Skip to main content

الأصحاح الثالث

"وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَال فِي الْمَسِيحِ" (ع 1).

هل هؤلاء الناس الذين يخاطبهم الرسول مؤمنون أم غير مؤمنين؟ مؤمنون طبعاً لأنه يقول لهم: "أيها الأخوة" وأنهم "في المسيح". فهم مولودون من الله لكنهم كأطفال في المسيح. ويقول عنهم أنهم "جسديون"- هذا نوع ثالث. في الأصحاح السابق رأينا نوعين من الناس "الإنسان الطبيعي"، "الإنسان الروحي"، والنوع الثالث هنا "الإنسان الجسدي". النوع الأول الإنسان الطبيعي لم يأخذ شيئاً من الله- لم يولد ثانية فهذا ميت ليست له حياة. أما النوعان الآخران فهم مؤمنون مولودون من الله ولادة جديدة وفيهم الروح القدس. الإنسان الروحي يقول عنه الرسول: "لأَنَّنَا نَحْنُ الْخِتَانَ (بالروح)، الَّذِينَ نَعْبُدُ اللهَ بِالرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ (نفرح) فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى الْجَسَدِ" (في 3: 3). فهذا يسلك بالروح وقد رفض الجسد.

أما الإنسان الجسدي فهو مؤمن أيضاً لكن تفكيره جسدي لم يرفض الجسد تماماً ولم يحكم على الذات ولم يتحرر منها. فهؤلاء الأخوة في كورنثوس مع أنهم كانوا غير ناقصين في موهبة ما وقد استغنوا في كل كلمة وكل علم ويتكلمون بألسنة وهو ما كان يعتبرونه أعلى درجة في المواهب، لكن الرسول يخاطبهم كجسديين وكأطفال في المسيح...! لماذا؟ لأن المواهب كانت تقودهم إلى الافتخار وكانت لهم نظرة جسدية ومثل الفلاسفة في أيامهم يقارنون الواحد بالآخر فيقول البعض فلسفة أرسطو أحسن من فلسفة أفلاطون والبعض الآخر يقول العكس. هكذا كانوا يقارنون بولس مع أبولس وهكذا... هذا تفكير جسدي أدخلوه في الأمور الروحية. فهم لم يرفضوا الجسد ولم يحكموا عليه لكنهم مؤمنون ينقصهم تدريب ويحتاجون إلى معاملة إلهية توقظ مشاعرهم قد تكون تأديبات قاسية جداً.

"سَقَيْتُكُمْ لَبَناً لاَ طَعَاماً لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ بَلِ الآنَ أَيْضاً لاَ تَسْتَطِيعُونَ" (ع 2).

يولد طفلاً رضيعاً يتغذى باللبن ثم يكبر حتى يصبح صبياً ثم شاباً ورجلاً لكن إذا ظل يتغذى باللبن بصفة مستمرة فلن ينمو وتصبح حالته محزنة لا سيما لقلب أبويه. يقول الرسول للعبرانيين: " لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ، وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى اللَّبَنِ لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَدِيمُ الْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ الْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ، وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ" (عب 5: 12- 14).

فهؤلاء كانوا محتاجين إلى التمرين في الحياة الروحية والتدريب على الحكم على الذات ورفض الجسد وعدم النظر إلى الناس بل أن تكون لهم العين البسيطة التي لا تستقر إلا على المسيح وحده.

صحيح أن اللبن يغذي، لكن الذي يستمر على اللبن فقط لا يمكن أن يكبر وينمو. توجد حقائق بداءة أقوال الله وتوجد حقائق أعمق فيجب أن ننمو في النعمة وفي معرفة الرب يسوع المسيح. والدليل على أنهم أطفال جسديون أنهم لم يستطيعوا أن يحتملوا الطعام القوي.

" لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟ لأَنَّهُ مَتَى قَالَ وَاحِدٌ: «أَنَا لِبُولُسَ» وَآخَرُ: «أَنَا لأَبُلُّوسَ» أَفَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ؟" (ع 3، 4).

هل الحسد والخصام والانشقاق من ثمر الروح؟ لا. هذه من أعمال الجسد. يقول الرسول: "وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: الَّتِي هِيَ .... خِصَامٌ غَيْرَةٌ ... تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ ... حَسَدٌ .... وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ" (غلا 5: 19- 22). فالحسد والخصام والانشقاق يتفق مع سلوك البشر. والذي فيه هذه الأشياء تكون خطوته متفقة مع خطوات الناس الذين يسمعون دقة الطبلة الخاصة بأهل العالم. لقد دخل المدح من الناس بين المسيحيين فبعد أن يقدم الواعظ عظته يقولون له: "لا فض فوك" مثل أي خطيب من البشر عندما يلقي خطبته.

يا للأسف لقد اتبعت المسيحية طرق البشر مثل الزهو وإظهار الذات. لكن المؤمن الذي يسلك حسب الروح وله تمييز روحي ويسلك كقديس وكإنسان سماوي. كثيراً ما تقول الأخوات: مثلنا مثل الأخريات، هل نحن من نوع آخر؟ ويسلكن حسب البشر لكن الرسول يقول: "لاَ تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ" (رو 12: 2). "تجديد أذهانكم"- لا يعني الولادة الثانية فهؤلاء مولودون ثانية وأخذوا ذهناً جديداً والذهن الجديد يتجدد باستمرار- ينمو ويلمع. فمن يتبع إنساناً مهما كان ومهما كانت فلسفته ومبادئه هو إنسان جسدي.

"فَمَنْ هُوَ بُولُسُ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ: أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى لَكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي" (ع 5، 6).

انظروا أسلوب الرسول...! لا يقول فمن هو أبلوس؟ لكنه يقول أولاً فمن هو بولس فلا يقلل من قيمة أبلوس لكن كأنه يقول أن الإنسان لا شيء. ابعدوا الإنسان وأول واحد تبعدونه هو شخصي أنا. أنا وأبلوس لسنا إلا خادمين لسيد واحد واستخدمنا لكي تؤمنوا بواسطتنا.

"وكما أعطى الله لكل واحد": فنحن لم نأتِ بشيء من عندنا. إن كان بولس أعجبكم وإن كانت فصاحة أبلوس أعجبتكم فليس أحد منا يأتي بشيء من عنده لكن كما أعطاه الرب. العطايا متنوعة: أعطى هذا موهبة هكذا وأعطى الآخر موهبة هكذا. فليس لأحد فخر.

"أنا غرست وأبلوس سقى لكن الله كان ينمي": افترضوا أيها الأحباء أن واحد غرس في الحقل والثاني سقى ولا توجد شمس ولا هواء ولا تربة صالحة هل يطلع الزرع؟؟ النمو من الله والحياة من الله. فالفلاح عليه أن يؤدي واجبه أن يغرس والساقي عليه أن يسقي الزرع لكن هل الزرع الذي طلع ونما هو بفضل الغارس أو الساقي؟ لا. لكن بفضل الله الذي ينمي. فالعطايا العظمى: الشمس والهواء وخصوبة الأرض هي من الله.

"إِذًا لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئًا وَلاَ السَّاقِي، بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي. وَالْغَارِسُ وَالسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ، وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ" (ع 7، 8).

الغارس والساقي مثل بعضهما آلتان استخدمهما الرب. الاثنان عاملان عند السيد الرب وغير متنافرين ولا متنافسين بل متضافران ومتعاونان وكل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه وأمانته ليس بحسب موهبته أو نوع العمل الذي قام به وليس له فضل في ذلك. لكن الأمين الذي تعب في الخدمة الصغيرة يأخذ أجراً مثل الأمين الذي تعب في الخدمة الكبيرة. المهم أنه تعب واشتغل بأمانة والنتائج الظاهرة لا عبرة بها أما النتائج الحقيقية فمن عند الله.

"فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللهِ، وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ، بِنَاءُ اللهِ. حَسَبَ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاسًا، وَآخَرُ يَبْنِي عَلَيْهِ. وَلكِنْ فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْهِ" (ع 9، 10).

"فإننا نحن عاملان مع الله": الترجمة الدقيقة تقول: "نحن عاملان لله معاً". من غير المقبول أن نجعل الناس شركاء الله في العمل. لكن الرسول يقول نحن عاملان معاً لله. العمل عمل الله ونحن زميلان في عمله.

"وأنتم فلاحة الله": المؤمنون حقل فلاحة الله وهذا مألوف. تكلم الرب يسوع بأمثال فقال: "هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، فسَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قِائِلاً:«إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ، وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى»" (متى 13). فالفلاحة تحتاج إلى شغل وجهد وتعاون في العمل. والخدام عمال في فلاحة الله.

"وأنتم بناء الله": كان لله هيكل مادي في العهد القديم- بناء أرضي. لكن الآن لا يوجد هيكل مادي لله. قالت المرأة السامرية للرب: "آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ»" (يوحنا 4). فالمؤمنون الآن هم هيكل الله. يقول الرسول بولس: "مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ. الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا ِللهِ فِي الرُّوحِ" (أف 2: 20- 22). ويقول الرسول بطرس: "كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيِّينَ ­كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ­ بَيْتًا رُوحِيًّا، كَهَنُوتًا مُقَدَّسًا، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1 بط 2: 5).

وعندما يكمل هذا الهيكل يأخذه الله للسماء. من وجهة النظر الإلهية بناء الله كامل لكن من وجهة النظر البشرية أعطى مسؤولية العمل في هذا البناء للإنسان فهو يبني في هيكل الله إذ يقول الرسول حسب نعمة الله المعطاة لي كبناء حكيم قد وُضعت أساساً. هل الرسول هو الأساس؟ لا. هو وضع الأساس. إذن من هو الأساس؟ المسيح. لا يوجد إلا أساس واحد هو المسيح. لكن لينظر كل واحد كيف يبني عليه.

"فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدُ يَبْنِي عَلَى هذَا الأَسَاسِ: ذَهَبًا، فِضَّةً، حِجَارَةً كَرِيمَةً، خَشَبًا، عُشْبًا، قَشًّا" (ع 11، 12).

هذا البناء عبارة عن شيئين: الأشخاص هم ثمرة خدمة البنائين أي الحجارة الحية، والتعاليم التي يخدمون بها لبناء هذا الهيكل. التعاليم عبارة عن ذهب أي بر إلهي. وفضة أي الفداء أي أن البناء يقوم على الفداء الذي بيسوع المسيح. وفي بناء خيمة الاجتماع كانت توضع القواعد الفضية كأساس للألواح. أما الحجارة الكريمة واللآلئ الثمينة فهي عبارة عن تعاليم ثمينة عن مقام المؤمنين ومكانتهم كأحجار كريم على قلب المسيح وكتفيه نظير الصدرة التي كان يحملها هارون رئيس الكهنة قديماً.

لكن واحداً آخر قد يستعمل في البناء مواد تافهة يضع خشباً وعشباً وقشاً. ونلاحظ التدرج في نزول قيمتها فأولاً خشب قد تكون له بعض الفوائد ثم عشباً يصبح لأن تأكله الحيوانات أما القش فلا يصلح إلا للحريق. الذهب والفضة والحجارة الكريمة قيمتها عظيمة رغم صغر حجمها. أما الخشب والعشب والقش فقيمتها ضئيلة رغم كبر حجمها. فما يدخل في الخدمة من إظهار الإنسان ذاته ومن التفاخر ومن الفصاحة البشرية والمظهر الخارجي هو خشب وعشب وقش.

لكن ما كان بعمل الروح القدس وبإنكار وكان الباعث الوحيد له خدمة الرب والغرض الوحيد مجد المسيح والدافع هو المحبة للرب وللنفوس فهو ذهب وفضة وحجارة كريمة.

"فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِرًا لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ، وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلكِنْ كَمَا بِنَارٍ" (ع 13- 15).

من يعرف الباعث لعمل كل واحد؟ الرب. يقول لهم الرسول: "الَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ الرَّبُّ. إِذًا لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرَّبُّ الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ" (أصحاح 4: 4، 5).

"لأن اليوم سيبنيه": المقصود باليوم هنا هو يوم وقوفنا أمام كرسي المسيح لنوال الأجرة. هل في يوم وقوفنا أمام كرسي المسيح توجد نار؟ لا. هذا تشبيه يبين امتحان العمل وظهور ما هو بحسب مشيئة الرب واختفاء الخدمات التي مبعثها إظهار الذات وليس مجد الرب. كتب أحدهم مقالاً بعنوان تحليل خدمة خادم. يقول فيه: "عاد الخادم إلى بيته آخر النهار وكان متعباً فقد عمل زيارات كثيرة وافتقد الكثيرين وخدم كثيراً ورجع يشكر الرب فرحاً وراضياً عن نفسه جداً وجلس على كرسي مريح ليستريح فغلبه النعاس فحلم أن شخصاً دخل عليه ومعه علبة فيها مواد كيماوية وموازين دقيقة وسأله كيف الحال؟ أجاب الخادم حسن جداً فقد كان هذا اليوم مثمراً للغاية. قال له: هل تسمح فتريني خدمتك وأخذ الخدمة فصارت في يده كتلة معدنية ظاهرة فوزنها وقال بصوت عال خمسة كيلوجرامات. سرَّ الخادم بهذه النتيجة لكن الرجل وضع على الكتلة مواد كيماوية فتفتت إلى عناصر مختلفة وبدأ يزن هذه العناصر وعمل بها كشفاً سلمه إلى الخادم وانصرف قائلاً له الرب يساعدك. نظر الخادم في الكشف فوجد أن الخدمات الصحيحة للرب وزنها ضئيل جداً 50 جم، 100 جم والباقي تفاخر وإظهارات ذات وتعصب للمبدأ وتعصب للطائفة إلى غير ذلك. فركع أمام الرب وصلى قائلاً أنا صليت لك سابقاً لكي تخلصني من العذاب الأبدي وأنا الآن أصلي لكي تخلّصني من ذاتي".

إن تحليل الخدمات والأتعاب والحكم فيها سيكون أمام كرسي المسيح وسينال كل واحد الجزاء الذي يستحقه. خرج البعض من الفصل الكتابي الذي نتأمل فيه الآن بعقيدة المطهر وأن كل واحد سيمر على المطهر والنار ستمحصه وتطهره ليكون أهلاً لدخول السماء!! أين سيكون المشهد الموصوف هنا؟ أمام كرسي المسيح في السماء بعد الاختطاف وتغيير الأجساد. هل بعد هذا يوجد مجال المؤمن؟ كلا. بل سيقف المؤمن أمام كرسي المسيح في السماء لنوال الإكليل. يقول الرسول بولس: "لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع" (رو 8: 1).

"إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلكِنْ كَمَا بِنَارٍ": الكلام هنا عن امتحان عمل المؤمن أمام كرسي المسيح ليبين ما يستحق من الجزاء وإن احترق عمل أحد فسيخسر الأجرة أما هو فسيخلص لكن كما بنار مثل لوط عندما خرج من سدوم وخلص لكن احترقت كل ممتلكاته وكل ما اقتناه.

"أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ اللهِ فَسَيُفْسِدُهُ اللهُ، لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ" (ع 16، 17).

يضيف الرسول هنا المؤمنين كجماعة بأنهم بيت الله- هيكل الله. والروح القدس يسكن فيهم ويقودهم. والمؤمن أيضاً كفرد جسده هيكل للروح القدس كما يقول الرسول: "إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس" (أف 1: 13). ويقول أيضاً: "أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟" (1 كو 6: 19).

"إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله": هذا الكلام خلاف على ما جاء في ع 12 الخشب والعشب والقش مواد ليست لها قيمة وتحترق أمام الناس الممتحنة وصاحبها يخسر الأجرة. أما هنا فيتكلم الرسول عن عوامل مفسدة وهي عبارة عن أشخاص غير مؤمنين فاسدي الذهن يحاولون أن يفسدوا هيكل الله بالتعاليم العصرية وإنكار الحقائق الجوهرية مثل لاهوت المسيح ووحي الكلمة والصليب... إلخ. هؤلاء يتظاهرون أنهم يخدمون في بيت الله وهو يفسدون هيكل الله. من أجل ذلك يقول "فيفسده الله" أي سيهلك هلاكاً أبدياً. الذي يأخذ مركز خادم ويدخل تعاليم عصرية كفرية سيفسده الله لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو.

"لاَ يَخْدَعَنَّ أَحَدٌ نَفْسَهُ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ حَكِيمٌ بَيْنَكُمْ فِي هذَا الدَّهْرِ، فَلْيَصِرْ جَاهِلاً لِكَيْ يَصِيرَ حَكِيمًا! لأَنَّ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «الآخِذُ الْحُكَمَاءَ بِمَكْرِهِمْ». وَأَيْضًا:«الرَّبُّ يَعْلَمُ أَفْكَارَ الْحُكَمَاءِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ»" (ع 18- 20).

تتكرر كلمة "جهالة" في الأصحاح الأول كثيراً إذ نقرأ القول: "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة" (ع 18). "استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة" (ع 21). "ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" (23). "لأن جهالة الله (في نظر الناس) أحكم من الناس" (ع 25).

كان الكورنثيون يفتخرون بالحكمة لكن الله جعل ما يعتبرونه جهالة هو عين الحكمة الذي هو صليب المسيح. فالمؤمن الذي كان قبلاً عالماً وفيلسوفاً بحسب البشر يجب أن يتخلى عن حكمته وعلمه لكي يصير حكيماً الحكمة الحقيقية.

تعاليم الإيمان المسيحي لا تتفق مع فكر الناس. عندما وقف بولس أمام فستوس الوالي وأخذ يتكلم قال له: "«أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! الْكُتُبُ الْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى الْهَذَيَانِ!»، فَقَالَ:«لَسْتُ أَهْذِي أَيُّهَا الْعَزِيزُ فَسْتُوسُ، بَلْ أَنْطِقُ بِكَلِمَاتِ الصِّدْقِ وَالصَّحْوِ»" (أع 26: 24، 25). وقال بولس أيضاً للملك أغريباس: "«أَتُؤْمِنُ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ بِالأَنْبِيَاءِ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تُؤْمِنُ». فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِبُولُسَ:«بِقَلِيل تُقْنِعُنِي أَنْ أَصِيرَ مَسِيحِيًّا». فَقَالَ بُولُسُ:«كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى اللهِ أَنَّهُ بِقَلِيل وَبِكَثِيرٍ، لَيْسَ أَنْتَ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا جَمِيعُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي الْيَوْمَ، يَصِيرُونَ هكَذَا كَمَا أَنَا، مَا خَلاَ هذِهِ الْقُيُودَ»" (أع 26: 27- 29).

أين يذهب فستوس وأغريباس وجميع الحكماء في أعين أنفسهم؟ إنهم الآن في الهاوية في عذاب اللهيب. أما بولس وكل الذين آمنوا بكلامه فهم الآن في الفردوس يتعزون. إن أمور الله عند الإنسان الطبيعي جهالة لكن الله يعلم أن أفكار الحكماء باطلة.

"إِذًا لاَ يَفْتَخِرَنَّ أَحَدٌ بِالنَّاسِ! فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ: أَبُولُسُ، أَمْ أَبُلُّوسُ، أَمْ صَفَا، أَمِ الْعَالَمُ، أَمِ الْحَيَاةُ، أَمِ الْمَوْتُ، أَمِ الأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ، أَمِ الْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ، وَالْمَسِيحُ ِللهِ" (ع 21- 23).

"إذن لا يفتخرن أحد بالناس فإن كل شيء لكم": أمر عجيب أن يقول الوحي "كل شيء لكم"! المؤمن غني وكريم في عيني الله والله أعطاه كل شيء. فلماذا اهتم أهل كورنثوس بالناس قائلين أنا لبولس وأنا لأبولس وأنا لصفا؟ لقد أعطى الله بولس وأبولس وصفا عطايا للمؤمنين. الخدام والرسل وأصحاب المواهب هم عطايا للمؤمنين. والعالم أيضاً أعطاه الله للمؤمنين لأن أبانا السماوي هو الذي خلقه ويعطينا ما نحتاج إليه منه. والحياة أيضاً أعطاها الله لنا. لماذا؟ لكي نعيشها للرب. الحياة هي فرصة لخدمة الرب. والموت أيضاً لنا. ففي الحياة نمجد الرب وعندما تنتهي الحياة ويأتي الموت فإنه ينقلنا إلى المسيح "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح (ليست هناك خسارة على الإطلاق)". يقول الرسول: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً" (في 1: 23) فالموت خادم لنا عند انتهاء رسالتنا وهو عدو للأشرار وليس للمؤمنين. "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (رو 8: 28).

قد يُحاط المؤمن بظروف ضيقة في الحياة الحاضرة لكنها ليست ضده بل له لأنها تشتغل معاً لكي تنتج خيراً للذين يحبون الله. الظروف التي نكرهها هي لنا ومن مصلحتنا دون أن ندري أما من جهة الأشياء المستقبلية فنحن نعلم أن لنا مستقبلاً منيراً ومجداً أبدياً ونفتخر على رجاء مجد الله.

وأخيراً يكرر القول "كل شيء لكم" أي لا شيء ضدكم على الإطلاق. "إن كان الله معنا (لنا) فمن علينا؟" (رو 8: 31). يقول لهم الرسول: "أنتم لستم لبولس ولا لأبلوس. أنتم للمسيح الذي اشتراكم وفداكم والمسيح لله. كما كان المسيح هنا يعيش لمجد الله هكذا أنتم أيضاً تعيشون لمجد المسيح.

  • عدد الزيارات: 4755