Skip to main content

الأصحاح 13

تستمر في هذ الأصحاح اختبارات الرب الفاحصة، ومن هذا المنطلق أرسل الاثنا عشر رجلاً ليتجسسوا الأرض. ولكي نفهم حقيقة الموقف يجب أن نرجع إلى تثنية 1: 21- 42 حيث قال موسى للشعب "انظر. لا تخف ولا ترتعب". "فتقدمكم إلي جميعاً وقلتم دعنا نرسل رجالاً قدامنا ليتجسسوا لنا الأرض ويردوا إلينا خبراً عن الطريق التي نصعد فيها والمدن التي نأتي فيها. فحسن الكلام لدي فأخذت منكم اثني عشر رجلاً. رجلاً واحدا ًمن كل سبط. فانصرفوا وصعدوا إلى الجبل وأتوا إلى وادي أشكول وتجسسوه".

أراد الشعب أن يرسل رجالاً ليتجسسوا الأرض قبل أن يثق في كلمة الرب وكان هذا بسبب انحطاط حالتهم الأدبية، اختار الرب هذه الأرض لنسل إبراهيم خليله، وكان يعرف كل شيء عنها وعن الصعوبات التي ستقف في طريقهم، وكان في سلطانه أن يذللها أمامهم ويرفعهم فوقها، وقد وافق الرب على إرسال الجواسيس لأن هذا بحسب شهوة قلوبهم. وإذا رجعنا إلى الصفحات الأولى من سفر صموئيل الأول لوجدنا حادثة مماثلة حيث يأمر الرب صموئيل أن يسمع لصوت الشعب ويملك عليهم ملكاً (1 صم 8: 22) لم يكن الرب مصادقاً على إقامة ملك، وأخبرهم صراحة أن عملاً كهذا معناه رفضهم له كملك، أعطاهم الرب شهوة قلوبهم وسرعان ما حصدوا مرارة ما زرعته أيديهم.

ومع أن الكلام أسر موسى ولكنه سأل الرب وتلقى منه الإجابة المدونة في الأعداد الأولى من هذا الأصحاح "ثم كلم الرب موسى قائلاً أرسل رجالاً ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل. رجلاً واحداً لكل سبط من آبائه ترسلون. كل واحد رئيس فيهم". ونلاحظ عدم وجود وصف للأرض هنا، تلك الصورة اللامعة التي وردت في تثنية 8: 7- 10 "أرض جيدة من عيون وغمار تنبع في البقاع والجبال. أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمان. أرض زيتون زيت وعسل. أرض ليس بالمسكنة تأكل فيها خبزاً ولا يعوزك فيها شيء. وأرض حجارتها حديد ومن جبالها تحضر نحاساً. فمتى أكلت وشعبت تبارك الرب إلهك لأجل الأرض الجيدة التي أعطاك" يذكر هنا فقط "أرض كنعان التي أنا معطيها" وكان هذا اختباراً لقلب الشعب، فإذا كانوا يحبونه فإن ما يعطيهم يصبح جذاباً لهم، مثل ما حدث مع كالب الذي قال عنه الرب في ص 14: 24 "قد اتبعني تماماً".

"فَأَرْسَلَهُمْ مُوسَى لِيَتَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ، وَقَالَ لَهُمُ: «اصْعَدُوا مِنْ هُنَا إِلَى الْجَنُوبِ وَاطْلَعُوا إِلَى الْجَبَلِ، وَانْظُرُوا الأَرْضَ، مَا هِيَ: وَالشَّعْبَ السَّاكِنَ فِيهَا، أَقَوِيٌّ هُوَ أَمْ ضَعِيفٌ.... وَكَيْفَ هِيَ الأَرْضُ... وَمَا هِيَ الْمُدُنُ.... وَأَمَّا الأَيَّامُ فَكَانَتْ أَيَّامَ بَاكُورَاتِ الْعِنَبِ" (ع 17- 20). كان قصد الرب أن يستحضر إلى النور حقيقة قلوبهم التي كان يعرفها جيداً، وهو يفحص قلوبنا لا لكي يعرف ما فيها بل لكي نعرف نحن حقيقة ما فيها- قال الرب يسوع لفيلبس "من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء. وإن ما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل" (يو 6: 5، 6)، ما يتولد في قلوبنا من عدم الإيمان يصبح جزءاً من طرق الله لاختبارنا، والاختبار الآن "أرض كنعان التي أنا معطيها".

أظهر الرجال المرسلون لتجسس الأرض حالة قلوبهم بسوء تقديرهم للأرض كما نفهم من التقرير الذي أعطوه عنها. كانت الأرض تتكلم عما في قلب الله من جهة شعبه، ولكنهم لم يدركوا عظمة محبته لهم، وفشلهم في هذا الأمر كان خطيراً أكثر من كل تاريخهم الماضي، إذ باستثناء يشوع وكالب سقطت جثثهم في البرية بسبب عدم إيمانهم، ولم يدخلوا أرض الموعد.

إن حساب الإيمان ينظر إلى الله أولاً، ثم أنه يبدأ من الله إلى أن يصل إلى الصعوبات، أما عدم الإيمان فيبتدئ بالصعوبات ويضع في قلوبنا أن نهرب منها خائفين أو نقتحمها يائسين. إن غرض الله من جهتنا أن نظهر الإيمان وندخل الله في المشهد ونتكل عليه.

"وَدَعَا مُوسَى هُوشَعَ بْنَ نُونَ يَشُوعَ" (ع 16) ومعنى كلمة "هوشع" خلاص، ومعنى كلمة "يشوع"- يهوه مخلص، وكان موسى بهذه التسمية يتطلع بروحه النبوية إلى ما وراء الفشل الذي كان عتيداً أن يظهره للشعب، كان يرى في المشهد شخصاً فردياً لا يمكن أن يفشل، وتظهر فيه عظمة الخلاص، كان المسيح مرسوماً أمام موسى بروح النبوة، وكان يشوع رمزاً له، ولذلك يأتي اسمه 250 مرة في الكتاب. وتغير اسم "هوشع" إلى "يشوع" لفتة مباركة يأتي هنا وتعني امتلاك الأرض في قوة خلاص الله، ويرد في رؤساء الأسباط اسم "ستور" رئيس سبط أشير (ع 13) ومعنى الاسم "سرى" ويشير إلى معنى الاسم 666 مرة ويبدو أنه قائد التذمر وهو رمز لضد المسيح الوارد ذكره في رؤيا 13 أما اسم كالب فمعناه شجاع أو كلي القلب، كان الله على وشك أن يكشف عن عدم إيمان جيل أخطأ في قلبه ولا يعرف طريقه، وصار محل غضبه، فأقسم أن لا يدخل واحد منهم إلى راحته، ومع ذلك لم يتخلى الرب عما كان في قلبه من جهتهم كشعب، كان لا بد أن يتمم مقاصده بشخص كان يشوع رمزاً له وهو المسيح. وأعظم منظر للخلاص لمؤمني العهد الجديد ما يقدمه الرسول في أف 1: 13 "الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم" وامتلاك الميراث (أف 1: 1- 14) والخلاص بالنعمة (أف 2: 5- 8)، وإحياءنا مع المسيح وجلسونا معاً في المسيح في السماويات، وكل هذا نابع من غنى رحمه، ولا يوجد مكان إزاء ذلك للفشل، إذا كان الأمر من جانبنا فلا يوجد سوى أننا أموات بالذنوب والخطايا. كل شيء ميئوس منه إذا كان يعتمد على الجسد- الخلاص كله من الله.

قبل أن يذهب الاثنا عشر رجلاً ليتجسسوا الأرض كان الله قد حدد في المشهد أنه سوف يستحضر شعبه إلى هذه الأرض ليس على أساس شيء فيهم، بل من مجرد نعمته.

عاين الاثنا عشر رجلاً الأرض، وهذا جزء من طرق الله مع شعبه- أن ما يعطيه يجب أن يعاين ويعطي عنه تقرير، ومرور الرجال في الأرض لم ينتج عنه امتلاكها، بل أعطاهم فقط منظراً عنها، استحضرهم تحت المسئولية لكي يضعوا تقريراً عنها، ونقرأ في (عب 6: 4، 5) عن هؤلاء "الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي"، وهذا كله ليس امتلاكاً بل هو مثل الأربعين يوماً التي عاين فيها الاثنا عشر الأرض، وهذا كاف لكي يوضع القلب تحت الاختبار لما أعطاه الله له، فإذا كان له تقديره فإن هذا يجعله يتقدم إليه قدماً رغم كل الصعوبات.

"وقال الرجال.... الأرض الَّتِي أَرْسَلْتَنَا إِلَيْهَا، وَحَقًّا إِنَّهَا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً، وَهذَا ثَمَرُهَا" (ع 27) اختبر الشعب ليس فقط بتقرير الاثني عشر بل الثمر الذي أحضروه- عنقود العنب والتين والرمان، واللبن الذي تكلم عنه الرجال يفيض من الأم وهو طعام مجهز من الله فوق مستوى الإنسان حسب الطبيعة ونتعلم من غلا 4 أن الأم ترمز لنظام يعطي طابعاً خاصاً لأولادها، وبالنسبة لنا فالأم ليست النظام الذي يقود إلى العبودية بل إلى الحرية ومعبر عنه بأورشليم العليا ولها سمو وارتفاع النعمة، اللبن الذي يغذي النفس بما هو من الله ومؤسس على المسيح، وهو هنا ليس مناسباً فقط للأطفال ولكنه مناسب لكل الأعمار ويخدم أفكار النعمة ويصل إلى مستوى ما جاء في أفسس، ويحرر من كل ما هو طبيعي أو جسدي أو طقسي ويبني المؤمنين بطريقة روحية، أما العسل فإنه نتاج حلو بتعاون (النحل الكثير) ويتكلم عن النتائج الحلوة التي تعتمد على الشركة التي يجد المؤمنون المسيحيون أنفسهم فيها. كل مؤمن يقدم ما هو نافع لكل المؤمنين وبنيانهم. إن الغنى الروحي لا يتأنى من الوجود في خط الانعزال ولكن من كوننا أعضاء في جسد المسيح وكل عضو له عمله "الذي منه كل الجسد مركباً معاً ومقترناً بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة" (أف 4: 16). والعنب والتين والرمان رمز لثمر النور (أف 5: 9- ترجمة درابي) هو ثمر المؤمنين من تأثير وجود النور فيهم "في كل صلاح وبر وحق" (أف 5: 9).

صعد الجواسيس إلى الجنوب وأتوا إلى حَبْرُونَ وَكَانَ هُنَاكَ "أَخِيمَانُ وَشِيشَايُ وَتَلْمَايُ" بَنُو عَنَاق. وَأَمَّا حَبْرُونُ فَبُنِيَتْ قَبْلَ صُوعَنِ مِصْرَ بِسَبْعِ سِنِينَ (ع 22) وهذه أول مدينة أتى إليها الرجال، ومعنى حبرون "شركة" وصوعن كانت المكان الذي تركزت فيه حكمة مصر ولكن الله جعل رؤساءها أغبياء (إش 19: 11، 13)، واستحضر الله كل حكمة الإنسان للدينونة والموت، ومكتوب "سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء" (1 كو 1: 19) ومعنى كلمة "صوعن" ارتحال، ومهما كان لدى الإنسان في هذا العالم من حكمة وغنى وكرامة فعليه أن يتركها، والمدعوون بأن يتركوا هذه الأمور قد صار المسيح لهم من الله حكمة وبراً وقداسة وفداء. نعم لقد أصبحت لهم أشياء تقررت من قبل الله قبل الدهور لمجدهم، فالإشارة التي وردت عن حبرون وأنها بنيت قبل صوعن ترينا أن الله كان يرغب أن يأتي شعبه إلى حبرون ليتمتع بشركة ثمينة مخبوءة في أعماق الله قبل الدهور وأعلنت الآن بروحه.

لكن حبرون لا يمكن امتلاكها بدون حرب لأن بني عناق كانوا هناك، وهم عمالقة ويشيرون إلى ما هو عظيم في نظر الناس- كلام مقنع، وفلسفة، تعاليم الناس، أركان العالم (كو 2)، وبنو عناق يشيرون إلى كل هذه الأمور التي تمنعنا من الوجود في حبرون، والخطر أن ما هو عظيم في نظر الناس قد يصبح عظيماً في نظرنا.

قال الجواسيس "رَأَيْنَا هُنَاكَ الْجَبَابِرَةَ، بَنِي عَنَاق مِنَ الْجَبَابِرَةِ. فَكُنَّا فِي أَعْيُنِنَا كَالْجَرَادِ، وَهكَذَا كُنَّا فِي أَعْيُنِهِمْ" (ع 33) إذ بدا الناس في أعيننا عمالقة فذلك عدم تثبيت أعيننا على المسيح وعندئذ يدخلنا الخوف.

ومعنى كلمة "أخيمان"- أخو الإنسان- والشيطان في تظاهره بغيرته على مصلحة الإنسان يقلد الأفكار الإلهية لكي يقاوم بها الحق المسيحي ويحاول إقناع الإنسان بها وحين يصل إلى غرضه يصبح الإنسان متأثراً بالديانات المسيحية التي من اختراع الإنسان.

ومعنى كلمة "شيشاي" حرية وهي ليست الحرية التي يحررنا بها ابن الله ولكن الحرية التي أساسها استبعاد الروح القدس وعدم الخضوع للمسيح كرب الأمر الذي يعني الاستباحة.

ومعنى كلمة "تلماي" شجاع وهي الشجاعة المؤسسة على الثقة في الذات وليست الاتكال على الله.

وهكذا فإن التمتع بالشركة يعتمد على استبعاد بني عناق والنصرة على كل ما تعنيه أسماؤهم "وَأَتَوْا إِلَى وَادِي أَشْكُولَ، وَقَطَفُوا مِنْ هُنَاكَ زَرَجُونَةً بِعُنْقُودٍ وَاحِدٍ مِنَ الْعِنَبِ، وَحَمَلُوهُ بِالدُّقْرَانَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، مَعَ شَيْءٍ مِنَ الرُّمَّانِ وَالتِّينِ" (ع 23).

العنب رمز للفرح، ليس الفرح الذي يقدمه العالم بل الفرح الناتج من التمتع بالبركات الروحية في المسيح والمشار إليها في أفسس 1 والتي ترمز إليها أرض كنعان أما العنقود الواحد فنرى فيه الوحدة بين عدد كبير من الأجزاء وهو صورة لما هو في فكر الله من جهة شعبه، ويتكلم الرسول يوحنا عن الشركة التي تتصف بملء الفرح والتي من نصيب المؤمنين في أعمال 2: 42 "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات".

رجع الرجال بتقرير حقيقي عن الأرض، لكن كان لديهم الكثير ليقولوه عن الصعوبات التي يمكن أن تقابلهم، وقد يسلم عدم الإيمان بما يقوله الله عن عطاياه ولكن يقول أيضاً أن ما يعطيه الله بعيد المنال، ولكن الله لا يترك نفسه بلا شاهد إذ نسمع بعد ذلك صوت الإيمان عالياً "كَالِبُ أَنْصَتَ الشَّعْبَ إِلَى مُوسَى وَقَالَ: إِنَّنَا نَصْعَدُ وَنَمْتَلِكُهَا لأَنَّنَا قَادِرُونَ عَلَيْهَا" (ع 30).

لم يفكر كالب في نفسه وفي شعب الله بل في الله ومسرته بهم، كان كل قلبه مع من أعطاه لشعبه "وأما عبدي كالب فمن أجلي أنه كانت معه روح أخرى وقد أتبعني تماماً أدخله إلى الأرض التي ذهب إليها وزرعه يرثها" (عدد 14: 24) إظهار ما هو الإنسان بعمل الله شيء يختلف تماماً عن صفات الجسد، كانت الأرض في قلبه لأن الله هو الذي أعطاهم الأرض، كان قلبه ملآناً بالثقة في الله وقوته ولذلك هم قادرون على امتلاكها. إن عدم الإيمان عشب ضار ينمو في قلب الإنسان، وينتشر منه إلى قلب إنسان آخر، وهكذا يعم عدم الإيمان الجماعة ونتيجة عدم إيمانهم نقرأ ما جاء في عب 3: 19 "فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان" ويقول الروح القدس منذ ذلك الوقت ما جاء في مز 95: 7، 8 "إن سمعتم صوته لا تقسوا قلوبكم" وظل هذا الصوت يدوي إلى (عب 3: 7)، ومازال يدوي إلى الآن.

  • عدد الزيارات: 3105