Skip to main content

مقدمة

رسالة كورنثوس الأولىلا شك أن الكتاب هو موحى به من الله ونافع، لكن شغلني الرب أن نتأمل معاً في هذه الرسالة لأننا نحتاج أكثر في هذه الأيام إلى الحقائق المسيحية العملية المباشرة. ونور الوحي الإلهي في العهد الجديد أقوى منه في العهد القديم حيث الظلال والرموز. أما في العهد الجديد فنجد الحق الإلهي الناصع الخاص بالمسيح والكنيسة.

كورنثوس:

مدينة في جنوب اليونان. ونجد في شمال بلاد اليونان مقاطعة مكدونية التي فيها فيلبي التي هي أول بلد زارها الرسول بولس في أوربا وفي الجنوب نجد مقاطعة أخائية التي عاصمته كورنثوس. وبين فيلبي وكورنثوس توجد العاصمة أثينا.

ونقرأ عن زيارة الرسول بولس لكورنثوس في أع 18 بعدما رجع من أثينا ذهب إلى كورنثوس. ذهب إليهم في صورة الضعف البشري وكما يقول في هذه الرسالة أنه لم يذهب إليهم بسمو الكلام أو الحكمة الإنسانية بل بقوة الروح القدس لكي لا يكون إيمانهم بحكمة الناس بل بقوة الله.

أثينا:

كانت العاصمة، وبلاد اليونان كانت مركز العلم والحضارة وكان هناك أريوس باغوس مكان البحث العلمي. كل من عنده فلسفة أو تعليم جديد وكل من عنده بحث يذهب ليعرضه هناك في أريوس باغوس. ولما ذهب الرسول إلى هناك قالوا لبعضهم البعض هيا بنا نعرف ماذا يقول هذا. والرسول تكلم هناك عن الرب يسوع المسيح وتكلم عن الإله المجهول عندهم الذي مع كل علمهم وفلسفتهم لم يعرفوه وقالوا من جهة هذا الأمر لا نقدر أن نعرف بالضبط لكن نحن نتلمس الله لعلنا نجده وكانوا يتلمسونه في أشياء مادية في الشمس وفي بعض الحيوانات النافعة للإنسان.. وقالوا لا بأس نعبد هذا ونعبد ذاك أيضاً. فوجد قلوبهم غير مكتفية واعتقدوا أن الله لا بد أن يكون أعظم من ذلك فعملا هيكلاً لإله مجهول.

وأرشد الرب بولس أن يكلمهم بدءاً من هذه النقطة وقال لهم أن هذا الإله المجهول أن أعرفه وسأكلمكم عنه، فهو الذي خلق السموات والأرض وخلق من دم واحد كل أمة تعيش تحت السماء وهو الذي في يده حياتنا ونسمتنا، وهو الذي يعطينا حياة ونفساً وكل شيء. وليست الأوثان التي يعبدونها. هو الذي يعطينا أوقات مُثمرة وأمطاراً. ما أمجد نور الإنجيل...! ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟ لكن الإنجيل في بساطته يعتبره الحكماء اليونانيون جهلة ويعتبره اليهود ضعفاً لأن المسيح صلب كما من ضعف وهو قوة الله التي غزت قلوب الناس واستأسرتهم إلى طاعته وطاعة الإنجيل وأتت بأعظم العلماء والحكماء فرفضوا حكمتهم البشرية وفتحوا قلوبهم لحكمة الله المعلنة في الإنجيل.

كانت كورنثوس أيضاً مثل أثينا تهتم بالعلم والحكمة وبالفلسفة لكنها مع ذلك كانت غارقة في الشر والفساد وفي الانحطاط الأدبي. كانت فيها الملاهي والترف والعيشة الإباحية الشريرة وكانت مشهورة بالخمور وكان يُضرب بها المثل في الفساد والإباحية. لكن ذهب الرسول إلى هناك متسلّحاً بنية معينة. ما هي هذه النية التي تسلّح بها؟ "لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً" كانت عند الرسول حكمة وكانت عنده فلسفة لكن طرحها كلها جانباً وذهب إليهم ببرهان الروح والقوة (ص2: 2، 4).

بعد ذلك ذهب في أواخر حياته إلى روما. وروما بلد القوة عاصمة الإمبراطورية الرومانية وذهب إليها أيضاً لا بحكمة الناس بل بإنجيل الله. ويقول في رسالة رومية: "لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ" (رو 1: 16). لماذا؟ لأنه قوة الله للخلاص. إن قوة الله في الإنجيل تخلص الإنسان من الشر ومن الفساد. لا العلم ولا الفلسفة ولا القوة تخلصه لكن الإنجيل هو الذي يغير الإنسان ويعطيه حياةً جديدة ويُصيّره إنساناً جديداً في المسيح.

عندما ذهب الرسول بولس إلى كورنثوس كان كإنسان عادي وليس كرسول عظيم يستقبله الناس بحفاوة ويقيمون له احتفالاً وزينات ويعملون له دعاية وإعلانات بأن الرسول العظيم القدير قادم ليبشركم...! لكنه ذهب إلى هناك متواضعاً وأرشده الرب إلى عائلة مكونة من زوج وزوجة هما أكيلا (الزوج) وبريسكلا (الزوجة) وكانا في صناعتهما خيّامين يشتغلان في عمل الخيام وكانت هذه صناعة الرسول أيضاً، فنزل عندهما وكان يعمل معهما في صناعة الخيام وبهذه الطريقة كان يحصل على مصاريفه وتكاليف معيشته ومصاريف الذين معه أيضاً. لقد قصّرت الكنائس في حقه ولم تقدم له المساعدة اللازمة حسب مبدأ الكتاب: "الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون". لكنه قال: "خَيْرٌ لِي أَنْ أَمُوتَ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ أَحَدٌ فَخْرِي. الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ" (ص 9: 15، 16). فكان يبشر بالنهار ويسهر بالليل مشتغلاً في الخيام وقال: "حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ" (أع 20: 34).

وكان يحاج في مجمع اليهود كل سبت ويقنع يهوداً ويونانيين وهو يشهد بالمسيح وإذ كان اليهود يقاومونه ترك المجمع وانتقل من هناك وجاء إلى بيت رجل اسمه يوستس كان متعبداً لله وكان بيته ملاصقاً للمجمع. وكريسبس رئيس المجمع آمن بالرب مع جميع بيته. وكثيرون من الكورنثيين إذ سمعوا آمنوا واعتمدوا (أع 18: 1- 8). وظهر الرب لبولس في رؤيا بالليل وقال له لا تخف ولا تسكت بل تكلم في هذه البلدة لأن لي فيها شعباً كثيراً! لكن نعمة الله تأتي بأشر الخطاة وتخلصه. فمكث هناك سنة ونصف يبشر بالإنجيل وآمن كثيرون. وكما يقول في ص 6 من هذه الرسالة: "لاَ تَضِلُّوا! لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ... يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ وَهَكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا" (ع 9- 11).

وتكونت هناك كنيسة في كورنثوس، ما أعجب هذا...! تكونت بسرعة وزودها الرب بمواهب عجيبة. كل أنواع المواهب أعطاها الرب لهؤلاء المؤمنين الحديثين. فالرب له حكمة فقد جمع في هذه الكنيسة المواهب الكثيرة المعجزية ومنها التكلم بألسنة وشفاء الأمراض... الخ. لماذا؟ لكي يعطينا رسالة لهذه الكنيسة تبين لنا الترتيب الكنسي وكيفية استخدام المواهب الروحية. أليست كلمة الله كاملة؟ نعم، فيها كل شيء. رتب الرب أن تكتب رسالة إلى المؤمنين في رومية وفي كورنثوس وفي غلاطية وفي أفسس وكولوسي وتسالونيكي وغيرها، وكل رسالة لها اتجاهها الخاص وعندما نجمعها معاً تعطينا الحق الإلهي كاملاً. لإلهنا كل المجد.

وبعد السنة والنصف تركهم الرسول وكانت هذه الزيارة في الرحلة التبشيرية الثانية. لقد قام الرسول بولس بثلاث رحلات تبشيرية. الرحلة الأولى كانت في آسيا الصغرى وفي قبرس والنواحي الشرقية.

وفي الرحلة الثانية كان يريد أن يتجه إلى هذه البلاد الشرقية أيضاً لكن منعه الروح وظهرت له رؤيا كما نعلم، رجل مكدوني يقول له اعبر إلينا وأعننا. ففي الرحلة الثانية ذهب إلى أوربا- إلى فيلبي وأثينا وكورنثوس وبلاد أخرى.

وفي الرحلة الثالثة كتب هذه الرسالة بعد زيارته لكورنثوس بمدة قصيرة ثم ذهب إلى أفسس ومكث فيها أكثير من سنتين حيث سمع الإنجيل كل الموجودين في آسيا وهناك في أفسس وصلته أخبار عن كنيسة كورنثوس من عائلة أخت اسمها "خلوي"، جاءوا إليه وقالوا له عن بعض انقسامات وأخطاء أخرى كانت موجودة في هذه الكنيسة، ثم وصلت للرسول أيضاً بعض أخبار صحيحة عن أمور غير لائقة كانت موجودة بين بعض المؤمنين هناك يكتب عنها الرسول قائلاً: "يُسْمَعُ مُطْلَقاً أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنًى!" (ص 5). ثم أن المؤمنين في كورنثوس كتبوا له يسألونه عن بعض أمور منها ما هو خاص بالزواج. مثلاً الشخص الذي خطب ولم يتزوج فهل يتزوج أم لا بالنسبة للضيق في ذلك الوقت؟ والمتزوج من وثنية غير مؤمنة وهو آمن هل يبقى مع امرأته الوثنية أم يتركها. والعكس إذا آمنت زوجة ولا يزال زوجها وثنياً فهل تتركه أم تبقى معه؟ وغير ذلك.

وكتبوا له أيضاً يسألونه عن جواز الأكل مما ذبح للأوثان وهل يأكلون من اللحم الذي يباع في السوق وهو مذبوح أصلاً للأوثان أم لا... إلى غير ذلك. فمن أجل هذه الأخبار وهذه الخطابات أرشده الروح القدس إلى كتابة هذه الرسالة من أفسس. وهو موجود في أفسس كتب أيضاً رسالتين أخريين هما رسالة رومية ورسالة غلاطية. وكما سبقت الإشارة كل رسالة لها غرضها الرئيسي. فرسالة رومية ترسي الأساس عن كيف يتبرر الإنسان أمام الله؟ وهو بالإيمان بالرب يسوع. فنجد القول "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" وفيها تكلم أيضاً عن الروح القدس والانتصار على الخطية. فهي رسالة عظيمة غنية بالحقائق الإلهية. ورسالة غلاطية تتكلم أيضاً عن موضوع التبرير لكن ليس إرساء قواعد هذه الحقيقة بل الدفاع عن حقيقة التبرير بالإيمان بعد أن دخل معلمون كذبة من اليهود وأدخلوا الناموس وقالوا أن التبرير بالإيمان والأعمال. ولابد من الاختتان وحفظ الناموس. وأتوا بإنجيل آخر ليس الإنجيل الحقيقي بل خلطوا النعمة بالناموس فأفسدوا نعمة الله.

وعندما نضع رسالتي رومية وغلاطية اللتين فيهما قواعد التبرير بجانب رسالتي كورنثوس وفيهما قواعد الحياة المسيحية للفرد والترتيب في الكنيسة يكون لدينا مجموعة كاملة عظيمة وكافية لإرشاد المؤمنين كأفراد وكمجموع. تعالج الرسائل الأخرى نواحٍ مختلفة فمثلاً رسالة أفسس رسالة السماويات ورسالة فيلبي رسالة المسير في البرية. ورسالة كولوسي تحدثنا عن أمجاد المسيح رأس الكنيسة وهكذا.

وسنجد في هذه الرسالة (كورنثوس الأولى) مجموعة غنية جداً مما يجب أن يكون عليه المؤمن كفرد وما يجب أن تكون عليه الكنيسة وهكذا فهذه الرسائل عبارة عن صيدلية فيها كل أصناف الأدوية بحيث نجد دواء لكل مرض. فقد سمح الرب أن توجد أمراض كثيرة في العصر الرسولي. فكنيسة فيلبي مثلاً كان لها مرض وكنيسة كولوسي كان لها مرض آخر وكنيسة كورنثوس كان لها أمراض أخرى. وأعطانا الله علاجاً شافياً لكل هذه الأمراض. لأن كلمة الله كاملة وفيها كل ما يلزم للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح... (2 تي 3: 16، 17).

لقد سمح الله بأن توجد عدة أخطاء في هذه الكنيسة فنجد في كل أصحاح خطأً معيناً لكي يقدم الوحي الإلهي العلاج المناسب لكل هذه الأخطاء. وترى الحكمة الإلهية أن هذه البذور الصغيرة التي بدأت في كنيسة كورنثوس وفي غيرها هي التي ترعرعت وصارت فينا بعد أنظمة موجودة في الكنيسة الاسمية كما نجد ذلك واضحاً في تاريخ الكنيسة في العالم. والكتاب المقدس شاهد ضد ما هو ليس من الحق الإلهي.

  • عدد الزيارات: 5142