الأصحاح 22
يُرى شعب الله هنا على أبواب أرض الموعد، وكانوا على الجانب الشرقي من الأردن مقابل أريحا (ع 1)، وعند هذه النقطة يتحول الروح القدس عن سرد تاريخهم، ويأخذنا خلف هذه المشاهد، ويكشف عن مقاصد الله تجاه المقاومين لشعبه، ونرى في المشهد خلف الستار بلعام بن بعور، وهو عراف أممي. وكان بلعام مثل يثرون حمى موسى (خر 18)، وراحاب (يش 2) قد سمع بأعمال يهوه العظيمة مع الشعب في مصر وعبوره البحر الأحمر، الأمر الذي كان له تأثيره العميق على نفوس جميع الشعوب المحيطة، وقرر بلعام أن يخدم يهوه مستخدماً في ذلك سحره، ونرى في (أع 8) ساحراً مشابهاً لذلك وهو سيمون. وربط خدمة يهوه بالسحر لا يمكن أن يستمر، وكان لا بد أن يأتي الوقت الذي فيه يقرر بلعام أيهما يختار. وعندما وصلته رسالة بالاق كان وقت حسم الأمر قد جاء، وسار بلعام في طريق الضلال من أجل الأجرة. ومعنى كلمة "بلعام" آكل الشعب.
والشخص الثاني الذي نراه من وراء الستار مقاوماً شعب الله كان بالاق ملك موآب الذي معنى اسمه مفسد. وأرسل بالاق إلى بلعام ليأتي ويلعن الشعب بسحره قائلاً له تعال والعن لي هذا الشعب لعله يمكننا أن نكسره فأطرده من الأرض (ع 5، 6) كان يعتقد أن الذي يباركه بلعام يكون مباركاً والذي ينعله يكون ملعوناً. فقال الله لبلعام لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك (ع 12). كان اقتراح لعن الشعب تحدياً مباشراً لله جاوب عليه بنفسه أنه لا يمكن لعن الشعب لأنه مبارك.
لم يستطع بلعام مقاومة الدعوة الثانية ولذلك سمح له الله بالذهاب. ونلاحظ أن الروح القدس يدقق في ذكر اسم الجلالة ولا يقول "يهوه" بل "الله" لأن اسم "الله" هو في علاقته بالأمم أو بالعالم وبالخليقة بصفة عامة، بينما اسم "الرب" يتجه إلى علاقته بالشعب.
لقد وجدت محبة الله طريقها الحر لتعبر عن نفسها بهذا التعبير "لأنه مبارك". والذي يرينا ذلك ما جاء في (تثنية 23: 5) ولكن لم يشأ الرب إلهك أن يسمع لبلعام فحول لأجلك الرب إلهك اللعنة إلى بركة لأن الرب إلهك قد أحبك.
ونأتي إلى السؤال: لماذا سمح الرب لبلعام بالذهاب ومقاومه في الطريق بأن وقف في طريقه؟ والجواب أن الله يسمح للبشر بأمور قد يكون هو غير راضٍ عنها لكي يختبروا ضلال طريقهم، يعطيهم شهوة قلوبهم ويرسل هزالاً إلى نفوسهم. كان من المستحيل أن يسمح الله بلعن الشعب. وإن كان ذلك حدث مع الشعب الأرضي فكم بالحري الكنيسة التي هي عمله أي قصيدته الشعرية الرائعة طبقاً للأصل اليوناني "لأننا نحن عمله" (أف 2: 10(. ونرى ذلك أيضاً في أمثال بلعام التي تساعدنا على معرفة حقيقة القديسين في نظر الله حيث يراهم في ضوء عمله فيهم، وهذا تجهيز ضروري للميراث إذ يصبح لدينا التقدير المناسب له، وكلمة "مباركين" تعني أنهم ليسوا في الجسد، ليسوا في الحالة التي يتوقع العدو أن يجدهم فيها، إذ يتطلع إلى الناس من زاوية عمله فيهم، ولكن أعماله تنقض حين يقابل عمل الله فيهم. ونرى ذلك في أيوب حيث كان الشيطان يراه إنساناً في الجسد ويتوقع أن يجدف على الله. لكن أيوب كان موضوع العمل الإلهي، ولذلك لم يجدف على الله في أشد أنواع التجارب.
لم يندهش بلعام حين تكلمت الأتان، كان محمولاً بطمعه، وكلم الأتان كما لو كان رجلاً. والرب حين جعل الأتان تتكلم لم يغير طبيعتها إلى مخلوق عاقل ولكنه جعلها تنطق بما يوقف حماقة بلعام. وكان ذلك معجزة من معجزات الله القدير.
رأت الأتان الملاك قبل بلعام. ويقول العلماء أن الحيوانات لها حاسة خاصة بها يشعرون بالحوادث الطبيعية قبل حدوثها مثل الزلازل والعواصف، وكذلك تشعر الفرس بخطر قد لا يكون ظاهراً أمام الإنسان.
ويؤكد الرسول بطرس في العهد الجديد حدوث هذه المعجزة (2 بط 2: 15- 16) إذ يقول "ضلوا تابعين طريق بلعام بن صور الذي أحب أجرة الإثم ولكنه حصل على توبيخ تعديه إذ منع حماقة النبي حمار أعجم ناطقاً بصوت إنسان" وبقول يهوذا في رسالته "ويل لهم لأنهم سلكوا طريق قايين وأنصبوا إلى ضلالة بلعام لأجل أجرة وهلكوا في مشاجرة قورح".
قال الله عن شعبه "إنهم مبارك" وكان في هذا القول حسم الأمر. ورغم هذا فكان في فكر بلعام أنه في الأماكن لعن الشعب ونوال أجرة الإثم التي كان يحبها، والذي يرينا ذلك أنه حين أتته الدعوة مرة أخرى من بالاق قال لرؤساء موآب "فَالآنَ امْكُثُوا هُنَا أَنْتُمْ أَيْضًا هذِهِ اللَّيْلَةَ لأَعْلَمَ مَاذَا يَعُودُ الرَّبُّ يُكَلِّمُنِي بِهِ " (ع 19). كان يخشى أن يصبح في مواجهة مباشرة مع قوة الله. كان يود أن يحفظ على صورة التقوى لكي تكون ستارة يحجب تحتها طمعه. وقال غمالائيل معلم الناموس حين تشاوروا ليقتلوا تلاميذ المسيح "إن كان هذا الرأي أو هذا العمل من الناس فسوف ينتقض. وإن كان من الله فلا تقدرون أن تنقضوه لئلا توجدوا محاربين لله أيضاً" (أع 5: 39).
كان الله يرى الدوافع التي تعمل في قلب بلعام، وأراد أن يظهرها، ولذلك اعترض بلعام ملاك الرب في الطريق مقاوماً له. عمل ملاك الرب هذا التحذير ثلاث مرات، وكان ينبغي أن يدرك أن استمرار سيره فيه خرابه، ولكنه كان أعمى وأكثر جهلاً من أتانه. ولا يوجد شيء أكثر جهلاً للشيطان أو الإنسان من التفكير أنه في الإمكان هزيمة الله. ويعرف الله كيف يقود أكثر الناس شراً في العالم ليعمل ما يريده ويسره بأن يظهر قوته فوقهم ويجعلهم يشعرون بسموه وتفوقه. وهذه واحدة من الأشياء العظيمة التي تقوي وتعضد الإيمان.
- عدد الزيارات: 1759