Skip to main content

الأصحاح الأول

"بُولُسُ الْمَدْعُوُّ رَسُولاً لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَسُوسْتَانِيسُ الأَخُ" (ع 1).

الله هو الذي وزع المواهب الروحية بحسب إرادته وهو "أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ" (أف 4: 11)، فمن الخطأ أن يقول الواحد أنا نذرت ابني من الصغر ليكون خادماً للرب. ليس هكذا- ليس بمشيئة إنسان ولا باختيار الكنيسة، حيث جرت العادة في بعض الكنائس أن تختار راعيها وأن تجرى انتخابات وتأخذ أصواتاً. هذه كلها طرق بشرية لكن أقام الله بحسب إرادته في الكنيسة أولاً رسلاً ثم قاسماً الروح القدس لكل واحد كما أراد (أي الروح القدس)، المسيح صعد إلى العلاء سبى سبياً وأعطى الناس عطايا.

فالمواهب الروحية عطايا من المسيح للكنيسة يوزعها ويقسمها الروح القدس كما أراد. والخدمة الصحيحة تكون بموجب موهبة ودعوة. فيقول الوحي هنا "بولس المدعو رسولاً" أي دعاة الله ليكون رسولاً لا بمشيئة إنسان بل بمشيئة الله. هذا هو أساس الخدمة الصحيحة في كنيسة الله.

"وَسُوسْتَانِيسُ الأَخُ":

بولس رسول وَسُوسْتَانِيسُ أَخ. هذا رسول له خدمته وهذا أخ له خدمته- أخ كلمة عظيمة أي مؤمن في المسيح.

يوجد اسمه سُوسْتَانِيسُ كان رئيساً للمجمع مذكور في (أع 18: 17). سبق أن قلنا أن رئيس المجمع كريسبس آمن بالرب مع جميع بيته فعينوا بدلاً منه سُوسْتَانِيسُ هذا وقام على رأس جماعة من اليهود ليشتكوا بولس لغاليون الوالي وقالوا له أن بولس يعلّم تعاليم منافية لعوائدنا وناموسنا فقال لهم ليست لي رغبة أن أنظر في هذه الأمور. أنا أنظر في جريمة سياسية أو مدنية لكن أمور الدين لا أريد أن أتداخل فيها. أبصروا انتم. وطردهم. فاليونانيون تحمسوا لبولس لأنهم سمعوا الكرازة منه فقاموا وأمسكوا سُوسْتَانِيسُ رئيس المجمع هذا وضربوه أمام كرسي الولاية ولم يهتم الوالي. ويظهر أن الرب افتقد نفس سُوسْتَانِيسُ رئيس المجمع هذا الذي كان قائماً ضد بولس فآمن هو أيضاً وصار أخاً. ويظهر أنه ذهب مع بولس إلى أفسس والآن يبعث السلام لإخوته في كورنثوس.

"إِلَى كَنِيسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ الْمُقَدَّسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَهُمْ وَلَنَا" (ع 2).

"إِلَى كَنِيسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ": هي الجماعة المحلية أي المؤمنون المرتبطون معاً الذين يجتمعون باسم ربنا يسوع المسيح وبقيادة الروح القدس، وهم يمثلون الكنيسة العامة كنيسة المسيح، التي رأسها المسيح والمؤمنون أعضاء الجسد "لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ" (أف 5: 30) هذه هي الكنيسة من بدء تكوينها يوم الخمسين.

لكن الكنيسة المحلية فيها أعضاء وفيها مواهب كما يقول لها في هذه الرسالة توجد عين، وتوجد يد، ورجل... ولا يتفاخر عضو على عضو آخر. الأعضاء كثيرة لكن الجسد واحد. لا تقدر العين أن تقول لليد لا حاجة لي إليك والرب وزع الخدمات على أعضاء الجسد، وربط الجسد معاً. فالكنيسة المحلية المرتبطة معاً كأعضاء ورأسها الرب يجتمعون باسمه ويمثّلون الكنيسة العامة.

"الْمُقَدَّسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ": عندما كتب الرسول هذه الرسالة لهؤلاء المؤمنين هل كانت حالتهم الروحية عالية؟ كلا. كانت بينهم انقسامات وأخطاء كثيرة حتى أنه قال لهم لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين كأطفال في المسيح (ص 3: 1). ومع ذلك يسميهم مقدسين ومدعوين قديسين. إذاً هؤلاء المؤمنين ليسوا من طبقة عالية من المؤمنين وصلوا في القداسة إلى مرتبة العصمة فأصبحوا قديسين، والناس يتشفعون بهم ويصلون لهم كما يقولون: الشهداء والقديسون! القديسون في العهد الجديد هم جميع المؤمنين المفرزين للمسيح. وكلمة "قديسين" تعني مخصصين للمسيح.

يوجد تقديس شرعي كمقام أي أنهم ليسوا مقدسين في ذواتهم بل هم مقدسون في المسيح. ينطبق عليهم القول "الْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً" (ص 1: 30). فالمسيح هو قداستنا، ونحن مقدسون فيه ومدعوون قديسين. كل مؤمن قديس في المسيح كما يقول الرسول "سَلِّمُوا عَلَى كُلِّ قِدِّيسٍ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (في 4: 21). ويكتب الرسول بطرس في رسالته الأولى قائلاً: " الْمُخْتَارِينَبِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1 بط 1: 1، 2) أي أن الروح القدس قدسهم وخصصهم لطاعة الله ورش دم يسوع المسيح.

وكما أشرنا قبل ذلك يقول الرسول بولس "اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم...." (ص 6: 11) وفي (عب 10: 10) يقول: "فَبِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً" والتقديس شرعاً ينسب إلى الآب، وإلى الابن، وإلى الروح القدس: فنقرأ في رسالة يهوذا "المدعوين المقدسين في الله الآب" (يه 2) ويقول بولس لذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب (عب 13: 12) ويقول أيضاً: "أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ" (2 تسالونيكي 2: 13). فالمؤمنون مقدسون ومفرزون بواسطة الأقانيم الثلاثة: وكل مؤمن قديس في المسيح وليس في ذاته. مهما بلغ المؤمن هل يكون أحسن من الرسول بولس؟ هل كان بولس معصوماً؟ ألم يخطئ عندما قال لرئيس الكهنة سيضربك الله أيها الحائط المبيض؟ (أع 23: 3) هل كان بطرس معصوماً؟ ألم يخطئ مراراً؟ لا يوجد أحد قديس في ذاته إطلاقاً. لكن جميعاً قديسون في المسيح.

وهذا المقام يدعونا ويحفزنا للنمو في القداسة العملية والسلوك في القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب (عب 12: 14). لا يقدر أحد أن يتمتع بالرب وتكون له شركة مع الآب إلا في طريق القداسة العملية. فالقداسة الشرعية هي لكل المؤمنين أما القداسة العملية فننمو فيها بنعمة الله وبقوة الروح القدس. ومع ذلك لن نصل فيها إلى حالة الكمال لأن مقياسها الرب يسوع المسيح كما يقول الرسول بولس: "بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ" (1 بط 1: 15).

"مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَهُمْ وَلَنَا": نلاحظ دقة الوحي الإلهي. في الرسالة الثانية يقول الرسول: "إِلَى كَنِيسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، مَعَ الْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ الَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ" يعني في المقاطعة كلها. لكن هنا لا يكتب لكورنثوس وأخائية فقط لكن يكتب للمؤمنين في كل مكان لأن هذه المبادئ التي ترس قواعد الترتيب الكنسي والسلوك الفردي هي لكل مكان ولكل فرد.

إذاً لا نقول أن هذه كانت لظروف خاصة في كورنثوس لكن هذه هو ترتيب الكنيسة في كل مكان وزمان. وهنا في هذه الرسالة يقول الرسول: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْسِبُ نَفْسَهُ نَبِيّاً أَوْ رُوحِيّاً فَلْيَعْلَمْ مَا أَكْتُبُهُ إِلَيْكُمْ أَنَّهُ وَصَايَا الرَّبِّ" (1 كو 14: 37). فالتعليم عام لكل الكنائس، ولكل المؤمنين، ولكل الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان.

"نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (ع 3).

تأتي هذه التحية الرسولية الجميلة التي نحتاج إليها في كل الحياة.

"نِعْمَةٌ": نِعْمَة الله قد خلّصتنا، وفي نعمة الله نحن نقيم. لكننا نحتاج إلى نعمة كل يوم لتدعمنا وتحفظنا. ونحن نقترب إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه (عب 4: 16). فالرسول بولس يطلب لهم نعمة من الله ليعرفوا كيف يتصرفون في هذا العالم الحاضر الشرير الذي نعيش فيه.

لنا المسيح إذ قال: "سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ" (يو 14: 27). فالمؤمن يعيش غالباً منتصراً مدعماً بنعمة الله ومتمتعاً بسلامه. يقول الرسول بولس "هَذِهِ هِيَ نِعْمَةُ اللهِ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي فِيهَا تَقُومُونَ" (1 بط 5: 12). فالمؤمن يقيم في النعمة، ويقوم أيضاً في النعمة أي لا يسقط طالما تدعمه نعمة الله.

"أَشْكُرُ إِلَهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (ع 4).

عجيب أنه بعدما وصلته أخبار كثيرة عن أخطاء خطيرة موجودة في هذه الكنيسة يقول: "أَشْكُرُ إِلَهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ". ونجد هذا الشكر في رسائل كثيرة مثل رسالة رومية (ص 1: 8)، رسالة أفسس (ص 1: 16) رسالة فيلبي (ص 1: 3)، رسالة كولوسي (ص 1: 3)، رسالة فيلمون (ع 4) فنجد قلب الرسول فائضاً دائماً بالشكر لله.

"عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ": النعمة يقصد بها المواهب الروحية لأن المواهب الروحية نِعَمْ. لأنه لا أحد يأخذ موهبة بناء على استحقاق لكنها نعمة أي عطية مجانية من الرب بحسب ما قسم الروح القدس لكل واحد كما يشاء.

ويقول الرسول بطرس: "لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضاً، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ" (1 بط 4: 10). هي مجموعة نعم متنوعة، ويعطى كل واحد نصيب ليس من عنده بل هو وكيل عليه. ومع ذلك ابتدؤوا يفتخرون بهذه المواهب كما يقول الرسول في (1 كو 4: 7). "لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟" كأنه يقول لكل منهم: هل أتيت بهذه الموهبة من عندك؟ أليس الله هو الذي أعطاها لك؟ وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟ المواهب الروحية ليست مجالاً للافتخار لكنها مجال لتعظيم نعمة الله.

"أَنَّكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتَغْنَيْتُمْ فِيهِ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ عِلْمٍ" (ع 5).

هذه عطايا الله وليست من اجتهاد المؤمنين فقد عرفنا أن الرسول كرز بالإنجيل في كورنثوس في الرحلة التبشيرية الثانية عندما دخل أوربا وكرز أولاً في مكدونية وبعد ذلك ذهب إلى أخائية وكتب الرسالة الأولى والثانية في الرحلة التبشيرية الثالثة وكانت الفترة قصيرة بين تأسيس كنيسة كورنثوس وبين كتابة الرسول لهم. فمن أين أتوا بهذه المواهب؟ هل دخلوا مدارس لاهوتية وقبلوا هذا التعليم والحكمة والعلم؟ كلا. إنها عطايا المسيح للكنيسة. لا تأتي موهبة من قراءة الكتب ولا من دخول مدارس لكن سبق القول أن الرب يسوع صعد إلى العلاء سبي سبياً وأعطى الناس عطايا. أعطى المواهب وكل من أخذ موهبة هو وكيل ائتمنه الرب عليها وقصد الرب أن يوزع مواهب كثيرة على الكنيسة ليرينا كيف تستخدم المواهب الروحية في كنيسة الله.

" كَمَا ثُبِّتَتْ فِيكُمْ شَهَادَةُ الْمَسِيحِحَتَّى إِنَّكُمْ لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا وَأَنْتُمْ مُتَوَقِّعُونَ اسْتِعْلاَنَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (ع 6، 7).

كرز الرسول بشهادة المسيح والرب ثبت فيهم الشهادة. لقد قبلوا الشهادة وثبتت. إن ثبات المؤمن من الله لأنه هو الذي يثبت المؤمنين وهو الذي يثبت كلمته وشهادته في النفوس. كل المواهب كانت موجودة بعناية الله في هذه الكنيسة ولكن ماذا كانت الحالة؟ كانت الحالة الروحية منحطة لأنه بعد ذلك مباشرة يقول الرسول لهم: "لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَال فِي الْمَسِيحِ" في كنائس أخرى لم تكن هناك مواهب كثيرة لكن كانت حالتهم الروحية أسمى بكثير من هذه الكنيسة الغنية بالمواهب. كان عندهم نبوة وعلم ومعرفة الأسرار والتكلم بألسنة وشفاء الأمراض وكل المواهب المعجزية ومع ذلك كانت حالتهم الروحية منخفضة.

يقول البعض ليست عندكم مواهب معجزية لأن حالتكم الروحية ليست عالية! لكننا نجد أناساً عندهم كل المواهب وحالتهم الروحية منحطة. على أننا سنجد في هذه الرسالة براهين واضحة على أن المواهب المعجزية أتمت الغرض منها وانتهت وغير موجودة الآن. والمواهب الباقية هي لبنيان المؤمنين مثل التبشير والتعليم. والمواهب الثابتة الموجودة هي لتكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح (أف 4: 12). والمواهب ليست دليلاً على سمو الحالة الروحية كما أسلفنا فأكثر كنيسة كانت غنية بالمواهب وفيها أيضاً مواهب معجزية ويتكلمون بألسنة حقيقية (لا كلاماً غير مفهوم) كانوا جسديين وأطفال (ص 3: 1) إذن وجود المواهب الحقيقية في كنيسة ليس دليلاً على سمو حالة الكنيسة.

"وَأَنْتُمْ مُتَوَقِّعُونَ اسْتِعْلاَنَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ": قصد الرسول أن يأتي هنا لهم بالاستعلان، ونحن نعلم الفرق بين المجيء الثاني والاستعلان. مجيء المسيح الثاني هو لأخذ المؤمنين إليه وهذا يحدث في لحظة في طرفة عين بدون أن يستعلن ولا يراه العالم. لكن الاستعلان أو الظهور يحدث بعد مجيء المسيح للاختطاف بسبع سنين وفيه يكون مجيء المسيح ظاهراً بالمجد والقوة وتراه كل عين آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. ويأتي في هذه المرة لا لأجل قديسيه الذين سبق أن اختطفوا، سيأتي بهم مستعلنين وظاهرين معه في المجد. "مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ" (كو 3: 4).

والاستعلان هو لأجل إبادة الأعداء وإقامة الملكوت على الأرض. وقبل الاستعلان مباشرة، والمؤمنون في السماء سيقفون أمام كرسي المسيح لكي ينالوا الأكاليل والأجرة على أتعابهم لكي يدخلوا بها إلى الملك ويتمتعوا بالملك حسب درجة أمانتهم في الخدمة للرب في هذا العالم. فالاستعلان يتعلق بتوزيع الأجرة. يقول الرسول بولس: "أَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (يوم وقوفنا أمام كرسي المسيح قبيل الاستعلان للعالم) الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ (استعلانه) أَيْضاً" (2 تي 4: 8). عند الاستعلان يظهر مقدار أمانة المؤمن ويتبين أن بعض الخدمات التي كانوا يفتخرون بها فيها قش وخشب وعشب كثير كما يقول في (ص 3: 13) "فعمل كل واحد سيصير ظاهراً لأن اليوم سيبنيه".

لا تغتروا بالمظاهر الكاذبة ولا تحكموا في شيء قبل الوقت. أخذ الكورنثيون يفاضلون بين بولس وأبلوس وغريهما، هذا ليس وقت الحكم. يقول الرسول: "أَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ (أي يوم حكم البشر). إِذاً لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّبُّ الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ" (1 كو 4: 3، 5). "إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً.إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ وَلَكِنْ كَمَا بِنَارٍ" (ص 3: 14، 15).

لا يعني هذا أنه سيخلص بأعماله لكن بالإيمان بالمسيح، والإيمان بالمسيح ثابت فسيخلص على أي حال، لكن العمل سيخسره وسيحترق. فهنا يذكرهم بالاستعلان من أول الرسالة كأنه يقول لهم مادمتم متوقعين الاستعلان احترسوا واعملوا حساب المسئولية والأمانة للرب التي ستظهر وتنكشف عند الاستعلان.

"الَّذِي سَيُثْبِتُكُمْ أَيْضاً إِلَى النِّهَايَةِ بِلاَ لَوْمٍ فِي يَوْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (ع 8).

تظهر فينا ضعفات وأخطاء لكن نشكر الله يا أحبائي لأنه هو الذي يثبتنا. لو كان ثبات المؤمن موكولاً إليه وإلى أمانته لكان يفشل في الطريق ويضيع، لكن الله في نعمته هو الذي يثبت المؤمن. الذي يخلصنا هو الرب والذي يثبتنا هو الرب، هو الماسك بأيدينا. كيف يثبتنا إلى النهاية؟- يعالج ضعفاتنا وأخطاءنا ويقوم سبلنا ولا يتركنا نزل ونضيع لكن لابد أن نثبت إلى النهاية حسب وعده. يوجد تعليم يقول أولاً الإيمان وبعد ذلك نعمل خدمة اسمها خدمة التثبيت. هل يمكن أن إنساناً يثبتنا؟ غير ممكن. الذي يثبت هو الله، ويثبت إلى النهاية.

"بلا لوم": يحدث لوم في الطريق لكن الرب يعالجه وفي النهاية سنظهر بلا لوم. كيف يكون ذلك؟ يقول الرسول بولس: "وَإِلَهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1 تس 5: 23). ونقرأ في رسالة يهوذا: "وَالْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي الاِبْتِهَاج" (يه 24) أي يوقفنا مبتهجين بلا لوم في يوم ربنا يسوع المسيح أي يوم استعلانه.

"أَمِينٌ هُوَ اللهُ الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا" (ع 9).

ظهر من المؤمنين في كورنثوس شيء كثير من عدم الأمانة وهكذا يظهر منا نحن أيضاً. لو كان الإنسان متروكاً لذاته لسقط وفشل لكن "إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِيناً، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ" (2 تي 2: 13). الله هو سند قلوبنا ويعزينا أنه أمين. الذي دعانا لابد أن يوصلنا إلى رجاء الدعوة "أَمِينٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمُ الَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضاً" (1 تس 5: 24).

جميل أن يكون سندنا أمانته. نحن ضعفاء ولنا أعداء أقوياء لكن "أَمِينٌ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي سَيُثَبِّتُكُمْ وَيَحْفَظُكُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ" (2 تس 3: 3). لا تخف يا أخي "لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ" (عب 10: 23). الثبات ليس منا لكن من إله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع... هو يكلمكم ويثبتكم ويقويكم ويمكنكم" (1 بط 5: 10). الذي يقول هذا هو بطرس الذي اختبر السقوط ورد النفس أيضاً.

"الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ": أي أن الله هو الذي دعانا. والذي دعانا ليس عنده تغيير ولا ظل دوران وهو سافر على كلمته لكي يجريها ومقاصده لابد أن تتم ولا شيء يستطيع أن يقف عائقاً في سبيل تنفيذ مشيئته فهو القادر على كل شيء. ويقول الرسول بولس: "وَاثِقاً بِهَذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (في 1: 6).

"إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا": هذا ما يميز المؤمن عن غيره المؤمن أن له شركة مع الرب. نحن جميعاً قد دعينا إلى هذه الشركة لكن لسنا كلنا نتمتع بهذه الشركة التمتع الكافي. أنه امتياز عظيم لنا نحن البشر أننا دُعينا إلى شركة ابنه[1]. ويا لها من شركة عظيمة نتيجتها الفرح الكامل يقول الرسول يوحنا: " وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيح.ِوَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً" (1 يو 1: 3، 4).

"وَلَكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِداً وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ" (ع 10).

انظروا أيها الأحباء حكمة الروح القدس الذي أوحى إلى الرسول بولس فلم يكتب لهم عن الأخطاء التي تحتاج إلى تصحيح إلا بعد أن قال "أَشْكُرُ إِلَهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِأَنَّكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتَغْنَيْتُمْ... حَتَّى إِنَّكُمْ لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا" (ع 4- 7).

ونلاحظ أيضاً في (رؤ 2، 3) في كتابة الرسول يوحنا إلى ملائكة السبع الكنائس، عندما يخاطبهم الرب فلا يذكر العيوب أولاً ولكن يذكر أولاً الصفات التي تستحق المدح وبعد ذلك يذكر العيوب. فيقول مثلاً لملاك كنيسة أفسس "أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ... وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ.لَكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى" (رؤ 2: 2- 4).

"بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ": نلاحظ يا أحبائي أن هذه هي خامس مرة في هذا الأصحاح يقول "ربنا يسوع المسيح". وليس يسوع فقط. حتى إذا جاءت كلمة يسوع فقط لا تأتي في مخاطبة له "يسوع" لكنه يقول صليب المسيح أو دم يسوع باعتباره الإنسان الذي اتضع ومات على الصليب كإنسان. توجد غلطة شائعة كريهة يقع فيها بعض المؤمنين عن بساطة فيخاطبون الرب بالقول "يا يسوع" هذا غير لائق بالمرة. فالذي "رفعه الله بيمينه رئيساً ومخلّصاً" (أع 5: 31) هو الرب ويجب أن نخاطبه كالرب دائماً. مع أنه ربطنا بنفسه رباطاً مقدساً وجعلنا أعضاء جسمه لكن يجب أن نقرن هذا الاسم العزيز الغالي بلفظة الرب ويجب أن يكون موضوع توقيرنا واحترامنا.

وهنا يناشد الرسول المؤمنين بهذا الاسم الغالي على قلوبهم أن يقولوا جميعاً قولاً واحداً أي لا يكون بينهم اختلاف. وليس يعني ذلك أن يقول المؤمنون المجتمعون معاً قولاً واحداً أي كلاما واحداً كلهم مع بعض. فترديد الأقوال من الفم ليس ذا أهمية لكن المهم أن تكون لغة سلوكنا وتصرفاتنا متحدة. ما هو القول الواحد؟ كان قد قال واحد أنا لبولس وآخر أنا لأبلوس وهكذا... لكننا جميعاً للمسيح لا سواه.

"كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ": قبل أن نقول القول الواحد يجب أن يكون لنا الفكر الواحد والرأي الواحد. كان يوجد خلاف في كنيسة فيلبي، هذا له رأي وذاك له رأي. فيقول الرسول: "فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً" (في 2: 2). كيف يفتكر الكثيرون وهم على درجات مختلفة من الثقافة ومن بيئات مختلفة فكراً واحداً؟ ما هو هذا الفكر الواحد؟ المسيح له كل المجد.

عندما يكون المسيح غرض قلبي وغرض قلبك مهما كانت الفوارق بيننا يكون لنا هدف واحد هو المسيح ومجد المسيح فنكون كلنا مع اختلاف أمزجتنا وثقافاتنا لنا قول واحد لأن المسيح هو الذي يوحد قلوبنا وأفكارنا ويكون هو الفكر الواحد لنا.

"كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ": كلمة "كاملين" هنا تعني "بالغين" أي كونوا رجالاً لأن الذين يدب بينهم روح الانشقاق وروح التحزب هم أطفال، والرسول يقول لهم كونوا كاملين أي اكبروا، ويقول في (ص 3: 1) "لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَالٍ فِي الْمَسِيحِ" ويقول في آخر الرسالة: "اِسْهَرُوا. اثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ. كُونُوا رِجَالاً. تَقَوُّوا. لِتَصِرْ كُلُّ أُمُورِكُمْ فِي مَحَبَّةٍ" (1 كو 16: 13).

"لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ" (ع 11).

"خُلُوي"- أخت من كورنثوس ولها أهل هناك في أفسس حيث كتب الرسول هذه الرسالة وهم ابلغوه. وخلوي أخت تقية فاضلة كانت حزينة بسبب الانقسامات والتحزبات فقالت لأهلها، وأهلها لما كانوا هناك قالوا للرسول، والرسول اخذ الكلام ثقة لأن هذه العائلة تقية وقالت الصدق. فالأخت التقية لها خدمة كبيرة في وسط الكنيسة. توجد أخوات كثيرات نقرأ عنهن في الكتاب المقدس فمثلاً في رو 16 نقرأ عن فيبي خادمة الكنيسة التي في كنخريا التي يوصي الرسول أن يقبلوها في الرب كما يحق للقديسين ويقوموا لها في أي شيء احتاجته لأنها صارت مساعدة للكثيرين وللرسول أيضاً. ونقرأ عن "ترفينا وتريفوسا" التاعبتين في الرب و"برسيس" التي تعبت في الرب كثيراً. وفي فيلبي 4 نقرأ عن أفودية وعن سنتيخي اللتين جاهدتا مع الرسول في الإنجيل. وفي رسالة فيلمون نقرأ عن "أبفية" وغيرهن كثيرات كانت لهن خدمة في وسط الأخوات.

في ع 9 يقول: "بينكم انشقاقات" وهنا في ع 10 يقول: "بينكم خصومات" ففي الأول انشقاقات أي عدم اتفاق في الرأي والانشقاقات أدت إلى خصومات ومنازعات وصارت أحزاباً متناحرة.

"فَأَنَا أَعْنِي هذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ:«أَنَا لِبُولُسَ»، وَ«أَنَا لأَبُلُّوسَ»، وَ«أَنَا لِصَفَا»، وَ«أَنَا لِلْمَسِيحِ»" (ع 12).

أمر محزن! فريق لبولس وفريق لأبلوس وفريق لصفا... هذه بداية أو بذرة الانقسامات في المسيحية. ظهرت جرثومة الانقسام في عصر الرسول وانقسموا إلى أربع فرق. كم طائفة في المسيحية الآن؟ مئات بكل أسف. ونلاحظ أن هذه الانقسامات كانت داخل كنيسة كورنثوس وكانوا يجتمعون بعضهم مع بعض ويعبدون معاً لكن يختلفون في الفكر لكن بعد ذلك تطورت ولم تعد انقسامات داخلية لكن صارت انقسامات انفصالية. انقسموا وانفصلوا إلى طوائف متعددة.

وما هي بذرة الانقسام؟ البذرة هي النظر إلى البشر. واحد قال بولس عنده أسانيد وهو الذي بشرنا وولدنا في المسيح وكانت كرازته كلها عن المسيح. وآخر قال أبلوس رجل فصيح مقتدر في الكتب وآخر قال بطرس يمتاز بأنه كان مع المسيح لما كان في الجسد. وربما قالوا أيضاً أن الرب أعطاه مفاتيح ملكوت السماوات وطبعاً هذا له تفسير آخر. وأساس الانقسامات النظر إلى البشر. بدأت الانقسامات بخلاف في الفكر وقال واحد أنا تبع أثناسيوس وآخر أنا تبع أوريجون وواحد أنا تبع الكنيسة الشرقية وآخر أنا تبع الكنيسة الغربية وانقسمت الكنيسة بسبب الرياسات البشرية.

لاحظوا أيها الأحباء أن الخطأ هنا خطأ الكنيسة- خطأ المؤمنين وأساسه النظر إلى البشر عوضاً عن أن ينظروا إلى الرب. لكن في أع 20 نجد نوعاً آخر من الانقسام: المعلمون يجتذبون تلاميذ وراءهم فهذا انقسام أساسه من المعلمين الكذبة الذين دخلوا بينهم يقول الرسول لقسوس كنيسة أفسس: "لأَنِّي أَعْلَمُ هَذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ.وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ" (أع 20: 29- 30).

وأريد أيها الأحباء أن أوجه النظر إلى القسم الرابع الذي قال: "أنا للمسيح" فهؤلاء ما عيبهم؟ عيبهم أنهم ادعوا أنهم وحدهم للمسيح وكأن المسيح أخذ فريقاً وكأنهم يظهرون أنهم أسمى روحانية من الآخرين ويفتخرون.

"هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟" (ع 13).

يقول الرسول للفريق الرابع بالذات: هل انقسم المسيح؟ هل المسيح أخذ الربع؟ كلا. المسيح هو رأس الجسد ونحن جسد واحد، ورأسه واحد. وهذا الجسد يسكنه الروح القدس الواحد الذي يربط الأعضاء جميعاً بالرأس الواحد.

"أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ": يذكر الرسول نفسه أولاً فيقول على أي أساس تقولون بولس؟ أنتم للذي اشتراكم. الذي صُلب لأجلكم. فالذي صُلب لأجلكم هو صاحب الحق أن يمتلككم.

قد فديتني وامتلكتني   يا مخلصي المجيد

إنما أنا بغيتي هنا   أن إيماني يزيد

اجذبني يا رب للصليب   اجذبني أيا حنون

اجذبني يا رب للصليب   إلى جنبك المطعون

ويقول الرسول: "قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيداً لِلنَّاسِ" (1 كو 7: 23). فنحن للمسيح بحق الفداء وبحق الشراء بدمه الكريم. وكأن الرسول يقول: أنا ليس لي حق لأني لم أُصلب لأجلكم، ثم أنتم لما اعتمدتم ودخلتم المسيحية اعتمدتم لمن؟ ليسوع المسيح. صحيح أنهم اعتمدوا باسم الآب والابن والروح القدس لكن اعتمدوا للمسيح أي انفرزوا للمسيح.

يقول عن الشعب القديم أنهم اعتمدوا لموسى أي انفصلوا وأصبحوا تابعين لموسى. وأنتم اعتمدتم للمسيح فصرتم للمسيح واعترفتم بالمعمودية أنكم متُّم مع المسيح وقمتم أيضاً معه.

"أَشْكُرُ اللهَ أَنِّي لَمْ أُعَمِّدْ أَحَدًا مِنْكُمْ إِلاَّ كِرِيسْبُسَ وَغَايُسَ، حَتَّى لاَ يَقُولَ أَحَدٌ إِنِّي عَمَّدْتُ بِاسْمِي. وَعَمَّدْتُ أَيْضًا بَيْتَ اسْتِفَانُوسَ. عَدَا ذلِكَ لَسْتُ أَعْلَمُ هَلْ عَمَّدْتُ أَحَدًا آخَرَ" (ع 14- 16).

يقول الرسول أنه لم يعد يعمد هناك سوى شخصين وبيت[2] لكن هو الذي بشر المؤمنين هناك وعلى يده آمنوا ثم كلف آخرين أن يعمدوهم. المعمودية المسيحية ضرورية والاعتراف أنك مسيحي تابع للمسيح وفي جانب المسيح أمر ضروري. لكن المعمودية ليست واسطة الخلاص.

الخلاص بالإيمان والنتيجة الولادة الثانية. الرسول لا يقلل من قيمة المعمودية وهو أكثر من كتب عن المعمودية، والمغزى الروحي للمعمودية- اقرأ (رو 6: 3- 5، كو 2: 12، غلا 3: 27).

لكن المعمودية ليست هي الولادة الثانية. لو كانت المعمودية هي الولادة الثانية لما كان الرسول يشكر الله أنه لم يعمد أحد إلا القليلين كأنه لم يلد أحد إلا القلائل الذين ذكرهم. لكنه يقول أنه لم يعمد أي لم يضع العلامة على المؤمنين حتى لا يقول أحد أنه عمد باسمه. لكنه يقول في ص 4: 15 "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" فهو ولدهم لكن لم يعمدهم. فالولادة من فوق شيء آخر.

أرسل المسيح رسله قبل أن يصعد إلى السماء قائلاً:"فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19). يعمدوهم أي يخرجوهم من الأمم عبدة الأوثان أو من اليهود ويدخلونهم الدائرة المسيحية. فالمعمودية ليست هي وسيلة الدخول إلى ملكوت الله أو إلى الكنيسة لكنها واسطة الدخول إلى الدائرة المسيحية المعترفة بالمسيح. فالذي يعتمد يوضع عليه اسم المسيح لكن ليس كل من اعتمد مولودا الولادة الثانية. المعمودية اعتراف بأن الشخص صار مسيحيا لكن قد يكون ادعاء باطلا. فسيمون الساحر آمن إذ رأى الآيات واعتمد لأن المعمودية على أساس الاعتراف وكان إيمانه كاذبا وقال له بطرس "تب من شرك... لأني أراك في مرارة المر ورباط الظلم" (أع 8: 22، 23). لكن الخصي الحبشي قال لفليبس المبشر "هُوَذَا مَاءٌ. مَاذَا يَمْنَعُ أَنْ أَعْتَمِدَ؟ فَنَزَلاَ كِلاَهُمَا إِلَى الْمَاءِ  وَذَهَبَ الخصي فِي طَرِيقِهِ فَرِحاً " (أع 8: 36- 39).

بعد أن ظهر الرب لبولس (شاول) وهو في طريقه إلى دمشق قال لحنانيا عنه: "لأَنَّ هَذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي" (أع 9: 15، 16). فالله أرسله لكي يبشر ولأجل ذلك يقول "ويل لي إن كنت لا أبشر" (ص 9: 16). ويقول بولس في (كو 1: 23) "الإِنْجِيلِ، الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ، الْمَكْرُوزِ بِهِ فِي كُلِّ الْخَلِيقَةِ الَّتِي تَحْتَ السَّمَاءِ، الَّذِي صِرْتُ انَا بُولُسَ خَادِماً لَهُ" . ويقول أيضاً في عددي 24، 25: "الكنيسة الَّتِي صِرْتُ انَا خَادِماً لَهَا، حَسَبَ تَدْبِيرِ اللهِ الْمُعْطَى لِي".

"لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ، لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ الْمَسِيحِ" (ع 17).

فالرب لم يسلمه المعمودية لكن سلمه العشاء الرباني فيقول في (ص 11: 23): "لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا أَخَذَ خُبْزاًوَشَكَرَ فَكَسَّرَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي...»" فالخبز الذي نكسره هو شركة جسد المسيح "فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ جَسَدٌ وَاحِدٌ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ" (ص 10: 16، 17).

لقد تسلم الرسول بولس مباشرة رسم العشاء الرباني لأنه لم يكن موجوداً في الليلة التي أسلم الرب فيها.

"لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ الْمَسِيحِ": الفلسفة وحكمة الكلام تعطِّل صليب المسيح. يجب أن يقدم صليب المسيح مجرداً من الحكمة والفلسفة البشرية مجرداً من الصفة الخطابية وفن حسن الإلقاء وتنميق الكلام والأساليب الإنسانية المتعددة. يقول الرسول: "لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا". ما فائدة الحكمة الإنسانية؟ كان لدى فلاسفة اليونان نظريات وفلسفات كثيرة وكانوا يتباحثون في لاهوتيات موجودة إلى الآن، لكن الإنسان الخاطئ لا يحتاج إلى فلسفة أو حكمة أو مبادئ نقولها له، ليست المسألة تصحيح أفكاره، لكن المسألة أنه خاطئ هالك ولا يصلح لشيء ويحتاج إلى المسيح الذي صُلب ومات. هو الطريق الوحيد للخلاص "لأنه ليس بأحد غيره الخلاص".

يتكلم بعض المبشرين عن أشياء كثيرة، ولكن قلما يتعرضون في كلامهم عن الفساد البشري التام. يجب أن نقول لكل الناس على مختلف طبقاتهم أن الكتاب المقدس يشهد أنهم مولودون بالخطية ولا علاج لها إلا في صليب المسيح، فقد تكلف الله أن يرسل ابنه الحبيب ليموت نيابة عنا ويمنحنا الحياة. ليس عند العدو مانع أن يلبس الإنسان صليباً من ذهب يتزين به أن هذا ليس المهم لكن المهم أن نتعلم الدرس الذي يلقيه علينا صليب المسيح.

لماذا انقسم الكورنثيون وقال واحد أنا لبولس وآخر أنا لأبلوس....؟ لأنهم كانوا يجرون وراء الحكمة البشرية فكانت كورنثوس وبلاد اليونان عموماً مهبط الحكمة في ذلك الوقت وكانوا يتفرغون للمباحثات ولمناقشات الحكمة البشرية، وحتى عندما دخلوا في المسيحية كانت الفصاحة لا تزال شيئاً هاماً في نظرهم. لكن الرسول يبين لهم أن حكمة الكلام تعطل صليب المسيح لأن مدلول الصليب قد أنهى كل ما هو من الإنسان إذ يدمغه بعدم النفع- مدلول الصليب هو الموت عن الذات وعن الخطية في العالم.

إن أفخر ما عند الإنسان من البر الذاتي هو نجاسة ودنس أمام الله. بأعمال الإنسان لا يمكن أن يتبرر أحد أمام الله. ويقول الرسول أن الله جهل حكمة هذا العالم إن صوت الصليب يرتفع عالياً قائلاً: "إن بر الإنسان باطل، وحكمة الإنسان باطلة، وكل مجهود بشري باطل. الصليب يشطب على الإنسان تماماً. "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غلا 2: 20). "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ" (غلا 6: 14).

كل ما له رونق في هذا العالم قد حكم عليه الصليب بالموت. إن رجعنا إلى الحكمة البشرية نكون قد أضعفنا صوت الصليب، ونكون قد عطّلنا عمل الصليب. عمل صليب المسيح هو أن يقنعك بأنك لا شيء في أفضل حكمتك وفي أفضل برك وفي أفضل حالاتك، وأنه محكوم عليك بالموت والدينونة. صليب المسيح كسيف حاد قاطع يقطع كل ما هو من الإنسان- كل ما هو من الجسد. إذا أدخلت الحكمة البشرية والفصاحة البشرية فإنك تجعل حد هذا السيف ثالماً لا يقطع.

يا للحسرة على المواعظ الطنانة المملوءة بالحكمة البشرية، والأشعار والأمثال والعلم الإنساني فيخرج السامعون وقد أشبعوا عقولهم لا قلوبهم. هل يقولون قد سمعنا عن مخلص عظيم ونحن خطاة مستحقون الموت؟ هل نفذت الكلمة إلى قلوبهم وحكمت عليهم؟ كلا. لأنهم لا يقولون للخاطئ أنت خاطئ ولا يوصلون كلمة الله الحية إلى أعماق نفوس السامعين.

إذا قدمت كلمة الله كما هي فإنها تفعل فعلها ويخر السامع منادياً أن الله بالحقيقة فيكم. لكن بالأسف يتحول السامعون عن الكلمة نفسها إلى المتكلم فيمدحونه ويشغلهم العدو بكل ما يصرفهم عن المسيح. مكتوب أنه في الأيام الأخيرة "يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ الْحَقِّ" (2 تي 4: 3، 4). يكلمونهم كلاماً ناعماً تستريح له آذانهم ولا يعالجهم. يقولون أن حكمة الكلام نافعة وتفتح الشهية للاستماع لكن "حكمة الكلام تعطِّل صليب المسيح".

يقول الرسول بولس: "أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ الْكَلاَمِ أَوِ الْحِكْمَةِ مُنَادِياً لَكُمْ بِشَهَادَةِ اللهِ" (ص 2: 1). ومع انه كان يعرف الكثير وكان متعلماً ومتربيا عند رجلي غمالائيل معلم الناموس الشهير (أع 22: 30).

"فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ" (ع 18).

الكرازة بالصليب تعد عند غير المؤمنين جهالة. إنهم يريدون نظريات لاهوتية وفلسفية مثل الديانات الأخرى التي أنشأتها الحكمة البشرية كالديانة البوذية وديانة زرادشت- ديانات فيها حكمة وأبحاث ارتأى فيها الإنسان فوق ما ينبغي أن يرتئى. هذا ما يريده الناس. يحبون الحكمة الجسدية لا صليب المسيح لأن صليب المسيح يوبخ القلب وينخس الضمير، أما الحكمة البشرية فترفع الإنسان وتجعل له قيمة وتعطيه الفرصة لعمل أبحاث ونظريات عن الكون وما قبل الكون، واتصال الخالق بمخلوقاته إلى غير ذلك. لكن ما يحتاجه الإنسان هو أن يعرف أنه هالك ومحتاج إلى خلاص. الحكمة البشرية لا تعترف بفساد الإنسان وتقول أن في الإنسان عقلاً يميز وأن فيه عنصر خير. لكن المسيحية تقول أن: "إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ" (2 كو 4: 4).

المسيحية ليست نظريات ومبادئ تصحح فكر الإنسان وإنما هي حياة جديدة على أساس صليب المسيح، والولادة من فوق، فالإنسان قد فسد تماماً ويحتاج أن يخلق خلقاً جديداً. المسيحية تعلن شر للإنسان في أعماقه وتعلن محبة الله في اتساع مداها. ويلاحظ أن في هذا العد فريقين هالكون ومخلصون. ولا يوجد غير هذين الفريقين أيها الأحباء. فلا يحاولن أحد أن يعرج بين هذين الفرقتين. إما أن يكون الشخص من الهالكين الذين نظروا إلى الصليب كمظهر ضعف ولم يستطع عقلهم المظلم أن يدرك كيف أن شخصاً يخلص بموته. وهؤلاء اختاروا لأنفسهم هذا الطريق المؤدي إلى الهلاك. وإما أن يكون الشخص من المخلصين الذين خلصوا بالنعمة ليس على أساس أي استحقاق من جانبهم، وأخذوا قلباً جديداً وذهناً جديداً، ووجدوا في الصليب قوة الله المخلصة لأن "الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2 كو 4: 6).

"لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:«سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَأَرْفُضُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ». أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ أَيْنَ الْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ اللهُ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ؟" (ع 19، 20).

نقرأ في (أش 29: 13، 14) "فَقَالَ السَّيِّدُ: «لأَنَّ هَذَا الشَّعْبَ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَأَكْرَمَنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي... لِذَلِكَ هَئَنَذَا أَعُودُ أَصْنَعُ بِهَذَا الشَّعْبِ عَجَباً وَعَجِيباً فَتَبِيدُ حِكْمَةُ حُكَمَائِهِ وَيَخْتَفِي فَهْمُ فُهَمَائِهِ»". الصليب يحكم على حكمة الحكماء بالإبادة وعلى فهمهم بالرفض أين الحكيم بحكمة هذا العالم؟ هل له مكان أمام الله؟ كلا. أين الكاتب اليهودي الذي يكتب الشريعة؟ أين المباحث اليوناني الذي لا يتفرغ إلا للمباحثات والمجادلات؟ ماذا وراء كل هذا؟ ماذا وراء هذه السفسطة والمباحث الباطلة؟ وراءها الإبادة.

"لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ" (ع 21).

نضع عبارة "في حكمة الله" بين قوسين وتُقرأ هكذا "لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ(البشرية مع أن الله أعلن ذاته)، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ".

يقول الرسول في (رو 1: 19- 22): "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْلأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ".

لقد ضلوا عن الله واستبدلوا حق الله بالكذب وعبدوا المخلوق دون الخالق وانحطوا إلى أشر أنواع الفساد. ونلاحظ أيها الأحباء ماذا يعمل الله والعالم قد ضل في حكمته ولم يعرف الله، فهل يبيده؟ كلا. بل استحسن الله أن يخلص الذين يؤمنون. ما أعظم نعمة الله!

"يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ": هل الكرازة جهالة؟ حاشا وكلا. الكرازة بالصليب، التي يعتبرها الناس جهالة، هي طريق الله الوحيد للخلاص.

"لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً" (ع 22).

قد أعطاهم الله آيات بلا عدد، لكنهم لا يزالون يطلبون آية. يريدون أن يشاهدوا العجائب ويشبعوا رغبة حب الاستطلاع والدهشة، أما القلب فكما هو لا يتأثر ولكن الرب يريد أن يعطيهم قلباً جديداً.

صنع المسيح آية تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل ومع ذلك قالوا له اليهود أية آية ترينا حتى تفعل هذا وذلك عندما طرد الصيارف الذين كانوا يبيعون في الهيكل. ونقرأ في (يو 2: 23، 24): "آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ".

الذين يجرون وراء الآيات يؤمنون إيماناً ظاهرياً ولا يشبعون من الآيات. كان الرب قد صنع معجزة إشباع الخمسة الآلاف من خمسة وأرغفة وسمكتين وقالوا له بعد ذلك: "فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟" (يو 6: 30). يا لقساوة القلب البشري!.

"وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً": وهؤلاء لا يشبعون من الفلسفات مع أنهم يتفرغون دائماً إلى ما هو جديد. هل حكمة العالم توصل إلى الله؟ كلا. قال الجامعة الحكيم بعد أن عمل أبحاثاً كثيرة وجرّب أشياء كثيرة ولم يصل إلى نتيجة: "لأَنَّ مَا يَحْدُثُ لِبَنِي الْبَشَرِ يَحْدُثُ لِلْبَهِيمَةِ، وَحَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمْ. مَوْتُ هذَا كَمَوْتِ ذَاكَ... لأَنَّ كِلَيْهِمَا بَاطِلٌ" (جا 3: 19). هذه هي حكمة الإنسان!

"وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!" (ع 23).

هل نكرز لليهود بالآيات حسب ما يريدون. ولليونانيين بالحكمة والفلسفة كما يرغبون؟ كلا. نحن ليس عندنا سوى المسيح نكرز به المسيح وإياه مصلوباً لا المسيح صانع المعجزات ولا المسيح المعلّم العظيم بل المسيح المصلوب. الشيطان يقول: المسيح أعظم معلّم وأعظم مثال (سوبرمان) لكن كل هذا لا يفيد. الذي يخلص ليس مثال المسيح ولا معجزات المسيح، لكن صليب المسيح ودم المسيح.

العالم المسيحي (بالاسم) الآن قد رفض الدم والذبيحة والصليب ويكرز بالإنجيل الاجتماعي وبالمسيح المعلم العظيم! هذه بدعة مهلكة. حاشا لنا أن نكرز بغير المسيح المصلوب. لا نكرز بأنفسنا ولا بحكمتنا ولا بأي شيء من عندنا لكن المسيح مصلوباً. يقولون هذا يعثر اليهود! اليهودي غير المؤمن هو الذي يتعثر لكن المسيح حجر مختار من الله، كريم للمؤمنين، أما لغير المؤمنين فحجر صدمة وصخرة عثرة للذين يرفضون غير طائعين الكلمة.

يقولون أيضاً هذا لا يقنع أصحاب الحكمة والفلسفة! فنقول: المسألة ليست مسألة إقناع لكن قبول المسيح وصليب المسيح في القلب بالإيمان. وينبغي الخضوع لكلمة الله كما هي.

"وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ. لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!" (ع 24، 25).

من هم المدعوون؟ هم الذين دعاهم الله. يقول الرسول في (رو 8: 28- 30): "الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ. لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً...". هؤلاء المدعوون فتح الله قلوبهم فآمنوا بالمسيح المصلوب. الصليب أعظم حكمة لأنه يوفق بين كل صفات الله ولا يستطيع أعظم حكيم وفيلسوف أن يوفق بين كون الله رؤوفاً ورحيماً وبين كونه قدوساً وعادلاً. إذ أن الإنسان خاطئ والله قدوس وعادل فلابد أن يدينه ولكن الله أيضاً غفور ورحيم ويريد أن يرحم الإنسان الخاطئ ويغفر له فكيف يتم ذلك؟ هل يمكن أن يتم ذلك؟.

هذه المشكلة لا حل لها في أية حكمة بشرية لكن حلها الوحيد في صليب المسيح حيث نقرأ: "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا" (مز 85: 10). فصليب المسيح يعلن شر الإنسان وفي نفس الوقت يبين عظم محبة الله للإنسان يعلن عداوة الله للخطية لأنه لم يشفق على ابنه إذ كان حاملاً خطايانا بل وضربه بدون شفقة لأجلنا ثم أُقيم لأجل تبريرنا (رو 4: 25). ففي صليب المسيح تجلت حكمة الله في التوفيق بين كل صفاته. يقول الرسول: الله "الذي يبرر الفاجر" (رو 4: 5) فكيف يكون باراً (عادلاً)؟ الحل في المكتوب "لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ" (رو 3: 26). لأن خطايا المؤمن وُضعت على المسيح واحتمل دينونتها واستوفى العدل حقه من جهتها إذ "جَعَلَ (الله) الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً (المسيح) لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2 كو 5: 21). ففي الصليب ظهرت قمة عداوة الإنسان وبغضه للمسيح إذ كانوا يصرخون: "اصلبه اصلبه دمه علينا وعلى أولادنا" وفي الصليب أيضاً ظهرت قمة محبة المسيح للخاطئ عندما قال: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو 23: 34).

وفي الصليب أيضاً ظهرت قوة الله فقد هزم الشيطان شر هزيمة "إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ (إبليس وجنوده) أشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ (في الصليب)" (كولوسي 2: 15). "فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ (بالصليب) ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ" (عب 2: 14).

صليب المسيح كما من ضعف! "فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ. فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ" (يو 19: 16). ألا تظهر منه أية مقاومة؟ كلا. بل كما هو مكتوب "كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (أش 53: 7). هذا الضعف الظاهري الذي بدا في صلبه هو قوة الله التي تخلص من الشر والرذيلة والفساد؟ هل استطاعت قوة القوانين أن تقضي على الجرائم وعلى شر الإنسان؟ كلا.

لكن صليب المسيح هو قوة الله الجاذبة التي تغير الإنسان وتجعله يغيّر طريقه وينتقل من الموت إلى الحياة ومن الظلمة إلى النور العجيب. يقول الرسول: "لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ" (رو 1: 16).

"لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ!": في ع 21 يقول الرسول "جهالة الكرازة" أي ما يعتبره غير المؤمن جهالة. لكن الحقيقة أن الذي يجهل طريق الله فكأنه ينسب الجهالة لله وحاشا أن يكون هذا، فإن ما يقول الإنسان عنه جهالة أحكم من الناس. والذي يقول عنه الإنسان المظلم الذهن ضعفاً أقوى من الناس "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ!" (رو 11: 33). "لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ" (أش 55: 8، 9).

"فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءَ، لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ" (ع 26).

ليس كثيرون من المدعوين حكماء حكمة جسدية، وأقوياء، وشرفاء، حتى لا تكون الدعوة مبنية على استحقاق لكن يوجد مدعوين من كل فئة لأن نعمة الله تستطيع أن تخلص هؤلاء وأولئك. لكن لمي يذل الله كبرياء الإنسان ويدمغ الحكمة البشرية بالبطلان لم يجعل الحكماء كثيرين بل دعا القليلين من حكماء العالم وأغنياء العالم وجعلهم في الإيمان لكي يشهدوا أن حكمة العالم باطلة وغنى العالم باطل والقوة في العالم باطلة، وأن الحكمة الحقيقية هي في المسيح. ليس كثيرون أقوياء لكن قوة الله في الضعف تكمل. وليس كثيرون شرفاء حسب الجسد لكن سما مقام المؤمنين بانتسابهم للمسيح.

"بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ" (ع 27، 28).

يوجد اختيار بحسب سلطان الله المطلق. نقرأ في (ملا : 2، 3) "أحببت يعقوب وأبغضت عيسو". متى أبغض عيسو؟ عندما ظهرت أعماله الرديئة. الاختيار حقيقة فلو لم يتدخل الله بالاختيار بحسب سامي حكمته ومشورته وقصده لما خلص الإنسان. لو كان الأمر متوقفاً على مجهود الإنسان ما كان قد خلص أحد. لكن الله اختار أناساً للخلاص[3]. الله قدم الدعوة للجميع واختار أناساً للخلاص لأن الله صاحب السلطان المطلق الخير. على أن الاختيار لا يتعارض مع مسؤولية الإنسان فالله أعلن قلبه المحب أن "يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" (1 تي 2: 4). وهو "لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ" (2 بط 3: 9). وقال صريحاً بفمه الكريم: "من يقبل إلي لا أخرجه خارجاً" (يو 6: 37).

وقد اختار الله جهال العالم لينخس ضمير الحكماء لأنه إذا كان الجاهل سيدخل السماء أفلا يدخل الحكيم؟ واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء لرفضهم المجيء إلى المسيح.

"لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ. وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً" (ع 29، 30).

يقول الرسول في (أف 2: 9): "لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ". الله يريد أن يتمجد في نعمته الغنية ولا يكون الفخر للإنسان.

"وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ": ما أسمى المقام الذي إليه دُعينا! نحن لسنا من العالم لكن من الله. الله أفرزنا من العالم وجعلنا في المسيح يسوع وباركنا فيه العالم بكل بركة روحية في السماويات. وصرنا خليقة جديدة في المسيح.

"الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ": بعد أن أبطل الله حكمة العالم أعطانا المسيح ليكون حكمة لنا. أعطانا بداءة الحكمة ورأس الحكمة مخافة الرب وصار المسيح لنا حكمة من الله كل الطريق.

"وبراً": حيث لا بر من ذواتنا.

"وقداسةً": كان الكورنثيون منغمسين في النجاسة لكن الله جعلهم في المسيح قديسين وبلا لوم قدامه.

"وفداءً": كانوا قبلاً مرفوضين فصاروا مقبولين في المسيح. لماذا يجيء الفداء في الآخر؟ لأن الفداء عبارة عن جزأين: فداء الأرواح وهذا قد نلناه لحظة آمنّا بالمسيح وفداء الأجساد وهذا انتظارنا "متوقعين التبني فداء أجسادنا" (رو 8: 23).

"حَتَّى كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ»" (ع 31).

يقول إرميا النبي: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ.بَلْ بِهَذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ..." (إر 9: 23، 24). عندما نذهب إلى السماء سيقول كل منا: "أنا مخلّص بالنعمة" كما يقول الرسول: "بالنعمة أنتم مخلصون" (أف 2: 5). وسنرنّم الترنيمة الجديدة قائلين: "مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ" (رؤ 5: 9).

أنت الكل منك الكل   رب يسوع المسيح
لك منا كل شكر    وسجود ومديح

[1]- إذ أصبحنا نحن المؤمنين شركاء المسيح في كل ما صار له بعمل الصليب شركاء في غناه. لنا غنى المسيح الذي لا يستقصى وشركاء في مجده وملكه وفرحه وكل ما له كابن الإنسان صارت لنا شركة معه في كل شيء.

[2]- فالمعمودية للكبار والصغار على السواء والعارفون باللغة اليونانية قالوا أن الكلمة الأصلية المترجمة "بيت" تعني الكبار والصغار خلاف كلمة بيت استفانوس في ص 16: 15 أنها تعني الكبار فقط وذلك عندما يتكلم الرسول عن خدمتهم للقديسين.

[3]- لم يختر الله أحداً لكن من يهلك فقد اختار نفسه للهلاك.

  • عدد الزيارات: 6681