمِلُ!". قد يقول البعض: "حسن. ولكن الأغصان الطبيعية قُطعت, لكي أُطعم أنا, الأممي, في الشجرة". والجواب واضح صريح: "مِنْ أَجْلِ عَدَمِ الإِيمَانِ قُطِعَتْ وَأَنْتَ بِالإِيمَانِ ثَبَتّ". لذلك يأتي التحذير: "لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ اللهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى الأَغْصَانِ الطَّبِيعِيَّةِ فَلَعَلَّهُ لاَ يُشْفِقُ عَلَيْكَ أَيْضاً!".

هل ثمة حاجة لأن نتوقف لنتساءل إذا ما كان الأمميون قد قدروا الإمتيازات التي نالوها؟ هل يخْفَ على عين المراقب بعين روحية أن الأحوال في العالم المسيحي سيئة اليوم كما كانت دائماً في إسرائيل؟ ألا نرَ الارتداد عن الحق يسود في كل مكان؟ ألا نرَ علامات الأيام الأخيرة, كما وُصفت في (2 تيموثاوس 3) تتجلى في كل مكان حولنا؟ إن كان الأمر كذلك أفلا نجد في هذا تحذيراً إلى أنه أوشك ذاك الزمان على المجيء حين تُقطع الأغصان غير المثمرة من شجرة الزيتون وتُطعم من جديد الأغصان الطبيعية, عند عودتها في النهاية إلى الله, بشجرة الزيتون الأصلية ذاتها؟

في الطرق التدبيرية هذه نرى جودة وصلاح وحزم الله متجلياً. وهذا ما رأيناه بشكل واضح في الإصحاح التاسع: فالحزم سيكون على أولئك الذين سقطوا, الذين رفضوا الإيمان بالشهادة. أما أولئك الأمميون الجهلة غير المستحقين فالجود سيصيبهم, ولكن هذا الجود سيستمر معهم طالما ظلوا يقدرونه, وإلا فإنهم هم أيضاً سيُقطعون. من يشك أن يوم القطع قريب ووشيك, عندما تختطف الكنيسة الحقيقية لتكون مع الرب, وستحل الدينونة على العالم المسيحي غير المؤمن, وعندما سيتحول الله بالنعمة إلى إسرائيل إذا ما انصاعوا وخرجوا من حالة عدم الإيمان, فسيُطعمون في شجرتهم ذاتهم, بحسب قوة إله القيامة؟

أتذكر مقالة "لناقد نصي للكتاب المقدس", قرأتُها قبل بضعة سنوات, وفيها كان يسخر من فكرة الإلهام عند الرسول بولس بسبب جهله الواضح بإحدى المبادىء الأولية في البستنة. لقد قال: "إن بولس كان جاهلاً حقاً بأصول التطعيم إذ يتحدث عن تطعيم أغصان برية في شجرة جيدة, وهذا يدل بوضوح على أنه لا يعرف أن العادة هي أن تُطعم أغصان جيدة في الشجرة البرية". من الواضح أن الناقد المحترم لم يقرأ كلمات الرسول نفسها بعناية, التي ترد في الآية التالية, وإلا لما وقع في هذا الشرك. فبولس يقول بشكل واضح أن هذا المثال التوضيحي الذي يستعمله هو مثال بعكس ما يعرفه الناس عادة. ويقول: "لأَنَّهُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ قُطِعْتَ مِنَ الزَّيْتُونَةِ الْبَرِّيَّةِ حَسَبَ الطَّبِيعَةِ وَطُعِّمْتَ بِخِلاَفِ الطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَةٍ جَيِّدَةٍ فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يُطَعَّمُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَتِهِمِ الْخَاصَّةِ؟"

لا. لم يكن بولس جاهلاً بالبستنة, ولم يكن الروح القدس الذي يرشده ويلهمه فيما كتب جاهلاً. فما هو غير مألوف عند البشر هو في انسجام كامل مع المخطط الإلهي, كما هو الحال هنا.

وهكذا, فإننا نرى في الآيات 25 – 32 ما ينبغي أن يحدث قبل هذا التطعيم وما يجب أن يتلوه. "فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هَذَا السِّرَّ لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ. وَهَكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ".

فهذه. إذاً, إحدى الأشياء السرية الخفية التي في فكر الله إلى أن يأتي الوقت المناسب لكشفها: سوف يكون مُعتّماً عليه جزئياً, ولكن, والشكر لله, سيكون ذلك جزئياً فقط, وذلك حتى يكتمل العمل الحالي لله وسط الأمميين, وهنا نجد الاستخدام الثاني لهذه الكلمة "ملء". "ملؤ الأمم" هو إكمال العمل بين الأمميين الذي يقوم به الله منذ رفض إسرائيل. هذا "الملء", كما نعرفه من نصوص كتابية أخرى, سوف يدخل عندما ينادي ربنا كنيسته لتكون معه, وهذا يتوقف مع ما جاء في (1 تسالونيكي 4) و (1 كورنثوس 15). فعندئذ "سيخلص جميع إسرائيل". وتعبير "جميع إسرائيل" لا يعني كل من هو من سلالة إسرائيل, إذ قد عرفنا للتو أن "لَيْسَ جميعُ إِسْرَائِيلَ الذين هم من سلالة إِسْرَائِيلَ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً". ولذلك فإن البقية الباقية ستكون إسرائيل الحقيقي في ذلك اليوم المجيد عندما "سَيَخْرُجُ مِنْ صِهْيَوْنَ الْمُنْقِذُ وَيَرُدُّ الْفُجُورَ عَنْ يَعْقُوبَ", لأن الله قال: " َهَذَا هُوَ الْعَهْدُ مِنْ قِبَلِي لَهُمْ مَتَى نَزَعْتُ خَطَايَاهُمْ".

ويصل بولس الرسول إلى القول بأنهم أعداء الإنجيل في الوقت الحاضر. ولكن من خلال أعدائهم ستخرج النعمة إلى الأمميين. ومع ذلك, فبحسب المخطط الإلهي, سيبقون محبوبين من أجل الآباء, لأن الله لا يتراجع أبداً عن عطاياه ودعوته. فالوعود التي قطعها للآباء البطاركة ولداود سوف تتحقق بالتأكيد. تمعن في المزمور 89 بهذا المعنى. وتماماً كما أن الأمميين, الذين لم يؤمنوا بالله في الأزمنة الماضية ولكن الآن نالوا الرحمة عبر عصيان اليهود, فالحال هكذا أيضاً سيكون عندما يظهر الأمميون العصيان فتتم تنحيتهم جانباً ويحصل إسرائيل على الرحمة والمغفرة عندما يعودون إلى الله بالإيمان.

إن اليهود والأمميين يخلصون على حد سواء وبنفس المبدأ " لأَنَّ اللهَ أَغْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ مَعاً فِي الْعِصْيَانِ لِكَيْ يَرْحَمَ الْجَمِيعَ".

الآيات الأربع الأخيرة هي في طبيعة الذكصولوجيا (التسبيح). إن قلب الرسول بولس مليء بالعبادة والتسبيح, والعرفان والإعجاب, إذ يملأ لهيبُ المخطط الإلهي أفقَ روحه, فيهتف متهللاً: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ".

لولا الوحي لما أمكن أن نعرف فكر الله, تماماً كما أنه ما من مخلوق كان ليمكنه أن يكون مستشاراً له. لم ينل أحد أبداً النعمة باستباق العطاء له لكي ينال البركة مكافأة له, بل إن كل شيء منه, وبه, وله, ذاك الذي له المجد إلى الأبد. أمين.

  • عدد الزيارات: 3267