الأصحاح 24
اقتنع بلعام أخيراً أنه يحسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل، ولذلك لم ينطلق كالمرات السابقة ليوافي فألا أي يطلب عرافة أو سحراً، بل جعل وجهه نحو البرية ورأى إسرائيل حالاً حسب أسباطه، وكان عليه روح الله وتكلم كرجل مفتوح العينين يرى الأمور لنفسه مع أنه كان مدركاً أنه رجل ساقط، وما كانه بلعام لم يؤثر فيه أدبياً، ولا شك أن رؤية الأمور الإلهية وعدم التأثر بها شر رهيب.
ورأى بلعام "إِسْرَائِيلَ حَالاُ حَسَبَ أَسْبَاطِهِ" (ع 2) رأى بلعام إسرائيل حالاً حول خيمة الاجتماع مرتباً حسب فكر الرب، رآهم من رأس الصخور، وسمع تلك الأقوال الجميلة التي نطق بها، كانت الحالة تندرج من حسن إلى أحسن بإزاء إسرائيل، بينما كانت تسير من رديء إلى أردأ بالنسبة لبالاق الذي وقف ليسمع ليس فقط بركة إسرائيل بل أيضاً نفسه تلعن نتيجة سعيه في لعنة إسرائيل.
ونلاحظ بنوع خاص النعمة التي تسطع خلال هذا المثل الثالث "ما أحسن خيامك يا يعقوب مساكنك يا إسرائيل" ولا شك أنه إذا نزل إنسان ليمتحن تلك الخيام والمساكن في رؤيا البشر لبدت أمامه سوداء كخيام قيدار، ولكن إذا نظر إليها في رؤيا القدير لأسفرت عن حسن رائع، ومن لا يراها على هذه الصورة يحتاج أن يكون "مفتوح العينين".
ونرى هنا تميزاً بين الخيام والمساكن، ونستطيع أن نرى الفرق في (خروج 26) حيث يذكر أن المساكن هي العشرة الشقق المصنوعة من البوص المبروم والأسمانجوني والأرجوان والقرمز، وتكون الغطاء الداخلي للخيمة، أما الخيمة فهي الأحد عشرة شقة مصنوعة من شعر المعزى والتي تكون الغطاء التالي فوق المسكن لحمايتها. ونستنتج من هذا أن الخيام الحسنة ليعقوب تمثل القديسين من خلال تدريبات المسئولية والحكم على الذات وحياة النقاوة الخالية من الشر حتى أن ما يميزهم هو الانفصال المقدس الذي يشير إليه شعر المعزى. ونستطيع توضيع ذلك بحالة كنيسة كورنثوس التي لم تكن مرتبة حسب فكر الله الأمر الذي وصلت إليه بعد رحيل الرسول بولس عنها مما جعله يرسل إليها الرسالة الأولى التي جعلت المؤمنين هناك في حالة التدريب، واستحضرت فيهم الحكم على الذات والانفصال عن الشرور التي أحاطت بهم.
أما المساكن التي تشير إليها الشقق فهي التي تظهر القديسين في مركزهم كأمراء الله في موضوع مقاصد محبته ودعوتهم في ارتباطهم بالمسيح وقوة المسحة والختم ولهم غيرة الروح في قلوبهم وكفاة لفهم خدمة عهد جديد وهو ما نراه في الرسالة الثانية إلى كورنثوس التي تقودنا إلى إنسان في المسيح، إنسان عظيم روحياً ليرفع إلى الفردوس، تقودنا إلى القديسين في توافق مع الأمور الثمينة لمجد الله فينا. وهكذا نرى القديسين كخيام يعقوب في رسالة كورنثوس الأولى ومساكن إسرائيل في رسالة كورنثوس الثانية.
"كَأَوْدِيَةٍ مُمْتَدَّةٍ كَجَنَّاتٍ عَلَى نَهْرٍ" (ع 6).
نرى هنا شعباً متواضعاً ومنسحقاً لله الأمر الذي نراه في الوادي. والجنة أو الحديقة هي بقعة مزروعة تحظى بعناية فائقة لشبع صاحبها. ونرى إسرائيل هنا ليس كجنة يشرب من النهر، يشرب من ينابيع النعمة والخلاص لتلك الينابيع الأبدية الثابتة التي نراها في إشارات نشيد الأنشاد (نش 4: 12- 16) الثمار الثمينة والزهور والأطياب التي تفيح منها الروائح الذكية التي ترمز إليها شجرات العود التي غرسها الرب، والعود شجرة نادرة ذات رائحة ذكية وتزداد هذه الرائحة كلما تقدمة الشجرة في العمر، وهذه الشجرة لها تقديرها في الشرق حتى أنها تساوي وزنها ذهباً. وهي تشير إلى الرائحة الذكية في القديسين التي تزداد بالاختبارات والتدريبات. إنها من ثمار عمل النعمة من طول التعامل مع الله "كأرزات على المياه" وهي تشير إلى مركز أو مقام المؤمنين، لأننا نقرأ عن المسيح نبوياً "طلعته كلبنان فتى كالأرز"، طلعته متفوقة في كل الظروف، كان في الهيكل وهو صبي صغير ابن اثنتي عشر سنة، كان كل شيء يسير في هدوء، كان هناك جالساً في وسط الشيوخ يسمعهم ويسألهم، وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته (لو 2: 46، 47)، وحين نتطلع إليه وهو مجرب في البرية أو في مجمع الناصرة، أو حين أرادوا ان يجعلوه ملكاً، أو عند موت لعازر، أو وهو في بستان جثسيماني، أو أمام رئيس الكهنة، أو أمام بيلاطس البنطي أو هيرودس فإننا نرى طلعته كلبنان فتى كالأرز. وحين يتحرك المؤمنون به بالنعمة وقوة المسحة- يرى هو فيهم. ولا شك أنه أمر مذل أننا كثيراً ما نعجز عن الوصول إلى هذا النموذج الرائع لأن جذورنا قاصرة عن السحب من مياهه لأننا نكون غير سالكين بحسب الروح (غلا 5: 25).
"يَجْرِي مَاءٌ مِنْ دِلاَئِهِ وَيَكُونُ زَرْعُهُ عَلَى مِيَاهٍ غَزِيرَةٍ" (ع 7) ليس هذا هو المجرى الطبيعي للروح مرموزاً إليه بالنهر، ولكن كل مؤمن له دلوه ممتلئ لأن نبعه في النهر، ونرى فكرة مماثلة في متى 25 حيث نرى إناء للزيت يسحب منه هؤلاء الذين يبيعون الزيت للعذارى وأخذت منه العذارى الحكيمات في آنيتهن، كما أننا نقرأ في سفر زكريا عن زيتونتين كنبع للروح، ونقرأ أيضاً عن منارة كلها ذهب وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها وتسحب الزيت اللازم للإثارة من هذا الكوز وهو الإناء الذي يعطي الزيت، ولا ينبغي أن يكون هناك معوق يمنع جريان الزيت في الأفرع الذهبية. إن الدلاء يشير إلى ثمر الروح فينا اللازم لإنعاش الآخرين، يجب أن تكون دلاؤنا ممتلئة حتى ننعش الآخرين، وهو شيء محزن إذا كانت دلاؤنا الآن ليست اكبر مما كانت عليه من قبل- لم ننم من مرحلة الأحداث إلى مرحلة الآباء الذين زرعهم على مياه كثيرة، وعلى الجانب التبشيري فإن شهادة النعمة يجب أن تتجه إلى البعيدين، كان ينبغي أن يكون إسرائيل مصدراً لمعرفة الله بين الأمم، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه مؤمنو العهد الجديد "عالمون مخافة الرب نقنع الناس".
"وَيَتَسَامَى مَلِكُهُ عَلَى أَجَاجَ وَتَرْتَفِعُ مَمْلَكَتُهُ" (ع 7).
التأثير الذي يسود بين المؤمنين أعظم من التأثيرات القوية في العالم. كان أجاج ملك عماليق (1 صم 15). وقيل عن عماليق أنه أول الشعوب (ع 20) ويمثل أجاج المركز الأول بين الناس، ولكن ملكنا أكبر من أجاج لأنه ارتفع إلى يمين الله. وقال الله عنه "أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض" (مز 89: 27) الملك المولود في (متى 2)، والممسوح ملكاً في (مز 2)، والملك المتواضع في (زكريا 9)، ملك البر والسلام في (مز 45)، هو ملك الملوك ورب الأرباب "يسجد له كل الملوك" وهو الآن ملك على قلوب المؤمنين به قد ملك بطريقة سرية على قلوبهم وبتأثيره فإن ألوف القديسين محفوظون في مواجهة كل تأثيرات عدم الإيمان التي تحيط بهم لأنهم يتميزون بالمحبة والفرح والسلام وطول الأناة والصلاح والأمانة والوداعة. وسيأتي الوقت الذي فيه سوف يملك المسيح على الأرض وترتفع مملكته. ويذكر هنا ما يشير إلى النصرة التي ستصاحب ظهروه "اَللهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِصْرَ. لَهُ مِثْلُ سُرْعَةِ الرِّئْمِ (أي قوة الجاموس) يَأْكُلُ أُمَمًا مُضَايِقِيهِ وَيَقْضِمُ عِظَامَهُمْ وَيُحَطِّمُ سِهَامَهُ. جَثَمَ كَأَسَدٍ رَبَضَ كَلَبْوَةٍ مَنْ يُقِيمُهُ" (ع 8، 9) أي قوة هائلة لا يمكن تحديها. إنها القوة التي يقيم فيها المؤمنون وتذكرنا بالقول "في هذ جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو 8: 37) "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً (رو 16: 20). "ولكن شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 57). وشعب الله ليس مباركاً فقط بل أيضاً مباركه ومبارك ولاعنه ملعون.
المثل الرابع: ويشير إلى مجيء المسيح الملك.
"يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى" (ع 17).
هذا المثل الرابع استمرار للأمثلة الثلاثة السابقة ويرتبط بنفس الموضوع ويحدثنا هذا العدد عن نهاية طرق الله، الأمر الذي يشير إلى مجيء المسيح بطريقة واضحة. ونراه هنا آتياً من يعقوب وقضيباً قائماً من إسرائيل لكي يملك، وليس آتياً من السماء. والإشارة هنا إلى ظهور مجيئه ككوكب وكقضيب يضع جانباً كل ما هو معادى لله. ويا لها من فكرة جميلة ترتبط بالملكوت القادم لربنا يسوع المسيح له المجد.
والكوكب رمز لما له مكان في وقت الليل، سوف يكون مرتقباً من المراقبين المقدسين، وكان المجوس رمزاً لهم حيث قالوا "رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (مت 2: 2) كان المجوس يرقبون السماء بينما كان الآخرون نياماً، رأوا نجمه، كانوا مجهزين لرؤيته بينما كان هو في هيئة متواضعة. وهم يمثلون جماعة أممية تدرك حقيقة الملكية. والكوكب هو بشير اليوم القادم. والغالب في ثياتيرا له الوعد أن يعطى كوكب الصبح (رؤ 2: 28) ويقول بطرس "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 1: 19) يطلع الكوكب في قلوب المؤمنين، ولذلك فإن الكلمة الأخيرة لربنا يسوع المسيح إلى الكنائس "أنا أصل وذرية داود كوكب الصبح المنير" نالت جواباً سريعاً من الروح والعروس إذ يقولان للمسيح "تعال" (رؤ 22: 16، 17).
هذه الأمثال الأربعة تظهر ما صنع إلهنا في القديسين. والمثل الرابع قمة لأنه يعلن أن الله يضع في نفوس شعبه بالروح ما يميز اليوم القادم. ومكتوب عن مؤمني فيلبي أن الله الذي ابتدأ فيهم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح. ويرغب الرسول أن يكونوا "مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح" (في 1: 6، 10) والكوكب هو الرب الآتي ليكون إكليلاً لكل الذين لهم رجاء. وسوف يرون ما كانوا يرجونه في مشهد عام في يوم الرب يسوع المسيح. ذلك اليوم كان له سابقاً مكان في يعقوب وإسرائيل وأصبح ظاهراً منذ الآن. ويتفق مع هذا أننا نقرأ "يرسل الرب قضيب عزك من صهيون" (مز 110: 2). وينسب القضيب أولاً إلى صهيون وعندئذ يمتد حكمه إلى أن يصل إلى كل العالم. وهذه هي القاعدة "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلوه ويكون له خضوع شعوب" (تك 49: 10). سوف يأتي اليوم الذي فيه المسيح كالقضيب يحطم إلى قطع صغيرة كل أولئك الذين أقاموا من أنفسهم أعداء له (مز 2) ويقيم ذلك الملكوت المجيد المكتوب عنه "قضيب استقامة قضيب ملكك أحببت البر وأبغضت الإثم لذلك مسحك ‘لهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز 45: 6، 7) ورفقاؤه هم المؤمنون الذين لهم صفات أدبية مثل صفاته امتلكوها بعمل الله فيهم في وقت عاره ورفضه.
وحين يظهر المسيح سوف يستحضر كل ما عمله موآب وأدوم وعماليق والكنعانيون إلى الدينونة، يشير موآب إلى كبرياء الإنسان (إش 16، إر 48) ويشير أدوم إلى حكمة الإنسان وعدم اعتماده على الله (إر 49: 7، عو 8) ويشير عماليق إلى العداوة المتأصلة في الإنسان لكل ما هو من الله "اليد على كرسي الرب. للرب حرب مع عماليق من دور إلى درو" (خر 17: 16). أما عن القيني فقيل عنه "لِيَكُنْ مَسْكَنُكَ مَتِينًا وَعُشُّكَ مَوْضُوعًا فِي صَخْرَةٍ" (ع 21) ويشير إلى استعداد الإنسان أن يبحث عن الأمان. وقال بلعام في مثله الأخير "آهْ مَنْ يَعِيشُ حِينَ يَفْعَلُ (الله) ذلِكَ" (ع 23) وهذا يذكرنا بالقول "وينوح عليه جميع قبائل الأرض" (رؤ 1: 7). كل ما هو الإنسان تحت الخطية سوف يستحضر إلى الدينونة، وسوف يستحضر القديسون لإدانة هذه الأشياء التي صدرت من موآب وأدوم وعماليق والقيني.
وتوجد إشارة إلى عابر حيث نراه في ضيق مخضعاً إلى الهلاك (ع 24). ذكر هذا المثل أضيف ليظهر أن الله لا يعمل فقط في الدينونة لما هو مضاد له في العالم بل يعمل أيضاً في التدريب لمساندة عمله في أولئك الذين قصد أن يباركهم لفائدتهم وللاشتراك في قداسته. وكثيراً ما يستخدم يهوه الناس الأشرار لتدريب شعبه. وكانت أشور في وقت من الأوقات قضيب يهوه في تدريب شعبه ولذلك سوف تعاقب بواسطته. فنرى قوة بحرية سوف تضايق أشور، وهذا الضيق لأشور سوف يستخدم لبركة أشور وإظهار عمل يهوه فيه (إش 19: 25).
- عدد الزيارات: 1866